2012/04/26

"الزفت والإسفلت " قصة بقلم: محمّد الكامل بن زيد


الزفت والإسفلت
محمّد الكامل بن زيد


لم أرى شيخ الحي متألقا ومتذمرا في آن واحد كمثل صباح أول أمس..انفعالات شديدة التوتر عصفت بوجدانه ..احتلت كامل وجهه ولونته بالسواد ..أصابعه ترتجف بشدة  حتى خالجنا شعور قويّ أنّ مسّا أصيب به أو أنّ الأمر لا يعدو أن يكون مرض الرعاش لا أكثر ولا أقل لا قدر الله.. فمع كل خطوة يخطوها  جيئة وذهابا ..تزداد أنفاسه لهاثا وإرهاقا ..فمرة  يذهب ناحية زوجته ليسألها عن نساء الحي :
- هل جئن ؟
فترد عليه بالإيجاب :
- كلهن ..
ثم يذهب  إلى الناحية الأخرى حيث شيوخ الحي ورجالاته ، وحيث العم عاشوري صاحب البقالة الوحيدة :
- هل جاءوا ؟
فيردّ عليه بإيماءة خفيفة دلت على الإيجاب :
- كلهم ..
الجميع على أهبة الاستعداد ..كلّ شيء حضر مسبّقا ..الورد الأحمر.. أكواب اللبن والتمر ..أطباق الشخشـوخة غير أننا لم نلحظ إمام المسجد بين الجمهور ..على ما قيل لنا فقد ذهب هو أيضا إلى مديرية الشؤون الدينيـة ليعتكف رفقة زملائه حتى يتم رفع أجورهم ..فقد كرهوا هوان الصدقات مثلما يزعمون ..ولمَ ؟ أليس بهم يتم صلاح الأمة وتتم تربية كل فرد ..أليس هم أهل الخير والخير لابد أن يعمهم .. كل قطاعات التوظيف رفع سقف أجرها إلا هم ..
- هذه فرصتنا الوحيدة لإيجاد مخرج لأزمتنا ..فصلاح الحي أضحى من صلاح طرق الشوارع ، فلا أريد أن أحكي عن مدى ما يعانيه الأهالي وقت هطول المطر ، ولا أريد أن أستفيض في تصوير تلك المعاناة ..سيدي ..حي لعطيلة حي عتيق ..عميق ..
جملة كمثل باقي الجمل التي كتبها شيخ الحي والتي ما يكاد يحفظها حتى يكتب جملة أخرى ..إنه يريد أن يغتنم فرصة زيارة الوالي للحي ..فالوالي مشغول ومشغول جدا ..نعم ..الوالي مشغول ومشغول جدا ..فإن ضاعت الزيارة أو ألغيت لا سمح الله فلابد من الانتظار من جديد ربما شهرا آخر ..سنة ..سنوات ..دهرا
قلق ما بعده قلق ..وحيرة ما بعدها حيرة لم يشاؤوا أن يقطعوا الطريق أو يحرقوا العجلات المطاطية ..أو يحاول أحدهم التظاهر بالانتحار ..فكلها بنظرهم أفكار بدائية ..فيها الكثير من الأنانية ..العبث..الفساد..والإلحاد
الساعات تمر رتيبة ووجوه أهل الحي بدأت تعرف تحولات سريعة ليبدأ الهمس والتمتمة ..وتبدأ الحكايات والحكايات ..نحن لا نقلّ عن الأحياء الأخرى ..ليس فينا خائن ..ليس فينا المنبوذ ..قد يكون فينا اللص ..الزاني ..السكير ..لكن فينا أيضا الطبيب والدكتور في الجامعة والمعلم والمهندس والروائي ..والله غفور رحيم  فكيف لهؤلاء يأخذوننا بما فعل السفهاء منا ..هذا إن فعلوا ..فالمشهور عندنا أن أفعالهم لم تتعد حدود الحي أي مثلما يقولون ..زيتنا في دقيقنا ..
مقر الولاية لا يبعد عن الحي إلا بضع أمتار ومع ذلك فالزيارة محسوبة ومعدودة ..وساعة الموعد عرفت تأخيرا ملحوظا ..
شيخ الحي يرفض بشدة محاولة البعض التملص من التجمهر ..:
- حيلكم قديمة ..
وأخيرا ظهرت سيارات  الشرطة وسمع صوتها من داخل مقر الولاية ..أكيد أنها دلالة واضحة على أن الوالي سيشرفنا بزيارته المرتقبة ..شيخ الحي أمر الجميع بالنهوض والاستقامة ..
- قلت لكم أنه سيأتي وهاهو قد أتى...
غير أنه ماكاد يتم قوله حتى ارتعدت فرائسه أكثر من ذي قبل ..فحين استدار ناحية الطريق ورأى  كيف أن سيارات الشرطة تتوسطها سيارة الوالي ..عبرت بسرقة البرق ولم تعر هذا الجمهور الماثل منذ صلاة الصبح أدنى اهتمام ..حتى استشاط غضبا ..ولم ينتبه  إلى قول أحدهم في المرة الأولى ولا الثانية ولا في الثالثة ..إلا بعد أن أشار إليه العم عاشوري أن انظر خلفك ..
سيارة سوداء من نوع بيجو 406 تركن على مقربة من الجمهور وينزل منها أحدهم قيل لهم إنه نائب ..هذا النائب لم يسرع الخطى معتذرا ..معللا سبب التأخير والتجاهل بل أنه اكتفى بحديث مقتضب كان آخره :
- معذرة ..سيدي الوالي لا يستطيع القدوم ..أعمال شغب هزت أحياء مجاورة لكم فوجب عليه التواجد بأقصى سرعة هناك ..
هذه العبارة لم ترق إلى تطلعات الجميع ..قلنا لكم أننا لا نختلف عن باقي الأحياء وأنتم تصرون على ذلك ..شيخ الحي صمت زمنا طويلا ثم صوّب نظره ناحيتنا ..نحن الأولاد ..ثم ابتسم ابتسامة خفيفة تحوّلت بعدها إلى قهقهة هسترية فهمنا نحن فحواها :
- يا أولاد ..هذه سيارات النائب افعلوا بها ما بدا لكم..
استغرب النائب الأمر وتعجب كثيرا من حديث شيخ  الحي ، فأصرّ على أنها دعوة صريحة للعصيان ..في حين  أصرّ شيخ الحي على  أنها حق مشروع ..
فلا فضل لأحد على أحد ..
ازداد الوقت اتساعا ..وازدادت معه الآهات والآهات ..
ومنذ أن غابت شمس  أول أمس وإلى حد كتابة هذه الأسطر ..لم نعد نرى شيخ الحي ولا العم عاشوري
ولا إمام المسجد ..


حي لعطيلة . بسكرة في :27 مارس 2011

هناك تعليق واحد:

سعاد محمود الامين يقول...

قصة رائعة سرد ممتع ومعنى عمق اعجبتنى كثيرا تمثل واقعنا والله أنت كتّاب جننت الكتابة جن ماعارفة اقول عبقرية الحكى....