2017/12/03

مـحمد الباردي وجهوده في تحليل النصوص الروائية بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة

مـحمد الباردي وجهوده في تحليل النصوص الروائية 
 بقلم:الدكتور محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
 رحل عن هذه الدنيا الفانية يوم:31أوت2017م، الروائي والناقد التونسي المعروف ،والمتميز الدكتور محمد رجب الباردي،  أستاذ الأدب المقارن بالجامعة التونسية،ومؤسس مركز دراسات الرواية العربية، والمشرف على ملتقى الرواية العربية ومؤسسه كذلك، ومدير مهرجان قابس الدولي لعدة دورات ،و قد عرفنا الدكتور محمد الباردي-رحمه الله- من خلال إنتاجه الأدبي ،والذي تجلى في شقين رئيسين هما: الجانب الإبداعي،والجانب النقدي،  فبقدر ما أسهم في إثراء الحركة الإبداعية، والسردية في الوطن العربي،بالعديد من الأعمال المهمة،مثل:«مدينة الشموس الدافئة»،و« الملاح والسفينة»،و« قمح إفريقيا»، و «الكرنفال»، التي حازت على جائزة الكومار الذهبي سنة:2004م،فإن له إضافات ثرة على مستوى الساحة النقدية العربية كذلك، وهو صاحب رؤى، وأفكار عميقة في هذا الميدان، ومن بين دراساته النقدية:«الرواية العربية الحديثة»،و«في نظرية الرواية»،و«سحر الحكاية: الراوي، والمروي، والميتاراوي في أعمال إلياس الخوري»،وغيرها.
           وليس لأحد أن يشكك في أن المجال الذي ظهرت فيه براعته،هو مجال نقد الرواية، ولذلك سأركز في هذا المقال على جهوده البارزة في دراسة الرواية العربية،  وأتوقف على وجه خاص مع دراسته لشخصية   المثقف في الرواية العربية  المعاصرة،والتي تقتضي إحاطة شاملة بجملة من الأبعاد الفكرية، والفنية،  حيث              يسعى الدكتور الباردي في دراسته إلى التأكيد،على أن المثقف حاضر في الرواية العربية حضوراً قوياً،وذلك منذ إطلالة فجرها،وما نشير إليه هو أنه يسلط الضوء على مرحلة محددة ابتداءً من سنة:1958إلى غاية1976م، ويرى  أن هذه المرحلة تتميز بأهميتها،نظراً لجملة من الأحداث، والتحولات التي شهدتها،فتحركت معها الكثير من القيم والمفاهيم،كما أن الروايات  التي انتقاها تعبر عن نماذج متنوعة من المثقفين، فلا ريب أن أنماط المثقفين تتنوع وتتعدد ،فلا تلفي نوعاً واحداً من المثقفين في الرواية العربية المعاصرة، بل إن هناك جملة من الصور والمواقف المتعددة والمختلفة من رواية إلى أخرى، ومن النقاط التي أشار إليها  في تقديمه لهذه الدراسة:
 -أهمية دور المثقف  في المجتمع، وضرورة الاهتمام بقضيته وإبرازها، كما يطرح سؤالاً رئيساً، وهو السؤال الذي تقوم على أساسه الإشكالية الكبرى للكتاب،إلى أي مدى انعكس الانشغال النظري بقضية المثقف والثقافة في الرواية العربية المعاصرة؟
-لقد سعت الرواية العربية منذ نشأتها في اتخاذ شخص المثقف بطلا رئيساً،ويقدم الدكتور الباردي  العديد من الأمثلة على ذلك، منذ الرواية الأولى«ألم يكن حامد بطل رواية «زينب»، وهي الرواية الأولى في الأدب العربي المعاصر حسب اعتقاد جل النقاد مثقفاً؟
 ومحسن وأعمامه أبطال رواية «عودة الروح» أليسوا من المثقفين أيضاً؟
  وفي سنة:1938أصدر توفيق الحكيم أيضا روايته«عصفور من الشرق» وهي رواية بطلها طالب مصري ترك الأهل والوطن بحثاً عن العلم والمعرفة.لكن باريس-الحضارة-تغمره بطريقة عيشها وتفرض عليه نوعاً من العلاقات.فإذا بمحسن المثقف قد أدرك أنه يتعامل مع محيطه بأخلاقياته الشرقية وإذا بالعصفور يختنق في القفص.
             وفي سنة:1943 م صدرت رواية«قنديل أم هاشم» ليحيى حقي،فعرضت علينا كذلك بطلاً من المثقفين الذين تعلموا في أوروبا بلاد العقل والتحرر فهذا إسماعيل يعود إلى مصر طبيباً بعد سبع سنوات قضاها في دراسة الطب،وكان قبل أن يغادر بلده لا يشعر بمصر إلا شعوراً مبهماً غير واضح لكنه يعود وقد بدأ يشعر بنفسه كحلقة في سلسلة طويلة تشده وتربطه إلى بلده مصر وقد علّمته أوروبا أن العلم عقيدة تفتح المغلق وتوضح المبهم ولكنه بعد تجربة في الوطن قاسية أيقن أن العلم و الإيمان كشن وطبقة، وفي سنة1954 وقد بدأ الأجنبي المستعمر يفكّ عن أرض العرب حصاره،ظهرت رواية سهيل إدريس«الحي اللاتيني» لتبرز نمطاً آخر من المثقفين العرب ففي باريس أيضاً عرف البطل المرأة على حقيقتها، و بعد تجارب عديدة مع حواء الأوروبية يكتشف ذاته فيعيش ذلك التمزق الحاد بين عقليته الشرقية وأفكاره الجديدة التي أتته من ممارسته لشيء من الواقع الأوروبي.لكنّ التمزق ينتهي بغلبة العقلية الشرقية ويعود الابن الضال إلى العشيرة»(1).      فمن خلال هذه الأمثلة يتبدى لنا أن المثقف قد جسد حضوره بقوة في الرواية العربية المعاصرة.
            يستعمل الروائيون العرب في رواياتهم العديد من المصطلحات ، والكلمات المتصلة ببعضها البعض، وذلك للتعبير عن لفظ المثقف،ومن هذه المصطلحات:موظف، ومدرس، وكاتب، وفنان، وأديب،واقتصادي، وأصحاب الكتب، وغيرها.
              وقد أفاض الدكتور محمد الباردي في حديثه عن شتى الاستعمالات  الموظفة من قبل الروائيين،فقدم جدولاً تفصيلياً رصد من خلاله الاستعمالات الهامة،التي وردت في الروايات التي يقوم بدراستها، وقد تواتر مصطلح مثقف، ومثقفون، وتثقيف، وثقافة،على لسان عدد كبير من الشخصيات التي تعرض لها بالدراسة والتحليل،فقد وردت هذه الكلمة على لسان لينا فياض في رواية«أنا أحيا»لليلى بعلبكي، وفي رواية« اللص والكلاب»لنجيب محفوظ على لسان سعيد مهران، وفي رواية«الفلاح»لعبد الرحمن الشرقاوي،و«الوشم» لعبد المجيد الربيعي، و«الثلج يأتي من النافدة»لحنا مينة،و«أصابعنا التي تحترق»لسهيل إدريس،وسواها من الروايات العربية الأخرى، وتردد مصطلح«موظف» في العديد من الروايات،فورد في رواية«موسم الهجرة إلى الشمال»،ورواية«بيروت75»،و«الوشم»،و«الطيبون»،وغيرها،وقد استعمل هذا المصطلح للدلالة على القائم بشؤون إدارية مقابل راتب شهري، وهو مصطلح مستحدث بالنسبة للثقافة العربية،كما تواتر مصطلح«أستاذ»، وكثر استعماله في جملة من الروايات كرواية«الأشجار واغتيال مرزوق»،و«أصابعنا التي تحترق»، و«اللص والكلاب»،و«الطيبون»،ومن المصطلحات التي تواترت استعمالاتها«كاتب»و«شاعر»و«أديب»و«رسام»و«مهندس»، وقد توصل الدكتور محمد الباردي،من خلال تحليله للكلمات المستعملة إلى أن« هذه الكلمات البديلة التي استعملها الروائيون مرتبطة بالمهنة التي يؤديها المثقف في العالم الروائي ففياض كان فعلاً أستاذاً إذ كان يدرس والراوي في«موسم الهجرة إلى الشمال» كان موظفا حكومياً. وما من شك في أن مثل هذه المهن لا يمكن اعتبارها سمة أساسية من سمات المثقف إذ لا يجوز أن نقول إن كل الأساتذة مثلا أو الموظفين مثقفون،إلا أن أبطالنا يوظفون مهنهم لغايات يحتمها وعيهم الاجتماعي أو السياسي أو الثقافي عامة،فصحيح أن منصور عبد السلام مثلا كان مدرساً للتاريخ قبل أن يطرد من الجامعة تعسفاً، ولكنه لا يعتبر مادة التاريخ مادة جامدة، وإنما يحاول أن يوظفها لغاية سياسية واضحة، وفياض أيضا في رواية«الثلج يأتي من النافذة» كان مدرسا لكنه كان مدرساً تقدمياً يوظف مهنته خدمة لأفكاره التقدمية ومقاومة لما يراه«رجعيا» في تفكير الآخرين وممارستهم.
  وهي كذلك مرتبطة بهواية الخلق والإبداع التي يتعاطاها بعض الأبطال في الروايات المدروسة وبواسطتها يلجون عالم الثقافة والمثقفين»(2).
             مما يلفت إليه   الانتباه الناقد محمد الباردي ذلك التقسيم الذي يضعه جملة من الدارسين،فيقسمون المثقف إلى قسمين أساسيين: مثقف المدينة، ومثقف الريف أو القرية، فالأول هو الذي يتعلق بالصناعة وتطوراتها، وأما الثاني فهو المرتبط بالمراكز الريفية الصغرى. 
          تجلت صورة المثقف الريفي في الرواية العربية في مستويين،المثقف المنحدر من الريف وبقي فيه، والمثقف الذي ورد عليه واستقر به.
          برز المثقف الريفي أصلاً-كما يرى المؤلف- واضحاً تمام الوضوح في رواية«الفلاح» لعبد الرحمن الشرقاوي،فمثلته كل من شخصية الشيخ طلبة، والشيخ عبد المقصود،مدير المدرسة الابتدائية في القرية،      وقد انطلقت مواقف الشيخ طلبة من مصالحه الشخصية، ومن جميع القضايا التي وقعت في القرية، و يتساءل المؤلف عن كيفية تفسير كل من نمط الشيخ طلبة، وعبد المقصود من المثقف الريفي، فهما يتفقان في توظيف الثقافة خدمة للفئة الاجتماعية التي ينتميان لها،بيد أنهما يختلفان في أن الشيخ طلبة يظل بعيداً عن مراكز النفوذ، وعبد المقصود يصل إلى مراكز النفوذ في القرية، ويخوض صراعه من موقع قوة، وما توصل إليه الدكتور الباردي هو أن كلاً من الشخصيتين،قد جسد الصراع الطبقي الذي يستحيل أن يختفي ويتوارى عن الوجود في المجتمع، فالإقطاعية التي ما تفتأ تدافع عن وجودها الاقتصادي والاجتماعي،تبدو من خلال شخصية الشيخ طلبة مصيرها إلى زوال واندثار، وأما الشيخ عبد المقصود صاحب التوجهات الرأسمالية يبدو في صورة حيوية ويافعة.
            نستخلص  من خلال  عرضنا لدراسة ورؤية الدكتور محمد الباردي العميقة،لموضوع شخص المثقف في الرواية العربية المعاصرة،أن هناك جملة من الصور المتنوعة جسمت شخصية المثقف، وأن حضور المثقف في الرواية العربية المعاصرة، من خلال الحقبة التي سلط عليها المؤلف الضوء،هو حضور مكثف،جُسدت من خلاله شتى القيم، والانتماءات، والعلائق، والصور،
 « وهذه الصور –مهما تنوعت- لا تخرج عن صورة كبرى واحدة،هي صورة المثقف العربي الحديث تكويناً، وقضية ،إنه ذاك المثقف العربي الذي عاش في الرّيف أو في المدينة، ذاك الذي أحاطت به ظروف اجتماعية صعبة هيأته لكي يصبح شخصاً ما اطمأن اطمئناناً كاملاً ولا عرف الراحة والهدوء  »
          و لا يملك المتأمل والمقترب من دراسة الدكتور محمد الباردي،إلا أن يثني على الجهود التي بذلها في هذه الدراسة القيمة،والعميقة،فقد أماط الحجب  على مرحلة هامة في تاريخ الرواية العربية، وأبرز من خلالها صورة المثقف بشتى تجلياتها ودلالاتها ، وكشف أن الإبداع الروائي العربي غير عاجز ولا قاصر، فله قدرة على تمثل القضايا المعاصرة،فإضافته في هذا الميدان هي إضافة ثرة للمكتبة النقدية العربية، وما تجدر الإشارة إليه أن المؤلف كثيراً ما يُدعم مناقشاته وتحاليله بجداول إحصائية وتوضيحية يلخص من خلالها بدقة  كل ما أحاط به سلفاً ، وهذا ما أسهم في تقريب الصورة إلى ذهن القارئ، وإدراكه لما يهدف إليه دون عناء، فلا يُمكن لأي دارسٍ لشخصية المثقف في الرواية العربية المعاصرة،أن يتجاور هذا البحث الهام والجاد،لاسيما أن موضوع تجليات المثقف وصورته في الرواية العربية ما يزال بحاجة إلى دراسات وأبحاث أخرى ترصد المراحل والأشواط اللاحقة التي قطعتها الرواية العربية.
الهوامش:
(1)محمد رجب الباردي:شخص المثقف في الرواية العربية المعاصرة   ،ص:12.
(2) نفسه،ص:34-35.

 

ليست هناك تعليقات: