2010/10/16

قبل الغياب، قصة قصيرة لمحمد عاشور هاشم

قبل الغياب
بقلم / محمد عاشور هاشم .
ما إن تلقفني وجهه العجوز بالترحاب ، وجلست قبالته على حافة السرير ، الذي لا يغادره هذه الأيام إلا قليلا ، حتى بادرني قائلا ، وقد أضاءت لمبات وجهه كلها ، لأول مرة ، منذ زمن بعيد :
- ابن حلال .. كنت سأرسل لك اليوم .
- خيرا يا عم حسين ؟
سكت قليلا ، وهو يتأملني ، وملامح وجهه كلها تشي بأنه سيفضي إليّ بخبر سعيد ، قال :
- محمود رجع ..
- محمود ؟!
قلتها بشيء من اللامبالاة ..
- محمود من ؟
- محمود ... !!
قالها بشيء من العتب ؛ إذ كيف لا أعرف محمودا الذي يتكلم عنه ؟
فكرت قليلا ، ثم تساءلت وقد أعياني البحث :
- محمود ؟ من محمود ؟!
- محمود .. ابني .. صاحبك ..
قالها كأنه يرميني بالتقصير وعدم الوفاء، إذ كيف لا أعرف من البداية أنه يتكلم عنه ؟
ألجمت المفاجأة لساني ، تمتمت بعد قليل ، وأنا أنظر عميقا إلى عينيه :
- محمود ؟ معقول ؟
- نعم .. والله .. بالأمس كنت جالسا في المحل ، بعد العصر ، لأرى الناس بعد أن توقفت – كما تعرف – عن العمل ، حينما دخل عليّ مكبّا محتضنا إيّاي بشوق غيبته الطويلة . قبّل وجهي ويدي وقدمي . بكى طويلا وأبكاني . كدت أن أموت من الفرح ، احتضنته كأن هذا هو آخر ما سأفعله في حياتي . لم نكف عن الهذيان إلا بعد ما يقرب من الساعتين . لم أخبره برحيل أمه إلا بعد أن استراح . كاد قلبه أن ينفطر . أصر على أن يزورها بالرغم من الليل الذي كان قد دخل . ذهبنا إليها واجتمع شملنا مرة أخرى .. بعد ثماني سنوات .
توقف الشيخ قليلا يلتقط أنفاسه ، ثم عاد يقول بنفس لهجته الحارة :
- أخذته وصممت أن أحتفل به على طريقتي . طفت به في الشوارع ؛ كأنني أُشهد الناس على عودته . أخذته إلى مسمط عمران ، وأكلنا كوارع وممبار ، ثم توجهنا إلى قهوة النادي فاحتسينا الشاي والبوري ، والتفّ حولنا الأحباب والأصحاب ،وقضينا وقتا هو الأسعد منذ سنين بعيدة ، وحينما غادرنا إلى المنزل كانت الساعة تقترب من الثالثة فجرا ، جلسنا أنا وهو نتسامر حتى شقشق الصبح .
تركت الرجل في حديثه المتدفق ، وتوجهت إلى الآخر بسؤالي :
- أتسافر وتترك والديك ؟
- وماذا أفعل هنا ؟
- نفس ما ستفعله هناك ..
- يكفي أن أفعل هناك عشر ما أفعله هنا كي آخذ أضعافا مضاعفة .
- أنت واهم ..
- .........
- والغربة كربة !
- غربة الوطن أشد كربا !!
- ووالداك ؟
- سنة أو اثنتان وأعود !
هززت رأسي في أسى وشفقة .
فاجأني بقوله :
- أنت الآخر يجب أن ترحل ..
- أنا ؟!!
- ماذا لديك لتبقى من أجله ؟
- كل شيء ..
- وهم ..
- وهم لذيذ .. !
- إذن سأدعو لك أن تغرق فيه !!
- محمود يا عم حسين ؟
- أي والله يا بني ، إنه بالداخل نائم .. لولا تعبه وسهر الأمس لتركتك توقظه !!
- لا .. أتركه يا عم ، سآتي مرة أخرى لأراه .
قلت ذلك ، ثم لذت بالصمت .. بعد قليل قلت ، وقد تذكرت شيئا فاتني :
- حمدا لله على سلامته !
- الله يسلمك يا بني .. ربنا يرجع كل غائب لأحبابه !
أمنت على دعائه بخفوت ، ثم أطرقت إلى الأرض ، وعدت إلى بحر الصمت العميق ..
بعد دقائق ثقيلة وحديث مجهد استأذنت في الانصراف ، على وعد بالعودة مرة أخرى .
وحينما خرجت من الشقة سمعت الباب يقفل ورائي ، فشعرت كما لو أن صوته قد أصبح له وقع جديد .
هبطت السلالم بهدوء وأنا أستند على الدرابزين ، كأنني موشك الوقوع .
" محمود يا عم حسين ؟ "
خرجت إلى الشارع وأنا لا أرى الوجوه ولا أسمع التحيات . لم يكن هناك سواه :
- أبي وأمي أمانة في عنقك ..!!
- ..............
- ليس لهما بعد الله سواك .
كان ذلك قبل ثماني سنوات . كانت عيناه قد احمرتا إيذانا بالبكاء .
لماذا يحضرني الآن ؟ ولماذا يحضرني دائما في اللحظات الفارقة : حينما رحلت أمه حزنا عليه ، وقبلها ، حينما جاء الناعي ينعيه .
لماذا يأتيني الآن ؟ ولماذا أراه هكذا ، مختنقا بالبكاء ؟







هناك تعليق واحد:

غير معرف يقول...

تدخل القصة القصيرة إلي فضاء قضية تؤرق القاص وتملك عليه جنبات القص، القاص لم يشأ ان تفلت قصديته مطلقا من القارئ، فعمد لتقنية التكرار في المعنى مرة بالحوار الخارجي مع الوالد الحزين الغارق في حلم اليقظة الذي ينقذه من الموت كما ماتت الأم من قبل، ومرة أخرى بالحوار الداخلى مع الاخر الذي لم يكن سوى الصديق الحالم بثمار الغربة المريرة لكنه سماه الآخر فيبدو الأمر وكانه هما مؤرقا له شخصيا فبدى الحوار داخليا في حالة انقسام على الذات، قصة تحمل لحظة التنوير الخاص بها مع إسدال الستار في آخر كلمة من القصةإنها قضية فكرية تشغل شباب مصر كيف يبنى الشاب حياته والسبل مغلقه أمامه دون ان يغيب عن احبابه ومصدر امانه؟
خالد جوده احمد