2012/04/23

"شجرة واحدة" قصة قصيرة بقلم: أميمة عز الدين

شجرة واحدة
أميمة عز الدين

حينما استعد للذهاب إلى عمله الصباحي لم يكن قد شق ريقه إلا ببضع لقيمات جافة مع كوب شاي أسود ثقيل، ولم يجد بدًّا في الهرولة للحاق بالمترو، ترك أحلامه في غرفته الضيقة ومارس دوره الاعتيادي الممل الذي يمقته وارتدى قناعًا مناسبًا لتملق مديره، كي يحصل على علاوة إضافية أو ينفحه إجازة مجانية.

لم يتزوج حتى الآن ولم يفكر يومًا في الزواج، بالكاد يكفي نفسه والحياة متطلباتها كثيرة لا ترحم، لم يعرف سوى امرأة واحدة تكبره بعدة سنوات، يعتبرها مثل أخته (يصطنع مبررًا عقلانيًّا لزيارتها والاقتراض منها آخر كل شهر)ولأنها أرملة غير طروب بالمرة، تتوسل بالحنكة والدهاء كي يقع طيرها في الفخ اللذيذ الذي أعدته بمكر الأنثى وحنان الأم وتسامح الصديقة ولهفة العاشقة وغزلت فخها بالأمنيات والأحلام الليلية الصاخبة وحينما تفيق في الصباح تتحسس فراشها البارد ولا تجد غير الصمت، وتنتظر بفارغ الصبر الأيام الأخيرة من الشهر: تعد أشهى الأطعمة والحلوى البيتية الطازجة، وتترفع عن إحضار بيرة مثلجة أو نبيذ أحمر فاخر فهي تؤمن تمامًا أن الخمر حرام.

تشبثت به وبأنه من شجرة العائلة؛ من أسفلها وليس أعلاها: يقول لها أحيانًا إنه ابن بنت عمتها شقيقة أبيها من الأم، ومع أن العلاقة بسيطة للغاية وبعيدة نسبيًّا فإنها تفخر بكونه أحد أقاربها الذين يزورونها بين الحين والآخر.

في كل مرة يأتي لها بالنقود الذي استدانها منها، بيد مرتعشة مترددة خشية أن تقبلها ويظل الدين يتراكم عليه وترد يده وتقسم عليه ألا «يعمل فرق» بينهما فهما في النهاية من شجرة واحدة وأن الجرة الممتلئة تسكب قليلاً على الجرة الفارغة.

هو نفسه كان يرى نفسه زيرًا كبيرًا، لكن قاعه جاف وتفوح منه عطانة عجيبة ويظل يتوسل إليها بنظراته أن تكف عن ذلك التشبيه الغبي السمج الذي لا يعجبه.

عندما ينتهي من تناول الطعام تقسم عليه أن يقبل مبلغًا من المال على سبيل الاستدانة ويقسم بأغلظ الأيمان أنه لن يقبل مليمًا واحدًا إلا إذا استردت بقية مالها.

وتظل حالة الشد والجذب بينهما طويلاً حتى يرضخ ويدس المال في جيبه مطأطئًا الرأس.

تمر السنوات وهو باقٍ على حاله وهي أيضًا، لم يتغير سوى انحناءة في ظهرها، وتناثر خصلات ثلجية بفوديه وناصيته.

لم تعد تعاوده نوبات الرغبة المفاجئة التي يكتمها بالتدخين الشره للسجائر الرخيصة والتي ينفث مع دخانها عجزه وإحباطاته التي فاقت الحد، اقترب من الخمسين ولا ولد من صلبه يمسك يده يتوكأ عليه أو بعض مال يعينه في حالة مرضه.

صار أكثر شيء يؤرقه: مصاريف دفنته وكيفية تلقي واجب العزاء فهو مقطوع من شجرة ولا أهل له سوى تلك الأرملة العجوز والتي انحنى ظهرها وتقوس للأمام، حينما يراها يتذكر المرأة اليهودية في فيلم عربي قديم لا يتذكر اسمه، لكن لا تزال ذاكرته تحفظ ملامح المرأة اليهودية العجوز والتي تعشق المال أكثر من حياة ابنتها وتدفعها لممارسة الرذيلة بأي ثمن ليواصلا الحياة معًا.

لم يجد سببًا كافيًا يفسره لنفسه بجدوى الابتعاد عن قريبته المزعومة وقد اشتاق إلى أطباقها وطبخها الطازج الفواح ببخار لحم الضأن الذي يعشقه ويجعله يشعر أن اليوم العيد الكبير.

أخذ يعد نفسه للموت وأزعجه أن أصدقاءه قليلون وأن عددًا منهم حتمًا سيعتذر عن حضور الجنازة أو الدفن لانشغاله بأعمال أخرى بعد مواعيد العمل الرسمية.

أزعجه أيضًا انعدام ثقته في الآخرين، ليس هناك شخص واحد يستحق أن يتلقى العزاء فيه، ويشد على يد المعزين الذين حتمًا سيتوافدون لتعزيته ثم يتمتم في حزن:

البقاء لله.

ويرد في حزن نبيل وحسرة على موته المبكر:

كان راجل طيب!

من أين له بذلك الرجل الذي يستحق أن يكون اشبينه في تلقي واجب العزاء، لوكان تزوج من سنوات طويلة وأنجب ولدًا قويًّا، لكان الأمر هان عليه فهو الذي سيقف ويساعد عمال الجنازات في نصب الخيام الزرقاء وإحضار مقرئ معتمد في العزاء وسيكسو الحزن وجهه وتفر الدموع من عينيه ويهز رأسه في أسى على فراقه.لم يعد يجدي أن نلتفت للخلف، قالها لنفسه وقرر أن يذهب إلى الأرملة العجوز ليوكل لها بتلك المهمة المقدسة، صحيح هي تكبره بسنوات عدة وأنها من الممكن أن تسبقه إلى الدار الآخرة. من يدري؟!

وصل إلى شارعها ووجده شبه مظلم فانقبضت روحه وشعر بأن الموت لن يتركه في حاله تلك الأيام، فأسرع الخطى وهو يلهث وعندما طرق على بابها وأطال الطرق، وضع أذنيه على الباب الخشبي القديم لعل أذنيه تلتقط أى صوت أو حفيف أو همس أو حتى وقع أقدام بالشقة.

لقد قرأ ذات يوم في صحيح البخاري أن الميت يشعر بوقع أقدام أصحابه وأهله حين ينصرفون عنه بعد أن يهيلوا التراب عليه، حتى أن بعض الصحابة أوصوا أن يمكثوا قدر ذبح جزور للائتناس قبل أن يسأل سؤال الملكين وأن يدعوا له بالتثبيت.

هو لم يكن متدينًا على الإطلاق لكنه أيضًا لم يكن رجلاً منفلتًا أو سكيرًا أو متطلعًا إلى عورات النساء، لكنه كان لا يواظب على الصلاة في مواعيدها.

يقلقه أيضًا الديون المعلقة في رقبته لقريبته العجوز، فهو لا يريد لنفسه أن تظل معلقة بين السمـاء والأرض لحين سداد ديونه وهو يعلم تمامًا أنه وحيد ولا ورثة يتكفلون سداد دينه.

مقابلته للعجوز فيها مغانم كثيرة، يطلب منها سماحه في الديون المتراكمة على ظهره ويرجوها أن تشرف على إجراءات دفنه وتشييعه للقبر كما أوصى بها سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام.

أخيرًا ظهر شبحها وراء مشربية الباب المغبشة، فتحتها على استحياء مواربة وقالت في ضعف:

من؟

خرج صوته مبحوحًا منخفضًا حتى لا يشم خبره جيرانها خاصة أن الليل انتصف منذ مايزيد عن نصف ساعة، وهو يقصد أن يأتيها متخفيًا بأستار الليل فهو لا يريد لها ولا له الفضائح، الأيام علمته أن لكل مرحلة عمرية يتحول إليها الإنسان ظروفها الخاصة.

خمس دقائق وهو بالباب، يهتف بصوت منخفض:

أنا عبد الحميد يا فاطمة، أرجوك اسمحي لي بالدخول.

لحظة واحدة.

كانت تبحث عن ثقب الباب لتضع فيه المفتاح بعد أن أمرها ألا تضيء النور حتى لا تلفت الانتباه. أخيرًا انفتح الباب ودلف كفأر مبلل مذعور يهرول إلى الصالة ولم يلتقط أنفاسه إلا بعد أن جلس على الكنبة الأسيوطي وناولته كوب عصير بارد تجرعه دفعة واحدة.

جلست قباله تتأمل ملامحه المنحوتة من الفقر والصبر، في عينيها نظرة عتاب ولوم غير خبيثة وقالت وهي تضغط بأسنانها على الحروف:

ماذا تريد منى في ساعة كتلك؟ ألا تعلم أنني امرأة وحيدة، أرملة ليس لي سند ولم يشأ الله بأن أرزق بولد يرعاني في أيام الجدب والعطب؛ له في ذلك حكمة لا تدركها عقول أمثالنا.

ثم استطردت وهى تحاول النهوض في كبرياء ونبل:

كنت أريد أن أكون لك بهجة المساء ونور الصباح!

هاله اعترافها، وشعر بالخجل والخزي يغزوان روحه الشريدة وهم بالبكاء بين يديها أو على صدرها لكنه تراجع عن الفكرة وتماسك كما ينبغي لرجل عابر في زمن الأحلام المفقودة.

قال:

جئتك اليوم، كي أوصيك بي خيرًا، حين الموت وبعده، لم أجد غيرك يا امرأة لتشتري لي كفني وتنظفي قبري من الرمل والحجارة، ألا يكفيك هذا؟

ضحكت في هستريا أخافته كثيرًا وجعلته ينكص على عقبيه ويهم بفتح الباب للهروب من شقة العجوز المجنونة، لكنها أوقفته وأمسكت بكتفه قائلة بصوت بارد تقريري:

تراني امرأة تليق بالموت، مع أنك لم تجعلني أحتفي بالحياة معك، الموت: قبر ضيق ودود يقتات على جسد منفوخ وسوائل عفنة تسيل لتصنع محيطًا لزجًا حول الجسد، وأغفلت أن العمر ليس قطارًا نوقفه بإرادتنا أيها العجوز الخرف.

قال:

دعينا نتفق على شيء واحد أكيد.

ماهو؟

أنا وأنت نعاني الوحدة وليس ثمة شخص يهتم لأمرنا سوانا لبعضنا.

ماذا تريد؟

أريد أن نعقد صفقة بسيطة، نحن لا نختار الموت، لكنه الذي يختارنا أليس كذلك؟

ماذا بعد؟

ربما تأتي ساعتي قبل ساعتك وتقوم قيامتي قبلك وربما العكس.

إذن!

في غضب قال:

يجب أن تفهمي شيئًا أن اصطناعك للغباء سيدفعنا لحافة الجنون.

جال ببصره في أرجاء الصالة المكتنزة بالأثاث العتيق، ثمة راديو قديم يقبع على مائدة نحاسية مدورة منطفية تجاوره مطفئة سجائر متربة وبها قليل من أعقاب السجائر، الستائر زيتية داكنة على شباك مغلق دائمًا، وبراويز صغيرة لصور مناظر طبيعية وقطة تلعب مع كرة صوف حمراء تفترش الحائط في بذخ عجيب، وهناك على الكنبة المستطيلة البنية وسادة صغيرة زيتية باهتة ومتسخة من الأطراف، يتدلى من السقف نجفة كريستال كلاسيكية من الزجاج البراق، لكنها لا تعمل واستبدلت بمصباح من النيون المدور الرخيص.

تخيل للحظة أنه كان من الممكن أن يكون سيد هذا البيت، يصول ويجول في أركانه ويستغني عن شقته البائسة التي تشبه الخرابة كثيرًا.

لقد فاته الكثير، وهي سيدة تحبه وتبجله وتقرضه أيضًا دون أن تنتظر شيئًا، يمعن قليلاً في نفسه محاولاً استدعاء الأسباب المنطقية لرفضه الزواج بتلك الأرملة المسكينة وأمعن النظر، فبرغم مزاياها المتعددة فإنها لا تتمتع بقوة جذب قوية لحواسه التي تعودت على الخضوع والاستسلام لرتابة يومية مقيتة، لم تحرك فيه ساكنًا أو شهوة، رغم ابتذال ألفاظها أحيانًا وملابسها أحيانًا كثيرة، لكنه كان يراه لحمًا مكشوفًا عاديًّا ليس مغريًا أو بضًّا على الإطلاق. وكان ينصحها بالحجاب خاصة أنه يرى فتيات صغيرات لم يبلغن العشرين، كأنهن حور عين يرتدين إيشاربًا سابلاً وملابس فضفاضة.

لم يكن مؤهلاً لتلك الدعوة وأصابعه تغط في مرقها ولحمها الشهي وطاجن البامية الذي تعده خصيصًا له بجانب صينية المكرونة بالباشميل الذي تعرف عليها عندها لأول مرة، وما أن ذاقها وتسربت حلاوتها إلى فمه حتى أدمنها وصار يطلبها ويتعجب لاكتشافه المتأخر وكيف أن أمه لم تكن تعرف طبخها.

الآن فقط عرفتني! في حزن وشجب قالت الأرملة جملتها وهي تدفع له بكوب الشاي.

تنحنح وتململ في جلسته وقال:

يجب أن نتكفل ببعضنا الآن، الذي يموت فينا قبل رفيقه يتعهد الآخر بالإشراف على غسله ودفنه.

بأية صفة؟

نحن من شجرة واحدة.

هذا ماكنا نقوله لبعضنا كي نبرر وجودك هنا والتهامك أطباقي الساخنة واقتراضك مني.

✦ ✦ ✦

صدقني أنا لا أعايرك، لكنني أتحدث معك بمنطق الناس.

خرجت من فمه كقذيفة مدوية، وهو في كامل قواه العقلية:

سنتزوج إذن.

نتزوج؟!

أجل، هذا عين العقل.

إنني بقايا امرأة، لقد بلغت سن اليأس من سنوات.

هذا مجرد زواج صوري يا عزيزتي، انظري للأمر من زاوية أخرى، أنا أيضًا ليس لي مأرب في النساء، لا تخشي منى شهوة أو اندفاعًا أو حتى تملقًا.

لم يعد الأمر يعنيها بعد أن دب الشيب في مفرق شعرها وأوصال روحها وصارت تتحسس تجاعيد وجهها كل يوم، والحفر المنمنمة العميقة ببشرتها تزداد يومًا بعد يوم.

في النهاية ارتأت أن ترتدي إيشاربًا ملونًا بألوان البهجة المحروم منها: الأصفر والبرتقالي ومطرزة حوافه بورود صغيرة حمراء.

مر العام الأول والثاني، ينتظران ملاك الموت أن يحط على شباكهما ويسحب روح أحدهما، حتى نسيا أمره تمامًا واكتشف أن الحلم الذي تبخر من مناماته ذات يوم تكثف قطرات حلوة على جدار قلبه، وأصبح مطرًا خفيفًا يغمر روحه ويشعره بالألفة مع تلك الأرملة التي صارت سكنًا له واكتشف أن الحياة لا يعادلها الموت واطمأنا معًا.

وعندما وجدها ذات ليلة مبتسمة وهى نائمة لم يشأ أن يوقظها وظل في مكانه بالكرسي الهزاز يتابع ابتسامتها التي لا تزال مطبوعة على شفتيها رغم تتابع الليالي.


ليست هناك تعليقات: