2013/09/29

تجربة خاصة مع الالم..بقلم: د.احمد ابراهيم الفقيه

تجربة خاصة مع الالم
  د.احمد ابراهيم الفقيه
 لا ادعي ان التجربة التي مررت بها مع المرض والالم لها فرادة على سائر التجارب الاخرى او عشت خلالها معاناة اكثر قوة مما عاشه كل من تعرض لحالة مشابهة، ولكنها في النهاية تجربة عاينتها، وتجرعت الامها، جرعة جرعة، وهي تحمل ، بالتاكيد، ملامح واصداء تجارب عاشها اخرون، وها انا احاول ان اقبض على تلك اللحظات في شبكة الحروف والكلمات، ولعل بعض هؤلاء الناس يرون تجرب...تهم في هذه التجربة، ومعاناتهم في هذه المعاناة، التي اقدمها دون اسهاب وبقدر من الاختصار والتكثيف وقد اعود لتقديم تاملات اخرى عن الالم باعتباره شرطا انسانيا يلاصق ويرافق مظاهر المعيشة والحية للبشر 
**************** 
تحتل القضايا العامة مقدمة العقول والرؤوس، لدى النخبة من المشتغلين بالهم العام ، قادة ومفكرين سياسيين واجتماعيين واهل ادب وابداع واعلام ، ويغلب الاهتمام بها ، على الاهتمام بالقضايا الشخصية ، التي تشغل السواد الاعظم من الناس ممن يبقى الانشغال بالجانب الشخصي الذي يتصل بالمسائل المعيشية، وتامين حياة الاطفال، والضمان الصحي والسكني، هو الانشغال الغالب على حياتهم، الاستثناء الوحيد، الذي تتضاءل فيه اهمية القضايا العامة، وتتاخر عن مكانها في مقدمة الرؤوس، لهؤلاء القادة السياسيين والمفكرين، هو عندما ياتي المرض، ويحتل هذه المساحة ، ولذلك ترتفع الاصوات التي تطالب رؤساء الدول، بالتنحي عن مناصبهم، في حالة حصول مرض للرئيس يعرقل اهتمامه بالشأن العام، ويشغله عنه بالمسائل الخاصة بالعلاج، واردت اليوم ومن خلال تجربة شخصية مع عارض مرضي، ان اتحدث عن هذا التداخل بين الخاص والعام في حياتنا، باعتباري كاتبا، عاش عقودا كثيرة من عمره، يلاحق الاحداث والافكار، ويعالجها في ابواب صحفية ، يومية واسبوعية، غير تلك التي تستوعبها كتب الابداع الادبي. فحقائق كثيرة عن المرض، في مختلف حالاته القاسية وغير القاسية ، لا نستطيع فهمها واستيعابها، الا عبر التجربة والوقوع في المرض، وهو ما اقوله من خلال هذه التجربة الاخيرة التي كانت مجرد احتقان في المرارة، افهموني انها عملية صغيرة جدا، لا تحتاج لغير قضاء بضع ساعات في المستشفى، واغادر في نفس اليوم متحررا من عبء المرض، وها انا اليوم بعد مرور خمسين يوما، مازلت في المستشفى ، احاول العودة الى حالتي الطبيعية السابقة للمرض. وبداية راى الطبيب ان العملية لا تتم اثناء حالة الاحتقان ، وانني يمكن ان اتوفر في المستشفى على رعاية، تعجل بانتهاء الاحتقان ، خلال ثلاثة ايام لاجراء العملية في اليوم الرابع، وهو ماحدث، الا انه عند دخولي الى مسرح العمليات ، اكتشف طبيب التخدير ان طارئا حدث على الجسم، يمنع اجراء العملية ، فقد حدث احتقان في الصدر والرئة، ربما كان بسبب عارض حدث للقلب ، والغيت العملية وانتقلت مباشرة الى غرفة العناية القصوى، حيث اقتصر الاهتمام على معالجة الطاريء الجديد، وخلال اربعة ايام تناقص الاحتقان في الصدر وثبتت سلامة القلب، وتركت العناية ولكن لم اترك المستشفى لان الحالة تحتاج الى متابعة واهتتمام، وبعد عدة ايام، قال الطبيب بانني استطيع ان اغادر المستشفى، واتناول العلاج في البيت لمدة اسبوعين ، يقرر بعدها موعدا لاجراء عملية المرارة، يعنى العودة الى المربع الاول الذي بدأ به العارض المرضي الطاريء. وتقرر بعد مرور الاسبوعين ان ادخل المستشفى استعدادا لاجراء العملية واخذ مزيد من العلاج لتسهيلها، لان احتقان الصدر قد جعلها اكثر دقة وصعوبة، وفعلا في نهاية الاسبوع الثالث، دخلت من جديد غرفة العمليات، واثناءها كان هناك اكتشاف جديد، وهو ان ما تقوله الفحوص والات الكشف والاشعة ليس هو الحقيقة الكاملة ، وان هناك اشياء لا يستطيع الجراح ان يراها او يعرفها، الا عند فتح المعدة، فقد وجد ان المرارة والمنطقة المحيطة بها، في حالة اهتراء ، جعله يقضى في اجراء العملية خمسة اضعاف المدة التي يقضيها في العمليات المماثلة، واقتضى ذلك ان اقضى مدة اطول مقيما في المستشفى تحت الرعاية ، وتغذيتي بالدم لمدة اربعة ايام كاملة لتعويض ما افتقده الجسم اثناء العملية . نعم هناك ما نسميه المسكنات وقاتلات الالم، وكنت كثير الامتنان ان اجد حبة اسبرين تريحني من الم الصداع، ولكن قيمة هذه المسكنات غالبا ما تتضاءل كثيرا اثناء وجودنا في حالة مرضية سريرية، واضرب امثلة كثيرة على حالات واجهتني كان فيها الالم قاسيا ولا امكانية لقتله بكل ما انتجته مصانع الدواء من مثل هذه العلاجات. فقد رافقت حالة احتقان الصدر موجة من الزكام التي تهز الجسم مثل الزلزال، ولا تتوقف ليلا ولا نهارا، ولا سبيل للقضاء عليها، ولا علاج لها باعتبار انهم يقولون ان الزكام نفسه جزء من العلاج لحالة الاحتقان، والتخلص من اثاره على الرئيتين والجهاز التنفسي. وجلبت نفس الحالة ، ضيقا في التنفس، وامتد على السرير فاشعر كان صخرا ثقيلا يسحق صدري، ولكنه ايضا جزء من صيرورة المرض والعلاج ولا سبيل الى تسكينه الا بانتهاء كورس العلاج. وخلقت حالة التخدير اثناء العملية ، تدافعات في الجسم نتج عنه وجود عضلة في الكتف تسببت لي في الم كبير ومنعت عني القدرة على النوم، ولا سبيل لمقاومتها الا بشكل جزئي، وبالحبوب المنومة التي تتضاءل فعاليتها مع الايام، وقد تدخل المريض في حالة من الادمان يصعب الخروج منها احيانا. واقول ايضا ان الطاقة في جسمي كانت في حالة صفر بحيث لم يكن الجسم يهنأ بدقيقة راحة ولم اكن استطيع ان ارتاح واقفا ولا جالسا ولا نائما على السرير في وضع من الاوضاع ، وعشرات الامثلة لانواع من الالم التى لا وجود لقاتل لها . لقد كانت حالة مرضية لا اريد والا اتمنى ولا ارجو ان امر بها ثانية ، ولعلها تجربة قد تعيد صياغة رؤيتي لقضايا الحياة والموت والوضع الانساني ، وكان اشبه بالمستحيل خلال ايام المرض والمعاناة ، ان اجد في نفسى حماسا او نشاطا يساعدانني على متابعة نشرات الاخبار او قراءة الصحف وا قراءة الكتب، وصار شغلى الشاغل هو هذا الالم الذي استعجل يوم الخلاص منه.

ليست هناك تعليقات: