2012/04/23

فـؤاد قنديل يستعيد رجـل الغابـة بقلم: د‏.‏ صلاح فضل


فـؤاد قنديل يستعيد رجـل الغابـة
بقلم: د‏.‏ صلاح فضل
علي مدي أكثر من ثلاثة عقود أصدر المبدع الكبير فؤاد قنديل ثلاثين رواية ومجموعة قصصية‏,‏ إلي جانب عدد وفير من الدراسات المتصلة بالسير الشخصية والهموم الثقافية‏.‏
وقد دفع به هذا الدأب الصبور في الإنتاج إلي مشارف الصفوف الأولي وهو يكاد يتم عقده السابع, فأخذ يجني متأخرا ثمار مثابرته من بعض الجوائز ومظاهر التكريم, لكنه ظل قوي الحضور في الحياة الأدبية بجده وإخلاصه وعزوفه عن صراع المتضخمين بذواتهم. وها هو يجدد مخيلته برواية طريفة في عنوانها رجل الغابة الوحيد لافتة في تقنياتها, غريبة علي عوالمه التي لا تخلو بدورها من الولع الواضح بالغرائبيات, فيركزمنظوره علي نموذج فريد من البشر أطلق العنان لغرائزه الشهوانية وغلفها بطبقة رقيقة من الفكر المتحضر.
الطبيب النفسي الشهير الذي يؤسس جمعية لتحرير المرأة, ثم ينفق الشطر الأول من عمره في غوايتها موظفا ذكاءه ووسامته وعلمه; باعتبارها أدوات صيد في غابة الحياة, قبل أن يقضي عليه في الشطر الثاني بأفدح عقوبة يمكن أن تصبها الأقدار علي رأس إنسان لترويضه وإذلال كبريائه وتدمير مستقبله. يقدم الكاتب لسرديته الشائقة بمطلع مثير تمتزج فيه مشاهد الطبيعة برواسب الطفولة ومظاهر الشهوة الناضجة, فالدكتور هشام ـ وهذا هو اسمه ـ يرقب بكاميرته الحساسة حركة نمر في غابة أفريقية أنشب مخالبه في غزالة نافرة تنشال وتنحط لتخليص ساقيها منه, لكن النمر ينقض عليها فيقبض بأسنانه علي رقبتها هشام يتأمل المشهد وقد تعانق الرأسان وتالقت عيون النمر التي دنت منها جدا عيون الكاميرا وقد ازداد لون العينين اخضرارا والجسم اصفرارا وتشكلت أمامه لوحة للوجود المحموم حيث الغريزة والجوع والجمال ثم لا تلبث أن ترد علي ذاكرته بعد قليل صورة أخري من طفولته يبدد فيها أبوه الضخم وهو يهجم كالوحش علي أمه ويتوعدها بأنها لن تمنعه عن الشراب, فيركض هشام الصغير ويزحف باحثا عن ركن يحميه من بطش المارد الهائج, تدخل أمه حجرة نومها بينما يواصل أبوه تجرعه من زجاجة ثلاثية الأضلاع دون أن يكف عن قذف امه وأهلها بالسباب القبيح
تعدد الرواة: يعمد الكاتب لتوسيع أفق عمله وتجسيد منظوره في بؤرة مكثفة إلي تعدد رواة الأحداث, لتمثيل مختلف مظاهر هذا الدون جوان العتيد, مما يجعل الراويات اللائي يسردن تفاصيل علاقتهن به مجرد مرايا تتجلي في تضاعيفها مهارته الغزلية وكفاءته الشخصية في التواصل معهن واستلابهن أحيانا وهو يزعم أنه يسعي لتحريرهن. يقص الراوي الأول ـ هشام ـ عددا من تجاربه المتلاحقة, بالتفصيل حينا كما يفعل مع باتي في الكنغو وقد انجذبت إليه في مؤتمر طبي وأنقذته من كارثة انفجار إرهابي أودي بحياة رفاقه, لكن ذلك لم يمنعه من تذوق كأس عشقها المحموم, وقد يروي تجارب أخري لمغامرته وكيفية الوصول إلي بغيته في اللحظات الأخيرة مع فتيات خلال أسفاره إلي اليابان وهولندا وماليزيا واسبانيا وغيرها, ثم يتوقف مليا عند محبوبته في مصر, فيترك عنان السرد لصديقته الشاعرة وجدان لتروي ما سمعته منه في حفل افتتاح جمعية المرأة الحرة وهو يقول لم يستطع الرجل حتي الآن فهم المرأة وربما لا يريد وهذا هو الأرجح, المرأة الحقيقية تتميز بميزات تتفوق بها علي الرجل, فهي أصدق شعورا منه وأكثر قدرة علي العطاء, وهي الدافعة للرجل كي يعمل ويجتهد, ويطور ويخترع, المرأة قادرة علي التكيف مع كل الظروف وهي أكثر احتراما للمبادئ, كما أنها تتمتع بشجاعة غير عادية. وغير صحيح بالمرة أنها خائنة أو مخادعة, وإذا فعلت فلأنها لم تجد التقدير أو الصدق, ومن المؤكد أنها حوصرت بشراسة وأرغمت علي أن تكون ضد طبيعتها ومع أن هذا الطرح لفضائل النساء يذكرنا بما شاع في مطلع عصر النهضة عند الدعوة إلي تحرير المرأة وتعليمها والثقة في سلوكها وأخلاقها, وبما درج توفيق الحكيم علي مناقشته في حواراته ومسرحياته عند منتصف القرن, فإنه مما يثير التأمل أن نراه الآن ملائما إلي حد كبير للرد علي عودة التيار المناهض لحقوق المرأة والمضاد لحريتها في العمل والسلوك, يقدم فؤاد قنديل في هذه الرواية دراسة مستقصية لمرض هانسون المعروف بالجذام, فلا يكتفي بالبيانات الطبية ولا التاريخية, بل يتبع قصة مستعمرة الجذام في مصر كاشفا عن بيانات مهمة متعلقة بها, وذلك في سياق قصصي محكم, فالدكتور هشام يلاحظ بقعا غريبة تطفح علي جلده, فيستعين بأصدقائه من الأطباء الكبار, وعند التحليل يتبينون أنه التقط العدوي من صديقته باتي في الكنغو رعب هائل يتلبسه, الموت إذا قاوم, انتهت فيما يبدو فرص الدعاء والرحمة وتأجيل المصير عندئذ تنتابه حالة غريبة من الرغبة في الاعتراف والتطهير, يدعو كل صديقاته ومعشوقاته كي يجتمعن في حديقة منزله كأسرة ويجلس أمامهن في الشرفة بائسا دامعا بعد أن تواري وهج فتوته وكبريائه, أخذت السيدات يخففن عنه ويمنحنه الأمل ويعدونه بأنهن لن يتخلين عنه في محنته وهنا يبتكر خيال فؤاد قنديل مشاهد كثيرة وأوضاع طريفة ليطرح كثيرا من التعقيدات العاطفية والمفارقات الغريبة, بما يمنح العمل رؤية عميقة للشرط الإنساني, ونراه يوظف في سبيل بلوغ هذه الدرجة من شعرية السرد خبرته بالنصوص الإبداعية الفائقة, نجده مثلا يجعل هشام يكتب رسالة لصديقته الشاعرة وجدان تتناص مع قصيدة شهيرة لصلاح عبد الصبور يقول فيها هذه كلمات ممزقة من صديقك المحب, لكنه محطم وعاجز, مبقع جسده بطفح الجذام ومبقعة روحه بطفح اليأس, ليتك تدعين إلهك الطيب كي يتكرم عليه بالشفاء, وليتك تسامحينه عما اقترف, ليتك تدعين إلهك الرحيم كي يمسح بيده علي الرغم من أن المؤلف أشفق علي بطله وجعله يكتشف في نهاية الأمر أن الأعراض التي يعاني منها ليست للجذام الحقيقي, بل لمرض نادر مشابه يمكن الشفاء منه فإنه كان قد وصل بقرائه إلي حافة اليأس من الفاجعة, وطهر نفوسهم من النقمة علي الطبيب, وأمتعهم بنص سردي سريع الإيقاعية كثيف الشعرية عميق الدلالة.



ليست هناك تعليقات: