2017/01/09

النواة قصة بقلم : عبد القادر صيد

النواة
 بقلم : عبد القادر صيد
ـ أين تعتقد أنه تعلم هذا؟
ـ لا أدري ، فالناس في هذه القرية  مختلفون ، لا أعلم شيئا اتفقوا عليه أكثر من الاختلاف في هذا الأمر ، فمن قائل أنه تعلمه  أثناء الخدمة العسكرية منذ خمس و عشرين سنة ، و من قائل أنه أخذ الصنعة من شخص يقطن في العاصمة عندما كان يزور أخواله هناك، و آخرون قالوا إنه إلهام ، يعني أنه استيقظ فجأة فوجد نفسه هكذا ..
  هذا جزء من  حوار بين صديقين يحاكيان باقي القرية كلها  في الحديث عن هذا الكهل الذي نشأ في القرية منذ ولادته ،يدور بينهم ، يعرفون انشغالاته  و قدراته ، فإذا به فجأة  و هو ابن خمسين سنة ، و بعد وفاة أبيه بشهر واحد يفتح محلا للحلويات و يصنع حلوى غريبة و رائعة ، يقبلون عليها رغم أنوفهم ، بل و تصدّر إلى القرى المجاورة، و حتى المدن المتاخمة،  يتابع أحدهما حديثه :
ـ و لكن ما قيمة المال بعد الخمسين ؟
ـ أعتقد أنه يجب أن نتحدث عن طعم النجاح ، و جلب الاهتمام ..
ـ أي نجاح و ما يجنيه من أموال ينفقه على بناته الثلاثة المتزوجات ؟
ـ هو حر في ماله ، أم تريد أن يتبناك مثلا ؟
ـ لا أقصد ذلك ، لكن حلاوة المال تكون ألذّ حين ينفق على الذكور ، لأنه  يجب أن لا يخرج من العائلة ..
   هذه هي الأجواء بخصوص هذا البارع الجديد في مجال الحلويات ، قد حاول العديد من أهل القرية التعرف على طريقة التحضير ، و تجسّسوا ، و بالغوا في التقرب إليه و التملق بشتى الوسائل ، و لكنه كان فطنا لكل محاولاتهم ، يكفيك أن الكثيرات من النساء اتصلن بزوجته ،و حاولن جاهدات كشف السر، و لكن دون جدوى، في إحدى السهرات ، و ساعة صفاء موقوت، صارحته:
ـ إن فلانة ، و هي زوجة قريبك ألحت عليّ في وصفة الحلوى ..
ـ يمكنك أن تخبريها بها ..
ـ لو كنت أعلم طبعا لفعلت..
ـ لذلك لم أخبرك بسرها ، أرأيت كيف أنت غريرة ، و بلهاء ؟
ـ إنها تريد فقط أن تعدها لعائلتها ..
ـ اسكتي من فضلك ، قلت لك أنك بلهاء ..و الله يمكنك أن تبعثي إليها صينية منها كل يوم ،لا أمانع فالخير كثير، و فوق هذا لا تطمع ، أقول لك أنت و كل القرية إذا وضعتموني في قبري ، فانتظروا الدود الذي سيأكلني ،فهو وحده من  سأبوح له بالسر ..هذه الصنعة كما ترين هي من رفعت رأسي فوق الجميع في القرية ، فوق حتى كبار ملاك بساتين النخل،  لا أحد من أجدادي  و لا أجدادك كان محل اهتمام الناس ، و لا طرحوا حول شخصه الاستفهامات ، ها هي  ذي التساؤلات تحوم حولي ، دعيني أتمتع بها قليلا ..إنني أخطط لليوم الذي يضربون فيه عن تناول التمور من شدة حلاوة منتوجي ، وسيأتي بإذن الله ، و سيحطمون نخيلهم و يبيعونها حطبا يتدفؤون بها في شتاء الصحراء القارس..
ـ أعلم أن ما يهمك هو المال فقط ، ثم بعد ذلك تعيد الزواج ..
ـ لو طفت العالم  كله لن أجد أغبى منك ترضى بي ..
   بمثل هذه التهكمات كان ينهي حواره مع زوجته التي لم تمل من مراوغته في كل الحالات حتى يبوح لها بسر الوصفة ، لقد تتبعوه ، فلم يجدوه يخرج من القرية ، و سألوا المحل الذي يشتري منه مستلزمات الطهي ، فلم يجدوا أثرا يمكن أن يعينهم ، إلى أن وصل الأمر بأحد المتعالمين إلى أن قال :
ـ  لا شك  أنه يستعين بالجن  حتى يصل إلى هذه الدرجة من البراعة في صنع هذه الحلوى اللذيذة ، فأنا شخصيا ، كنت أكره كل أصناف الحلويات ، و عندما تذوقتها لأول مرة، أدمنت عليها ، نعم أعتقد أنه ربما يمزجها بنوع من المخدرات ..
ـ أتعتقد أن مثل هذا الأمر يفوتني ، و أنا الذي يدعونني محقق القرية ، لقد حللت حلوته في المخبر ، ولم أجد فيها ما يريب ، الأنفع أن تنحو طريقا آخر..
ـ سمعت أنه لم يبع تمرة واحدة  من بستانه ، قد تكون حلوياته مصنوعة بشكل كبير من  مربى التمر ..
ـ أنا اشتريت منه محصوله هذه السنة ، و السنة التي قبلها ..ثم ماذا ؟ما عنده سوى عشر نخلات ليس إلا ..نطق أحدهم بصوت مبحوح ليضع حدا لهذا الافتراض و لغيره من التكهنات ..
ـ لست أدري ما الذي يجعل الناس يهتمون به كثيرا ، مع أنه ليس الوحيد الذي يجمع المال في هذه القرية ، هل هو الحسد ، أم الفضول ؟
ـ لا أريد أن أدافع عن الحسد  ، و لا عن الفضول ، و لكن يمكن أن يكون وراءه الاستغراب ، فالانتعاش بعد الخمسين شيء مستغرب ..
ـ ترى لو كان بارعا في إعداد الحلوى دون أن يجني  من وراء ذلك مالا ، هل كان سيحظى بهذا الاهتمام المتواصل الذي لا يريد أن ينتهي ؟
ـ طبعا أصارحك  ، لا أحد كان سيهتم به هذا الاهتمام..
   حل الليل على  القرية و أهلها يغطون في نوم عميق ، إلا واحدا ، و هو الحلواني الذي ينهض في منتصف الليل ليشرع في إعداد عروسته التي ينتظرها الجميع ، و ليهيء منها أطباقا  كبيرة و بأشكال مختلفة مذهبة للعقل ، كان يناجيها أثناء عمله ، و يعطي لكل نوع منها اسما من عنده ، فمن الذي سيحاسبه عن التسمية ، و هو صاحب  براءة الاختراع  ، إنها نشوة مشابهة  للكبر ، و لكنها ليست هي ، بل هي بعيدة عنه بآلاف الأميال .
   لاحظ الناس أن هذ الشخص الذي كان يبدو منطويا على نفسه ، و مترددا في سلوكه ، و كان صوته لا يكاد يسمع في الحارة ، أصبح الآن مجرد قدوم ظله يحدث ضجة و جلبة ، و أصبحت قهقهته علامة مسجلة ، و لا يكاد يترك جملة تمر دون جدال أو تعقيب لا يخلو من سخرية ظاهرة أو مبطنة ، و لا يهمه  أحد في القرية كلها ، لقد تفتحت قدراته الكلامية ، و تفتق خياله ، و اتسع قاموسه اللغوي بصورة مبهرة ، كأنه كان مجنّدا يعد العدّة لهذه المرحلة.. كم ما زال له من العمر ليعوّض ما فاته و هو مغمور تحت رمال هذه الواحة الظالمة ؟
   لماذا لا يفكر في الانتقال إلى المدينة ؟ كيف يعقل أن يذهب إليها و هي تأتيه صاغرة لتستجلب منتوجه النادر ؟ لن يذهب إلى أي مكان ، سيموت هنا ، حيث مات أجداده ..لقد نسوا تلك الموجة التي هبوا كلهم معها ، و بقي هو في منزله ، كانوا يستهزئون به ، يتهمونه بالخوف و حتى بالخيانة ، و هو ناكس الرأس ، يروح و يغدو كل يوم ليقوم بوظيفته كحارس في البلدية ، كان عليه أن يتحمل كلامهم اللاذع صباحا و مساء، الشيء الوحيد الذي يرن في أذنيه هو نشيد (موطني) ، هذا النشيد وحده كان يسحره ، و يفعل به الأفاعيل ، في حين كانوا قد تبلبلت ألسنتهم و آذانهم بنشاز غريب من مختلف القارات ، لقد ضبطوه ذات مرة  أثناء تحضيره لمنتوجه و هو يطلسم بهذا النشيد ، راحوا في الصباح يطبخون طبختهم و هم يلهجون به ، فإذا طعامهم يأتي  على طعم العلقم ..قال بعضهم :
ـ الحكمة في سحنون ، و ليست في تعريق النون ..
  ما زال يتذكر يوم أن كانت القرية على بكرة أبيها تكتظ بأصناف الوجوه الهجينة التي ترقص مسمات وجوههم على أنغام لا تشبه لكنة اللبن الذي غذّاه و هو صغير ، و لا تقترب نكهتها من نكهة دماء الشهداء الذين أرضعوا هذه الأرض .. لماذا يشتهون كل غريب ؟ ألأنهم غرباء عن أنفسهم و مراياهم ؟ كان يغلق أذنه بالقطن و يبتسم للجميع حتى يغلق أي جدال ، و في نفس الوقت كان فاتحا عينه لأي شيء يتحرك في هذه الشوارع ، و كان يحدث نفسه باليوم الذي تنجلي فيه هذه الغمامة ، و أحيانا كثيرة كان لا يخرج من منزله لأيام كاملة ، كانوا يعتقدون أنه في هذه الفترة تعلم صنع في الحلويات العجيبة ..
  هل فعلا تعلمها في تلك الفترة ؟ بينه و بين نفسه لا يعرف متى بدأ يتهجاها ، ليس محتوما عليه أن يجد الإجابة الدقيقة لا الآن ، و لا بعده ، فهو ليس في امتحان ، لكنه يدرك أن مرارتهم كانت النواة ..
 

ليست هناك تعليقات: