2016/07/27

في قلق التلفيظ الشعري بقلم: محرز راشدي


في قلق التلفيظ الشعري

 بقلم: محرز راشدي
إنّنا ننطلق في جملة الملاحظات هذه انطلاقة قلقة، من مدخل الانهمام بقضايا العلامة الشّعرية بصفتها صناعة، ورؤيا، وتشكيلا يزاوج بين المستويين، ومن جهة التّطورات الحاصلة في صلب المتن الشّعري عبر مساراته المختلفة.
أمّا السّياق الحضاري الّذي يندرج فيه الفعل الشّعري الحديث، فهو كذلك "على قلق" لأسباب فلسفية – رؤيويّة عميقة، ولاعتبارات حضاريّة لا تختلف في درجة العمق، لعلّ أهمها الحروب الكونيّة، والقيامات الحديثة، والرّؤى الجحيميّة المهيمنة على المشهد، ومن ذلك المشهد الشّعري بصفته خطابا مندرجا في التّاريخي، ومتورّطا في تشابكاته، وإن ترفّع عنه، وارتفع به في أحايين كثيرة.
وفي هذه الحال، استفاق الشّاعر على الانحرافات الكبرى، إن في مستوى القيم والمبادئ التي تسوس العالم الحديث، وإن في مستوى الوسائط الرمزية المعبّرة عن الإنسان فردا وجماعة.
 وإنّه خطير الانحراف الذي مسّ منزلة الإنسان في ظلّ تعاليم الفردانيّة، إذ بات يواجه مصيره منفردا، يكافح الفظاعة والرّعب في عراء الوجود، ويستعذب الميتة، ويموت على طريقة الذّئب في صمت متوحّد.
ومن موقع آخر، إنّ مطلب الرّبح والمردوديّة، واستشراء النّزعة الكلبيّةلتحقيق الثّروة وتكديسها، وإهمال الإنساني، والتّفويت في الكينوني، وإسقاط المعنى في النّسيان، قد أفرز حداثة شعريّة ضديدة تلهج بالمنسيّ، وتستدعي الغياب، وتستحضر المقدّس، بل من أولويّات الشّاعر الحديث أن يعبّد طريق القداسة، ويمسك بأثر المقدّس ويرشد إخوانه من البشر إليه.
وفي ظلّ هذه الظّلال الّتي تحجب الرّؤيا، وتعتّم على الرّائي، وتزرع في النّفس بذور القلق، وتؤبّد المناحي العدميّة، استوى الشّاعر مأخوذا بهذه الهواجس، أو هي متلفّعة بكيانه الهشّ، ومنه إلى الخطاب تسرّبت، وفي القصيدة استقرّت، وعلى أديم الورق ارتسمت وأثّرت في المعمار الشّعري.
إنّه معمار يحمل دلائل مهندسه، فالقصيدة أتون فيه تحترق مراكب الشّاعر، وعلى أعتابه تصدأ معاول القراءة الكسولة وتتفتّت.
فهي قصيدة "مثقّفة" أو "عالمة" تبتغي – بصيغة الإلزام – قارئا "حاذقا" بل مثقّفا، لأنّه يخوض في خطاب تكتظّ في موقده المعارف والرؤى، وتتزاحم الألسن، وتتنادى الأصوات من مآت عديدة، وتطلّ الرّؤوس من جهات متعدّدة، والقارئ في مفترق الجبهات.
وينضاف إلى ما سبق، أنّ القصيدة احتفت بالرّفض، ومن أماراته رفض المعنى المكتمل، بل إنّنا في حضرة المعنى المنقوص، وفي ضيافة التّعمية والعمى الدّلالي أيضا، وهذا أمر مربك، ويُسجّل في دفتر الخروقات، والانزياحات العنيفة.
وحينئذ، يتعثّر تلفيظ الخطاب، ويتمرأى مترعا بالأخاديد، ومستقرّا للثّقوب، ومنزلا للفجوات...والعلل في ذلك ما ذكرنا وما لم نذكر، إذ يغصّ الشّاعر بالألحان، ويتراءى له المبنى معقلا للمعنى مثلما هو الأمر عند الرّومنطيقيّ، أو حسب العبارة الشّهيرة "كلّما اتسعت الرّؤيا ضاقت العبارة"، وربّما تخيّر الشّاعر عن اضطرار وكره السّكوت سبيلا، فالصّمت "مشنقة العصر" (عبد الصّبور) والشّاعر الصّامت ليس بالضّرورة شيطانا أخرس، بل يمكن أن يكون رافضا ومناوئا لمناويل الكلام السّلطوي المتكبّر.
وجماع القول في ذلك، إنّ الضجّة المخنوقة، والعبارة المثقوبة، أو المقعّرة الجوفاء العصيّة عن الامتلاء إنّما هي دليل جوع أنطولوجي دفين (مجاعة روحيّة بلغة الشّابي)، يقيم في النّفس البشريّة، ويتربّع على عرشها، وينبجس في الملفوظ عيّا وثقلا في اللّسان، واستغلاقا على المتكلّم، وإرتاج القول على القائل، ويسيح على المرئيّ / المكتوب، فيتبدّى محوا وشطبا وطلسما يُعمّي الدّلالة، ويُعمّم دروب التّيه، ويورّط القارئ في المتاهة حيث يتذوّق أفانين اللّعب، ويتلذّذ اللّعبة، ولعلّه يصير شريكا في صناعة شفرتها حينما يحسن الإصغاء.

إنّنا ننطلق في جملة الملاحظات هذه انطلاقة قلقة، من مدخل الانهمام بقضايا العلامة الشّعرية بصفتها صناعة، ورؤيا، وتشكيلا يزاوج بين المستويين، ومن جهة التّطورات الحاصلة في صلب المتن الشّعري عبر مساراته المختلفة.

أمّا السّياق الحضاري الّذي يندرج فيه الفعل الشّعري الحديث، فهو كذلك "على قلق" لأسباب فلسفية – رؤيويّة عميقة، ولاعتبارات حضاريّة لا تختلف في درجة العمق، لعلّ أهمها الحروب الكونيّة، والقيامات الحديثة، والرّؤى الجحيميّة المهيمنة على المشهد، ومن ذلك المشهد الشّعري بصفته خطابا مندرجا في التّاريخي، ومتورّطا في تشابكاته، وإن ترفّع عنه، وارتفع به في أحايين كثيرة.
وفي هذه الحال، استفاق الشّاعر على الانحرافات الكبرى، إن في مستوى القيم والمبادئ التي تسوس العالم الحديث، وإن في مستوى الوسائط الرمزية المعبّرة عن الإنسان فردا وجماعة.
 وإنّه خطير الانحراف الذي مسّ منزلة الإنسان في ظلّ تعاليم الفردانيّة، إذ بات يواجه مصيره منفردا، يكافح الفظاعة والرّعب في عراء الوجود، ويستعذب الميتة، ويموت على طريقة الذّئب في صمت متوحّد.
ومن موقع آخر، إنّ مطلب الرّبح والمردوديّة، واستشراء النّزعة الكلبيّةلتحقيق الثّروة وتكديسها، وإهمال الإنساني، والتّفويت في الكينوني، وإسقاط المعنى في النّسيان، قد أفرز حداثة شعريّة ضديدة تلهج بالمنسيّ، وتستدعي الغياب، وتستحضر المقدّس، بل من أولويّات الشّاعر الحديث أن يعبّد طريق القداسة، ويمسك بأثر المقدّس ويرشد إخوانه من البشر إليه.
وفي ظلّ هذه الظّلال الّتي تحجب الرّؤيا، وتعتّم على الرّائي، وتزرع في النّفس بذور القلق، وتؤبّد المناحي العدميّة، استوى الشّاعر مأخوذا بهذه الهواجس، أو هي متلفّعة بكيانه الهشّ، ومنه إلى الخطاب تسرّبت، وفي القصيدة استقرّت، وعلى أديم الورق ارتسمت وأثّرت في المعمار الشّعري.
إنّه معمار يحمل دلائل مهندسه، فالقصيدة أتون فيه تحترق مراكب الشّاعر، وعلى أعتابه تصدأ معاول القراءة الكسولة وتتفتّت.
فهي قصيدة "مثقّفة" أو "عالمة" تبتغي – بصيغة الإلزام – قارئا "حاذقا" بل مثقّفا، لأنّه يخوض في خطاب تكتظّ في موقده المعارف والرؤى، وتتزاحم الألسن، وتتنادى الأصوات من مآت عديدة، وتطلّ الرّؤوس من جهات متعدّدة، والقارئ في مفترق الجبهات.
وينضاف إلى ما سبق، أنّ القصيدة احتفت بالرّفض، ومن أماراته رفض المعنى المكتمل، بل إنّنا في حضرة المعنى المنقوص، وفي ضيافة التّعمية والعمى الدّلالي أيضا، وهذا أمر مربك، ويُسجّل في دفتر الخروقات، والانزياحات العنيفة.
وحينئذ، يتعثّر تلفيظ الخطاب، ويتمرأى مترعا بالأخاديد، ومستقرّا للثّقوب، ومنزلا للفجوات...والعلل في ذلك ما ذكرنا وما لم نذكر، إذ يغصّ الشّاعر بالألحان، ويتراءى له المبنى معقلا للمعنى مثلما هو الأمر عند الرّومنطيقيّ، أو حسب العبارة الشّهيرة "كلّما اتسعت الرّؤيا ضاقت العبارة"، وربّما تخيّر الشّاعر عن اضطرار وكره السّكوت سبيلا، فالصّمت "مشنقة العصر" (عبد الصّبور) والشّاعر الصّامت ليس بالضّرورة شيطانا أخرس، بل يمكن أن يكون رافضا ومناوئا لمناويل الكلام السّلطوي المتكبّر.
وجماع القول في ذلك، إنّ الضجّة المخنوقة، والعبارة المثقوبة، أو المقعّرة الجوفاء العصيّة عن الامتلاء إنّما هي دليل جوع أنطولوجي دفين (مجاعة روحيّة بلغة الشّابي)، يقيم في النّفس البشريّة، ويتربّع على عرشها، وينبجس في الملفوظ عيّا وثقلا في اللّسان، واستغلاقا على المتكلّم، وإرتاج القول على القائل، ويسيح على المرئيّ / المكتوب، فيتبدّى محوا وشطبا وطلسما يُعمّي الدّلالة، ويُعمّم دروب التّيه، ويورّط القارئ في المتاهة حيث يتذوّق أفانين اللّعب، ويتلذّذ اللّعبة، ولعلّه يصير شريكا في صناعة شفرتها حينما يحسن الإصغاء.

ليست هناك تعليقات: