2018/10/21

مَسَارِبُ الوَجَعِ بقلم: محرز راشدي


مَسَارِبُ الوَجَعِ
بقلم: محرز راشدي
كان الشابّ أحمد كعادته يرعى شويهاته في الحقول الممتدّة، وفي الأحراش الشّاسعة، وفي سفوح المرتفعات والجبال. ذلك دأبه، يأخذ معه الزّاد الضّئيل، من رغيف الخبز، وحفنة الزّيتون، وقارورة الماء. كان يشقّ المسارب والشّعاب...يأخذ معه مذياعًا صغير الحجم، يبدّد عزلته، ويؤنس وحشته، ويمزّق عباءة الصّمت...ويحمل معه أحلامًا كبيرةً، يحلم بعام خصيبٍ، وبعشبٍ كثيرٍ، وبمنتوجٍ من الخرفان وفيرٍ، لكي يسدّد بعض ديون العائلة، ويشتري لإخوته بعض ملابس العيد وأدوات الدّراسة، ويصلح من هيئة المسكن العائلي لينال رضا الوالديْن..
في يومٍ من أيّام الشّتاء، نهضَ الشابّ أحمد، كان يتحرّك في المنزل بتؤدة، حتّى لا يصدر عنه ضجيج، ربّما يقطع نوم والده...فالعمّ بشير رجلٌ ستّيني ضخم البنيان، متى وضع رأسه على الوسادة سمعت له شخيرًا، وليس من عاداته الإبكارُ. هيّأ أحمد مستلزماته المألوفة، وتناول عصا يهشّ بها عن أغنامه، ويطرد بها مخاوفه ممّا قد يعرض له في طريق الرّعي... ثمّ قصد الزّريبة، فأزاح بابا من القصدير جانبًا، فخرجت الأغنام متدافعةً، تلبّي نداء الغريزة، وتنشد الإشباع...
هرول الشابّ في إثر الشّويهات، وقد تراءى له أنّ يومه هذا ليس كبقيّة الأيّام..إنّه يوم باردٌ جدًّا، مكسوّ بسحابة من الضّباب تكاد تحجب الرّؤية، ويخترقه هواء يلسع الوجه واليدين، رغم أنّه ارتدى "كشّابيةً" من صوف شويهاته..انتابه شعور بالضّيق،  وإحساس بالاختناق، لكنّه تعوّذ باللّه من إبليس، وواصل رحلته. كان يلبس حذاء ضخمًا يتناسب مع التّضاريس الوعرة، ويمنع تدفّق سموم البرد...بيد أنّ فيه فتحاتٍ ضاحكةً من الرّاعي، باعثةً فيه السّخط على الفقر وضيق الحال..
ها هو يسعى في إثر "رزقه"..وقد ابتعد عن القرية، ونأى به المسرب عن الدّيار والأهل والصّحاب...الآن يسمع عواء الذّئاب الجائعة يقطع شريان الصّمت، ربّما يجد فيه أنيسًا، فلطالما سمعه، ولم يبال به، وتجاوبت معه كلابه الحارسة الأمينة بالنُّباح..
بعد أن وصل إلى المرعي المقصود، وهو عبارة عن شُعبة بين جبلين، أخذت الأغنام ترتع...أمّا هو فقد اتّخذ له حجارةً ملساء مقعدًا، واختار مقعده بعيدًا عن لسعات الهواء، حتّى يحلو له النّغم الصّادر عن المذياع...
ومازال مُنهمكًا على حاله، والأغنام ترعى وتنتقل من مكانٍ إلى آخر إلى أن صارت بعيدة عنه بعد النّظر، حتّى سمع ثغاءها الجماعي دون انقطاعٍ...فوقف ووجّه بصره نحوها، فلاحظ أنّها اجتمعت حول شيء مّا جلب انتباهها..اندفع نحوها مسرعًا، يجري في السّفح، فيذهب الحصى تحت قدميه في كلّ اتّجاه...وصل، وشتّت جمعها، ويا ليته ما وصل !!
لقد  رأى منظرًا بشعًا، مقزّزًا، ولطمت أنفه رائحة كريهة، واخترقت أنفاسه، حتّى كادت تمزّق أمعاءه...شاهد جثّةً مقطّعة الأوصال، الرّأس في جهةٍ، وقبالته السّاقان..اليدان واحدة هنا والأخرى هناك. أمّا الذّباب الأزرق ففي طنينٍ، حافلًا باللّحم المتعفّن...بعد تأمّل تُدمى له العينُ، توضّح له أنّ الجسد الفاسد لامرأة...لكنّ هول المشهد دمغ رأسه بأسئلة كثيرة: يا تُرى من له القدرة على ارتكاب جريمةٍ في مثل هذه البشاعة والقذارة والفظاعة؟ ما الأسباب التّي يمكن أن تدفع إنسانًا إلى التحوّل وحشًا، ماتت فيه مشاعر الرّأفة والرّحمة، وصرخت فيه دماء الشّيطان، وغلت فيه سموم الأفعوان؟
"قريتنا، ومربعنا، وأهلنا، في حلٍّ من هذه الدّماء المسفوكة والأجساد المعطوبة والأرواح المهدورة"..هكذا ردّد في نفسه ودموعه تندب محيّاه البريء...ثمّ تراجع إلى الخلف وقرّر الرّحيل.
"إنّ يومه هذا، يوم نحس..لا بدّ من مغادرة هذا المكان الدّامي، ونشر الخبر بين الأهالي لعلّهم يبلغون عنه السّلط، لينال المجرم العقاب الّذي يستحقّ"..هكذا حدّثته نفسه...
وهو يعود أدراجه، ورأسه بين الالتفات إلى الأغنام المفزوعة والجثّة المزروعة، إذ رأى أوصال اللّحم المتباعدة تتململ، تزحف نحو بعضها البعض، رأى الأعضاء تلتحم بمواقعها. فارتعدت فرائصه، وقوي نبض قلبه حتّى صار مثل ضرب الدفّ، وتبدّلت سحنته، وارتعشت شفتاه، وتقلّص لسانه، ليلتصق بحلقه اليابس...ولكنّ ذلك لم يمنع مجاميع اللّحم من الاستواء، ثمّ صدرت عن المرأة الواقفة، الوقورة في وقفتها، صرخة مزلزلة، عقبتها جملة يتيمة، مقطوعة الظّهر: "أنا وطنك النّازف.."، ثمّ رآها تطفو فوق الأرض، تعلو شيئًا فشيئًا إلى أن ابتلعها الضّباب....وشاهد مجاميع الذّئاب ترنو نحو الضّباب، والعواء منها يفتّت السّكينة، ويخز شغاف القلب.
فكان منه أن أطلق عقيرته بالصّراخ، بعد أن سكنه الرّعب، وتأكّله الخوف. ها هو يجري...يجري دون أن يلتفت...ترك الشّياه، ترك الكلاب، رمى الزّاد، تخلّص من الكشّابية والمذياع.. أطلق رجليه للرّيح..الطّريق غير سالكة...المساربُ وعثاء...إنّه بين نهوضٍ وسقوطٍ، تخضّبت يداه بالدّماء، نالت الخدوش والجروح والنّدوب من ساقيه وركبتيه الواهنتين....ولكنّ ركضه هذا في مثل الوقوف: جسد لا يطاوع، بدن لا يجاوب، صوت منكمش مقبور...
وهو على حالة النّزع تلك، إذ شعر بكفٍّ تلامسه برفقٍ...فتح عينيه مذعورًا، والعرق يمخر وجهه، فرأى أمّه "سعيدة" واقفة عند قدميه، صافحته بابتسامةٍ ثمّ قالت له: "صباح الخير بنيّ، ما لي أراك على هيئة الممسوسين؟.." فجاءها الردّ متقطّع الأوصال: "أمـــ....مـــ...ا...ه...!!! إنـ....نـ.....ـــه...الــ...جــ...حــ...يـــ....م !!!! لـ..قـ..د.. عـ..قـ..ر..وا.. و..ط..نـ..ي !!!!".

ليست هناك تعليقات: