2012/07/27

أيام حصاد خيرى عبدالعزيز تفوز بالمركز الثامن في مسابقة ساقية الصاوي للقصة القصيرة


أيام الحصاد

خيري عبدالعزيز

     شدت يداه انتباهه منذ استيقظ من نومه نشيطا وافر القوة والنشاط.. وجد نفسه يطيل النظر إليهما, وعيناه - تتلصصان رغما عنه - تفك طلاسم الشقاء, وتستقرئ غيب حياة من الجد والكفاح سطرت علي الكفين الخشنتين.. ودبيب خوف قديم يعبث في نفسه جيئة وذهابا, يهاجم أبوابا مغلقة, ويفتحها عنوة علي مصراعيها..
    الذكريات المؤسفة تتدفق من محبسها لأناس وقفوا بجواره كتفا بكتف علي ذات "المنصة"  يوما ما.. لمعة العرق علي جباههم العريضة, وتهدج أنفاسهم الملتهبة من شدة المجهود, "وقلة" الماء تتقاذفها أيديهم, لتمصها شفاههم الجافة, وتختلط أنفاسهم المتسارعة عليها؛ فتروي نار ظمأهم, كل هذا يرتسم أمام ناظريه, ويكاد يجزم أنه الآن يراهم وتلفحه أنفاسهم..
    هم اليوم جلساء الأطفال في البيوت, يشربون الشاي الثقيل بيد واحدة - وفي حالات أشد آسفا من أيدي الآخرين - ويتيهون بعيونهم في العدم, فتمصمص نسائهم الشفاه, وهن يرمقن كُمَ الجلباب الخاوي من اليد الأخرى, وهبات الهواء تتلاعب به ذات اليمين وذات اليسار..
-        "كيف لريفي أن يحيا بلا يدين أو حتى يد واحدة؟!"
   سؤال يلح علي أذهانهم مع مطلع الشمس كل صباح, فيما يتوسدون مصاطب البيت الأمامية.. حينها تتداعي ذكري يوما بعينه, يندلق من الذاكرة - بلا إرادة – ويتجسد أمامهم كأنه البارحة.. ذكري مؤلمة نمت كنبت شيطاني هائش في ذاكراتهم, وترعرعت وطغت علي من حولها من زهور الفرح وأيام الهناءة والسعادة, ولم تترك أي متنفسا لسواها.. وحفرت كذلك في ذاكرته مثلهم تماما, مع أن صرخات الألم والاستغاثة, والأصابع والأشلاء التي تطايرت يومها, والدماء التي تناثرت في المكان, ولوثت وجهه وملابسه, لم تكن له..
     يومها تألم لهم, وكاد يغمي عليه وهو يجمع الأصابع المبتورة والأشلاء المتناثرة من جوف "ماكينة الدراس" وحواف أسنانها الرهيبة في خرقة قماش؛ ليدفنها بجوار المقابر..  
    ويجافيه النوم بعدها لأيام عديدة, وإذا أخذته غفوة استيقظ فزعا علي الأسنان الحادة تجره من يديه رغما عنه إلي بطن الماكينة الحديدية, وتمزق لحمه وتطحن عظامه, ليخرج من الناحية الأخر كومة من اللحم المفروم لا يعرف لها قدم من رأس تتربع علي كوم التبن الكبير, فتبدو كوجبة شهية لوحش ما..
    وكلما رآهم في ذهابه وإيابه بعد ذلك آن قلبه وتوجع, ومصمص شفتيه الغليظتين, وتحسس -بلا شعور- يديه وأصابعه, وتغشي نفسه حالة من الحزن, ويظهر يوم الحادثة متدليا متأرجحا علي خط الزمن يأبي أن ينتظم في صفوف الأيام..
    ولكنه في موسم الحصاد من كل عام يكره ذكراهم, ويعمل جاهدا علي أن ينسي كل ماضيه بحلاوته وحنظله, وأن يبقي أجوفا خاويا كفزاعة حقل وحيدة بائسة, بلا مشاعر وبلا عقل, تحركها الريح فتؤدي عملها في صمت, بلا استحضار لماض أو استقراء لغيب, حتى تمر الأيام, ويخرج معافى بذراعين سليمتين, وأصابع لم ينقص منها شيء..
   ودائما ما يلتمس متخفيا طريقا أخر غير طريق بيوتهم, حيث يبكرون بالجلوس في مثل هذه الأيام علي المصاطب الطينية, ينفخون دخان السجائر "اللف", ويتابعون حلقات الدخان وتهويماتها الحائرة في الهواء, قبل أن تتبدد كسراب مراوغ يلوح ويختفي.. وأسراب الجمال تتحرك أمامهم في رتابة, عائدة بأحمال القمح من الحقول, تضرب أخفافها الكبيرة بالأرض؛ فتثير ذرات التراب وتعكر الجو, فيما تستدعي ماضيهم وتجتر أيام فحولتهم من الذاكرة, وهي تلوي أعناقها الطويلة وتمدها باتجاههم بين الفينة والأخرى, وتواسيهم بهمهمتها الأعجمية, فتلمع عيونهم, ويهزون رؤوسهم لها ساهمين..
     وتلاحقها عيونهم المتقدة بالحرارة حتى تتخفف من أحمالها في الأجران الكبيرة, حيث تقبع "مكينات الدراس" فاغرة أفواهها, وقد جليت أسنانها, وبرقت حوافها, وزيتت تروسها, وصارت علي أهبة الاستعداد لتحيل كل شيء إلي فتات وهشيم.. تستوي في ذلك حزم القمح الجافة مع الأيدي التي تمتد في جوفها لتلقمها, إذا ما زلت لأقل هفوة...
-         "ليت من صنعها مات كمدا قبل أن يفرغ من آلته الشيطانية.."
      دائما ما يردد قلبه مغتاظا هذه الجملة, ولكنه أبداً لا يقدر علي البوح بها.. فكيف  "لأبي الرجال" بجسده الضخم وعضلاته الهائلة أن تظهر علي وجهه الخشن وملامحه الغليظة أي بادرة خوف, وهو من اشتهر بين الأكتاف العريضة والشوارب الغليظة بأنه أبرع الجميع وأجرئهم في العمل علي الماكينة الآثمة, وأنه لا يرهبها ولا تتحرك شعرة من رأسه وهو واقف علي منصتها يقذف في جوفها المظلم المخيف حزم القمح بيد ثابتة لا تعرف الخوف..
     ويكتم خوفه مرغما, ويغلي به صدره  كالماء في المرجل, وتداهمه القشعريرة الباردة وتجتاحه علي فترات كهبات بخار مختنق, فيرتعد لها جسده الضخم, وترتعش أصابعه الممتلئة الطويلة رغما عنه, ويبدو من الوهلة الأولي لأقل العيون ملاحظة أنه خائف حتى النخاع.. ولكن من يخطر بباله أنه هو تحديدا يخاف...
    ومررا وتكررا يفرك كفيه في محاولة لطرد الخوف الساقط في أمعائه, ويشعره برغبة لحوحة متبلدة في دخول الحمام, وهو يعلم في نفسه أنها محاولة للهرب..
-         "وكيف الهرب؟!"
-         "وكيف لأبي الرجال أن يهرب؟!"
-          "ومن يطعم أولاده إذا لم تمتدا ذراعيه بطولهما في جوف الفم الهادر ليطعمه؟!"
    ينهض حانقا ويغادر المكان, وبعدما حاول مليا أن يفكر في شيء آخر, كان في كل مره يضبط عينيه تعد أصابعه, وعقله لا يكف عن رسم لوحات سريالية غارقة في لون احمر قاني تتساقط منها الدماء كزخات المطر, وعندما كاد يخطو خارجا من باب حجرته المتخمة بأثاث عرسه المتهالك, تذكر دبلة زواجه الفضية, فعاد وأخرجها من علبة صغيرة كانت بين طيات ملابسه, ولبسها في بنصره الأيسر..
    طافت بذهنه ذكريات زواجه الذي مر عليه ما يقرب من عشرين عاما, فلمع شبح ابتسامه على شفتيه, ثم خرج مسرعا ليلحق بالأنفار في الجرن..
    في المساء, وعلي الرغم من شدة حذره أثناء وقوفه علي منصة "ماكينة الدراس" ورغم أن أسنان الماكينة الحادة لم تستطع أن تنل يديه بسوء طوال يوم شاق من العمل؛ إلا أن دبلة زواجه الفضية اقتلعت بنصره الأيسر من جذوره, عندما علقت بأحد خطاطيف المقطورة المحملة بأجولة القمح, وهو يقفز من فوقها بكل قوته...

ليست هناك تعليقات: