2018/08/07

شارلي شابلن يموت وحده.. قصة بقلم: علي السباعي



شارلي شابلن يموت وحده
علي السباعي
أعمل مصلّحاً للأجهزة الكهربائية الدقيقة في مدينة أور ، تعلمت من زوربا حب الحياة ، وكنت كجيفارا متمرداً ، كنت معوزاً للفرح ،  لابتسامات الناس ، للربيع يلامس قلبي ، للبياض ، لرؤية الألوان الفاتنة تطرز حياة الناس ، لأجواء السعادة تشرق على الناس مثلما أشرقت شمس تموز صباح اليوم الجمعة ، أشرقت فوق هامات النخيل بلون أرجواني مخضر لتشرق معها على وجهي الأسمر الجنوبي ابتسامة شارلي شابلن ، ابتدئ صباحي بابتسامة لأنهي غروبي بابتسامة ، أبدأ عملي بابتسامة لأحافظ على مزاجي رائقاً طوال النهار حتى الغروب ، وكأنني أجامل الصباح والناس والغروب بابتسامة صادقة ترمم القلوب المخدوشة بالحزن ، أفضل أن يراني الناس  بوجه تشرق فيه ابتسامة دائمة ، أمشي بينهم في الأسواق والأزقة بخطوات شارلي شابلن مرتدياً ألوان الفرح الفاتنة مرفوع الرأس ، لأنني انفق وقتي كله منحني الرأس عاكفاً على تصليح أجهزة التلفزيون والستلايات ، أخذت قول شارلي شابلن على محمل الجد : لن تجد قوس قزح ما دمت تنظر إلى الأسفل ، آمنت برأيه  : يوم من دون سخرية هو يوم ضائع ، نهار يوم الجمعة مشرقٌ ، كنت مثله مشرقاً بالمسرة ، تذكرت أنه اليوم الذي صلب فيه المسيح "ع"  ، صرت أشيع أجواء الفرحة ، أمازح الباعة المتجولين والكسبة وعمال المسطر والعتالين والصبية بائعي الماء البارد والمتسولين ، أوصي نفسي بان أكون هادئ البال منشرحاً ، لم أعش حياتي متذمراً ساخطاً ، عشت بقلب أبيض راضياً ، عشتها هكذا حتى لا أصاب بالحزن ، علقت على الحائط بدل صورة السيد الرئيس فوق رأسي حكمة قالها شارلي شابلن :  لو كنت نبياً لجعلت رسالتي السعادة لكل البشر ، ووعدت أتباعي بالحرية ، ومعجزتي أن أضع البسمة والضحكة فوق أفواه الصغار ، ما كنت لأتوعد أحداً بنيران جهنم ولا أعد أحداً بالجنة ، كنت سأدعوهم فقط إلى أن يكونوا بشراً وأن يفكروا ، ليقرأها كل من يدخل ورشتي ،  ينعتني أبناء مدينتي بشارلي شابلن لأنني أمشي مثل مشيته ، أبتسم ابتسامته ، أدمنت مشاهدة أفلامه إلا أنني أختلف عنه في حبي للإليكترونيات ، أعيش وحيداً ، ينطبق علي قول رافائيل ألبرتي : أنت في وحدتك بلد مزدحم ، بلغت درجة الحرارة 54 مئوية ، بمجرد خروجك إلى الشارع تتلظى ، أشاهد غيوماً سوداً تجمعت وسط الحر القائظ في هذا الصيف المر ، وما صنعته هذه الغيوم من فيء بارد ، اعلم أنها أجواء الشؤم التي تُذهِب البسمة ، أجواء تقبض القلب ، والمتبضعون يسيرون غير مبالين بالحر لأنهم اعتادوه ، حرارة أنفاس الناس تتشظى حارة هائجة تصل حد القسوة المنفرة ، وشمس الضحى القاسية التي تستمد لونها من لون العسل ، ابتسمت للشمس العسلية ، تمنيت نزول المطر ، مطر مدرار ، بأصوات رنانة تملؤني بهجة لألوان أكثر ابتساماً ، يمر أمام ورشتي الصغيرة وعلى الرصيف المقابل لورشتي رجال وأولاد صغار ونسوة يتسوقن ، أسمع أصوات الحياة الصاخبة ، أضحك بفرح طفولي ، يحتسي رواد المقهى أمامي الشاي رغم ارتفاع درجات الحرارة في هجير أكثر أيام الصيف قيظاً ، دخل شخص علي لم أرفع رأسي لأراه ، أحسست بدخوله ، كنت منهمكاً في عملي ، رنوت إليه : جارنا يحيى المنغولي ، كان يحيى نقياً ودوداً بريئاً عذباً بلا حدود ينجذب الناس إليه كالفراشات ، يرنو لي ، يمسك بيده ستلايت قديماً جداً مع جهاز التحكم عن بعد ، يتلفت ويبتسم ، يبتسم ويتلفت ، تلفت إليه وابتسمت ، ينظر إلي وانظر إليه ، كان يراوح بقدميه وهو واقف وكأنه في كردوس عسكري أمر بمحلك قف ، مكانك قف ، وبشفتين يابستين أخبرني بصوت فيه أشراقة رجاء ممزوجة بخجل مرت بقلبي ونشرت المسرة :  إنه عاطل ، وعليّ إصلاحه ، شعر قلبي بالسعادة ، راح قلبي يضرب بسعادة أضلاع قفصي الصدري ، ابتسمت ، ابتسم ، ضحكت ملء روحي ، ضحك ملء روحه ، وما زحته :  أنت عاطل عن العمل أم الجهاز ؟ ضحك ، سافرت مع ضحكته بمزاج جديد داخل نفسي ، ضحك ملأ روحه الطاهرة ، كنت انظر طوال حديثنا في عينيه المنغوليتين ، أخبرته بعد أن فحصت الستلايت أن الجهاز صالح للعمل وبحالة جيدة ، وجهاز التحكم عن بعد كان عاطلاً ، طلبت منه شراء واحد آخر من المحل المقابل لمحلي ، قال : ما عندي فلوس ، ضحكت بشدة ، أعطيته ثمن جهاز التحكم عن بعد ، خرج فرحاً مطمئناً مبتسماً ، بيمناه جهاز التحكم عن بعد ، بعد خروجه بلحظات رج المكان انفجار عنيف ، سبقه سطوع ضوء لهب أزرق مبهر ، غليان أحمر ، موجة رعب ، صراخ ، وعويل ، خرجت من ورشتي بعد انتهاء الانفجار أركض مثل شارلي شابلن لكن دونما عصا في جو ملؤه الفوضى والصراخ والدم والقتلى والجرحى والأشلاء تملأ السوق ، صار المكان بشعاً ، ريح حمراء عصفت بالسوق والناس وكل شيء ، جعلت أرض أور أرض دم ،  أرى الدمار طال كل شيء ،هشم موجودات السوق وجعل الناس أشلاء ، وكل شيء منقلب رأساً على عقب ، بقع الدم تملأ أسفلت الشارع والجدران وهامات النخيل اكتوت بدماء القتلى والجرحى ، حفرة كبيرة ملئت بجثثهم ودمائهم وبضاعتهم وبضاعة المحال التجارية وزجاج واجهات المحلات محطم ، البضائع اختلطت بدماء الأبرياء ، صار شائعاً رؤية الأجساد الممزقة بعد كل انفجار ، خرجت وسط  الدمار مرعوباً منهك القوى والروح ، هرعت من محلي هلعاً خائفاً ، هنالك حشد من الناجين ملطخ بالدم والوحل يحتشدون فوق شيء ما ، يضربونه بشده ، ظننته لأول وهلة إرهابياً ثانياً يحاول تفجير نفسه ، فعادة ما يعمد الإرهابيون إلى تفجير مزدوج ، بعد إن ينتهي التفجير الأول ، يتجمع الناس لإنقاذ الجرحى يفجر إرهابي ثان نفسه ، كل من في السوق يضرب شخصاً ما ، يصرخون أمسكنا الإرهابي الذي فجر العبوة الناسفة ، صدق حدسي ، تدافعت بين المحتشدين شاقاً لنفسي  طريقاً وسطهم ، بصعوبة بالغة أبعدتهم ، أزحتهم ، تدافعت معهم حتى وصلت إلى الإرهابي ، رأيته ، انه : يحيى المنغولي  ! قد فارق الحياة لكثرة ما تلقى من ضربات مميتة ، جسده مدمى ، يمسك بيده اليمنى جهاز التحكم عن بعد خاصته ، مات هادئ البال مطمئناً ، تلقى موته ببسالة ورباطة جأش ، مبتسماً رغم أنف الموت وقد ارتسمت ابتسامة عذبة فوق شفتيه الشبيهتين بفم السمكة ، عيناه المنغوليتان تطالعاني بحسرة فيها لوعة ، فيها تعبير طفل مرعوب عوقب عقاباً قاسياً ، جثوت عليه غير مصدق ، راحت دموعي تتساقط عليه ، تمطره . إذ أن الناجين يعتقدون انه من فجر العبوة الناسفة وسط السوق ، رحت أصرخ في وجوههم المرعوبة مزيلاً اللبس الحاصل ، أخبرتهم الحقيقة ، مقتله أشعل قلبي بالحزن  ، شعرت بنفسي وحيداً واحتضنته ، شعرت بقلبي حزيناً على مقتله في تلك اللحظات غربت شمسه ، ألقت غبارها على قلبي ، انطفأت شمسه ، سرقت منه حياته ، سرقوها ، رحت أبكي بحرقة عليه ، حلمه أصلاح جهاز التحكم والستلايت ليرى العالم ، كان طائراً مكسور الجناح ، كيف يستطيع الخروج من أور ، مر موته صاخباً وبألم كبير ،  مرقت فوقنا سحابة بيضاء قريبة غطت عالمنا القاسي ، نظرت صوبها وهي تحجب الشمس الحمراء المتوهجة المستديرة العمودية وسط سماء رصاصية داكنة ، دوى صوت انفجار ثان .

ليست هناك تعليقات: