2012/04/24

"ريّحانه النازحة" بقلم: سعاد محمود الأمين


ريّحانه النازحة
سعاد محمود الأمين
بعد أن حطت رحالها فى تلك البقعة، استطاعت ريحانه أن تنصب كوخها، تحت ظل السدرة الظليلة التى تتوسط الحى. فأخذت من  تلك الكومه أعواد قنا تركت فى العراء. وبقايا حديد لفظته الورش الصناعية .  أحكمت ريحانه كوخا لأطفالها الأربعة وفرحت بذلك. جئن النسوة للتعرف عليها من نساء الحى البسيط  حيث البيوت متشابة .والنسوة متشابهات. وحياة تسير على وتيرة واحدة ، سعدت ريحانه بإستقرار أسرتها فقد قضت وقتا طويلا فى الترحال قادمة من بلدتها. عندما إشتد أوار الحرب،  خرج زوجها يونس من البلدة ولم يعد ...انتظرته حتى يئست،وتناهت لها الأخبار الغير مؤكدة بأنه قد  وقع فى الأسر فى إحد المعارك. الجيش  ينفى  أن هناك معارك.  يعزى غياب المفقودين إلى الهروب من  أسرهم. أخذت ريحانة أطفالها وودعت أهلها وجاءت الى هذه البلدة.
ريحانة إمراة  نازحة من قبيلة فرسان،  بها مسحة من جمال موروث قضت عليه نوائب الدهر. تجيد عمل  الخبز وعصيدة الدخن ،فاشتهرت بها فى الحى ووفرت لها حياة كريمه أدخلت أطفالها المدرسة. ساعدتها الناظرة بعد أن أشركتها فى همومها. فقدرت كفاحها النبيل. وصدّها لمحاولات الرجال البائسة  فى إتخاذها خليلة. إمراة  وحيدة  فى وضعها لم تلتمس منهم عونا. وأرسلت مرسال لأهلها فى البلد  تعلمهم بمحل إقامتها. حتى إذا عاد الغائب يعلم بمكانها.وكان عنوانها بالمدرسة جوار الكوخ. كانت لها معزة أنجبت توائم  وتعسرت فى الولادة ونفقت. صارت تعتنى بهما. ظّنّت ريحانة أن  حياتها المتنوعة العصوف قد هدأت أموجها ورست على بر الأمان وصارت تحلم بمستقبل فى البلدة.
 جاءت ريحانة على غير العادة ذات يوم الى الفكى الدجّال  الذى يتحكم فى مصائر أهل البلدة بالهالة الدينية التى لفّ بها نفسه ،وجلست طوال اليوم تنتظر مقابلته فهو الرجل االمحترم المسموع الكلمة. الذى يقضى الحوائج ماظهر منها ومابطن فى  البلدة. ولم يتعاطف معها الخادم الذى يدخل الزوار على شيخه الفكى. فتركها تقضى اليوم باكمله تزحف فى الحصيرة. والزوار يتناقصون  حتى أنتهى آخر زائر. وكانوا من الكبارات والنساء والرجال يقضون أغراضهم سرا. فهذا الفكى سره باتع. رمقها الخادم بنظرة جوفاء فقد جاءها متسللا  ذات ليلة حالكة السواد، وقد غطت السحب الرماديه صفحة السماء فحجبت النجوم  ضيائها وإنقطعت  الحركة وخلت الشوارع من المارة .عندما أقترب من كوخها إستيقظت وتاهبت وحملت عصاة غليظة، خرجت تستطلع الأمر. فلما راها جفل وأطلق ساقيه للريح، فقد كان يمنى نفسه بليلة طالما نسج تفاصيلها فى مخيّلته.  صاح الفكى  بصوت مرتفع هل من منتظر؟
  فأجابت .  فسمح لها الخادم بالدخول، جلست قبالة الفكى على الأرض  تنتحب. وقفزت الكلمات من فمها تباعا. أخبرته بقدوم عطا المنان رئيس الحى الذى أمرها بإخلاء الأرض التى نصبت عليها الكوخ. لتشيد مسجد الرئيس. ولم يرحم دموعها رغم أن هناك ثلاث مساجد فى الحى. هزّ الفكى رأسه متمتما وأخبرها أنه لايستطيع أن يفعل مع رئيس الحى شيئا، لأن الأرض التى عليها الخلوة  هذه إنتزعوها له من مالكها. الذى  ذاق الأمرين فى إستردادها. حتى توفاه الله وهو قادم من المحكمة ذات نهارقائظ. فلا يريد ان يثير  قضايا الأراضى. أخذت اطفالها وباعت ماتملك .وودعت أهل الحى وبكت النسوة وأهدتها الناظرة الكتب والأقلام ليواصل أطفالها تعليمهم وأوصتها أن تحرص على إرتيادهم المدارس.  جاءت الى الفكى  وأهدته  التيس اليتيم وذهبت ودموعها مدرارا. تأثر الفكى، وأخذ التيس، ومسح على رأسه أمام مريديه.  وتمتم بضع كلمات مبهمات،وفتح فم التيس وبصق داخله. وهم ينظرون شاخصين أبصارهم، محدودبى الظهور، مهدلى الأكتاف، من كثرة الإنحناء أمام الفكى. نظر اليهم وبلهجة آمر قال: هذا التيس المبروك تيس ريحانه النازحة. أطلقوه فى الشارع وليعلم الجميع إن مسه ضر وصمت برهة وغير نبرته الى وعيد، فلتروا ماذا أنا فاعل بكم . فتشكلت حماية مكثفه لتيس ريحانة الخليفة  هكذا ينادونه فى الشوارع مع كثير من المهابة والعناية.
كبر التيس، وصار فحلا مدللا، الكل يريد أن يلقح  معزاته بنطاف هذا التيس المبروك. كان يمشى فى الشوارع رافعا قرنيه الى أعلى .ويضرب الأرض بقوة تهتز أكتافه المكتنزه بعضلات قوية.  فقد كان السوق مرتعا لطعامه. ياكل الذرة والقمح ولايستطيع أحد أن ينتهره أو يمنعه. يأكل حتى يشبع ويضرب بأظلافه فيشتت الحبوب على الأرض. لذلك تكونت له بنية قوية. ساد بها الشارع. الصبية يخافون منه ويفرون من أمامه، والنسوة يتسللن خفيه حتى لاينتبه. فيهرول مطاردهن.
عندما تشتد الهبوب وتسقط أقفال البيوت. يدخل تيس ريحانة محدثا الفوضى. يلبى نداء الطبيعة حيثما أتفق فى داخل الحجرات. فى فناء المنزل.  ويكسر ويدمر والناس صامتة. فقد توعدهم الفكى بإلحاق الضرر بهم وهم يصدقون ذلك . كان أكثر مايزعج أهل الحى تلك الروائح الذكوريه التى تنبعث منه. هرمونات وبول كان يعطربها الشارع فيعرف االمارة موقعه فيتفادونه. فقد كان يحس بهذه العظمة، عندما يمر بالحظائر فتشرئب  الماعز باعناقها، وترنوه بنظرات شبقه فإن رائحته تنم عن فحل لايشق له غبار.  وهو يتباهى غير مبال ولكن إن أعجبته معزة فبقرنيه يحطم باب الحظيرة. ويدخل محدثا ضجيجا عاليا. ويقضى وطره ويخرج مختالا. لا يهمه أين وضع نضافه المبروكة. ولكن صاحب الحظيرة المغلوب على أمره يحزن ويكتم غيظه لايريد لماعزاته الحمل فى هذا الوقت. فهو فى حوجه لإلبانها ولايوجد أجهاض متعمد للماعز. لذلك تمكن أصحاب الحيونات من الإغلاق التام لحظائرهم بجدران سميكه لايستطيع التيس  تدميرها  يدخلونها متسللين . وقد منعت الماعز  من التجوال فى الشارع. تفاديا لحمل مبكر من هذا الفحل الذى نفقت كثير من الماعز تحت  سطوة شهوته.فهو لايرحم الصغيره او الكبيرة يغتصب من يشاء ليس هناك قانون لكبح شهواته.
ظهر أحمد ود البطل. فجاءة كما كان أختفى فجاءة. عندما ذهب لوسط البلد ولم يعد وبحثت عنه أمه وسألت عنه طوب الأرض ولم تجد اليه سبيلا.  فهو وحيدها بعد أن  مات  أبوه. بنوبة قلبية. عندما أنتزعت منه أرض كان يملكها. وإستحوذ عليها الفكى . وبنى خلوته . كبرأحمد يحمل غلّا  لهذ ا الفكى. وعندما عاد غمر السرور   سكان الحى. حكى لهم سر إختفائه المريب هو أنه حشر داخل حافلة مليئة بأترابه. وتوجهت الى جهة ما. حملوا  السلاح يطلقون النار ويقتلون.. ويقتلون... ولكنه لايدرى لماذا يفعل ذلك  ولايدرى إن كان فى الغرب أو الجنوب.  المهم معارك  حوّلا كاملا . عاد وقد تغير  فصارت  سحنته غاضبة. وعصبيته زائدة. وفوجى بتيس  ريحانه  قد سيطر هو الآخر على الحى . ورأى الخوف الذى إستحوذ على السكان فإنتفض وثار.  وتملكه غضب عارم. ولاسيما فقد تشرب بروح القتال. ولايؤمن بما يؤمن به أهل الحى لايعرف هؤلاء الذين إحتكروا قلوب البسطاء وعقولهم.وجعلهم يعتقدون  إن الطريق إلى الله  بين أيديهم . ووضعوا لأنفسهم معايير الطاعة. وهم ينازعون الخالق فى الحكم على عباده.  ويتولون مسئولية الله على الأرض فأخافوا العباد..لقد كره أحمد ولم يعترف لرجل دين ذومسبحة.  أو شيخ ذو سجادة أو فكى صاحب خلوة. وهو قد رأى الأهوال . فقد تميز غيظا من هذه  الافكار والجهل القابع  فى رؤوس السكان وتجارة الدين الرخيصة. صرخت أمه وحاولت أن تضع كفها فى فمه، حتى لايتحدث عن الفكى، أو التيس. أزاح يدها بقوة .وشتم  الفكى ووصفه بالدجّال الذى يريد أن يسيطر على أهل الحى بشعوذته  ويخدعهم بإسلامه، وسبحته المتدلية من عنقه وصلاته،  وخلوته التى يحفّظ فيها القرآن،  مات أبى دونها مظلوما.فغضبت أمه، ونعتته بانه منكر وكافر.
نهض أحمد مبكرا، وذهب الى وسط المدينة.وعاد متابط شرا.  فتح الباب فدخل التيس ووجد القمح مفروشا . فإندفع يأكل....   ويأكل منتشيا فاتحا شهيته. سمع سكان الحى طلقات رصاص مدويّة.  وصرخات تنبعث من منزل  أحمد. وهرع الجميع يستطلعون  الأمر. فهذا حى مسالم لايوجد بين سكانه عراك .ولكن الصوت المدوىّ جعل الطيور  تفر من سماء الحى.   كان التيس صريعا مضرجا بدمائه وسط فناء المنزل، قضى عليه. وعندما شاهدوا نهايته فرحوا سرّا وهمسوا شاكرين.. جاء المريدون وأخذوا الخليفة تيس ريحانه كما كانو ينادونه فى الحى. الى الخلوه  ليروا ماذا فاعل بهم الفكى. لم يصدقوا أن التيس المبروك ينفق بهذه السهوله وقد بصق الفكى داخل فمه بركاته.. تنسم الشارع الحريه وإنجلت المخاوف.إ فتقدته  الماعز . فلن يأتى الزمان بمثل فحولته. وعقمت الماعز موسما كاملا. لأن التيوس كانت تهابه فلا تجروء على الإقتراب من الإناث التى تعودت على تيس ريحانة . وكسر ملاك الماعز حوائط الحظائر وحررت نسوة الحى من الخوف. وخرج الصبيه يلعبون غير مبالين  .اختفى أحمد ود االبطل مرة أخرى من الحى.
وسرى همس فى الحى بأن أحمد ود البطل قد أغضب الفكى فحلت عليه اللعنة وتاه .....

ليست هناك تعليقات: