2013/01/11

عند مغرب الشمس.. قصة بقلم: سعاد محمود الأمين



عند مغرب الشمس
سعاد محمود الأمين
        يُعانِق المُحيط الأطلسي البحر المُتَوَسِط فتمتزج الوانه عند المضيق. الحَدْ الفاصِلُ بَين المَوت وشَهْوَةِ الحياةِ، حَيْثُ ترقُد المدينة الحُلُمْ، وَلَجْنا بوابتها الواسعة فتراءى لنا سوقها الكبير الذي يَشْرِف على منارة مسجد المدينة المزينة بِـفُـسَـيْـفِـسـاء ذات ألوان، حشودٍ مُخْتلفة مِن البشر كانوا يتدافعون بمناكبهم على عجل، وكُنْتُ أنظُر إلى البَدَوِيَات بِفُوَطِهِنْ المزركشة وأزياءٍ حمراء وبيضاء وقبعات مزينة بأنواع الثمار، ورنين أجراسٍ نحاسِية لِسقاةٍ بِأَرْدِيةٍ بهتت الوانها تفوح مِنها روائح التوابل، وأريج الأطلسي ذو الليمون والنعناع، كُنا نَمْشي علَى مهل نُثْري أحاسيسنا المُبْهمةِ التي تبعْثرتْ خِلال الرحلة الشاقة. بدأت رحلتنا مِن جنوب الصحراء، كُنا أربعة، ركِبْنا فيها الصِعاب بَحثًا عن حُلُمٍ يتراءى لنا ويخْتفي عِنْد مُواجهتِنا أَهَوال مجاهل الغرب الأفريقي. سقط أحدُنا بَين عجلات القطار، حاول أن يَسْتجير بِسطح القِطار هارِبًا مِن مُفتِش التذاكِر، زلت قدماه وسقط، تبادلتهُ العجلات ذات البأس الشديد، لم نتَبَينه، فتَولى القِطار عنهُ وتَولت الصحراء مراسِم الدفْنِ، كان بِلوغ غايتِنا قاب قَوْسَين أو أدنى، خَـلَـفَ هذا الحدث في دواخِلُنا حزنًا مقيمًا، لقد انتهت رحلته واندثر حلمه قبل أن يبدأ. ظل القطار ينهب الأرض نهبًا، لم يتوقف إلا عند بوابة أحلامِنا مدينة العبور
        مِن سطح بِنايةٍ أَثرِيةٍ مُطِلة علَى الميناء وَقَفْنا نتأَملُ البواخِر المُبحِرة إلى الجنوب الأوروبي. بِعَين الخيال، نرسُم لِحياتِنا جمال. ينتظرنا كُنا نتَشَوق أن نُرسِل لِذَوِيِنا الذين حال بَيْننا وبَينهُمْ زَحْفِنا المُقدس نحَو العالم الحُر المُتمدِن، ما زالت المدينة الكتومة تحمل أسرار القادِمين وتَحْتَضِن أجسادٍ ذات سِحْنات مُختلفة وأَلْسُن تهمْهِم بِمُبْهمات. لم تكُن في وسعها المدينة أن تعلم مصير الحالمون فيها، وهُم يلِجون ويخرجون مِن بواباتِها العتيقة ذات الألوان نحَو غاياتٍ عصِية المنال.
      عِنْدما حَل الظلام وهَدأ صخب المكان وتلاشى  ضجيج حياة المدينة الحُلُم وتسربلت الغابة بِكساء اللَيل الحالِك السواد وانتصبت أشجارها كحراسٍ غِلاظ شداد، تَسلَلْنا نحو الغابة الملاذ مسرعي الخُطَى، فدخلناها بخطوات حذِرة، كَمن يمشي على زُجاج، لا نريد أن تكشفنا عَين الرقيب الساهرة على حراسة السياج الاكتروني الفاصِل بين الحلم والواقع. كانت أغصان الأشجار تعترضنا وتصدنا للخلف ويفضح تكسُرِها مُرورِنا. ، تبدلت أصوات المدينة بِأُخرى، بحفيف الأشجار، ونقيق الضفادِعُ، وهسيس الحشرات ، مكونة سيمْفونِية الغابة المُرعِبة كان الأمل يحدونا في نجاح تسللنا. ظللنا في الغابةِ نُسْرِع الخطى ونختبئ منها وفيها ونَنْصُت ثُم نعود ونسرِعُ.
       كانت ماجوري قد هربت مِن بَيت أمها لِتُرافِقُنا في رحلتنا المجهولة، كانت أكثرنا حرصًا على نجاح ليلتنا هذه، تُريد العُبور سريعًا لترسل لأمها أخبارها، تذكرت دجاجات أمها اللاتي يَخْتَرِقْن سياج بيوت الجيران المصنوعة مِن الأعواد الخشبية وسيقان الذرة المشذبه والحق يُقال، كانت دِجاجات أُمي يصدرن ضجيجًا وينْثُرن فضلاتهن في أنحاء المكان، ويتقيأن مخزون الحواصل في كل مبلغٍ يبلغونه.. في المراقد.. في أواني الطبخِ المبعثرة على الأرض، مما جعل أُمي في شجار دائم مع جيرانها، ابتسمت عندما تذكرت ما تثيره أمها دِفاعًا عن دجاجاتها، كانت تريدهن حرات.. طليقات.. غير محبوسات في قفصٍ فتبدو لهن الحرِية وتسْتعصِم عنهُن وهُن ينْظُرن، همست لي ماجوري ضاحكة: [نحن اليوم مثل دجاجات أمي] وقبل أن تُكْمِل ضحكتِها، سمعنا خطوات ثقيلة الإيقاع وأضواء جعلتنا نفر متفرقين في داخل الغابة مِن غَير هُدى، بعدها لم ألتقي ماجوري مرة أخرى بعد أن نجحت في اختراق السياج.
        لجأت ورفيقي لأحد الأكواخ البالية المُنْتشرة في أطراف المدينة، كُنا كمن ننتظر قادِم عبر ممرات الأيام. بعد أن أوشكت نقودنا على النفاد، أصبح إيجاد عملٌ وضيعٌ خيرٌ مِن التسولِ أمام المسجد ذو المنارة المزينة بِـفُـسَـيْـفِـسـاء ذات الألوان، المحاط بكومة من البشر ذوى الحاجة والمتسولون، كنت كل صباح اتجه نحو أحد الأسواق الشعبية بحافلات النقل وأعمل حمالاً وأساعد في مطعم، فأعود مساءً محملاً بالخبز والخضروات وما جادت به قمامات الأسواق، كنا نتحلق ورفقاء الضياع حول الطنجرة التي يتصاعد منها رائحةٌ تزكم الأنوف، فننتشي وتسكت كلاب جوع بطوننا حتى حين، نلقي بأجسادنا المُنْهكة على حصيرة مهترئه، ونلتحف غِطاءٌ بالكاد يقينا حشراتٍ وجُرذان احْتللنا بَيْتها، وكُنا نتوسد أحزانِنا القديمة.. المقيمة في دواخِلُنا.. المضطربة، يعلو شخيرنا وزفيرنا وتهاجمنا الكوابيس المخيفة حتى مطلع الفجر، حيث تفجر الشمس بأشعتها ستر الليل.
        يأتي الصباح بضجيجه وينصب كيلاني رفيق الضياع مظلة تقيه من الشمس الحارقة ويجلس وسط  تل من الأحذية الباليه التي عبرت الفيافي والشنط الممزقة من الترحال، كان يشرع في ترميمها حتى المساء، يجمع بعض النقود لتعينه في محاولته القادمة للعبور بقوارب الموت. كان مُنظِمي الرِحلةِ يطلبون مبلغ الرحلة كاملاً غير منقوص، بالرغم من صعوبة جني المال، فقد نجح كيلاني في جمعها.
       عندما مال قرص الشمس للمغيب وارتحل الصيادون والمصطافون ونكست سنارات الصيد وحملت الأسماك، ركب كيلانى القارب واستدار واختفى وما زال زبدُ قاربهِ الذي رحل فيه يصطدم برمال الساحل مودعًا، ويبعثر أصْدافِها المختبئة في أحضانها الدافئة، اكْفهر الموج عِندما حل الظلام وعربد خلف القارب، قفلت راجعًا وأسراب النورس تضرب بإيقاعاتها المتكررة صفحة المياه، كأنها تريد أن تقول شيئا تشاركني به وحدتي وضياعي، إلتفت إلى الساحل ونظرت متأملاً تلك الظلمة المنتشرة على سطح المياه عسى أن أرى وجه صديقى على صفحتها للمرة الأخيرة .أنا وأنت يا نورس شبيهان ليس لِمَدانا نهايةٍ أو بداية، كل يوم تشرق
فينا شمس وتغرب، وتخبو من آفاقنا نجوم.

      تابعت سيري متثاقل الخُطى إلى حَيْثُ الكوخ المُتهالِك ذو الحشرات ألقيت جسدي المنهك وأرخَيت جفوني المُثقلة، تدثرت أحزاني المتشابكة وتوسدت حُلُمي وصب الدمع مِن حَول المنال وغفوت مظلومًا وظالِمًا بما آلت إليه أحوالي.
      سلبني بعض المُنحرِفين كُل ما أمْلُك، بقِية مالي.. جواز سفري، ألقوا بي قرب الساحل، كان ذلِك عند محاولتي الثالثة للعبور، كنت خائفًا طوال الوقت من أن أصبح رقمًا في دفاتر الشرطة.
         ذات ليلة حالكة السواد والأكواخ تضم في أحشائها المشردين والمهاجرين ورفقاء الضياع والروائح النتنة تنبعث منها، كان اليأس قد بلغ بي آخره فصار الأرق يغشاني، وأنا في سنةٌ مِن نَوم سمعت صوتًا يهمس فى أذنى: [أنهض يا ابن أفريقيا وأرحل من هذا المكان.. قد طال بك المقام.. عد إلى أفريقيا.. إلى أرضك السمراء.. أرض أجدادك.. منذ متى لم تشتم عبير التداني؟ منذ متى لم تسبح في قلبك ملائِكة التِحْنان أنهض أنهض؟] ويزداد الصوت قوة، انتفضت فزعًا وقررت العَودة من حيث أتيت.
        كان قطار العودة ينهب الأرض على عجل ويتوغل في الصحراء، كنت اختلس النظر متابعًا المتاهات وأحيانًا متفرسًا الوجوه حولي علني أرى في قسماتهم وجوه مَن رحلوا مِن رِفاقي. أيقظني ضجيج الحياة في الغرب الأفريقي عادت كل الألوان.. كل اللهجات التي إعتدها، وجدت نفسي الضائعة، هرولت نحو العربة التي ستقلني إلى بلدي، وعادت الروائح وسحنات البشر التي أعرفها، لون أمي وأخي، لاحت لي المباني المبنية من القش والأعواد وسيقان الذُرة التي تراصت فاصِلةٍ بَين البِيوت المتكئة فى أمان، تظللها الأشجار الضخمة. صاح أحدهم: [ وه ....واه...   جراهام أين كنت؟] ألقى بجسده العاري على صدري المُمزق وضمني إليه بقوة، كانت الأشواق تخرج وتلفنا، كان الحب يتدفق، زرف دمعة طفرت من مقلتيه جاهد في إخفاءها عنى وما استطاع، هرول دوني يسابق الريح ليخبر أهلي، لأول مرة أسمع اسمي الذي  كدت أن أنساه، لم يناديني به أحد منذ رحيل رِفاقي، أحسست بأني قد عدت إنسان.. كائن.. ما عدت رقمًا تذروه الدفاتر. تلاشت غربتي التي كانت تسيطر على كياني واختفى خوفي الدائم من المجهول، أنا اليوم بين أهلي.. بين أبناء جلدتي.. وسط ألوانٍ أعرف أسماءها.. كانت حروف اللهجة تشجيني، كدت أن أشم كل حرف، نزعت رداء القهر.
        جلست مع أبي ارتشف شايًا من الأعشاب، نظر إلي مليًا، لم يعاتبني على فراري وتركي مقاعد الدراسة، ثم ناولني صورة اكادينو رفيق المدرسة، وهو في أحد قاعات جامعة غربية، كان يرتدي بزهٌ سوداء وقميصٌ أبَيض وكرفتةٌ حمراء، قال لي: [كنت أولهم ولكنه سبقك نحو الغرب وحقق حلمه، اكادينو يا بُني نظر إلى زرقة السماء محلقًا فيها وأنت نظرت لزرقة المياه الغادرة أمواجها. الغرب يا بُني يفتح أبوابه لِلعلم، يريد طالِب العلم، و لا يريد متسولين، عليك اللحاق به إن شئت. بُني إن الإنسان يجد نفسه في المكان الذي يضعها فيه، فتخيَر لنفسك مكانا يحفظ كرامتك]. ارتشف أبي الشاي دفعة واحدة، ووضع الكوب بقوة على الأرض محدث صوتًا كأنه يريد دفعي لفهم عباراته.
        حملت دفاتري ومشيت مُسْتقيم الخُطى في ذلك الوادي المتعرج  متسلقًا الربوة  تداعبها شجيرات الطريق المنتشرة، لف جسدي نسيمٌ عليلٌ مِن عبق المطر المخلوط بالتراب، لامس وجهي كأنه يريد أن يغسل آلامي، كانت رائحة الأرض المكسوة بالخضرة قد أزالت روائح المدينة الكتومة من توابل ونعناع، وحيثما التفت أجد أبناء جلدتي، شعرت بالانتماء وزالت تلك المخاوف المبهمة، لاح باب معهدي الذي تركت مقاعده فارا إلى المجهول، نظرت إلى زرقة السماء المتشحة بسحاب أبيض منتشر على صفحتها كالحملان ترعى في واد خصيب، تقدمت بخطواتي الثابتة ودلفت. كنت أردد في دواخلي الغرب يفتح فراديسه لطالب العلم.

ليست هناك تعليقات: