2013/09/16

دكتور الفلتة.. قصة بقلم: هشام جلال أبوسعدة

 دكتور الفلتة
هشام جلال أبوسعدة
ما نراهُ في الأسفلِ يُعَدُ كارثةً إنسانية..
كارثة، .. المكتوب في التقرير إذا كان حقيقياً فهو الكارثةٌ.
يدق (أنور بَلبوص) بيديه العاريتين على زجاج المكتب أمامه، الرابعة إلّا خمسة دقائق، مازال يُشاهِد تقرير أعده (الدكتور الفلتة) بمعاونة تلميذته (سماء الراهب) غيرّ مُصّدِقاً لما جاء فيه:
 أحقيقة ما تقولون؟ .. تلك عينة من شريحة عشوائية مُنتقاة من العاملين في البرامج الحوارية والقنوات الإباحية على الفضائيات وشبكة المعلوماتية العنكبوتية؟ 
هم بأنفسهم أبلغونا بما يفعلون.
ما أدراكم أنهم صادقون؟.. لعله تلفيق؟ .. كذبٌ للإثارة..
شدة المرض يا دكتور (أنور) لا تتيح لأحد الكذب، هم يآملون في اكتشاف عقار للمرض الذي انتشر كالوباءِ.
تقولين وباء؟ .. ما أعراضه؟ .. الوباء له سمات!
أعراضٌ متباينة، الفئة الأولى أصابها الجيل الثاني المتحور لفيروس نقص المناعة المُتفشياً بين ممارسي الرزيلة.
كنا قضينا عليه تماماً في نهاية الألفية الثانية.. بالفضيلةِ..
أجل،  أنتَ محقّ، إنما عاد فتحور من جديد.. تغير شكله.
كيف تأتى ذلك؟
عاد ليُصيب الآدمغة، خاصة عصبونات اختصاص مراكز اللذة.
.. ماذا حصل؟ .. لا أحد يعرف!
 (سماء) صامتة، يدور في بالها ما قرأته منذ يومين في شبكة المعلوماتية عن تطور البغاء الفكري في الحقبة المئوية الفائتة ليدخل مجال التقنية وتبادل المعلومات، فعفَ غالبية البشر عن ممارسة الرزيلة الحية لارتفاع الأسعار، فلما بات صعباً التقاء الناس لقاءً طبيعيا طور العالِم (رافي كاحول) فكرة الواقع الافتراضي ليُدخله بأجهزته مجال البغاء؛ يعيدها من غفوتها صوت (بلبوص):
تعرفون في بلدنا اليوم توجد مافيا صناع الواقع الافتراضي.
أعرف فهذا (الكاحول) عضو في مافيا الواقع الافتراضي.
ماذا تقصدون بمافيا الواقع الافتراضي؟ .. لا أفهم.. أعرف مافيا (آل كابوني)..
مقهقاً.. ومافيا المخدرات في الباطنية زمان..
هكذا تدخل (أنور بَلبوص) سائلاً باستظراف يُحسد عليه، ليجيبُ (الفلتة) برزانة دون أن يلتفت لأحد:
هم مجموعة من البشريين عاهدوا الشيطان على بيع الوَهمْ للناس، فلم يكتفوا بتغييب العقل بالمشتقات التقليدية الطبيعية التي عرفتها البشرية على مرِّ تاريخها في السنوات السابقة من المُسكِّرات والمخدرات والأفلام الإباحية فابتكروا عالم موازٍ آخر تذهبُ الناسَ إليه للمتعة.. مُتعة فكرية صِرفة.
.. عَالمٌ موازي للعالم الفعلي!؟ .. يا رَجُلْ.. كيف فعلوا ذلك؟
يسأل (بلبوص) (الفلتة) لتعود (سماء) ثانيةً لسرحانها، تعرف أن العلماء في الآونة الأخيرة تمكنوا من القفز فوق تطبيقات الواقع الافتراضي ليخاطبوا عصبونات التعقل، فنجحوا عن طريق ترجمة إشارات صادرة من عصبونات خلايا الدماغ لتحويلها لعناصرٍ خبرة.. ثم الإيحاء بوجود المؤثر، فما تراه تعتقده حقيقياً عن طريق توليد الإشارة الكهربية التي يقوم بها هذا المؤثر وقت تتبع كُلّ خبرة مفردة، فالخبرات مُجَمعة، ليشعر المشارك فوراً بأنه وسط خبرات حقيقية. بهكذا فعل يُمكِن لراغب ممارسة الجنس التخيلي أن يُمارسه مع من يرغب دون تلامس، من خلال دماغه، ليس بالتخيل إنما بالاستعانة بأجهزة تتصل بمراكز الحس واللذة. ذلك ما شرحه باستفاضة (الفلتة) إلَّا أنه أشار بأن الأجهزة طُوِرت لِتُصبح رخيصة الثمن، ليُفرْقّع (بَلبوص) بأصبعيه كَأنَّه قد اكتشف نظرية جديدة:
أيوَنْ .. أيون.. هكذا وضحت الصورة.. أعتقد أن المشكلة تَكمُّن في الأجهزة الرخيصة التي تستخدم تقنية بدائية، فتتبين فيها الكثير من المشاكل التقنية المُضرة، أكثر تأثيراتها مرضية تكون على العصبونات الدماغية في المخ، فكونت فيروس عنيف جداً، أشدَ من فيروس نقص المناعة.
تمام يا دكتور سعادتك.
توافقه (سماء) بحماس، لافتة نظرهم ناحية الشاشة المعلقة في وسط المعمل، تقرأ منها معلومات مَنقولة:
تشير التحاليل أن هذا الفيروس ينتقل في أقل من عشرِ ثوان فور استعمال الجهاز مباشرة، لينتقل من مستعملٍ لمستعمل آخر في سرعةٍ رهيبة، تشبه الجائحة. لحَتَّى إنها تنتشر في خلال خمس دقائق لتُصيب كُلّ الداخلين لموقع واحد، فإن كان ثمة مريضاً وحيداً فقط يُصبح كُلٍّ ممن هُمْ مستعملي لهذا الموقع مرضى في أقل من النصف ساعة.
ينتفضَ (بَلبوص) واقفاً كَأنَّه أصابهُ عقرب، لحَتَّى ضربَ كوبُ العصيرِ من المكتب بيده، فأوقعه على أرضِ الغرفة، يسأل جسده كُله يرتعش، أكثر مناطق الرعشة الشفاه والحواجب، مُصاب بمرض نفسي عجيب:
ماذا عن الذين يستخدمونَ أجهزة سليمة.. ليست مضروبة.
في الوقت الذي تأهب فيه (الفلتة) ليجيبه نهضت (سماء) لرفع الكوب ليسبقها الآلي مسؤول نظافة الغرفة يحمله عنها، مُنظفاً للمكان، حاملاً كوباً آخر (للفلتة)، الأمر كُلَّه لم يستغرق لحظات. تعود لتجلس، ترى وجه (بَلبوص) مزنهراً محمراً، مُتلفتاً لحوله:
تقولون إذا كان بمفرده في موقع ومعه جهاز أصلي، إذن فلا توجد مشكلة، يعني أمان.. صحيح؟ ...
دكتور (بُلبوص) كلامك صحيح، بمجرد دخول مريض وحيد في مجموعة من ألف شخص، كُلَّهم يرتدون أجهزة أصلية، وهو فقط جهازه عطب وكان حاملاً للفيروس فإن الفيروس يُصيبهم كُلَّهم في أقل من النصف ساعة.
بان الاحتقان على وجه (بَلبوص)، يفتح أزرار قميصه:
إذا عرفت منظمة الصحة العالمية، ففي وقت قريب ستوقف عمل الأجهزة وتحرِّمها دولياً. إنما وفق الأعداد التي تذكرونها الآن، .. لعلها الجائحة.
نعم أصبحت، .. أو لعلها كادت تتحول لجائحة.. لا نعرف..
بماذا توَّصْوُّنْ؟
من الضروري إصدار تعميم بخطورة هذا الفيروس.
التعميم سيُصيب هذه التجارة في مقتل، تعلمون أن أصحاب الاستثمارات هُمْ من عِلية القوم، لن يسمحوا بضرب استثماراتهم، هم لا يهمهم صحة المواطن، لهم مصالح مع العالم كُله، مافيا يا جماعة، .. قلت لكم مافياااا.
جشعٌ وطمعْ..
قد يكون الحل هو منع الأجهزة المضروبة من السوق.
هناك أكثر من مائة ألف شخص حاملين للمرض، يدخلون تلك المواقع لحَتَّى الآن، .. الخطورة انهم آدمنوا..
هل تتسبب تلك الأجهزة في الإدمان أيضاً؟
دخول الواقع الافتراضي في الأساس، بل والإغراق فيه لأوقات طويلة يُسبب الإدمان.
إذنْ .. فالنهاية آتيةٌ.. لا محالة.
يقولون أنهم في دول أوربية افتتحوا عيادات نفسية خاصة بإدمان تلك التقنية، لها فروع خاصة بعلاج إدمان الواقع الافتراضي.. المختصون يقولون أن شباب دولة عظمى أمسوا لا يخرجون من مساكنهم؛
.. أدمنوا تلك التقنية.
ماذا عن الشباب في بلادنا؟.. لعلهم بخير كالمعتاد..
التعتيم يا صديقي حرفة مسؤولينا، غباوة فاقت الحد، مُدَّعين الشفافية، في كُلِّ مرَّة هم كذابونْ، باتوا لا يستحوُنْ، .. يقولون في كُلَّ مرَّة أن شبابنا متدين، صاحب سِبحة وسِجادة، .. عايز أعرف هو الشباب بتاعنا بيعمل إيه؟
آخر إحصائية، إن حوالي 80% من الشباب بتاعنا- مُرَّكزة على كلمة (بتاعنا)- أعمارهم من بين 15 و35 سنة يمضون في تلك المواقع ما بين ثلاث وعشر ساعات يومياً، أما عمَّنْ تعدوا ذلك السن، فالحالة أخطر.. مراهقة متأخرة.
هكذا تلفظت (سماء) بتصريحها الأخير "مراهقة متأخرة" لكَأنَّما ألقت قنبلة على (أنور بَلبوص) الذي نهضَ من مكانهِ مُندفعاً ناحية دورة المياه دون استئذان، لتتبادل هي مع (وجيه الفلتة) نظرات مفهومة؛ متابعة الحديث بتؤدة:
أصيب العاملين في البرامج الحوارية بفيروس إنفلونزا الحمير المتحوِّر، انتقل إليهم عن طريق الرزاز، لكَّونهم من الواضح لا يعطسون في كُّمهم كما أوصى الطبيب الجهبذ بأنه لابد أن كُلّ واحدٌ مننا يعطس في كُّمه.
لتعود (سماء الراهب) تشرح بتؤدة بعد عودة (أنور بَلبوص) من دورة المياه عن أعراض ما أسمتهم بآشباه البشر المتحولين. تقول أنها رأت بعض منهم بالفعل قادمين للمركز، أكثر من نصفهم من العاملين في القنوات الفضائية المحلية. هنا تطلب منهم (بلبوص والفلتة) برقة أن ينتقلوا معها راغبة أن تريهم المحجوزين في العنابر السفلية، ليقاطعها (بَلبوص) باستظراف:
 لماذا لايستعملون المناديل الورقية!؟ حاجة تقرف، شعب معفِّن..، إنما لم تقولي ما هي الأعراض! (آتشوب)
عاطساً في كُمه، إنما مُغرقاً سطح المكتب، باعثاً الرزاز في الغرفة وعلى وجه (الفلتة)، الذي انتفض متأففاً منه يمسح:
كما ترى سيادتك في المشاهد، الأعراض تبدو في كبر حجم الرأس، جحاظة العينين، تغير لون الجلد مع تكلسه، تهدل اللسان، رجفة الشفاه والحواجب، عجيب، غريب، مريب.
يقول التقرير أنه يُصيب الأدمِغة، .. الإصابة أعمها في مراكز التفكير والكلام.
الدكاترة (وجيه الفلتة) و(أنور بَلبوص) يصلان بعد (سماء الراهب) لعنابر الموبوئين، تعمد (الفلتة) عند مقابلتها مرَّة ثانية على باب العنبر مدّ يده ليسلم عليها مُحتفظاً بكفها بين يديه. تنظُر له في وسط عينيه بقرف، ينظُرلها نظرة تقطُّرّ شهوة، تفهم المرأة نظرة الرجل، سحبت يدها. قفزت خطوة للوراء ليتقدم هو خطوتين للأمام، بعدت لحّتىَّ التصقت بحائط طرقة العنبر، تنظرله، أنفاثة حارة. لفت نظرهم (بَلبوص) أن ينظرا خلفهم، فرأوا أمامهم المتحولين وجهاً لوجه. بهتوا لدقائق غيرّ مُصدقين ما يروا، إناث وذكور من كُلِّ الأعمار، كثافة شعورهم مُتهدلة مُنسدِّلة على أكتافهم من قمة الرأس لأخمص القدمين (عند الأصابع والكعبين) عليهم لباس المستشفى، لم يعزلوهم بعد، يوم مجيئهم أمس لم يكونوا قد وصلوا لهذه الحالة. فكان أول ما قاله (بَلبوص) يجب نقلهم لعنابرٍ مُستقلة وتكبيلهم في عوارضٍ بسلاسلٍ معدنية، لا يمكن تركهم على هذه الحالة، فهم باتوا بهكذا وباء خطر على الكُلِّ. يرمقهم آشباه البشر، حانقين، عيونهم تطُقُّ شرار، تبدو لهم حالتهم مُتأخرة.
ستكون تلك هي الكارثةُ القادمة على الشباب؛ أجل، الشباب.. (بتاعنا).
تخرج كلمة الكارثة من بين أفواه (أنور بلبوص) و(وجيه الفلتة) في نفس واحد، لتُعلِّق (سماء الراهب) ناظرة للثاني بقرَف:
بل  ستكن الكارثة أكبر على المراهقين الكِبار، .. المُتصابين.. لعلها: "مراهقة فكرية متأخرة".
تمت

ليست هناك تعليقات: