2015/02/13

على الجانب الآخر قصة بقلم: محمد نجيب مطر



على الجانب الآخر
محمد نجيب مطر
كانت أصوات الرصاص تزغرد بصوتها المفزع وأنينها المكتوم عندما تصطدم باللحم البشري.
القتال مباشر وجهاً لوجه، الدم يتفجر في كل مكان، الجراح قاتلة لشدة قرب المتقاتلين، كان يصرخ :
هذه أرضي وأرض أجدادي، وهبها الله لنا، ولأننا عصيناه كتب الله علينا التيه والضياع في صحراء سيناء لمدة، ثم منحنا الأرض المقدسة لتوبتنا وعودتنا إلى رضوانه.
هؤلاء العرب الأجلاف من الرعاة استولوا عليها منذ زمن طويل واستوطنوها، لكن ذلك لا يرتب لهم أي حقوق فيها.
السرقة مهما طال أمدها لا تعطي لصاحبها شرعية، فما بالك إذا كان المسروق أرض ووطن وهوية.
أخذ يردد بعض الأجزاء التي حفظها من التوراة وهو يوجه نيرانه نحو الفلسطينيين بحنق، لا يهم من يكون الضحية، كلهم لصوص ومتخلفون.
العالم أفضل بدونهم، فهم إما أن يكونوا ارهابيين يهددون أمن دولتنا، أو مشاريع لارهابين في المستقبل.
النساء تحارب وجودنا بالولادة، إنهم مثل الأرانب و القطط، يمتعتن بخصوبة عالية، حرب أرحام تقوم بها الفلسطينيات ضدنا.
قتلهم واجب للتخلص من ماكينة التوليد سريعة الدوران وكثيفة الإنتاج، هؤلاء المتخلفون لا يقيمون للحياة وزناً و لا قيمة.
يفجرون أنفسهم لكي يموتوا في أبشع صورة وفي أحقر منظر، متخيلين أنهم بذلك يرضون ربهم وأنهم سيدخلون الجنة، أي جنة سيدخلون هؤلاء البلهاء، وقد قَصًرها الله علينا نحن شعب الله المختار.
أول شعب آمن بالتوحيد، سيدخلون بعد تلك الموتة الحقيرة إلى جهنم وبئس المصير، لن ينجيهم ربهم و لا نبيهم المزعوم من هذا المصير الحقير.
برز له فجأة من خلفه ارهابي من نفق سري تحت الأرض، مشكلته دائماً المسافة صفر، فهو يحب الحرب من مسافة ليمكنه تمييز عدوه و تحديد مكانه والتصويب عليه.
عالجه برشقة رصاصات، ولكن الآخر أصابه برصاصة واحدة استقرت في قلبه، نزف الدماء القانية على دفعات.
 تألم للحظات وهو يردد، يهواه ... ارحمني ... كما رحمت آبائي موسى وهارون ويعقوب.
يحس بالوهن يخدر جسمه، تظهر له صورة حبيبته وهي تسنده إلى صدرها وتبكي في حرقة.
 يرى وجه أمه تنتحب أمام جسده، وأبيه يتحسر على شباب ابنه، ثم غاب عن الدنيا وما فيها.
أفاق على صوت أمه وهي تنادي عليه، عندما فتح عينيه أبصرها وهي تقبل يديه، تشكر الرب على سلامة وحيدها.
لا يمكن أن يكون في الآخرة، فأمه لم تسبقه إلى هناك لأنه تركها حية، نظر حوله في وجل فرأى الأجهزة الطبية موصلة إلى جسده وهي تعطي قراءات متغيرة وسريعة كل شئ.
تراءى له وجه أبيه الملئ بالتجاعيد، هناك غير بعيد وجد حبيبته تبتسم له وكأنها آتية من حفل زفاف بكامل زينتها.
ابتسم لأنه تأكد أنه ما زال في الدنيا. جاء الطبيب على عجل، وبدأ يسأله عن اسمه وعن عنوانه وعمله والأشخاص الذين يتحلقون حوله، فلما أجاب اطمئن أن الأمور تسير على ما يرام.
حكوا له عن بطولته وانتقامه من الارهابيين وهو فخور بما يقولون عنه، ولكن أحس بغصة في حلقة كلما ذكروا له ذلك.
أحس بأسى غريب على هؤلاء الضحايا واكتسي قلبه الحزن على الضحايا الذين لا ذنب لهم فيما يحدث.
بعد خروجه شئ ما تغير في شخصيته، مال إلى العزلة، واضطربت حياته الاجتماعية، وقل حديثه في السياسة التي كانت هوايته.
حتى الأنشطة العسكرية التي كان يتميز فيها فقد حماسته القديمة لها واندفاعته كالأسد في مواجهة الارهابيين.
أدمن قراءة تاريخ بناء الدولة، أعاد القراءة برؤية جديدة لا يدري من أين جاءته عن الهولوكست وما تعرض له اليهود من إبادة.
أحس بتشابه كبير بين ما حدث وما يحدث الآن في فلسطين، تعرف على تاريخ الدول العربية والاسلامية.
رغم التشويهات المتعمدة تأكد من حسن تعاملها في كل عهودها مع اليهود ومع جميع الأديان الأخرى.
هجرته حبيبته بعدما بدأ يشكك في مشروعية الدولة التي حولت الدين إلى دولة ليس لها أي علاقة بالدين اليهودي.
مجموعة من العلمانيين اتخذوا دينهم وسيلة للسيطرة على اليهود وتوجيههم وفق أغراضهم.
لم يعد يتقبل فكرة أن يأتي إليك من يقول لك أن تلك الأرضي ملكي، لأن أجدادي كانوا هنا منذ ما يزيد عن ألف سنة وكانوا يملكون هذه الأرض.
تحير من تلك الميول الجديدة فبدأ بالبحث عن سببها، هاجمه الاسرائيليون مرات عديدة ورشقوا منزله بالحجارة وكتبوا شعارات علي جدرانه تدعوه الي الرحيل من دولة اليهود.
ذهب لأكثر من طبيب نفسي فأرجعوا الأمر إلى أن تجربته المريرة في الاقتراب من الموت هي التي أثرت فيه وجعلته زهداً في الدنيا كلها.
لكنه لم يقتنع، أحد الأطباء نصحه بدراسة حالته المرضية قبل وبعد العملية الجراحية فربما نقلوا له عضو من أعضاء أحد الفلسطينيين.
أخبروه أن الذاكرة ليست فقط في خلايا المخ، وأن الأعضاء لها ذاكرة، وأنها قد تؤثر بشدة في ميوله وعاداته وطباعة.
بعد جهد جهيد علم أن قلبه قد تمزق بفعل رصاصات الارهابي وأنهم نقلوا إليه قلب قاتله.
قرأ كثيراً عن الدين الاسلامي ثم اعتنقه وتزوج ابنة ذلك الفلسطيني الذي قتله، هجرته أسرته لأنهم رأوا فيه شخصاً آخر ليس له علاقة بابنهم سوى بالشكل فقط، تغيرت طباعة، وكثرت تساؤلاته، وتغيرت قناعاته.
سأله أحد رفقاؤه القدامى.
لقد أسلمت وسلمت لهم لأنهم وضعوا فيك قلبهم، ابتسم في ثقة وقال: لا .. بل رأيت القضية من الجانب الآخر.
أكمل بعد وقفة قصيرة : ربما يكون نقل القلب أحد الأسباب، ولكني أدركت أن الإسلام هو دين الحكمة والحقيقة، لقد اهتديت لأنني كنت أبحث عن الحقيقة، ذلك هو السبب الوحيد .
قال في سخرية : لو أراد الفلسطينيون السيطرة على إسرائيل فعليهم أن يعطوهم قلوبهم حتى يكسبوا عقولهم.



ليست هناك تعليقات: