2012/09/18

"استنساخ زعيم ، طموحات هندسية " قصتان بقلم: محمد نجيب مطر



طموحات هندسية
محمد نجيب مطر
في أحد الحفلات التي تقيمها كلية الهندسة وصل متأخراً إلى قاعة المسرح وكان الجو مظلماً، وأخذ يبحث بصعوبة عن مكان في الصفوف الأمامية فلم يجد، وأخبره أحدهم عن وجود كراسي خالية في نهاية الصف، سار كمال حتى انتهى إلى كرسي خالي وجلس فوجد صوتاً نسائياً ناعماً يحذره وهو يضحك : احترس أنت تجلس عليّ، فلقد كانت فتاة سمراء تجلس على الكرسي وشعرها أسود وترتدي فستاناً أسود، فقام بسرعة واعتذر فأخبرته بان الكرسي التالي فارغاً فجلس فيه وهو مضطرب، سألته في صوت هامس عن اسمه وفي أي فرقة وعندما أخبرها أنه في الفرقة النهائية ابتهجت وأخبرته أنها طالبة بالفرقة الأولى، واسترسلت معه في الحديث الهامس حتى عرفت عنه كل شئ بلده، عمل والده، أفراد أسرته وتقديراته الدراسية، آماله وآلامه، كان يتحدث في الظلام وكأنه يتحدث إلى نفسه، تحدث عن كل ما يدور في داخله دون خجل أو وجل، وكان حديثه في الظلام مرتباً وواثقاً لأنه ليس هناك من ينظر إليه.
كان موضوع المسرحية يتحدث عن العدل والحرية، قال لها أن الحرية الحقيقية ترتبط بالمسئولية وهي لا تعني أنه من حقك ان تفعل أي شئ تريد فقط، لكنها تعني أيضاً أن تكون قادرا على أن تفعل ما هو صواب، وما يتوجب عليك حقا أن تفعله، الحرية بدون مسئولية تقود إلى الانهيار، تقود المجتمع الى الهاوية، وعندما نسئ استخدام الحرية، سوف نفقدها حتما، إذا أردنا أن نبقى أحراراً يجب أن نكون قادرين على أن نحكم أنفسنا أولا وبشكل مسئول، كان الكلام يخرج من أعماقه وكأن شخصاً آخر هو الذي يقول وهو الذي يردد، ولا يدري من أين جاءته كل تلك الحكمة ومن أين اجترها من ذاكرته فخرجت بهذا الترتيب الذي لو أراد أن يكتبه في حالته العادية ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، أما هي فلم تضيق بهذا الكلام كما تفعل الأخريات وإنما كانت تشجعه على الاسترسال وتطلب المزيد عن موضوع العدل، وكأنها وجدت فيه ضالتها.
كان صوتها الرقيق الناعم يوحي بجمال صاحبته، وصدق حدسه بعد انتهاء الفصل الأول من المسرحية، كانت سمراء غاية في الجمال والرقة، وكان صوتها الناعم الهامس جزء من منظومة جمال متكامل، لم يصدق نفسه والفتاة تنظر إليه بإعجاب وكأنه فارس أسطوري من العصور الوسطى، أخبرته أن وراءها هماً تريد تلقيه من على كاهلها وأن كلماته المشجعة هي التي دفعتها إلى ذلك.
هي من أسرة فقيرة تسكن القبور هكذا بدأت ، أبوها يعمل في دفن الموتى و لديها سبعة أخوات يتسولن من أهالي المرحوم، الأب غاضب من أمهم بسبب إنجابها البنات فقط لهذا طلقها وتركها ببناتها السبعة وتزوج بغيرها لتنجب له الولد، الأطفال الأكبر منهم في العمر يلعبون معهن وسط المقابر الواسعة والتي تخلو من البشر في معظم الأوقات ، ويستدرجونهن للعبث فتولدت لديهن في فترة مبكرة الإحساس بالجنس والاستمتاع به، ولا تسأل عن بيت به سبع بنات صغيرات ليس لهم أب يسأل عنهم و لا أم ترعاهم كيف يحافظن على أجسادهن في بيئة فقيرة وجاهلة تتهاوى فيها قيم الحق والشرف، أمها تعمل خادمة لكي تتمكن من الإنفاق عليهن، و تستعين بها وهي كبيرة أخواتها للعمل معها في تلك البيوت، وكانت جميلة بما فيه الكفاية لكي يطمع فيها من في قلبه مرض، لم تمانع في ذلك للحصول على تلك المتعة التي تفتحت عينها عليها وهي صغيرة والاستفادة ببعض المال الذي تأخذه من وراء ذلك، واستكملت دراستها بنجاح فلقد كانت ذكية وحافظت على تفوقها الدراسي وحافظت في نفس الوقت على عذريتها رغم لهوها وعبثها مع زملائها وزميلاتها، وعندما جاءها خطاب مكتب التنسيق بقبولها في كلية الهندسة كادت تطير من الفرح فقد اقترب الحلم، ولكنها أيقنت أنها لن تستطيع استكمال دراستها بسبب ضيق ذات اليد.
أشارت عليها بعض الصديقات باللجوء إلى الأخصائي الاجتماعي في الكلية المرشحة لها، لأنه يمكنه تسديد مصروفاتها وصرف الكتب الدراسية، وإدخالها المدينة الجامعية مجاناً بل وإعطائها معونة مالية شهرية، ولما ذهبت إليها افتتن بجمالها، وبدأ فوراً في مغازلتها ومحاولة الاحتكاك بها، وحتى تنجز ما تريده جاملته ولم تصده حتى وصلت إلى مبتغاها، ولكنه طلب ثمن مساعدتها وهددها بأوراق مزورة نصحها بتقديمها في الأوراق، فاستجابت إليه بعد محاولات عديدة لصرفه عنها دون جدوى، واشترطت عليه ألا يقترب من عذريتها، ولكنه لم يتمالك نفسه واستخدم كل قوته معها وفقدت عذريتها تماماً مع هذا الرجل الدميم، وهي التي رفضت من الخطاب أجملهم بسبب تمسكها بطموحها الهندسية.
ظلت أسيرة له كلما أرادها، فهي تخاف الفضيحة وتخاف أيضاً الأوراق المزورة واستجابت لكل طلباته؛ فقد كانت تغسل له ملابسه وتطبخ له وتعاشره معاشرة الأزواج عند طلبه، واستسلمت لقدرها فلم يعد هناك شيئاً تخسره، حتى اتخذت من الأسود اللون الوحيد لملابسها.
استشاط الطالب كمال غضباً وعنفها وسبها وشتمها بأقصى عبارات التوبيخ ولعن الظروف التي جمعته بها، وصرخ في وجهها : عن أي هندسة تبحثين، وتدفعين شرفك ثمناُ لها، ولكنك كنت فاقدة الشرف بتلك الممارسات الغبية التي تقومين بها بكل إرادة ووعي، سحقاً للهندسة ولكل الوظائف التي يكون ثمنها منظومة القيم والأخلاق، وقال لها في صراحة الظروف ليست السبب ولا يجب أن تكون الشماعة التي نلقي عليها أخطائنا، أنت السبب ... كان لديك الاستعداد للقبول بتلك الممارسات مع الأطفال ومع الشباب لاحقاً فنزلت إلى قاع المستنقع بكل إرادة، ومع هذا الموظف الحقير الذي ينتهك عرض الفقيرات بنقود المعونات الرسمية للدولة، وأخبرها بأنه سيذهب إلى ذلك الموظف الحقير وسيردعه وسيفضحه إذا اقتضى الأمر وسيجبره على الزواج منها، فبكت واستجارت وتوسلت إليه ألا يفضحها، وأمسكته من يده لتمنعه من الذهاب فشد يده وصفعها على وجهها بقوة قائلاً لها : لا أريد رؤية وجهك اللعين بعد الآن في أي مكان، لأنك إنسانة حقيرة تماماً مثل الموظف الحقير وأنتما مناسبان لبعضكما، وانصرف ودموعه معلقة في عينيه وهو يحدث نفسه : هل يصل الطموح أن تبيع عذريتها من أجل طموحها الهندسي؟
ها هي الأحزان تعود إليه من جديد من حيث اعتقد أنها السعادة، كلما سار خطوة في طريق به فتيات كلما عاد حزيناً، ارتبط عنده الحزن بالنساء فتكونت لديه عقدة جديدة فضلاً عن القديمة التي كانت عنده، لقد أحدثت تلك الفتاة في عواطفه طفرة ، ولكنها الآن أصبحت طفرة في الاتجاه المعاكس، تمنى لو قام بقتل هذا الموظف لأنه استخدم وظيفته في مساعدة الفقراء في الضغط عليهم من أجل الحصول على متعة رخيصة.
ما أقسى الحياة وما أقسى الفقر على الأفراد والجماعات، إنه لا يلتمس العذر لها، بل ينقم عليها، ملعونة هي الوظيفة وملعون هذا العشق وملعونة هذه الدنيا التي تؤدي بصاحبها إلى المهالك، إنه لا يمكن أن يسامحها، فلقد اختفى الحب من قلبه وزرع مكانه بالنسبة لها شك وخوف وألم، ولكن الحري به أن يساعدها ويدلها على الطريق الجديد، طريق العودة إلى الله والتوبة النصوح، بحث عنها فلم يجدها، سأل زميلاتها فأخبروه بأنها أخذت ملابسها من المدينة الجامعية وعادت إلى منزلها، لقد نفذت كلماته بالحرف فلم يعد يراها في أي مكان، وندم على ما فعل، فقد كان أقسى عليها من الظروف، وذات يوم أتت له زميلتها وأخبرته بأنها جاءت وسحبت أوراقها من الكلية وانتقلت إلى كلية قليلة المصاريف وبأنها تابت وارتدت الملابس الشرعية، وبأنها تنصحه بألا يبحث عنها وأن يطمئن عليها لأنها أصبحت في معية الله وطلبت منه أن يسامحها، فطلب من زميلتها أن تخبرها أن تسامحه.

استنساخ زعيم

-       : يا سيدي الزعيم، يا ناصر المستضعفين، وأمل اليائسين، وقائد المنتصرين، شعبك يهتف بحياتك، ويتمنى أن ينعم بكم إلى الأبد، لكي تستقيم الحياة، وينعم أهل عربستان بالسعادة الدائمة
-       : نعم أيها الوزير .. فإن من نعم السماء على الأرض أنها خلقت لكم شخصاً مثلي ليعبر بكم من التخلف إلى الحضارة، ومن الحضيض إلى القمة... ولكن أيستدعي ذلك أن توقظني في هذه الساعة المبكرة؟ إنها ما زالت الحادية عشر صباحاً.
-       : عفواً سيدي، فشعبك سمع عن أن الأوروبيين قد نجحوا في عمل ماكينة لاستنساخ المخلوقات، يدخلون خلية واحدة من المطلوب استنساخه فتخرج من الجهة الأخرى نسخة طبق الأصل، ولهذا اجتمع شعبك منذ مساء الأمس وحتى الصباح وأصروا أن يستنسخوا من معاليكم ثلاث نسخ .
-       : ولماذا ثلاثة أيها الوزير؟
-       : واحد ليكون نائباً لكم، والثاني يكون للزيارات و الاجتماعات وإلقاء الخطب التي نستشعر فيها بالخطر على حياتكم، والثالث يكون احتياطياً يمكن اللجوء إليه عند الحاجة.
-       : سر على بركة الله وابدأ في إنجاز هذا العمل طالما أنها إرادة الشعب، فنحن رهن إشارته وقد خلقنا الله لتنفيذ رغباته
-       : حفظك الله سيدي
مرت شهور ولم يمكنهم استنساخ الزعيم، فاستدعى الوزير
-       : أيها الوزير، لقد جاء العلماء الأوروبيون وأخذوا العينات ولم تظهر النسخ، هل هناك مشكلة ؟
-       : سيدي لقد فشل الأوروبيون في استنساخ معاليكم .. فكل مرة يتم ادخال خلية إلى الماكينة يخرج من الجهة ....  يسكت الوزير وتمر فترة صمت
-       : ماذا يخرج من الجهة الأخرى أيها الوزير .. تكلم وإلا عاقبتك.؟
-       : سيدي لقد جربوا عدة مرات .. ولكن في كل مرة كان يخرج من الناحية الأخرى .... حمار
-       : لابد أن هناك خطئاً كبيراً في تلك الماكينة هل جربتموها على أحد من الرعية
-       : نعم يا سيدي وكانت النتيجة مشابهة ... ولكن هذه المرة كان يخرج من الناحية الأخرى نعجة، فجربناها على الأوربيين أنفسهم فأعطت نسخاً صحيحة
قال الزعيم لنفسه بصوت خفيض لم يسمعه أحد ... حمار يحكم نعاج
-       : وبماذا علل الأوربيون الخطأ؟
-       : قالوا إن الماكينة تنسخ الحقيقة وليس الشكل.
-       : وماذا ستفعلون؟
-       : سنحاول مع الأمريكيين فهم أكثر تقدماً في هذا المجال من الأوربيين
-       : حسنا فلتفعل ولتخبرني بالنتيجة على الفور
مرت شهور ولم يمكنهم استنساخ الزعيم، فاستدعى الوزير
-       : سيدي لقد فشل الأمريكيون أيضاً في استنساخ معاليكم .. فكل مرة يتم ادخال خليتكم إلى الماكينة تعطي نفس النتيجة.
-       : وماذا ستفعلون؟
-       : سنحاول مع اليابانيين فهم أكثر تقدماً في هذا المجال من الأمريكيين
-       : حسنا فلتفعل ولتخبرني بالنتيجة على الفور...
بعد مدة قصيرة سمع الزعيم صياحاً شديداً وهتافاً عالياً وأصوات الطلقات النارية والأغاني الحماسية ثم دخل الوزير عليه
-       : أبشر سيدي لقد نجح اليابانيون في استنساخ نسخ كثيرة من معاليكم
-       : وكيف تم ذلك
-       : أدخلوا خلية حمار من الجهة الأولى فأخرجت نسخة طبق الأصل من سعادتكم


هناك تعليقان (2):

مروه زهران يقول...

قصص رووعة

محمد نجيب مطر يقول...

أشكركم على حسن تعليقكم