2015/10/09

كثافة الشخصية، وتعدديتها الفنية في رواية "القتلة يحتفلون بالفلانتين" لمحمد صفوت بقلم: د. محمد سمير عبد السلام



كثافة الشخصية، وتعدديتها الفنية في رواية "القتلة يحتفلون بالفلانتين" لمحمد صفوت
 د. محمد سمير عبد السلام – مصر

"القتلة يحتفلون بالفالنتين" هي الرواية الأولى للقاص المصري المبدع محمد صفوت عبد العزيز، وقد صدرت في طبعتها الأولى عن دار الحياة بالقاهرة سنة 2014، وتقوم الرواية على ثراء الإشارات المتعلقة بالشخصية الرئيسية / ناجي، وتناقضاتها الداخلية، وتنوع مستوياتها الدلالية اللامركزية في النص، عبر علاقاتها بشخصيات النص الأخرى؛ مثل ملك، وأبيه، ورامز بك، وصور ضحاياه، وغيرهم.
إن السارد يمنح الشخصية مجموعة من البنى الفنية التي يسائل بعضها بعضا في النص؛ فناجي يبدو كقاتل محترف لكنه يخشى الظلمة، ويعزف الكمان؛ وكأنه تولد من السؤال الفلسفي المستمر عن معنى الوجود الشخصي، أو كأنه يحمل تاريخا مكثفا لشخوص أسطورية، وتاريخية متنوعة، وتدل على أصالة التعدد الذي يمكن تكثيفه فنيا في شخصية واحدة تجمع بين الحضور، والغياب.
ويجمع النص بين استبطان وعي كل من ناجي، وملك، ومدى تطور الأحداث التي تجمعهما في العالم الافتراضي، والتطور الخيالي الداخلي لكل منهما، دون أن يحققا معا – في الواقع – الاحتفال بالفالانتين.
إن تأجيل التواصل الواقعي بين ناجي، وملك، يوحي بالاستنزاف المستمر لبنية الواقع في كل منهما؛ فملك تغيب في عوالم الحبيب الافتراضي المهاجر / يوسف، وتنتظر رسائله، بينما يستبدل ناجي صورة يوسف في وعيها، ويبدو أحيانا – في تداعيات السرد – كشبح أسطوري استثنائي؛ وهو ما يؤكد الواقع السحري في النص، وتجاوز الشخصية للسياق الواقعي، بينما تتجلى في متواليات سردية تخبر عن ذلك السياق أيضا.
وتثير شخصية ناجي إشكالية التساؤل حول علاقتها المعقدة بالضمير، أو الأنا الأعلى وفق تعبير فرويد، كما تتنوع بين خضوعها لآلية الحتميات في مشهد هروب ناجي الأول من صراعات القرية؛ وهي تشبه الشخصية الحديثة المهمشة في الرواية من هذه الزاوية، بينما تبدو كبطل إشكالي يشبه روبن هود في تبريره للقتل أحيانا، أو تتجلى في هيئة المجرم الميكانيكي المحترف الذي يدور في فلك الطبقة العليا، وينفذ أوامرها بصورة عبثية غير إنسانية.
هكذا يتشكل ناجي بين كونه شخصا يحمل تاريخا ذاتيا، وولوجه لعوالم الحكي، وصيرورته التي تتداخل مع شخصيات أخرى في الأدب، والأسطورة؛ ومن ثم تنوع بين الحضور الاستثنائي المتطرف، والخضوع الآلي لعلاقات القوى، والصراعات العبثية في الواقع.
ويسهم المنظور - في الرواية - في الإعلاء من العوالم الافتراضية، والتشبيهات التي تختلط بالواقع، و ثراء دلالات التفاصيل، والأشياء الصغيرة، ودلالاتها الداخلية في النص؛ وهو ما يؤكد التداخل الفني بين السرد، والسينما؛ وهي السمة الثانية التي تميز كتابة محمد صفوت، مع ثراء الشخصية، وتعدديتها.
ويمكننا ملاحظة ثلاث تيمات فنية في الرواية؛ هي الشخصية الروائية بين الكثافة، والتعدد، وعلامات استعارية، وواقع افتراضي، وتداخل السرد، وتقنيات السينما.
أولا: الشخصية الروائية بين الكثافة، والتعدد:
يؤول ناجي حضوره الشخصي من خلال أخيلة الركض الهوائية التي تشبه العواصف، وقد استمدها من ذكرى والده، ثم تتشكل صورته الأخرى – بعدما أحب ملك – عبر نقض، وتفكيك ذلك الركض المستمر، والبحث عن حضور آخر يشبه عوالم الطفولة الأولى قبل بروز الصراعات؛ وهو ما يؤكد فاعلية الأنا الأعلى غير الواعية في تداعيات السرد.
ورغم تطور شخصية ناجي في الحكاية منذ هروبه، واختبائه في منزل ملك، حتى دفاعه عنها، وقتل بعض الشخصيات، وقيامه بدور حبيبها يوسف في العالم الافتراضي، ثم اهتمامه المباشر بها، وقرار الاحتفال بالفلانتين الذي أوقعه في يد الشرطة، وانتحار ملك؛ فإن الشخصية تحمل أبعادا تتجاوز الواقع؛ مثل الاختفاء في الأثر، وتنوع وجوهه، والهروب الاستثنائي، دون مبرر منطقي في المتواليات السردية؛ وهو ما يذكرنا بالشخصيات الشبحية، أو الأطياف في أدب أمريكا اللاتينية.
وبصدد الشخصيات الاستثنائية، ودلالاتها في الرواية، يرى جورج لوكاتش أن السمات المتطرفة قد تكون ضرورية؛ لاستخراج الأعمق، والأبعد، كما يبدو فيها السمو على اليومي المشوش، وكذلك التناقض الأصفى من الواقع؛ ويمثل لذلك بنموذج دون كيشوت.
(راجع، جورج لوكاتش، دراسات في الواقعية، ت: د. نايف بلوز، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع ببيروت، ط3، سنة 1985).
يشير لوكاتش إلى المفارقة بين المختلف، واليومي في بنية الشخصية الاستثنائية، ويؤكد ما تحويه الشخصية من ثراء داخلي في النص الروائي.
هكذا تبدو شخصية ناجي؛ فواقعه يتنوع بين الهروب، والركض، والصخب، بينما يتسع حضوره في عالم ملك الافتراضي، وتتكثف في شخصيته نماذج فنية عديدة؛ فهو يتداخل مع ظلمة أوديب عقب معرفته الحقيقة؛ إذ يخشى ناجي الظلمة التي تبدو ممثلا للأنا الأعلى، وبحثه عن الطفولة يشبه بحث دوريان جراي - عند أوسكار وايلد – عن جمال اللوحة المتجاوز لمدلول الخطيئة، كما يشبه خوفه الاستثنائي من بعض الضحايا خوف مكبث من شبح القائد في مسرحية شكسبير.
ويتجسد التناقض الصافي لدى ناجي في دمجه بين القاتل، والمحب، وعازف الكمان، ودورانه الحتمي في فلك رامز بك، وتمرده عليه في آن؛ فناجي يمثل درجة قصوى من كل من الخضوع الحتمي للواقع، والحضور المجاوز لليومي، والمتكرر.
ثانيا: علامات استعارية، وواقع افتراضي:
يحتل العالم الافتراضي موقعا يستبق الواقع في تفسير جان بودريار لمراحل لتطور الصورة في اللحظة الحضارية الراهنة. ونلاحظ أن العالم الافتراضي في رواية محمد صفوت يتنامى عبر ثلاث مستويات من التشبيه في علاقته المعقدة ببنى الواقع في النص؛ هي:
أولا: التكوين الطيفي كتشبيه ليوسف:
تمارس ملك نوعا من الحب الخيالي مع تشبيه طيفي لحبيبها الغائب يوسف؛ ومن ثم فهو تشبيه ليوسف، وليس يوسف نفسه؛ وكأننا أمام نظائر تشبيهية للواقع، تتخذ موقع علاماته، وتسخر منها، أو تستبدلها.
وإن الطيف مزيج من حضوره الخفي، ومن تاريخ يوسف الذي يتجاوز يوسف في الوقت نفسه؛ وكأن الصورة تستعيد الأصل، وتسائل حدود الأصل نفسها.


ثانيا: ناجي كتشبيه ليوسف:
يعاين ناجي طيف يوسف الافتراضي في النص، ثم يصير ناجي نفسه مزيجا من العاشق، والمتمرد الهارب؛ فيصير كالممثل الذي يتعلق وجوده الفيزيقي بالآخر الفني، أو الخيالي؛ فيرسل خطابات الحب لملك، ويمزج بين طقوس تمرده، وصيرورتها الواقعية حتى تكتشف حضوره المعقد بين يوسف، وذلك الشبح الآخر الذي يدخن سجائرها، ويأكل من ثلاجتها.
لقد تنامى العالم الافتراضي – في هذا المستوى – من الدلالة من خلال امتلاء علامة ناجي؛ إذ صار التكوين الواقعي الفيزيقي نفسه شبحيا، ولكنه يحتفظ بمسافة ملتبسة بين الحضور الشخصي، والأداء التمثيلي للآخر.
ثالثا: مرح الأطياف فيما وراء الواقع:
يتخذ العالم الافتراضي هنا موقع الواقع بالكامل؛ فناجي يرتدي بدلة الإعدام، وقد نقل نفسه في صورة الطفل ذي السبع سنوات كمركز لحضوره الافتراضي الجديد في العالم الآخر، بينما انتحرت ملك؛ كي تمارس طقوس الاحتفال بالفلانتين مع شبح ناجي المتجاوز لوجوده الواقعي.
إن تأجيل احتفال الفالانتين، يوحي بتشكل عالم افتراضي بريء، ومجرد، ومتجاوز لمدلول الواقع نفسه في مصير كل من الشخصيتين في النص.
ثالثا: تداخل السرد، وتقنيات السينما:
يجمع سارد النص بين استبطان الشخصيات في نوع من التبئير الداخلي المتنوع وفق تعبير جيرار جينيت، ونمثل له بمالك بك صاحب منزل ملك الذي بدا كوحش له أنياب زرقاء يغرسها في صدرها في وعيها، ولاوعيها، وكذلك التبئير الخارجي وفق جينيت أيضا، وفيه يكتفي الشخص، أو الراوي بتسجيل الصور فيما يشبه منظور الكاميرا، وهنا يقترب السرد من التصوير السينمائي، دون أن يكون لاصطلاحات السينما دور مباشر في النص في ذلك المستوى من التداخل.
يقول عبر عين ناجي، ووصفه لتفاصيل المكان، والشخصيات:
"تراءى له حاجبان مرفوعان في دهشة، وشفاه مقلوبة بامتعاض، وأطراف أصابع تمسك بكوب نسكافيه فارغ، ابتعد حذاء الفرو بالساقين إلى الخارج، استقر في وضع التجمد، بدا له كل شيء ساكنا إلا صوت محرك الثلاجة الذي يشبه صوت دبابة ... الحوائط مكسوة بورق حائط باهت اللون، باللونات، وقلوب حمراء، وأشرطة زينة لم يلاحظها قبل ذلك معلقة في كل الأركان". ص 10، 11.
ثمة تشكيل بصري فوتوغرافي نسبي في المشهد / اللقطة الجزئية التي يعكسها السارد من خلال عين الراصد / ناجي.
وأرى أن لتفاصيل الملابس، وملامح المكان دلالات تعبيرية فوفرة القلوب الحمراء تدل على بهجة داخلية لدى ملك ممزوجة بالفراغ، والألم، كما تشير الشفاه، والأحذية النسائية إلى المزج بين نموذج الأنثى في وعي، ولاوعي ناجي، وذلك الحضور الوفير المقترن بالغياب في الأشياء في واقعه.
أما المستوى الآخر من التداخل بين السرد، وتقنيات السينما؛ فهو مستوى تداخل الفنون؛ ففي المتوالية السردية نفسها، نجد التعبير الاصطلاحي السينمائي، والسينما نفسها كموضوع متخيل للسرد.
يقول عن أشباح مطاردي ناجي من قريته:
"خرجوا له مرة من تفاصيل فيلم سينمائي؛ إذ توقفت سيارة مسرعة فجأة في حركة دائرية محدثة دويا، وغبارا، لقطة (كلوز أب) على السيارة، زجاج فاميه غامق يخفي من بالداخل، الزجاج ينسحب لأسفل، عيون غليظة تترقب في حقد، الأصابع تتحسس برفق الأسلحة، قبل أن يقفزوا ... انسحب ناجي كشبح طائر". ص 87.
تشير لقطة ال (كلوز أب) إلى تأطير ، وتقريب علامة بعينها، أو بتفاصيلها؛ ومن ثم تحضر تقنيات السينما كموضوع في علامة الفيلم السينمائي، وكتعبير خاص بهذا الفن في نسيج المتوالية القصصية الخاصة بالهروب.
ويدل هذا التداخل على تنازع كل من فضاء السينما الفانتازي، والفضاء الآخر الذي يجسد واقع المطاردة في النص السردي؛ فثمة لعب يسخر من بنية المطاردة، ويفككها.

ليست هناك تعليقات: