2011/01/02

"تعريشة سندس" قصة قصيرة بقلم أحمد طوسون

تعريشة سندس
أحمد طوسون


 ‬التقينا عند تعريشة سندس‮.
افترش كلٌّ‮ ‬منا صفحة من جريدة علي الرصيف وجلس فوقها،‮ ( ‬كنت اشتريتها بحثا عن باب الوظائف الخالية ولم أجده‮).. ‬سمعنا سندس تنادي علي عامل المقهي ليبحث لنا عن مقعدين فارغين من بين مقاعدها التي تعد علي أصابع اليد الواحدة،‮ ‬لكن صاحبي أشار بأصبعه لها بما يعني أنه لا لزوم لهما وأوصي بكوبين من الشاي الأسود‮.‬
أخرج لفافة من جيب صدريته ووضع بها بعض التبغ‮ ‬وقطعة لا تكاد تري من الحشيش ومد يده بها ناحيتي‮.‬
شكرته معتذرا وقلت له إنني لا أدخن‮.‬
بدا من انقباض خطوط جبهته والألفاظ التي تفوه بها دون أن أميز حروفها وكأن إجابتي لم تعجبه،‮ ‬ثم انصرف عني إلي سيجارته ليتأكد من لفها جيدا قبل إشعالها‮.‬
أخذ نفسا عميقا من دخان لفافته واحتفظ به لثوان قبل أن يطرده خارجا وتخيم حول رأسه دوائر الدخان الأزرق‮..‬
‮ ‬تنهد وهو ينظر إلي وهج سيجارته وقال‮:‬
‮- ‬رأيتك عنده
وأشار إلي حيث أتينا من الشارع الذي يمتد بلا انتهاء‮.. ‬ابتسمتُ‮ ‬وقلت‮:‬
‮- ‬وأنا أيضا رأيتك
‮- ‬وماذا طلب منك؟
‮- ‬ألفين دولار
سحب نفسا جديدا،‮ ‬وقال باستهزاء‮:‬
‮- ‬يبدو أن التسعيرة واحدة‮!‬
حينها أحضر العامل كوبين من الشاي وضعهما إلي جوارنا علي الرصيف وانصرف‮.‬
بدا وكأننا تألفنا بسرعة علي طريقة الغرباء عندما يجمعهم منفي واحد ويلذ لهم التخفف مما يحمل القلب من أوجاع‮_ ‬رغم أننا لم نكن‮ ‬غادرنا بلدتنا بعد‮!‬
قال إنه لا حل لنا هنا‮.‬
‮ ‬الحل إن وجد لن يكون إلا هناك عند الشاطئ الآخر للبحر،‮ ‬حيث تستطيع الأفكار والأحلام أن تهبط من سمواتها وترتدي الأحذية وتسير بين الناس‮..‬
‮ ‬في بلادنا اللصوص يسرقون الأحلام ويلقون الأفكار بالحجارة وينعتونها بالكفر‮..‬
‮ ‬لن نجد فرصتنا إلا هناك‮..‬
‮ ‬الكبار عندنا يختزنون الفرص في دولاب نزواتهم ليبيعونها في مزاد أو يهبونها منحة لذويهم ومعارفهم،‮ ‬أو ليشترونا ببخس الثمن‮.‬
أحيانا يفكر الواحد منا لو كان حيوانا لصار له ثمن أفضل‮!‬
مرت السنوات واحدة بعد أخري وتسرب العمر كالماء من بين الأصابع دون أن نحقق شيئا‮.. ‬الشاطئ الآخر شاطئ الفرص المحلقة بأجنحتها‮..‬
‮ ‬ولن أتخلي عن فرصتي للإمساك بالحلم‮!.‬
هززت رأسي بما يعني الموافقة علي ما يقوله وقلت‮:‬
‮- ‬ولكن‮.. ‬من أين سنأتي بالمال؟‮ ‬
‮- ‬نستدينها‮.. ‬نسرقها‮.. ‬نطبعها
‮- ‬لا يهم
‮- ‬المهم أن نصل إلي هناك‮.‬
قال ثم أطرق برأسه إلي الأرض‮.‬
‮>>>‬
لم يسألني عن اسمي أو عنواني ولم أسأله عن اسمه أو عنوانه وإن اعتقدت أنه من أهل المدينة حين لم يرافقني إلي موقف الحافلات‮!‬
زمرت سيارة بالقرب مني وغطاني‮ ‬غبارها قبل أن يتقدم شاب نحيل شديد الاصفرار ويزيحني من أمامها لأسقط علي الأرض،‮ ‬بينما سائقها توقف للحظات يحدق في عينيّ‮ ‬ويسبني بسيل من الشتائم‮.‬
تجمع حولي آخرون وأشاروا له ليكمل طريقه‮.. ‬مد أحدهم يده ليساعدني علي النهوض وقال‮:‬
‮- ‬هل أصابك سوء؟
هززت رأسي وقلت‮:‬
‮- ‬لا
لم يعقب بكلمة وتركني في لحظة وحيدا بين الزحام‮.. ‬مسحت الغبار عن وجهي وسرت في طريقي إلي موقف السيارات المتجهة إلي بلدتنا‮. ‬
ركبت السيارة في انتظار اكتمال عدد ركابها وعدت مع أكوام الظلام التي تكدست بمدخل بلدتنا‮. ‬
عند الباب كانت زوجتي بانتظاري،‮ ‬مسحتْ‮ ‬كفيها من بقايا سواد وصابون في جلبابها وقالت بلهفة‮:‬
‮- ‬حمدا لله علي السلامة
حاولت تحريك شفتي فلم تستجب من التعب‮.. ‬دلفت من الصالة إلي حجرتنا في صمت،‮ ‬أزحت صغيري النائم مكاني علي السرير إلي المنتصف ورقدت علي ظهري إلي جواره متأملا سقف الحجرة الذي بدا أكثر قربا عما قبل‮.‬
عادت زوجتي بعد أن‮ ‬غسلت يديها ومسحتهما بمنشفة قديمة وأزاحت قدميّ‮ ‬الممدودتين علي أخرهما جانبا‮.‬
‮ ‬مدت كفها ودلكتهما فأصابتني قشعريرة،‮ ‬قالت بحنو‮:‬
‮- ‬عملت أيه؟
أخذت نفسا عميقا وقلت‮:‬
‮- ‬طلب ألفين دولار‮!‬
خبطت بكفها علي صدرها وقالت‮:‬
‮- ‬يا لهوي ي ي
‮ ‬عاوز الفلوس بالدولار
‮ ‬هنجيب منين؟‮!!‬
نظرت عن يميني إلي طفلي النائم بهدوء ورحلة العلاج الطويلة التي تنتظره‮!‬
شردت برأسي إلي الشركة التي باعتها الحكومة،‮ ‬وصاحبها الذي قال إنه لا يحتاجنا‮.. ‬عشرات الأبواب التي طرقتها بحثا عن عمل،‮ ‬ثم عدت بنظراتي إلي وميض الأساور في يديها،‮ ‬وقلت‮: ‬
‮- ‬سأتصرف‮!‬
‮>>>‬
في الصباح لم أسمع رنين أساورها،‮ ‬وضعتهم في كيس وقالت‮:‬
‮- ‬توكل علي الله
‮- ‬عندما تسافر ستأتي بأفضل منهم‮..‬
انزلقت عبر فرجة الباب وتلمست الطريق إلي بيت أمي القريب من الخلاء‮.. ‬مع كل هبة ريح تتساقط أوراق الشجر كرشح الحنين‮.‬
كانت ترشق الماء علي النبات والتراب والحجر،‮ ‬قبلت يديها وشربت شايها الأسود بينما كانت تمط كلماتها بصعوبة،‮ ‬غمغمت وقالت‮:‬
‮- ‬لم يبق في العمر بقية يا ولدي
‮- ............‬
خبطت كفيها ببعضهما وقالت‮:‬
‮- ‬رب هنا،‮ ‬رب هناك‮..‬
استندت علي عكازها ونهضت إلي جوف الدار،‮ ‬ثم عادت بلفة صغيرة وضعتها في يدي وقالت‮:‬
‮- ‬كنت أحتفظ بهم ثمنا لكفني‮..‬
‮- ‬خذهم
‮- ‬إن حانت ساعتي،‮ ‬أهل الخير كثيرون
ملت علي يديها لأقبلهما،‮ ‬فسحبتهما وشدتني إلي حضنها ثم أزاحتني إلي عتبة الباب ودارت بوجهها بعيدا وهي تقول‮:‬
‮- ‬اجعل زوجتك تسأل عني
‮- ‬لا أريد أن أموت وأتعفن دون أن يشعر بي أحد‮!‬
خرجت من الباب بينما انغرس بعض الرجال أمام الدور يدخنون النرجيلة وعلا صوت حفيف الأغصان في الأعالي‮.‬
ركبت السيارة وانحدرت إلي سوق المدينة المغطي‮ ‬،‮ ‬غصت في زحام الصاغة وعددت الثمن‮.. ‬جمعته علي لفة أمي وذهبت إلي سمسار التهجير السري‮.‬
وجدته هناك يحمل بين يديه جواز السفر وكيسا يشبه كيس نقودي،‮ ‬نظر كلٌّ‮ ‬منا إلي الآخر وابتسم بصعوبة‮. ‬
‮>>>‬
خرجنا من عند السمسار ثقيلين نجر خطواتنا ككهلين‮..‬
‮ ‬مرة أخري توقف بنا عند تعريشة سندس،‮ ‬افترشنا الرصيف وأتي النادل بكوبين من الشاي وانصرف إلي زبائنه‮.‬
سألته عن اسمه،‮ ‬لكنه لم يرد‮.‬
تطلعت إليه بعد أن استند بوجهه علي قبضة يده وظل يحملق في سندس،‮ ‬لمحت نمشا بنيا داكنا يغطي وجهه‮.‬
أشرت ناحيتها وقلت‮:‬
‮- ‬هل تعرفها؟
ظل صامتا،‮ ‬كأنه لم يسمعني‮.‬
مددت يدي وهززته برفق،‮ ‬فالتفت ناحيتي،‮ ‬سألته‮:‬
‮- ‬أنت متزوج؟
‮ ‬مط شفتيه وسحب نفسا عميقا وظن نفسه عالقا بين الأرض والسماء،‮ ‬يتأرجح ولا تستطيع قدماه أن تحملاه،‮ ‬هرب بنظراته بعيدا يتابع طفلا يركب دراجته وأمه الشابة تتبعه بنظراتها‮.‬
ضحك وقال‮ :‬
‮- ‬إن كان لك زوجة وابن هل ستفكر في السفر؟
قلت‮ :‬
‮- ‬أنا عندي زوجة وابن‮!‬
فكر قليلا،‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬ستسافر وتتركهما؟‮!‬
‮- ...........‬
‮- ‬معك حق
‮ ‬علي الأقل تضمن لهما حياة كريمة بعيدا عن هذه البلاد‮!‬
صمت للحظات ثم سألني‮:‬
‮- ‬وكيف دبرت النقود؟
‮- ‬قل لي أنت‮ ‬
‮- ‬هل سرقتها أم طبعتها أم استدنتها؟
رفع قميصه وكشف عن موضع جرح عميق بجانب ظهره،‮ ‬وقال بسخرية‮:‬
‮- ‬يستطيع الإنسان دائما أن يعيش بكلية واحدة،‮ ‬ليأمن توفير النقود حين يحتاجها‮!‬
هززت رأسي مواسيا وقلت‮:‬
‮- ‬أنا أيضا ابني مريض،‮ ‬ويعيش بكلية واحدة‮!‬
‮>>>‬
كدت أتراجع حين صحبنا السمسار إلي مخزن بالميناء وأشار إلي الصندوق،‮ ‬وقال‮:‬
‮- ‬ادخلْ‮.‬
لكنه اقترب مني وقال‮:‬
‮- ‬لا تتردد
‮- ‬لن يكون الوضع أسوأ مما نعيشه في بلادنا،‮ ‬ساعات ونمر من المعبر وتتغير حياتنا أو نرتاح منها‮!‬
أمنَّ‮ ‬السمسار علي كلامه وقال‮:‬
‮- ‬بمجرد أن تتحرك المركب وتغادرون الميناء،‮ ‬سيأتي أحدهم ويخرجكم من الصناديق‮.‬
‮ ‬سبقني وقفز إلي داخل أحد الصناديق،‮ ‬فقام السمسار بإغلاقه جيدا،‮ ‬وتسابق الآخرون للحاق كلّ‮ ‬بصندوقه‮.‬
تعجبت أنني لم أعرف عنه الكثير،‮ ‬حتي اسمه لم أعرفه إلا عندما صحبنا السمسار ونادي علينا ليعطي كل جواز سفره‮.‬
‮ ‬قال أنه لا قيمة لها،‮ ‬احتفظ بها ليتأكد من عدد المسافرين،‮ ‬عندما تصلون إلي هناك تدبروا أموركم بعيدا عن الشرطة‮.‬
سألته عن السبب الذي جعله لا يسألني عن اسمي أو يخبرني باسمه؟
قال‮ :‬
‮- ‬إذا وصلنا إلي هناك سنتعارف أكثر‮..‬
‮ ‬أما إذا فقد أحدنا الآخر الآن‮..‬
‮ ‬فلن يوجعه الفراق‮! ‬
مر وقت حتي علا صوت الضجة،‮ ‬وهزتني رجفة شديدة‮.. ‬توالي الاصطدام بجنبات الصندوق،‮ ‬وتعددت الخبطات محدثة ضجة مهولة وألما أكبر،‮ ‬أشبه بماكينة عصر عملاقة،‮ ‬تدخل البشر من ناحية لتخرجهم بقايا آدمية من الجهة الأخري،‮ ‬وتنقلهم من عالم إلي آخر‮.‬
بعدها ساد صمت وهدأت الحركة‮.‬
حاولت زحزحة أعضائي التي أنهكها التعب وأوجعها وخز الإبر،‮ ‬منذ حملتنا الرافعة من فوق رصيف الميناء وألقت بنا فوق ظهر المركب‮.‬
كنت أريد الصراخ ليخرجني أحدهم من هنا،‮ ‬لكن تكبلني تحذيرات السمسار أن يحدث أحدنا صوتا فينكشف أمرنا قبل أن نغادر الميناء‮.‬
‮ ‬تغلبت علي وجعي وقهرت رغبتي في الصراخ وملت برأسي إلي أسفل لأبتعد قدر المستطاع عن سقف الصندوق ووضعته بين قدمي الذين ضمتهما بقوة إلي صدري،‮ ‬أشبه بالوضع الجنيني‮.‬
فتحت عينيّ‮ ‬اللتين أغمضتهما منذ ولجت إلي الصندوق تنفيذا لتعليمات السمسار حتي لا يصيبنا الدوار،‮ ‬فلم أجد فارقا‮..‬
أكوام من العتمة الرابضة والوحشة المشتعلة‮.‬
‮ ‬طمأنت نفسي،‮ ‬وقلت‮:‬
‮- ‬القاع دائما مظلم‮.‬
‮>>>‬
بين الخوف والوحشة لا أعرف كيف داهمني النوم‮..‬
لم أعرف كم مر من الوقت،‮ ‬كنت آخذ أنفاسي بصعوبة وجسدي داهمته السخونة وظل يرتجف دون أن أستطيع التحكم فيه‮.‬
شعرت بحركة من حولي وأصوات استغاثات‮.‬
‮ ‬دفعتُ‮ ‬سقف الصندوق بما استطعت من قوة وغصت في زحام الظلام والأجساد والأشياء التي تصطدم وتتراكم فوق جسدي،‮ ‬بينما الأصوات حولي تصرخ بعشوائية،‮ ‬لم استطع تفسيرها إلا حين قال أحدهم أن المركب تغرق‮.‬
دوي صوت انفجار عظيم وتطايرت بقايا أخشاب وزجاج مع تلاطم الموج من حولنا‮.‬
تعلقت بخشبة قذفها الموج ناحيتي،‮ ‬بينما آخر حاول جذبها نحوه حتي استقر إلي جانبي،‮ ‬نظرت إليه فوجدته هو‮.. ‬
ورأيت عينيه تلمعان بالرعب‮.‬
قال‮:‬
‮- ‬سنموت؟
كنت أحس بأن روحي تخرج من جسدي ببطء‮..‬
نظرت إلي السماء فرأيت القمر الساطع بفضته الواسعة علي البحر،‮ ‬وتخيلت صغيري يرقد إلي حضن أمه مبتسما في سذاجة،‮ ‬ينتظر عودتي بكيس علاج الآلام‮..‬
سحبت نفسا عميقا وقلتُ‮:‬
‮- ‬لابد أن أحدا سيأتي لإنقاذنا‮..‬

http://www.akhbarelyom.org.eg/adab/detailze.asp?field=news&id=2144&num=ساحة الأبداع


ليست هناك تعليقات: