2017/03/24

الطَّباشير الأسود مسرحية بقلم: د.عمر صوفى محمد



الطَّباشير الأسود
مسرحية
عمر صوفى محمد
 شخصيات المسرحية
1-  مهدى : طويل، قوى البنية، ملتحى، فى الخامسة والأربعين.
 2- عبد القاهر: معتقل سابق ، فى الأربعين ، فقير ..بائس
3-  واعر: فى الثلاثين ، ملتحى.. يرتدى جلباباً قصيرا وسروالا.
 4- طارق:  شاب فى منتصف العشرينيات ، يرتدى ملابس
                 عصرية .
 5- ليلى: ترتدى حجابا، فى السابعة والثلاثين ، تبدو أكبر من
             سنها .
 6-   هدى : فى الخامسة والعشرين ، منتقبة،  عذبة  الصوت .
  7-  مدير الإدارة  : فى الخامسة والخمسين ، منتفخ الأوداج
            والوجه والبطن .
8-  ساعي الإدارة : فى الأربعين.
 9- الخطيب : ملتح ، يرتدى جلباباً ، فى الأربعين ، يبدو أكبر
                من ذلك .
10- الأم : فى الخامسة والخمسين.           
11 -  موظفون وموظفات .
12 -  رجال من أمن الدولة (رجل الأمن (1) - رجل الأمن (2)- رجل الأمن (3) .
13- أطفال ( طفل 1 – طفل 2- طفل3 )
14- معلم  
الفصل الأول
المشهد الأول
( صالة شقة متواضعة، إضاءة خافتة، تجلس ليلى تفكر فى حيرة من أمرها، تروح وتجئ فى الصالة، لا تجد ما تفعله فتجلس ساكنة، تدخل أمها )
الأم   :  مساء الخير يا ليلى يا ابنتى.
ليلى   : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته يا أمى.
الأم   : اعتقدت أنك نمتى بجانب أختيك.
ليلى   : النوم سلطان يا أمى..
الأم   : لكن عينك خاصمها النوم من زمان يا ابنتى.
ليلى   : ( تكتم غضبها ) سأنام بعد قليل يا أمى.
الأم   : لن تنامى .. حتى لو دخلت فى السرير لن تنامى، أتظنين أننى لا أحس بك وبما يدور فى رأسك؟! أعلم أنك تقضين أغلب الليالى مهمومة مكدرة تفكرين.
ليلى   : أمى .. أرجوك .. لا داع لتكرار كلام قديم معاد كل عدة أيام .. مللت.
الأم   : لكن لا بد أن تسمعيه وتعيه جيدا. الموضوع زاد عن حده ولا بد أن تفكرى فى مصلحتك.. مصلحتك أهم يا ابنتى.
ليلى   : أعرف مصلحتى جيدا يا أمى.
الأم   : لا .. لا. أنت لا تعرفين مصلحتك أين تكون أو مع من تكون رغم أنك مُدرسة، لو تعرفينها حقا لأطعت كلامى دون تردد.
ليلى   : هل سنعيد هذه الأسطوانة من جديد يا أمى.
الأم   : (محتدة ) نعم سنعيدها.. فإلى متى تنتظرينه،؟! هو حتى ليس فى السجن لنعرف مدة حبسه، هو معتقل لا نعرف متى سيخرج.
ليلى   : ربما قريبا يا أمى.
الأم   : كم دعوت الله بذلك ، لكن مشيئته لم تأت بعد. مرت أكثر من عشر سنوات يا ليلى ولا أمل فى الطريق.. وشبابك يضيع.
ليلى   : هذا قدرى .
الأم   : لا .. أنت تحطمين نفسك بيدك. إلى متى تظلين معلقة هكذا؟ كُتب كتابك ولم تدخلى، متزوجة منذ عشر سنوات ولكنك آنسة، على ذمة رجل لكنك ما زلت تعيشين فى بيت أبيك كما أنت. من ترضى بهذا؟
ليلى   :  نصيبى الأسود.
الأم   : ( بحدة ) اطلبى الطلاق وستحصلين عليه، وحينها ستتزوجين كما تشاءين.
ليلى   : لا .. لا أستطيع.. لا أستطيع.
الأم   : لماذا ؟! إذا لم يكن من أجلك فمن أجل أختيك، كبر سنهما ولم يطرق بابهما أحد، وأوشك قطار الزواج أن يفوتهما.
ليلى   : أنا لم أمنعهما من الزواج.
الأم   :  جرت العادة أن تتزوج البنت الكبرى أولا.
ليلى   : عادات قديمة.
الأم   : ليس بيدى أنا أغيرها..(مترددة ) ويتردد الشباب فى الزواج من بنت أختها  مخطوبة لمعتقل.
ليلى   : وأختها نفسها مبعدة عن التدريس لأسباب أمنية.
الأم   : أنت زينة البنات، لكن فكرى فى أختيك.
ليلى   : الزواج قسمة ونصيب .. هكذا كنت دائما ترددين.
الأم   :  لكن اسع يا عبد وأنا أسعى معاك، وأنت لا ترحمين نفسك و لا ترحمين أختيك
ليلى   :  وما المطلوب منى؟ أنزل الشارع وأعلق ميكروفون وأبحث لهما عن عريس.
الأم   : لا.. اطلبى الطلاق ، وحينها ستفرج من عند الله.
ليلى   : وماذا سيقول الناس عنى؟!.
الأم   :  (غاضبة) وهل تعلمين ماذا يقولون عنك الآن؟ ستخرس ألسنتهم عندما تتزوجين.
ليلى   :  ( تسير مطرقة حزينة منكسة الرأس ) ومن تظنين  سيرضى بى الآن يا أمى ؟!
الأم   :  كثيرون يا ابنتى . أنت موظفة يا ليلى وجميلة وهادئة ومؤدبة.. شباب كثيرون يبحثون عن زوجة تصونهم  وتعينهم وتساعدهم على المعيشة. لا تبخسى نفسك يا ابنتى.
ليلى   : هؤلاء يبحثون عن شابة جميلة موردة الخدين فى زهوة ربيع العمر، بشوشة، مرحة..أما أنا  ( تلوح بيديها ).
الأم   : وأنت ما زلت شابة جميلة  لا عيب فيك.
ليلى   : (ساخرة بمرارة ) شابة فى مقتبل الأربعين؟ جميلة أم معقدة، موظفة أم مبعدة أمنيا من التدريس لوظيفة إدارية بلا عمل؟!  لا عيب فىّ؟ ( تنتابها حالة من العصبية، تفك ضفيرتها، تفرد شعرها على راحتيها) انظرى شبابى يا أماه..انظرى..شبت يا أمى شبت، كان شعرى أسودا فاحما ناعما رائحته كالمسك .. انظرى اليوم، (تقترب من أمها  وتريها خصلات من شعرها باكية) أبيضَّ شعرى يا أمى ..أبيضّ شعرى يا أمى (تندفع بعصبية إلى المرآة تتأمل صورتها مفزوعة)انظرى يا أماه ..انظرى إلى هذين الخدين ..ذبُلا.. غابت منهما الحياة.. انظرى إلى هاتين الشفتين، كانتا كالكريز حتى بلا أحمر شفاه.. الآن تشققتا .. انظرى إلى هذه التجاعيد ..أسفل العينين.. فى العنق ( منتحبة متحسرة) هل أُريك صدرى يا أماه..( تشد فتحة صدر ملابسها كمن سيشق ثيابه) هل تحبين رؤية شباب ابنتك الغض. ذبل كل شىء يا أماه، وغاضت منه الحياة
الأم : ( تقترب منها أمها وتحاول احتضانها..تبتعد)  اعتبرينى مت يا أماه..من الآن أعلنى وفاتى، أو سأعلق أنا لافتة على صدرى أكتب عليها " هذه التى تسير أمامكم فى عداد الأموات( تهذى)  ميتة حية.. أو حية ميتة ، كما تحبون ، لا تحسبوا لى من بعد اليوم حسابا،(تصرخ ) أنا ميتة.. أنا ميتة ..يا أماه ( تبكى بحرقة..ترتمى فى حضن أمها).
(إظلام )
المشهد الثانى
( غرفة متوسطة الحجم فى مبنى الإدارة التعليمية،  متآكلة الجدران ، بها بضعة مكاتب مهترئة، مثبت على بابها لافتة صغيرة مكتوب عليها " غرفة المعلمين المقيمين " بها شباك يطل على ممر الإدارة ، وفى أحد أركانها تتراكم كمية كبيرة من علب الطباشير المخزنة لاحتياجات المدارس، تجلس مجموعة من المعلمين، يبدو عليهم الملل ، يحاول كل منهم أن يقتل الوقت بقراءة المطويات والكتيبات الدينية أو بالحديث مع الآخرين)
  مهدى: الحوافز تأخرت هذا الشهر .. ألا يعرف أحدكم متى سنصرفها ؟.
    واعر    :  العلم عند الله وحده يا أخ مهدى .
ليلى     :   فى الغالب ستصرف بعد إجازة عيد 6 أكتوبر .
واعر    :   ( غاضبا ) لا يوجد عيد اسمه 6 أكتوبر .. لدينا عيدان فقط ، عيد الفطر ، وعيد الأضحى، فلا تسايري البدع .
ليلى    :   لا تغضب سنصرفها بعد إجازة 6 أكتوبر ، أم تحب أن يلغوا الإجازة أيضا؟
واعر   :   وهل نعمل شيئا حتى نحصل على إجازة؟ نحن نجلس طوال اليوم على مدار السنة لا نفعل  شيئا أكثر من التوقيع فى دفتر الحضور والانصراف.
ليلى    : ليس ذنبنا أن الوزارة أبعدتنا عن التدريس ، كنت أحب التدريس والأطفال ..( تتأوه ألما ) لكن ما باليد حيلة .
مهدى   : لا يوجد أحسن من الراحة يا أبلة  ليلى ، ربنا نجدنا من صداع المدارس ، نحن هنا باشاوات ، أليس كذلك يا أستاذ عبد القاهر؟
عبد القاهر :  ( ينتبه من قراءته فى مطوية بها بعض الأدعية الدينية) الحمد لله على كل حال يا أستاذ  مهدى .
مهدى  :  الأستاذ واعر يريدنا أن نحضر للعمل حتى يوم إجازة 6 أكتوبر .
عبد القاهر  : إذا طلب منا ذلك سنفعل .
مهدى    :   ستذهب للكلية اليوم أم إجازة ؟
عبد القاهر: إجازة للمنتسبين أمثالنا ، وعموما..الحضور ليس إجباريا، المهم شراء الكتب.
مهدى  :  شد حيلك أنت فى السنة النهائية يا بطل .
عبد القاهر  : ربنا يسهل .
مهدى  : ربنا يوفقك .
واعر  : لا تدعو له يا أخ مهدى .. فهو يدرس لغة الكفار.
عبد القاهر: ( مدافعا عن نفسه) الرسول أمرنا بطلب العلم ولو فى الصين، والحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها .
واعر: لكنه لم يطلب منا أن ندرس لغة بريطانيا وأمريكا، الظلمة، الكفرة، المحتلين.
عبد القاهر  : على الأقل فهي بلاد تؤمن بوجود الله .
واعر: ( حانقا ثائرا) أغلبهم لا يؤمن بالله ، لكنهم مع ذلك يتخذونه وسيلة لنهب الشعوب.
مهدى:  يا أستاذ واعر ..الحاجة أم الاختراع ... سوق الدروس الخصوصية يطلب اللغة الإنجليزية ، فهل يذهب الأستاذ عبد القاهر ويتعلم الصينية؟
واعر: هو إذن لا يدرسها من أجل العلم ، يريد زينة الحياة ، يا أخى ادرس لغة تنفع بها إخوانك فى الإسلام، ادرس لغة الهوسا لتدعو الأفارقة للإسلام،أو ادرس لغات أسيا الوسطى ليستعيد أهلها إيمانهم بعد أن أضلتهم الشيوعية .
مهدى : لا تحمله هموم الدنيا يا أستاذ واعر ، الرجل يحتاج شقة وزوجة قبل أن يصل إلى سن المعاش .
واعر :  أشفق عليه يا أخ مهدى من ضياع ما تبقى من عمره فى تدريس لغة قوم خاسرين عند الله ، وكتبهم تطفح بالفسق والفجور.
مهدى : ( يحاول أن يجذبها للحديث ) ما رأيك يا أبلة ليلى فى الموضوع ؟
ليلى  : وهل بإمكاننا أن ندرس أية مادة ؟ أشك .. عقولنا تجمدت فى هذه الغرفة منذ سنوات ... فعلام الخلاف ؟! دعه يدرس ما يريد، فالنتيجة معروفة ،سنظل هنا إلى النهاية.
واعر  : سنرفع قضية لنعود للتدريس .
ليلى  : عن نفسى .. أنا نسيت كل المعلومات .. ولم يعد لدى أى استعداد لأن أقف فى فصل وسط تلاميذ مرة أخرى .
واعر : أفضل شىء يا أخت ليلى أن تبقى فى منزلك ، تهتمين ببيتك وأولادك .
    ( يبدو الأسى على وجه ليلى ، وكأنه نبش جرح لا يلتئم ، تسود فترة من الصمت المطبق الموحش ، يحس واعر باندفاعه وخطئه ).
مهدى    : أى بيت يا أخ واعر ؟! أنسيت أن الأبلة ليلى ما تزال مخطوبة؟! .
واعر  : آسف... نسيت.
مهدى : أنا عن نفسى لا أحب العودة للتدريس .
ليلى   : ولماذا ترفع قضية ؟
مهدى : لإثبات حقى وللحصول على التعويض . ولكن إذا حكم لصالحى، فلن أعود للمدارس .
ليلى   : وهل هذا جائز ؟
مهدى  : طبعا من حقنا .. والإدارة سترحب، ما رأيك يا أستاذ واعر ؟.
واعر  : يجب أن نعود للمدارس ، لنعلم الصغار أصول دينهم ، ونرشدهم إلى طريق الحق ، ونبعدهم عن مهاوى الضلال .
مهدى    : إذن سترفع معنا قضية ؟
واعر     : بالتأكيد .
مهدى    : وأنت يا أستاذ عبد القاهر ؟
عبد القاهر : نرفع قضية ضد من ؟
مهدى     : ضد الوزارة .
عبد القاهر : ( مرتبكا ) ضد الوزارة ؟! وهل نستطيع مواجهة الحكومة ؟
مهدى      : إذن لن تذهب معنا للمحامى ؟
عبد القاهر : لا أعرف
مهدى   :  ولماذا تتعب نفسك وتدرس الإنجليزية ؟ لمن ستدرسها ؟! لنا ؟! 
عبد القاهر : ربنا يغير الأحوال .
مهدى   :  لا يجب أن تضيع السنوات التى درستها هباء .. يجب أن تعود للتدريس لتندمج فى سوق الدروس الخصوصية.
عبد القاهر : يمكننى أن أُدرس لبعض التلاميذ فى المنازل .. ليس بالضرورة أن أكون مدرسهم بالمدرسة .
مهدى  :  غير صحيح .. التلميذ يذهب إلى بيت المدرس وعينه على درجات أعمال السنة ، والمعاملة المتميزة فى الفصل عن بقية زملائه .
واعر   : إذن هو يدفع رشوة للمدرس!
مهدى  : ليس بالضبط .. فهو على كل يحصل مقابل ماله على علم .
واعر  :  ودرجات ... ومعاملة متميزة. بدلا من أن يهتم المعلم بنشر كلمة الله ومحاربة الضلالات الموجودة فى المناهج .
عبد القاهر : على أى حال .. القضية تحتاج إلى مصاريف لا نطيقها .
مهدى  :  لا تقلق من هذه الناحية.
عبد القاهر : تكاليف المحاكم والمحاماة عالية.
مهدى   : لن ندفع شيئا ، سيتولى المحامى كل شىء ويحصل على أتعابه من التعويض الذى سنحصل عليه من الوزارة. وأعرف محاميا يتعاطف مع قضيتنا ولن يتردد.
عبد القاهر : أخشى إذا عدت قبل أن أنهى دراستى للغة الإنجليزية أن يعيدونى مرة أخرى لتدريس العلوم .
ليلى       : وما العيب فى تدريس العلوم ؟
عبد القاهر : تدريس العلوم بلا فائدة .. الدروس الخصوصية فيه محدودة .
مهدى    : يمكنك أن تطلب التحويل من تدريس العلوم إلى تدريس الإنجليزية ، وعلى كل حال، القضية قد  تستغرق سنوات .
عبد القاهر : قد يصعب التحويل وأنا قائم بالتدريس عن التحويل ونحن هنا بلا عمل .
واعر  : أمرك غريب يا آخى... تترك العلوم المليئة بالخرافات والبدع وإنكار قدرة الله والتركيز على ما يسمونه قانون الطبيعة ، وتتجه للإنجليزية لغة الكفار ..أنت خاسر ..خاسر.
عبد القاهر : الحياة صعبة يا أخ واعر (يخرج ورقة من جيبه ويكتب بعض الكلمات) .
مهدى   : وأنت يا أبلة ليلى.. ما رأيك فى رفع قضية؟
ليلى     : موافقة .. مع أننا هنا بعيدا عن المدارس وتعبها .
مهدى  : اكسبى القضية ولا تعودى للتدريس .( يدخل الساعى فجأة مسرعا مرتبكا )
الساعى  : انتبهوا ..مدير الإدارة يمر على المكاتب .
واعر     : ننتبه لماذا ؟! ثم أننا لا نخاف إلا من الله .
مهدى    : يريد أن يطمئن أننا ما نزال أحياء.
الساعى   : هل وقعتم فى دفتر الحضور والانصراف ؟
ليلى      :  وهل لنا وظيفة غير ذلك ؟
مهدى    : الإدارة تخشى أن ننسى كتابة أسمائنا .
الساعى   : أنا قمت بواجبى وبلغتكم ..أنتم أحرار.
مهدى    :  ( متهكما ) اطمئن .. الأوراق سليمة .
    ( يخرج الساعى ويدخل مدير الإدارة ومعه موظف يحمل دفترا ، يقف الجميع ماعدا واعر).
مدير الإدارة : السلام عليكم .
بعض المعلمين : ( ماعدا واعر) وعليكم السلام .
مدير الإدارة : ( ينتبه لواعر ) لماذا لا ترد السلام يا أستاذ واعر؟
واعر         : ( بحدة ) البعض رد وهذا يكفى.
مدير الإدارة   : هل وقعتم فى دفتر الحضور والانصراف ؟
مهدى       :  بالتأكيد يا أفندم .
مدير الإدارة : ( يتناول الدفتر من الموظف وينظر فيه ) مضبوط .. وأرجو أن تحافظوا على هذا الانضباط .. أنتم مراقبون من عدة جهات.
مهدى        :  نعدك بذلك يا أفندم .
مدير الإدارة  : هل تحتاجون لشىء ؟
مهدى        : لا يا أفندم .
مدير الإدارة  : وأنت يا أستاذ واعر ؟
واعر         : وماذا سنحتاج فى معتقل الطباشير هذا؟
مدير الإدارة  : لا توجد غرف أخرى لتخزين الطباشير .
واعر         : هو على كل حال مخزن لنا .. وللطباشير .
مدير الإدارة  : سنبحث عن مخزن آخر للطباشير ( يخرج ).
مهدى        : ( لائما ) يا أخى سلم أمرك لله .
واعر       : سوف نتحجر فى هذه الغرفة مثل هذا الطباشير .
مهدى      : وما العمل ؟
واعر        : ( ثائراً ) لا بد أن نرفع قضية .
مهدى        : بالتأكيد  سوف نرفع قضية .
         ( يدخل طارق بعد أن يطرق على الباب)
طارق      : السلام عليكم .
الجميع     : وعليكم السلام .
طارق      : أظن هذه غرفة المعلمين المقيمين؟
مهدى      : نعم ..هى .
 طارق     : أنا طارق عبد السلام  .. معلم جديد ، وقد طلبوا منى أن أنضم إليكم فى هذه الغرفة.
مهدى     : أهلا بالوارد الجديد.
واعر      : مُبعد جديد إلى معتقل الطباشير ؟
طارق      : بالضبط .( يضحكون جميعا فى أسى )                                           

( إظـــــلام )
المشهد الثالث
( المشهد السابق نفسه، المعلمون يجلسون فى صمت ، وقد أُضيف إليهم زميلهم الجديد طارق يبدو عليهم الملل والضيق، يحاول طارق أن يسلى نفسه ، يقف.. يتمشى فى الحجرة متوتراً ، يلاحظه الآخرون بإشفاق، يحاول مهدى أن يلاطفه )
مهدى  : اجلس يا أستاذ طارق ، اليوم طويل ، لا يمكنك أن تظل واقفا هكذا .
طارق  : ( متأففا ) وإذا بقيت جالسا لمدة ست ساعات بلا عمل أو حركة قد أصاب بالتجلط والشلل .
مهدى  :  اعتقدنا مثلك فى البداية ، لكن كما ترانا..تعودنا الفراغ والملل .
 طارق : يا للعبث .. وماذا أفعل هنا ؟
مهدى  : كما نفعل .
طارق  : وماذا تفعلون ؟
مهدى  : نجلس فى صمت .. وقد يمن الله علينا بموضوع نتجادل فيه .
طارق  : ولكننى مُدرس .. مكانى المدرسة.. لا هذه الغرفة .
مهدى  : هكذا قضت المشيئة .
طارق  : مشيئة من ؟
مهدى  : أنت أعلم وأدرى .
واعر  : ( يقترب من طارق ويأخذه جانبا ) أخ طارق .. يسعدنى أن أعرفك بنفسى .. أنا أخوك فى الله واعر عبد الجبار ، مدرس لغة عربية وتربية دينية إسلامية.
طارق  : أهلا وسهلا .
واعر  : ( بفخر ) وقد قضيت فى المعتقلات عدة سنوات .
طارق  : ( مندهشا ) لماذا ؟!
واعر  : لأنى من المجاهدين .. المعتقلات للمجاهدين .
طارق  : لا بد من سبب .
واعر  : سبب واه .. بتهمة أنى عضو فى الجماعة .
طارق  :  أية جماعة ؟ المتطرفة ؟!
واعر  : الصحيح أن تقول المجاهدة فى سبيل الله  من أجل إقامة شرعه .
طارق  : أين ؟
واعر  : فى بلدنا ..وكل بلاد المسلمين .
طارق  : بالقتل والرعب ؟!
واعر  : لا تردد هذه الأفكار.. نحن لا نتصدى إلا للكفرة .
طارق  : بالتخريب والإرهاب .
واعر  : ( ينظر إليه متشككا ) الأخ طارق عضو فى أى جماعة ؟
طارق  : ( مستنكرا ) جماعة ؟!
واعر  : نعم .. وإلا  فلماذا جئت إلى هنا ؟
طارق  : جئت بطريق الخطأ.
واعر  : أي خطأ ؟
طارق  : ابن عمي عضو في أحد التنظيمات ، ولكن لا علاقة لي بأفكاره .
واعر  : إذن أنت لا تنتمى لأى تنظيم ؟
طارق  : ( مستنكرا ) تنظيم؟ لا طبعا ..أنا ضد التنظيمات .
واعر  : ( بصوت مرتفع ) الأستاذ لا ينتمى لأى تنظيم ..بل هو ضد التنظيمات .. هل  سمعت يا شيخ مهدى ؟
مهدى  : ربنا يهديه وينضم للإخوة .
واعر  : بل ينضم للجماعة الذين لا تأخذهم فى الحق رأفة.
طارق  : مالكما تتقاذفانى ككرة ؟ أنا لن أنضم لأى تنظيم ؟
واعر  : الله يهدى من يشاء.
طارق  : أنا موجود هنا بشكل خاطىء وسأرجع للمدارس فى أقرب وقت .
واعر  : هل تعتقد ذلك حقاً ؟
طارق  : أنا لست مسئولا عن ابن عمى .
مهدى  : أنت حالم يا أستاذ طارق .
ليلى    : كان غيرك أشطر يا أستاذ .
طارق  : حضرتك عضوة فى تنظيم ؟
ليلى    : ( تضحك بأسى ) أبدا .
مهدى  : خطيبها كان عضوا فى تنظيم ومعتقل حاليا.
طارق  : وما شأنها ؟ 
مهدى  : شأنها أنها خطيبته .. قد تصاب بالعدوى .
ليلى   : ( بسخرية ) مثلما يمكن أن تصاب أنت بالعدوى من ابن عمك .
طارق  : لا شأن لى بآرائه ..أنا لست مسئولا عنه.
واعر  : لا تقولوا العدوى .. قولوا الهداية .
ليلى   : اتفقنا على رفع قضية ضد الوزارة لنعود للتدريس .. ما رأيك ؟
طارق : لماذا أرفع قضية؟! .. أنا هنا بقرار خاطىء.
       ( يضحك الجميع ماعدا عبد القاهر المشغول بالقراءة )
ليلى  : اسمع الكلام أحسن لك .
طارق : ( يجلس وهو لا يصدق ما يسمع ) لا بد أن هناك خطأ ما ..لا يمكن أن أبقى هنا .
مهدى : هدىء أعصابك .. ولا تفسر كل شىء بالعقل ( يجلس طارق مستسلماً ، يبدو عليه التوتر والقلق ، لا يدرى ماذا يفعل ، يدس يديه فى جيبه تارة ، وتارة يضعهما على المكتب، يقترب منه واعر ، ويخرج عدة كتيبات من كيس بلاستيك )
واعر  : اقرأ هذه الكتب وسنتناقش فيها .. والله الهادى .
طارق : ( يتناولها )  شكرا .. كم سعرها ؟
واعر  : هى هبة يجود بها المحسنون .
طارق : (  يتصفح عناوينها )  سوف أقرأها.
واعر :  ربنا يهديك .
مهدى : هل سترفع معنا قضية ؟
طارق : لا أعرف.. لا أظن الأمر يحتاج لقضية .
مهدى : بل لا أمل دون رفع قضية .
طارق : لا مانع من حيث المبدأ.
واعر  : ما زلت تصر على وجود خطأ ما.
طارق : عندى أمل .
مهدى : على كل .. أُضيف إلينا صوت جديد .. وأنت يا أستاذ عبد القاهر ..ما رأيك ؟
عبد القاهر : ( ينتبه من القراءة ) لا مانع يا أخ مهدى .. يد الله مع الجماعة .
مهدى  : إذن اتفقنا .( يدخل الساعى يحمل كوبا )
الساعى : الليمون يا أستاذ طارق ..اليوم على حسابى .
مهدى : طبعا .. رشوة تأسر بها زبونا دائما.
الساعى : بل واجب ضيافة وترحيب ..( ثم كمن تذكر شيئا ) على فكرة ..انضمت إليكم أستاذة جديدة .
ليلى : ( مسرورة ) وأين هى ؟
الساعى : بالخارج تنتظر الدخول . ( تتطلع وجوههم نحو الباب، ينادى الساعى بصوت مرتفع) تفضلى  يا أبلة هدى .
   ( تدخل هدى فى نقاب أسود كامل ، لا يظهر منه سوى عينيها )

(  إظـــــلام )
المشهد الرابع
(المشهد السابق نفسه ، مع تغيير فى الحائط المواجه للجمهور ، حيث تم طلاء جزء منه باللون الأسود ، ليكون بمثابة سبورة صغيرة ، ونرى الغرفة وقد ازدادت ازدحاما ولم تعد المكاتب تكفى المعلمين، فيجلسون بعشوائية ، منحرفين قليلا  ليروا السبورة كأنهم فى فصل دراسى ، يتجه واعر إلى كراتين الطباشير ويتناول أصبعا من الطباشير ويتجه للسبورة )
واعر : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته .. أيها الأخوة والأخوات .. نبدأ اليوم مرحلة جديدة من الجهاد ، تقوم على نشر العلم لإعلاء كلمة الله بتوفيق من الله .. وقد أعددنا هذه السبورة لنسجل ونشرح عليها ما يغمض علينا من أفكار .
مهدى : ولن نحتاج إلى شراء الطباشير.
واعر : لن نحمل هما من هذه الناحية .. أما المحاضرات فسيتولى الإخوة إلقاءها..ولن أتأخر عن نفسى فى بذل الجهد من أجل التنظيم أو إلقاء المحاضرات إذا طلبتم منى ذلك .
طارق : فرصة طيبة لنجدد عقولنا قبل أن يأكلها الصدأ.
مهدى : عقولنا تحجرت منذ زمن .
طارق : وما الموضوعات التى سنناقشها ؟
واعر : الموضوعات الدينية طبعا يا أخ طارق .. أم تعتقد خلاف ذلك لا سمح الله ؟
طارق : توجد قضايا كثيرة تحتاج للمناقشة .
 واعر : مثل ماذا ؟
طارق : مثل قضية المرأة ، إصلاح التعليم ، الديموقراطية ، التوجه الاقتصادى الاشتراكى أم الرأسمالى .
واعر : ( مقاطعا ) ليس لنا علاقة بهذه المذاهب الدخيلة.
طارق : ( مستمرا ) أو نناقش العولمة وأثرها على بلدنا وثقافتنا واقتصادنا .
واعر  : الدين لم يترك صغيرة ولا كبيرة إلا أحصاها.
طارق : ليس بالضرورة أن نناقش كل مسألة من منظور دينى
واعر  : استغفر الله ..الدين هو منبع كل علم وثقافة.
طارق : أنت تصادر على فكرنا حتى قبل أن نبدأ الدروس. مع أن الهدف هو تجديد أفكارنا .
واعر : طبعا .. تجديد فكرنا الدينى وتقوية إيماننا .
مهدى : يا جماعة دعونا من الجدل الآن .. ولنبدأ بإلقاء أول محاضرة . تفضل يا شيخ واعر ..ما موضوع محاضرة اليوم ؟
واعر : مع أنى أعترض على حضور السيدات مع الرجال فى نفس القاعة، لكن لا مفر..الضرورات تبيح المحظورات ..وقد نناقش هذه القضية مستقبلا  ونضع لها الحل .                              
          ( يغير لهجته ويتقمص لهجة المعلم الواعظ ) سأحدثكم اليوم عن قضية من أعقد قضايانا وهى قضية الأقصى  .. قضية القدس .
مهدى : الله أكبر ..تلك قضية الساعة يا أخ واعر .. أليس كذلك يا أستاذ عبد القاهر؟
عبد القاهر: ( ينتبه من القراءة) موضوع جيد .. زادك الله من علمه .
مهدى : ( ضاحكا) لست أنا الذى سألقى المحاضرة .. دائما أنت شارد .
واعر : ( يكتب على السبورة العنوان " أنقذوا الأقصى"  ثم يشرح ) تعلمون أن القدس يحتلها اليهود وهم شعب ملعون إلى يوم الدين .
طارق : تقصد يهود إسرائيل ؟
واعر : كل اليهود  .. إسرائيل وخارج إسرائيل .
طارق : لكن مشكلتنا مع يهود إسرائيل .
واعر : اليهود شعب ملعون حتى قبل أن يحتلوا فلسطين ، وعلى كل حال اليهود خارج إسرائيل يساعدونها بالمال والسلاح وكل معونة.
طارق : رغم ذلك لا يجب أن نعمم ونكره اليهود على أساس عنصرى .
مهدى : اسكت يا أستاذ طارق ودعه يكمل .. فتح الله عليك يا شيخ واعر  .. استمر .
هدى  : فتح الله عليك يا شيخ واعر ..اليهود كتب الله عليهم اللعنة والضلال والتشرد إلى يوم الدين .
مهدى : بارك الله فيك وفى أمثالك يا أبلة هدى .
هدى  : ( تنتشى بالمديح ) وسوف يبوءون بغضب من الله فى الدنيا والآخرة .. لأنهم أعداء الله وقتلة الأنبياء.
واعر : حقا يا أختاه هم شعب مخادع محتال فى كل زمان . لا يتورعون عن إلقاء الأحجار على رؤوس ضيوفهم .
طارق : بين اليهود من يؤمن بالتسامح والسلام وحق الفلسطينيين فى بلدهم .
واعر : هؤلاء شرذمة قليلة من العلمانيين الكفرة .
طارق : لكنهم يؤيدون الحق .
واعر : نحن لا نستعين بتأييد الكفرة .
طارق : لا يمكن أن تصنف البشر إلى قسمين :مؤمن وكافر.. خير وشرير .
واعر : اليهود ليسوا بشرا .. هم قردة وخنازير .
طارق : لا بد أن فيهم الخير والشرير .
واعر : أنت واهم .. هم قردة سخطهم الله .
طارق : هل تؤمن بنظرية التطور العكسى ؟
واعر : ( مرتبكا) وما هذا التطور العكسى ؟
طارق :  دارون قال إن الكائنات تتطور وترتقى فى وظائفها .. ويوجد رأى مخالف يقول إن التطور فى بعض الكائنات قد يحدث عكسيا .. فيرتد من فى مرتبة أعلى إلى مرتبة أدنى .
واعر : هذا بالضبط ما حدث لليهود فقد غضب الله على فئات منهم فسخطها إلى حيوانات قذرة .
طارق : إذن أنت تؤمن بدارون وبنظريات العلم .
واعر : ( غاضبا ) دارون ؟ عليه لعنة الله ..أنا أؤمن بالقرآن والسُنة وما ورد بهما من علم أحصى كل شىء.  وقد قرأت حديثا للرسول ( ص) يقول ما معناه إن الله غضب على قوم من اليهود فسخطهم إلى فئران .
طارق : قردة أم فئران ؟
واعر : كلاهما .
طارق :  هذا كلام فارغ .
واعر : ( محتدا ) أتستهزئ بحديث الرسول ؟
طارق :  لا يمكن أن يقول الرسول كلاما كهذا .
واعر : أنا لا أكذب على الرسول .
طارق : قد يكون المقصود هو المعنى المجازى .. أو قد يكون الحديث نفسه موضوع ضعيف...ما رأيك يا أستاذ عبد القاهر ؟ أنت متخصص فى العلوم .
عبد القاهر : ( مترددا ) إذا كان الرسول ( ص) قد قال ذلك فلا شك فى كلامه .
واعر : سوف أحضر لكم الكتاب الذى به الحديث  .
طارق :  يقول مثل صينى " إذا كنت ستصدق كل ما تقرأه ،  فمن الأفضل ألا تقرأ " وما تقوله عبث سخيف .. الفأر والقرد موجودان قبل كل الأديان .
واعر : إذن أنت تُكذب ما أقول .
طارق : بل أقول إنك فهمت الأمور بشكل خاطىء.
واعر : (ثائرا ويهاجم طارق ويقبض على ملابسه ) أنت تُكذب القرآن والرسول .. وتتهمنى بعدم الفهم .. من أنت ؟ اخرج من هنا يا كافر. ( يسود الهرج فى الغرفة .. يتدخل الآخرون لفض الاشتباك )
مهدى : وحدوا الله يا جماعة .
ليلى : النقاش لا يمكن أن يكون بهذا الشكل .. لقد تحولت الغرفة إلى ساحة قتال .. يبدو أن الصمت أفضل من الكلام .
مهدى : يكفى هذا اليوم يا أستاذ واعر .. دعنا ننصرف .. هيا يا أستاذ عبد القاهر .. ذاكر فى البيت ( يجمع عبد القاهر كتبه ويخرج ويليه واعر وطارق )
هدى  : سوف أنصرف يا أخت ليلى.. هل تأتين معى؟
ليلى : لدى كشف بأسماء الموظفين سأكتبه وأنصرف .      ( تخرج هدى ولا يبقى سوى مهدى وليلى التى تنكب على الورق وتكتب ، يتأملها مهدى بنهم )
مهدى : ( يقترب من ليلى ) هل تحتاجين إلى مساعدة يا أخت ليلى ؟
ليلى   : ( ترفع رأسها قليلا لتراقبه ) لا .. شكراً.
مهدى : يد الله مع الجماعة ( يقترب أكثر ) دعينى أكتب عنك هذه القائمة ( يمد يده ويقبض على يدها وهى تكتب .. تنتفض مفزوعة)
ليلى   : ماذا تفعل يا أستاذ مهدى ؟
مهدى : ( يميل نحوها ) أريد أن أساعدك .
ليلى   :  ( خائفة) ارفع يدك .
مهدى : ( برقة ) لا يمكن أن أترك هذه اليد البضة الناعمة.. تكد وتتعب .
ليلى   : ( تهب ثائرة وتسحب يدها ) هل جننت ؟!
مهدى : نعم .. جننت بجمالك .
ليلى   :  ألا تستحى ؟
مهدى : مم ؟
ليلى   :  مما فعلت .. من الله ..من سنك .. من لحيتك .
مهدى : يعلم الله أنى لا أريدك سوى فى الحلال .
ليلى   : اخرس .. أنت متزوج ..وأنا متزوجة .. فعن أى حلال تتحدث ؟
مهدى : ( بتشف ووقاحة ) تقصدين متزوجة مع وقف التنفيذ.
ليلى   : سافل .. منحط .
مهدى : وأنت رائعة .
ليلى   : ( تهم بالانصراف . يحاول منعها .. تدفعه بقسوة ) سافل .. وقح .
( إظــــــــلام )
المشهد الخامس
    (المشهد السابق نفسه، يخيم على الحجرة جو من التوتر الصامت ...الجميع قلقون متوترون يعانون الملل ، وينعكس ذلك فى شكل تصرفات لا إرادية  )
مهدى : ( يحاول كسر الملل والوجوم ) ذهبت إلى المحامى أمس وأخبرني انه بدأ إجراءات رفع القضية . ( لا يعلق أحد على كلامه كأنهم يخشون الكلام ) ما لكم يا جماعة ؟ ماذا حدث ؟ ما رأيك يا أستاذ عبد القاهر ؟ .
عبد القاهر : موافق يا أستاذ مهدى .. على بركة الله .
مهدى : والأخت هدى ؟
هدى  : موافقة .. أنا لم أتعلم لأجلس فى هذا المخزن .
واعر : قصدك معتقل الطباشير .
مهدى : يبدو أن الأبلة هدى متحمسة للتدريس .
هدى  : طبعا .. سعادتى أن أكون بين الأطفال .
مهدى : حضرتك مدرسة ابتدائي أم إعدادى ؟
هدى   : ابتدائى .
مهدى : وتخصصك ؟
هدى   : رياضيات .
واعر : الأفضل أن تتخصصى فى اللغة العربية أو التدبير المنزلى .
هدى  : لكنى أحب الرياضيات .
واعر : تدريس لغة الإسلام وأحكامه ثواب لا يقارن  .
هدى  : على كل حال ..لا أنا درست رياضيات ولا موسيقى ..أنا وظفت فى هذا المخزن .
طارق : شىء محزن ، الحكومة تعيننا ثم تحيلنا إلى هذا المعتقل بلا عمل .
مهدى : لا يمكن قانونا أن تمنعكم من التعيين ، لأن الشروط تنطبق عليكم..ولكنها تستطيع إبعادكم عن المدارس.
واعر : قانون وضعى ظالم .
طارق : لكنه على الأقل ضمن لك التعيين ، وعلى حد علمى لا يوجد قانون دينى للتعيينات .
واعر : لا تخاطبنى .. ليس بينى وبينك حديث .
هدى  : وهل تحتاج القضية لدفع أتعاب للمحامى ؟
مهدى : لا.. المحامى سيتولى كل شىء ..ثم يحصل على أتعابه من التعويض الذى سنحصل عليه.
طارق : ولكن كيف تُدرسين يا أستاذة هدى وأنت بهذا النقاب؟
هدى  : ( غاضبة ) وما العيب فى هذا ؟
طارق : المعلم ليس مذياعا يبث معلومات .
واعر : هو إذن أراجوز يعرض نفسه على الناس ..أو عارضة أزياء خليعة.
طارق : بل هو دفقة من المشاعر والأحاسيس النابضة والفكر الحى والتفاعل الخلاق ، وهو يعبر عن ذلك بصوته وملامحه وحركاته وسكناته ، ينفعل مع ما يستوجب الانفعال ، ويرتسم ذلك على هيئته ، يثيب تلاميذه بابتسامة قد تغنى عن كل تشجيع، ويزجرهم بنظرة قد تغنى عن كل عقاب ، أما أن يدخل عليهم الفصل بملابس قاتمة ووجه.....
واعر : ( مقاطعا بحدة) الزم حدود الأدب يا أستاذ .
طارق : أنا لم أوجه إليك الحديث .
واعر : أنت تشط فى أمور الدين .. وهى تمسنا جميعا .
طارق : من عينك وصيا على الدين ؟
واعر : واجبى أن أنهى عن المنكر بكل السبل.
طارق : أنا أتحدث عن الجانب التربوى .
واعر : لا تربية بلا دين .
طارق : صحيح .. لا تربية بلا دين حقيقى.
واعر : تقصد كما تحب أن تفسره على هواك .
طارق : الموضوعات الدنيوية قابلة للرأى والاجتهاد.
واعر : الاجتهاد الذى يلوى عنق الحقائق لتتلاءم مع أفكارك الغربية الشيطانية .
طارق : بل لاستيعاب متغيرات الزمان والمكان .
واعر : أنا لن أناقشك .. لقد مللت حواراتك.
مهدى : وحدوا الله .
عدة أصوات : لا إله إلا الله .
ليلى  : ألا يوجد درس اليوم ؟ ..لم نستفد شيئا من السبورة .
واعر : ( محتدا ) لقد أفسد هذا الدخيل مجلسنا . ولا أدرى لماذا أتوا به إلى هنا ؟
طارق : أتظننى مخبرا ؟
واعر : لا أستبعد هذا .. فمكانك ليس هنا .
طارق : بل أنا ضحية مثلكم بلا ثمن .. أنا هنا بسبب ابن عم لم أقابله إلا فى بعض المناسبات.
واعر : وجودك فى المدارس خطر على النشء.
طارق : ( ضاحكا ) هذا يقال عنكم أيضا ، لكن لا أظن الفكر المستنير يمثل خطراً.
واعر : فكرك ضال مستورد من أوربا وأمريكا .. منبع الضلال والاستغلال .
طارق : الفكر والحرية طبيعة بشرية وليس اختراعا غربيا.
واعر : الانحلال اختراع غربى .
طارق :  من صنع كل هذا التقدم لا يمكن أن يكون منحلا .
واعر : لا تخدعنك مظاهر الحياة .. السوس ينخر فى جسد حضارتك المعبودة .
مهدى : هذا صحيح .. فأعلى نسبة انتحار فى الغرب رغم الثراء .
واعر : ضعف الإيمان وإحساسهم بالضياع .
مهدى : لو لديهم ذرة من الإيمان ما انتحروا .
طارق : لكن لديهم أيضا أعلى متوسط أعمار فى البشر.
واعر : الأعمار بيد الله .
طارق : الرعاية الصحية والمعيشة الجيدة ، يرفعان معدل الحياة.
واعر : لا تكفر ..كل شىء مكتوب قبل أن يولد الإنسان .
ليلى :  طبعا .. لكل أجل كتاب .
طارق : كما صنعوا المعجزات العلمية الخارقة .
واعر : كل النظريات العلمية موجودة فى القرآن الكريم .
مهدى : ( يهم بالانصراف) كفانا اليوم جدلا ..لدى بعض الأعمال الخاصة .
واعر : خذنى معك..لا أطيق البقاء فى هذا المكان .( يخرجان ويتبعهما طارق وعبد القاهر)
ليلى : نورت المكان يا أخت هدى .
هدى : ( وهى تزيل النقاب ) حفظك الله يا أخت ليلى .
ليلى : مسكنك قريب من هنا ؟
هدى : نعم .
ليلى : متزوجة .
هدى : لا .
ليلى : مخطوبة ؟
هدى : لم يأذن الله بعد .
ليلى : ربنا يرزقك بابن الحلال .
هدى : ظروف الحياة صعبة .
ليلى :  وأصحاب الأخلاق الطيبة أندر من العملة الصعبة . وعلى كل.. ربما تجدين نصيبك فى هذه الغرفة.
هدى : ( تحس أن لدى ليلى المزيد ) الله أعلم .
ليلى : أقصد واعر .. لقد لاحظت أنه ينظر إليك نظرات ذات مغزى .
هدى : ( تغير الموضوع ) وحضرتك هنا منذ متى ؟
ليلى : منذ سنوات .. لقد توقفت عن عد الأيام والسنين .
هدى : ربنا يبارك فى أولادك .
ليلى : ( بأسى) أولادى ؟ أين هم ؟
هدى : ألست متزوجة ؟
ليلى : متزوجة وغير متزوجة .
هدى : كيف ؟
ليلى : زوجى أو خطيبى فى المعتقل ..دخل المعتقل بعد كتب الكتاب .. منذ أكثر من عشر سنوات .
هدى : وما زلت تنتظرينه ؟!
ليلى : وما العمل ؟
هدى : ونعم الوفاء .. ألا يوجد أمل قريب فى خروجه ؟
ليلى : ( يتحشرج صوتها بالبكاء ) الأمل هو الشىء الوحيد الباقى .. وأنا لا أملك سوى الانتظار .
هدى : سيخرج يوما ويقدر وفاءك النبيل.
ليلى : ( تبكى ) ومتى يأتى هذا اليوم ؟
هدى : دعى أملك فى الله ، وسوف يعوض صبرك.
ليلى : العمر يتسرب يوما وراء الآخر .. شبابى يضيع ..والانتظار يقتلنى .
       ( تجهش بالبكاء ، تقترب هدى منها وتربت عليها )
هدى : لا تفعلى هذا بنفسك .
ليلى : أنا أحترق كل ساعة ..لا تمر ليلة إلا وأذرف الدموع سيلا ..ضعف نظرى من البكاء ، وبح صوتى فى المناجاة والدعاء .
هدى : لكل ليل آخر .. ولكل عقدة حل .
         ( يزداد نحيب ليلى .. تحاول هدى تهدئتها )
( ستـــــار )
 الفصل الثانى
 المشهد الأول
      (المشهد السابق نفسه ..المعلمون على مكاتبهم ومنهم من ينفض الغبار من على الكراسى والمكاتب )
مهدى : ( وهو ينفض ) ألن يرحمنا الله من هذا الغبار ؟.
واعر : هذا الطباشير سوف يخنقنا فى النهاية .
مهدى :هل سمعتم عن موضوع الكادر الخاص للمعلمين ؟
واعر : كذبة جديدة يضحكون بها على المعلمين .
طارق : إذا تم سيكون خطوة جيدة على سبيل إصلاح التعليم وحال المعلمين البائس.
واعر : هذه الحكومة لا يمكن أن تعطى للناس شيئا يصلح أحوالهم ..هدفها إفقار الناس وإذلالهم .
مهدى : هى خطوة ندعو الله أن تتم يا أخ واعر .
واعر : لا تتفاءلوا كثيرا بالكلام .
مهدى : حال المعلمين يرثى له .
طارق : ولا يمكن أن نصلح حال التعليم إلا إذا بدأنا بالمعلم .
ليلى  : طبعا.. المعلم هو الأساس .
واعر : لا يوجد قانون لا يفرغ من محتواه.. انتظروا وسترون .
طارق : مجرد طرح الموضوع خطوة جيدة نحو الإصلاح والاعتراف بوجود خلل .
مهدى : ربنا يصلح الحال .. نريد أن نتنفس .
واعر : لكن أنت عندك محل تجارى يا أستاذ مهدى ..حالك أحسن من غيرك .
مهدى : كله من فضل الله .. لم تكن أمامى حيلة لأعيش مستورا سوى التجارة .. فأنا مقيم فى الإدارة ..أى لا دروس خصوصية ولا مجموعات دراسية ..وأنتم تعرفون المرتب.
طارق : أمر مؤسف حقا أن يتعلم الإنسان فى الجامعة ويحصل على 120 جنيه فى الشهر .
هدى  : والمضحك إنهم يخصمون من المتعاقدين أيام الجمع والأجازات .
طارق : يعاملون المعلمين بنفس الطريقة التى يعاملون بها أطفال جمع اللطع من القطن. يضحك الجميع )
مهدى : الحكومة تخشى على المعلمين من فتنة كنز الأموال والعياذ بالله ، لذلك فمرتب المعلم أقل من مرتب الكمسارية أو صبيان الورش .
طارق : مهنة سامية يهوون بها إلى الحضيض .
مهدى : ولذلك يضطر كثير من المعلمين إلى العمل فى مهن شاقة لا علاقة لها بالتدريس ، بعضهم يعمل فى البناء أو الخياطة أو الفلاحة أو تجارة المواشى أو باعة متجولين.
طارق : وطبعا دخله من هذه المهن أعلى من وظيفته .
مهدى : بالتأكيد .. والمؤسف أن يجد التلميذ معلمه يعمل معه فى حمل الطوب والإسمنت .
طارق : لذلك فهو يأتى للمدرسة وهو كاره لها ، يريد أن يهرب منها ولو بالقفز من فوق الأسوار .
واعر : لا تتفاءلوا كثيرا .. ألم تسمعوا عن تعديلات المادة الدستورية التى ظلوا يهللون لها الليل والنهار؟ .
طارق : أُفرغت فعلا من محتواها .
مهدى : هل ذهبت للاستفتاء عن هذه المادة يا أستاذ طارق ؟
طارق : ذهبت بالطبع .
مهدى : وما رأيك ؟
طارق : كان الاستفتاء دعوة رسمية كريمة على مستوى راق ؛ لتعليم الناس فنون النصب والاحتيال والتزوير.
ليلى  : ما الفرق بين الاستفتاء والاستهزاء ؟. ( يضحكون جميعا )
طارق : وأنت يا أستاذ عبد القاهر ألم تذهب ؟
عبد القاهر : ( يفيق من ثباته ) عاهدت نفسى ألا أذهب إلى أى استفتاء أو انتخاب ، وأغلقت كل منفذ يمكن أن تتسلل منه السياسة إلىّ .
مهدى : ( ضاحكا ) على غرار مذهب لعن الله ساس ويسوس..
طارق : لكن حياتنا كلها سياسة .
عبد القاهر : أعتبرنى خارج الحياة . ( يضحكون،يخرج ورقة من جيبه ويكتب بعض الكلمات) .
واعر   : ماذا تكتب فى هذه الورقة ، ألا تمل من الكتابة؟!
عبد القاهر : ( يرتبك، يدس الورقة فى جيبه ) أراجع بعض المعلومات التى أدرسها.
مهدى : لكن لماذا نعترض وقد شارك المعلمون أنفسهم فى جريمة تزوير الانتخابات .
طارق : كيف ؟
مهدى : كان معظم المشرفين على اللجان الانتخابية من المعلمين .
طارق : القاضى تحميه الحصانة أما المعلم فلا معين له .
ليلى  : المهم فى هذا الموضوع هل سيشملنا الكادر ..أقصد المعلمين المبعدين عن التدريس أمثالنا . ( يسود الصمت .. ينظر المعلمون لبعضهم كأنهم بوغتوا بالسؤال )
مهدى : بالتأكيد سيشملنا .. ألسنا معلمون ؟
طارق : بلى .. لكن مع وقف التنفيذ .
ليلى  : يقولون لن يحصل عليه إلا المعلم الذى يمسك الطباشير.
طارق : لدينا مخزن طباشير بأكمله.
مهدى : ليحمل كل منا كرتونة طباشير بأكملها ( يهم ويتناول علب طباشير من ركن الغرفة ويوزعها على المعلمين) الآن ..كلنا يحمل الطباشير.
ليلى  : يجب أن نسرع بإجراءات القضية لنعود للمدارس .
مهدى : أنا عن نفسى لن أعود للمدارس حتى لو حرمت من الكادر..التجارة أربح من مائة كادر .
واعر : هى قضية يشغلون الناس بها فترة من الزمن .
مهدى : سنظل مع الكذاب حتى الباب .
طارق : الأمر فعلا خطير ويحتاج إلى إصلاح عاجل ، وإصلاح حال المعلمين ليس أمرا كماليا ، فالمليارات تنهب أو تنفق على مشروعات فاشلة ، أما إصلاح حال المعلم فمردوده مضمون .
واعر : سوف يعطوننا بضعة جنيهات وبشروط تعجيزية .
هدى  : أليس للمعلمين نقابة تدافع عنهم ؟
طارق : بلى.. لديهم نقابة ضخمة .
واعر : نقابة جثة تنتظر الدفن .
هدى :  لماذا لا تقدم طلبات المعلمين للحكومة ؟
واعر : لأن النقابة هى الحكومة .
طارق : المعلمون قوة إذا اتحدوا وامتلكوا الوعى والإرادة .
واعر : لن توحدهم إلا العقيدة الخالصة ثم ينطلقون إلى التغيير
عبد القاهر : يا جماعة غيروا الموضوع أليس لديكم إلا هذه القضايا التى تسلمنا للمعتقل ؟!
واعر : على أى شىء تخشى ؟
عبد القاهر : أن يضيع ما تبقى من عمر وراء جدران باردة باهتة ، وأن يتحطم ما بقى فى النفس الكسيرة الجريحة .. أنا سأترك المكان .. أنتم تدفعوننا إلى الهاوية.( يخرج)
مهدى : مسكين بائس ..عانى كثيرا .
واعر : بل متخاذل.. تحطم وانسحب من أول اختبار وباع كل مبدأ .
مهدى : أنهكته الحياة فى المعتقل .. وعانى أكثر لما تكبدته أمه من آلام .
طارق : الحياة إعصار يتقاذفنا ويدفعنا أحيانا إلى وجهات لم نكن لنرتادها .
واعر : ( يتجه نحو ليلى ويحدثها بصوت منخفض ) أخت ليلى أريد أن أكلمك فى موضوع خاص ..فهل يمكن أن نبتعد قليلا ( تقف وتتجه معه نحو ركن الغرفة ) ما رأيك فى الأخت هدى ؟
ليلى : ( تبتسم لصدق توقعاتها ) هدى ؟
واعر : نعم .
ليلى : أخت فاضلة ..لكن ما غرضك من السؤال ؟
واعر : تعلمين أنى غير متزوج .. وأبحث عن أخت فاضلة .. فهل هى مرتبطة ؟
ليلى :  أبدا .. لكن هل أنت جاد ؟
واعر : ( بغضب ) أنا لا أهزل فى هذه الأمور .. وأرجو أن تأخذى رأيها .
ليلى : سأفعل لا تقلق .
مهدى : ( وهو يتابعهم بعينيه ) آن وقت الانصراف ..( يتجه نحو ليلى ويحدثها بصوت هامس ) تحلين للناس مشاكلهم وتبقى مشكلتك بلا حل ..إلى متى انتظر ؟ ( تنظر ليلى إليه باشمئزاز وتبتعد عنه ، ينصرف المعلمون تباعا وعندما تهم هدى بالانصراف تناديها ليلى )
ليلى : هدى .. انتظرى قليلا .
هدى : ( وهى تنزع النقاب ) خيراً ؟
ليلى : صدق ظنى .
هدى : صدق ظنك ؟ من أى ناحية ؟
ليلى : من ناحية واعر .. قلت إنه ينظر إليك نظرات ذات معنى ..وقد صدق ظنى .
هدى : وكيف يسمح لنفسه بذلك ؟ .. ألا يستحى ؟
ليلى : على كل حال هو يريد الزواج .
هدى : ( تتظاهر باللامبالاة ) وما شأنى ؟
ليلى : بل هو أخص شأنك  .. لأنك العروس المرشحة . لقد طلب منى أن أسالك عن رأيك .
هدى : رأيى ؟ هكذا مرة واحدة .
ليلى : ( تقلدها ) هكذا مرة واحدة .. نعم ..أم تريدينه أن يتقدم إليك بالتقسيط المريح .
هدى : الأمر يحتاج إلى تفكير.                                                        
           -   إظلام  -
المشهد الثانى
      (المشهد السابق نفسه ، يجلس المعلمون كعادتهم فى الصباح صامتين ، لا يجدون ما يناقشونه .. يدخل طارق وهو يحمل نتيجة التقويم للعام الميلادى الجديد )
طارق : (متهللا ) صباح الخير .
عدة أصوات : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
واعر : (غاضبا) ما صباح الخير هذه ؟ قل السلام عليكم كما نبهنا عليك من قبل .
طارق : ( يحاول تجنب الشجار) السلام عليكم ..لا تغضب .
واعر : أنت تستخف بنا .
طارق : ليس لدى اليوم استعداد للمناقرة.. كل عام وأنتم بخير.
هدى : وما المناسبة ؟
واعر : ( ينظر إليها بغضب لحديثها مع طارق ) لا تهتمى بما يقول .
طارق : اليوم بدء العام الميلادى الجديد .. هل نسيتم ؟
مهدى : الدنيا تشغلنا بهمومها .
واعر : وما علاقتنا بالعام الميلادى ؟!
طارق : ( متعجبا) الدنيا كلها تحتفل بالعام الميلادى ..ألسنا جزءا من البشر ؟ وقد جئت إليكم بتقويم العام الميلادى الجديد ، لنعلم منه أجازاتنا وأعيادنا الدينية والوطنية ومرتباتنا وحوافزنا .
واعر : اذهب بهذه النتيجة لا تعلقها هنا ، لا يوجد شىء اسمه العام الميلادى ..وأعيادنا الوطنية كلام فارغ .
طارق : ليس فى هذا ما يخالف الدين .
واعر : يكفى أنه تقويم أفرنجى مستورد من بلاد الكفار .
طارق : لعلمك هذا التقويم أصله مصرى فرعونى .
واعر : (مستهجنا) أعوذ بالله .
طارق : من الفراعنة ؟!
واعر : كفرة ..آذوا نبى الله وحلت عليهم اللعنة.
طارق : (يضحك) أنت تتحدث عن نفسك ..ألست مصريا ؟
واعر : أنا مسلم وكفى ..نحن بريئون من الفراعنة .
طارق : لكن تاريخ الفراعنة يفخر به كل مصرى وإنسان .
واعر : يفخر بمن غضب الله عليهم ..وأغرقهم بقدرته ؟!.
طارق : ما تتحدث عنه شخص واحد وليس كل الفراعنة الذين يمتد تاريخهم آلاف السنين .
واعر : كلهم عبدة الحكام والأصنام .
طارق :على كل حال فرعون حرر بلده من اليهود الذين تكرههم ، أما نحن اليوم فنعجز عن فعل شىء إزاء همجية إسرائيل .
واعر : لكن فرعونك هذا، آذى نبى الله وطغى فى الأرض وتكبر ..فأغرقه الله .
طارق : أى فرعون ؟ وفى أى بحر ؟ 
واعر : الله أعلم .. لا تعلق هذه النتيجة هنا..سأمزقها . سوف نحضر نتيجة إسلامية تعتمد التقويم الهجرى عند مطلع العام الهجرى .
طارق : ( يشير إلى أوراق النتيجة ) التقويم الهجرى موجود هنا أيضا .. بجوار الميلادى ويوجد أيضا التقويم القبطى .
واعر : ( غاضبا) النصرانى ؟
طارق : القبطى أو النصرانى سمه كما تشاء.
واعر : إذا بقيت هذه النتيجة هنا سأمزقها .
طارق :( متحفزا ) تمزقها ؟!
واعر : بلا شك .
مهدى : لا بأس بها يا أخ واعر .. مادامت السنة الهجرية فيها ومواقيت الصلاة والأعياد الدينية .
واعر : لا يمكن.. السنة الهجرية مهمشة ومكتوبة بخط صغير ، أما الميلادية فبخط كبير، عربى وإنجليزي ..إنجليزى أيضا .
طارق : وهل الإنجليزى حرام أيضا ؟ لدينا سياح .
واعر : وهل نغير ثقافتنا وديننا من أجل السياح العراة ؟
طارق : على كل حال الأرقام الإنجليزية أصلها عربى ، أليس كذلك يا أخت هدى ؟
واعر : ( هائجا ) لا تخاطبها ..وجه كلامك إلىّ أنا .
طارق : هى متخصصة فى الرياضيات .
واعر : لا تلف حول الموضوع .. لن تعلق هذه النتيجة هنا .
طارق : التقويم الشمسى أكثر ثباتا من التقويم القمرى .
واعر : حجج واهية لإبعاد الناس عن أصل دينهم .
طارق : التقويم الهجرى ليس من أصل الدين ..فقد وضعه عمر بن الخطاب .
واعر : رضى الله عنه، وهل تريد أن تغير ما وضعه الفاروق؟
طارق : أقصد أنها مسالة دنيوية ..سوف أعلقها .
واعر : علقها إذا أستطعت أن تحذف منها التقويمين الميلادى والنصرانى .
طارق : لا يمكن ( يهم بتعليقها.. يشتبكان ، تتمزق أوراق النتيجة وتتناثر أرضا ، يحاول مهدى وعبد القاهر إبعادهما )
مهدى : كأننا فى سوق المواشى أو الخضار ، كل ساعة تتشاجران كالأطفال ..ما العمل ؟
واعر : هذا زنديق يجب أن يخرج من هنا .
طارق : أنت رجعى متحجر العقل ، تصلح للتحنيط فى متحف للآثار القديمة .
واعر : اخرس يا كافر ..عليك لعنة الله .
الساعى : ( يدخل ) ماذا حدث ؟
مهدى : لا شىء اخرج من هنا .
الساعى : مدير الإدارة سمع صوتكما .. فأرسلنى لأستطلع الأمر .
مهدى : قل له ضوضاء فى الشارع .
الساعى : هل أكذب يا شيخ ؟
مهدى : اخرج عليك اللعنة .( يهم نحوه ..ينصرف الساعى مذعورا)
طارق : البقاء فى هذا المتحف أصبح مستحيلا ..لا بد أن أعود للمدرسة..إلى مكانى الطبيعى ..سوف أذهب إلى المحامى .
عبد القاهر : خذنى معك .( يخرجان)
واعر : لا أدرى ما قضية هذا الزنديق حتى يجلس معنا ؟.. أشك أنه من الأمن ..يستدرجنا إلى فخ .
مهدى : أنت مصمم على الاصطدام به ..تجنبه بقدر الإمكان .
واعر : هو يستفزنى .
مهدى : ( يقف ويهم بالانصراف ) هل ستخرج معى ؟
واعر : لا سأنتظر بعض الوقت .
مهدى : ( يقترب من ليلى وهو خارج ويهمس لها ) ألم يأن الأوان بعد ؟ ( تنظر إليه بسخط ..يخرج ..يتجه واعر نحو ليلى )
واعر : ما الأخبار ؟
ليلى  : ( تتبادل النظر بينه وبين هدى ) من ناحية المبدأ لا مانع .. لكنها تحتاج إلى وقت للتفكير وإخبار أسرتها
واعر : ( ينظر إلى هدى بهيام ) أرجو ألا يطول التفكير.
ليلى  : ( باسمة ) لا تتعجل .
واعر : أنا فى انتظار الرد ( يخرج )
ليلى  : ( ضاحكة ) سوف يحرقه الانتظار ..لكن لا بأس .. ألم تحسمى أمرك ؟
هدى  : أحيانا ألمس فيه الإيمان الخالص .. وأحيانا أظن فيه الجنون .
ليلى  : ليتعلم العقل والاتزان على يديك ..مبارك عليكما .
( إظلام )
 المشهد الثالث
      (حجرة المعلمين نفسها ، يجلس المعلمون على مكاتبهم بلا عمل )
ليلى   : ( متهللة ) سوف نزف إليكم خبرا سعيدا قريبا .
طارق : خير.هل سيخرج خطيبك من المعتقل قريبا ؟
ليلى   : ( واجمة وقد انطفأت فرحتها ) لا.. خبر آخر .      ( تنظر إلى هدى وواعر )
مهدى : نرجو أن نسمع خبرا سارا وأن يسود السلام هذه الغرفة التى تشهد صراعات منذ فترة لا تبدو لها نهاية.
ليلى   : الأستاذ واعر والأبلة هدى اتفقا على الزواج .
مهدى : حقا ؟ ألف مبارك عليكما ( يتجه نحو واعر ويهنئه ويليه الآخرون )
طارق : ( يتجه إلى واعر ) مبارك يا أستاذ واعر ..
واعر : بارك الله فيك وهداك .. العقبى لك .
طارق : أتمنى لكما التوفيق والهداية .
واعر : ( متحفزا ) ماذا تقصد بالهداية ؟
طارق : الوعى والتفتح الفكرى .
مهدى : يا جماعة ليس هذا وقت الصراع ، دعونا نفرح قليلا ..وندعو لمن لم يتزوج بالزواج العاجل ، أليس كذلك يا أبلة ليلى ؟ (ليلي حانقة لا ترد )
الساعي : ( يدخل مندفعاً مرتبكاً ) يا جماعة ..عندى خبر أسود .
مهدى : خير ..لجنة من المديرية ؟
الساعى : أسوأ .
مهدى : من الوزارة ؟
الساعى : ألعن .
مهدى : انطق .. شياطين من جهنم ؟
الساعى : ( مذعورا ) مباحث أمن الدولة .
الجميع : ( بذعر ) أمن الدولة ؟ ( يجلسون خلف مكاتبهم كأنهم يحتمون بها )
الساعى : نعم ..ثلاثة عند مدير الإدارة .
مهدى : وما شأننا ؟
الساعى : سمعتهم يتحدثون عنكم مع مدير الإدارة ..على أساس أنكم مصدر خطر .
مهدى : مصدر خطر ؟!
الساعى : وأنهم يريدون مقابلتكم .. ( ينظر من الباب ) إنهم قادمون بالفعل مع مدير الإدارة ( يسود جو من الصمت والتوتر ، يخرج الساعى مسرعا مرتبكا ، يدخل رجال الأمن  بملابس مدنية يليهم مدير الإدارة ، يغلقون الباب خلفهم ، يقف المعلمون فى توجس وانتظار ما سيقع من أخطار ، يتجه رجل الأمن (1) نحو السبورة السوداء ويتأملها )
رجل الأمن (1) : ( يشير للسبورة ) ما هذه ؟ ( صمت ) تكلم يا أستاذ مهدى .
مهدى : ( مرتبكا ) سبورة يا أفندم .
رجل الأمن (1) : نعلم أنها سبورة ..ما الغرض منها يا سيد واعر ؟
واعر : ( يحاول أن يبدو متماسكا ) ندون عليها بعض الملاحظات .
رجل الأمن (2) : مثل ماذا ؟
واعر : ( مترددا ) مثل بعض القضايا التى نناقشها .
رجل الأمن (2) : وما هى هذه القضايا ؟
واعر : قضايا متنوعة .
رجل الأمن (3) : ما هى بالتحديد يا أستاذ عبد القاهر ؟
عبد القاهر : لا شأن لى بهذا الموضوع ..أنا مشغول دائما بكتبى .
رجل الأمن (1) : ( بحزم ) جاءتنا معلومات أكيدة أن هذه الغرفة أصبحت معملا لتفريخ الفكر المتطرف ، وأنكم تنشرون أفكارا هدامة تهز استقرار الدولة ووحدتها الوطنية ( يتجه لطارق ) أليس كذلك يا أستاذ ...؟
مدير الإدارة : طارق.. الأستاذ طارق .
طارق : حوارنا هنا لا يتعدى الجدل الفكرى البناء .
 : ( يقهقه ) الجدل الفكرى البناء ؟! رائع ..مثل ماذا ؟
طارق : لم نناقش الكثير من القضايا .. ناقشنا بعضها مثل القدس وهوية المجتمع .
رجل الأمن (1) : هوية المجتمع ؟ ماذا تقصد ؟
طارق : أى الاتجاه الفكرى نحو التراث والحضارة الحديثة .
رجل الأمن (1) : توقظون الفتنة .
طارق : الفتنة ؟! قضية القدس أو الصراع بين الماضى والحاضر تناقش على كل المستويات منذ عقود .
رجل الأمن (2) : لكن هذه الأمور لا يجب أن تناقش هنا ، كما إنكم تتناولون سياسة الدولة الداخلية والخارجية وهذا ليس شأنكم .
طارق : لم نتطرق لهذه الأمور ..مع حقنا فى أن نناقش سياسة بلدنا كما نشاء ، لأنها ملك للجميع .
رجل الأمن (3) : مناقشة موضوع كادر المعلمين ، والنقابة ، والاستفتاء ، وإسرائيل.. أليست هذه قضايا خاصة بسياسة الدولة ؟.
طارق : هذه الموضوعات يتحدث فيها كل الناس .
رجل الأمن (1) : ( بحدة) لا يجب أن تتناولوها أنتم بالذات ، الدولة تدفع لكم مرتباتكم دون عمل، مقابل أن تسكتوا ، كما تترككم تتغيبون عن عملكم وتذهبون لأعمالكم الخاصة دون اعتراض، أليس كذلك يا أستاذ مهدى؟
مهدى : ( مرتبكاً ) هذا صحيح .
رجل الأمن(1) : وما رأيك يا أستاذ واعر في معتقل الطباشير؟.
واعر : ( مبهوتاً ) معتقل الطباشير ؟
رجل الأمن (1) : نعم . ألا يعجبك ؟ هل تود تغييره بمعتقل آخر ؟ لدينا أنواع كثيرة. اختر ما تريد.. وسنحقق طلبك ( يصمت واعر ويتوجس خوفاً، يتجه رجل الأمن (1) إلي ليلى ) وأنت يا أخت ليلى .. عندى لك أخبار سارة ، سوف تسمح الوزارة للمعتقلين برؤية زوجاتهم ( يقهقه) نحن لا نتردد في حل مشكلتك ، ربما تزفين لدينا قريباً ، ونتمنى لكم ذرية صالحة ( يقهقه .. يتجه للسبورة متجهما) هذه السبورة يجب أن تزال فوراً وتدهن الجدران باللون الأبيض وينقل الطباشير من هنا
مدير الإدارة : ( خائفاً ) سننفذ ذلك على الفور يا أفندم.
رجل الأمن (1) : (للمعلمين) وأرجو أن يلجم كل منكم لسانه فيخرس للأبد ، وسوف نتخذ قريبا من الإجراءات ما يردعكم عن الهمس .( ينصرف ويتبعه الآخرون ، يجلس المعلمون فى صمت مطبق ، يبدو عبد القاهر أسوأهم حالا ).
عبد القاهر : ( متشنجا على وشك البكاء ) ألم أقل لكم أنكم تدفعون بنا إلى الهاوية ؟
مهدى  : من أين عرفوا كل هذه الأخبار ؟
طارق : ربما يوجد هنا أجهزة للتجسس .
واعر  : أجهزة للتجسس ؟! بل يوجد بيننا عميل . ( ينظرون لبعضهم البعض فى ريبة )
مهدى : عميل ؟..لا يمكن ..ماذا تقصد ؟
واعر  : صدق ظنى .. عندما توقعت أن بيننا خائن مدسوس ( ينظر لطارق بغضب ).
طارق : لماذا تنظر إلىّ هكذا ؟
واعر : ( ثائرا ) أنت عميل .
طارق : ( مستنكرا ) أنا ؟!
واعر : نعم .
طارق : أنت مجنون .. لقد اتهمونى مثلكم .
واعر : هذه تمثيلية لتستمر فى لعبتك ( يندفع نحو طارق وينقض عليه بوحشية ) اخرج من هنا يا خائن .. يا عميل ..سوف نعدمك .( يتجمع موظفو الإدارة )
( إظــــلام )
 المشهد الرابع
               (المشهد السابق نفسه ، لكن جدران الغرفة كلها دهنت بالجير الأبيض ، واختفت كراتين الطباشير نهائيا، لا يوجد سوى ليلى وهدى، تجلس ليلى شاردة ، تتأملها هدى من تحت نقابها )
هدى : ما بك يا ليلى ؟ أراك حزينة شاردة .
ليلى : ( تنتبه لصوت هدى) ماذا تقولين ؟
هدى : أنت لست هنا ..ماذا يشغل تفكيرك؟
ليلى : أبدا .. هموم لا تنتهى .
هدى : ألا توجد أخبار جديدة للإفراج عن المعتقلين فى عيد الأضحى ؟ .
ليلى : أبدا ..الأوضاع غير مبشرة ، وكلما أظن أن موعد الإفراج اقترب ، يتحول الحلم إلى سراب .
هدى : لا تيأسى ..قد يفرج عنه فى أى وقت .
ليلى : لا أمل ..مرت أعياد كثيرة وخرج كثيرون ، لكنه مازال هناك .
هدى : سيخرج ..لا تجزعى .
ليلى : كدت أعتاد الأمر..لكن أهلى والناس لا يرحمون، يقولون العمر يتسرب ويضيع، فلا أملك غير البكاء.
هدى : وهو ما موقفه ؟ ألم تسأليه ؟
ليلى : أرسل إلىّ مرارا لأوافق على الطلاق ، لكننى أرفض، لا أريد أن أبدو انتهازية ، لا أستطيع أن أستغله فى هذه الظروف .
هدى : مادام  يوافق ..فما المانع ؟
ليلى : من سيرضى بى؟ ..لقد تحطمت ، كما لن أسامح نفسى ، وسيعاقبنى الله .
هدى : هو رجل يستطيع أن يتزوج فى أى وقت ، أما البنت فمثل الثمرة إذا لم تقطف فى أوانها ذبلت وسقطت .
ليلى  : كفى ..أرجوك .ما يزال لدى أمل ولا أريد أن أضيع صبر كل هذه السنوات. ( يدخل طارق سعيدا يحمل جريدة ، يناولها إلى ليلى )
طارق : انظرى فى هذا الخبر .
ليلى   : ( بلهفة ) ماذا فيه ؟ هل سيفرجون عن عدد آخر من المعتقلين ؟
طارق : لا..لكنها خطوة مشجعة .
هدى  : هل سينقلون إلى معتقل قريب ؟
طارق : ربما ..لكن الخبر لا ينص على هذا .
ليلى  : اقرأ الخبر ..أرجوك .
طارق : الخبر مفاده أن الحكومة ستسمح للأزواج بالخلوة الشرعية مع زوجاتهم فى المعتقل.
ليلى  : ( بخجل) الخلوة الشرعية ؟!
طارق : نعم .
ليلى  : فى المعتقل ؟
طارق : نعم .
ليلى  : ( يائسة محبطة ) وتعتبر هذا خبرا سارا ؟
طارق : ( محرجا ) اعتقدت أن هذا الخبر سيسرك .
ليلى  : ( باكية ) يا لها من مهزلة !
طارق : هى خطوة مشجعة على كل حال .
ليلى  : لم تعد الأمور تختلف .. سيان عندى .
هدى  : ألا يوجد أمل فى الإفراج عن قدامى المعتقلين الذين أكلت أجسادهم السجون ؟
طارق : من يدرى ؟ يفرجون عن البعض كل فترة ..يجب أن نتحلى بالصبر . سأذهب إلى الخزينة لأسال عن الحوافز ( يخرج ).
هدى : هى خطوة مبشرة على كل حال .
ليلى : أية خطوة ؟
هدى : السماح بالخلوة الشرعية .
ليلى : ( كالتائهة) أية خلوة شرعية ؟
هدى : ( حائرة مرتبكة ) خلوة الأزواج بزوجاتهم .
ليلى :أين ؟
هدى : فى المعتقل .
ليلى : ( تضحك بهستيرية وأسى ) هل تتصورين هذا ؟ هل تتخيلين أن أُزف بعد كل هذا الانتظار لزوجى فى هذا المكان .( تتحدث كالمجنونة) كيف أتخيل هذا بعد كل هذه السنوات ؟
           (تخفت الإضاءة وتعود تدريجيا فنرى جزءا من المعتقل،حيث الجدران متآكلة باهتة قاتمة ، يجلس  خطيب ليلى مكوما على نفسه ، مستندا إلى جدار ، لحيته كثيفة بلا تهذيب ، رث الملابس ، بائس ، يفصله عن المعتقلين حاجزان من الكرتون يحدانه كالقفص ، تظهر ليلى بفستان الزفاف ، تتجه نحوه ، نسمع موسيقى تعبر عن الزفاف أشبه بقرع الطبول الأفريقية ، تصاب ليلى بالذعر من منظر خطيبها، تتجمد فى مكانها، يهب مذعورا )
الخطيب : ( يحملق فيها مذعورا ) من أنت ؟
ليلى    : ( لا تصدق ) ألا تعرفنى ؟
الخطيب : نعم . لا أعرفك..من تكونين ؟
ليلى    : تأملنى جيدا ..ألا تتذكر ؟
الخطيب : ( يتأملها بتوجس ) نعم..لا أتذكرك .
ليلى   : ( كالذبيحة ) أنا ليلى .. ليلى ...
الخطيب : ليلى ؟ ليلى من ؟
ليلى   : ( تقترب منه باكية ) ليلى ..زوجتك .
الخطيب : زوجتى ؟ وهل أنا متزوج ؟
ليلى  : ماذا ؟ طبعا ..أنا ليلى زوجتك .
الخطيب : ( كمن يتذكر) حقا ؟ أنت ليلى ؟
ليلى  : ( تهدأ قليلا ) نعم .. أنا ليلي يا خالد ( تقترب منه وتلمس يده )
الخطيب : ولماذا ترتدين هذه الملابس ؟
ليلى  : تقصد الفستان الأبيض ( تبتسم ) اليوم زفافنا .
الخطيب : زفافنا ؟ متى ؟ كيف ؟ أين ؟
ليلى  : هنا..الآن .. لقد سمحوا لنا بالخلوة الشرعية .
الخطيب : الخلوة الشرعية ؟ لقد سمعت هذا الكلام ..هل وافقوا حقا ؟
ليلى  : تعال لنجلس .( يجلسان وسط حاجزى الكرتون )
الخطيب : وكيف توافقين على أن تزفى هنا ؟
ليلى  : خالد..لم يبق فى العمر الكثير ..السنوات الحزينة الماضية حطمت منا الكثير .
الخطيب : ربما يوجد أمل قريب فى الخروج ..فلننتظر فترة أخرى .
ليلى  : كفانا عذابا ..إلى متى سننتظر؟ ( تقترب منه ) ألا تعلم كم عانيت كل هذه السنوات؟
الخطيب : لا تخبرينى عن العذاب ..عندى من علمه الكثير.
ليلى  :  ألا تنوى تغيير أفكارك ؟
الخطيب : أية أفكار ؟
ليلى  : الأفكار التى دفعتك إلى هنا .
الخطيب : لم تعد لدى أية أفكار عن أى شىء . عقلى تبخر وأصبح أجدبا كالصحراء.
ليلى  : ألا يوجد أمل فى الإفراج عنك قريبا ؟
الخطيب : تلوح أحيانا بعض الآمال ، لكنها سرعان ما تتبخر وتتلاشى كالسراب.
ليلى  : وكيف تمضى وقتك هنا ؟
الخطيب : نتسلى بتطريز الملابس وعمل السبح والعقود وتشكيل الخرز .
ليلى  : لا تحزن .. يمكنك أن تبدأ حياتك من جديد .
الخطيب : أية حياة ؟ لقد أصبحت مجرد حطام .
ليلى : لا تقل هذا أرجوك ..لا تخيب رجائى بعد طول انتظار .
الخطيب : عذابى من أجلك يفوق أى حبس .
ليلى  : ألهذا الحد تحس بى ؟
الخطيب : ( يقترب منها ) أنا إنسان من لحم ودم .           ( يقتربان.. يحكمان إغلاق الحاجز الكرتونى. تتلاشى الإضاءة تدريجيا ، نسمع قهقهات عالية ساخرة ، تعود الإضاءة بالتدريج إلى المشهد السابق فى غرفة الإدارة التعليمية ، حيث هدى وليلى ).
ليلى  : ( تصرخ وكأنها تصحو من كابوس ) لا..لا أتصور أن يحدث هذا لى ( تجرى هدى نحوها وتحتضنها )
هدى  : ليلى .. ماذا بك ؟ ماذا حدث ؟
ليلى  : ( بهستيرية ) لن أذهب إلى هناك ، كيف أزف فى هذا المكان القذر؟
هدى  : لن تذهبى ..لا يستطيع أحد أن يجبرك على الذهاب .
ليلى  : ( خائفة تحتمى بهدى ) لا تدعيهم يفعلون هذا بى ..لا أستطيع .
هدى  : لن تذهبى .. لن أتركك تذهبى .
ليلى  : لا أستطيع تحمل نظرات الحرس والمساجين..لا أستطيع .
هدى  : لا تخافى ..لن يجبرك أحد على هذا .
ليلى  : ( متشنجة) لا تدعيهم أرجوك ..لا تدعيهم .
(تقع وتتكوم على الأرض .. تحتضنها هدى ..تسقط مغشيا عليها )            
( ستــــــار )
الفصل الثالث
 المشهد الأول
 
          (المشهد نفسه فى غرفة الإدارة التعليمية ، يجلس المعلمون كعادتهم بلا عمل ، كل منهم يحاول أن يشغل نفسه ، فتبدو على تصرفاتهم العصبية والقلق)
طارق : لو كنا نعرف أنهم سيدهنون حوائط الغرفة ، وينظفونها ويزيلون مخزن الطباشير منها، كنا عملنا السبورة من زمان .
مهدى : نظفت نعم.. لكن الثمن غال .
واعر : إنهم يحاربوننا فى كل مكان ..أبعدونا عن التدريس فى المدارس ، ثم ضيقوا علينا هنا..ليس أمامنا إلا الجنون أو الانتحار .
عبد القاهر : طالما قلت لكم ..ابعدونا عن هذه الأشواك ، لكن لا مجيب.
واعر : ( ملمحا ) لم نكن نعلم أن لهم أعوانا فى كل مكان .
مهدى : ( يغير الموضوع ) أين كتبك اليوم يا أستاذ عبد القاهر؟ لماذا لا تذاكر ؟
عبد القاهر : وما جدوى المذاكرة ؟ هل تظن بعدما حدث يمكن أن نعود للتدريس ؟
مهدى : كيف يا رجل ؟ المحامى يسير فى إجراءات القضية .
عبد القاهر : اعتبرها قضية خاسرة من الآن .
مهدى : كيف هذا ؟ ألم تقابليه يا أبلة ليلى؟
ليلى  : قال إن الإجراءات تأخذ مجراها .
مهدى : وأنت يا أبلة هدى ؟
واعر : ( بغضب ) الأبلة هدى لا تهتم بالقضية أو بغيرها .
هدى  : ( محتجة ) لماذا لا اهتم أنا بالذات ؟
واعر : لأنك ستتزوجين .
هدى :  وهل الزواج يمنع السير فى القضية ؟!
واعر : ما دمت لن تعملى بعد الزواج .. فما فائدة القضية ؟.
هدى  : ( منزعجة) ماذا ؟ من قرر هذا ؟
واعر : المرأة مكانها الطبيعى البيت .
هدى  : لكنى أحب العمل والتدريس للأطفال .
واعر : فلتربي أطفالك وتعلميهم أليس كذلك يا أخ مهدى ؟
مهدى : أنا عن نفسى أفضل بقاء المرأة فى المنزل .
طارق : المرأة لا تتعلم وتكد فى الدراسة أعواما طويلة من أجل أن تحبس فى المنزل .
واعر : لم يطلب أحد رأيك .
طارق : هذه قضية عامة ، وليست موضوعا يخصك .
مهدى : ولكن كيف توفق بين عملها وأسرتها ؟.
طارق : التكنولوجيا وفرت عليها الكثير، والظروف الاقتصادية قاسية ، والأطفال سرعان ما يشبون ، والمرأة العاملة تميل إلى تنظيم أسرتها وهذه ميزة طيبة .
واعر : تحديد النسل حرام شرعا .
طارق : نحن نتحدث عن تنظيم الأسرة .
واعر : سمه كما تشاء ..حرام شرعا .
طارق : الحرام حقا هو إنجاب أطفال بلا مأوى مناسب ، أو طعام كاف ،أو ملبس لائق، أو تعليم جيد .
مهدى : عمل المرأة يزيد البطالة بين الرجال وهم المكلفون بالإنفاق .
طارق : القدرات والكفاءات الحقيقة ستخلق لنفسها المكان المناسب ، ولا يجب أن نحل مشكلة نصف البشر على حساب النصف الآخر .
ليلى : أنا كسيدة أفضل البقاء فى البيت ، إذا توافرت فى بيت الزوجية الحياة المناسبة .
مهدى : ( بلهجة ذات مغزى ) سيتحقق أملك إن شاء الله .
ليلى : ( تنظر إليه بغضب وتحول وجهها عنه )
عبد القاهر : يا جماعة أرجوكم أبعدونا عن هذه القضايا ، أنا على وشك الجنون ..لا أنام منذ الزيارة المشئومة ..لا تنسوا أنهم لن يكتفوا بمجرد اللوم ، سيتخذون مزيدا من الإجراءات .
واعر : ألاحظ هذه الأيام أن هناك من يتتبعنى أينما سرت .
عبد القاهر : ( مذعورا ) حقا ؟ أنا أيضا ألاحظ ذلك ..ولكنى كنت أظنها هواجس .
واعر : يبدو أننا وضعنا تحت رقابة دقيقة .
مهدى : هذا أمر لا شك فيه .
واعر : ( شاردا كأنه يناجى نفسه ) الشهادة أسمى درجات النجاة وأقرب طريق يؤدى للجنة
         (  ينتبه الآخرون بفزع إلى كلامه )
مهدى : ماذا تقصد ؟
واعر : ( ينتبه مرتبكا ) لا..لا أقصد شيئا ..أنا أردد بعض الأقوال المأثورة .
طارق : وهل كتب علينا أن نتقوقع فى هذا الجحر إلى نهاية حياتنا ؟..نجلس كالعجزة ، ونعزل كالمنبوذين المجذومين .. سوف  تتيبس عضلاتنا وتتحجر عقولنا وتتحطم إرادتنا وطموحاتنا ..لم يعد يفصلنا عن الجنون إلا شعرة ، أنا لا اصدق ما يحدث .
مهدى : ليس بأيدينا سوى أن ننتظر حكم القضاء .
طارق : وما الذنب الذى اقترفته لأنتظر القضاء ؟ ما علاقتى بابن عمى ؟ له عقله ولى عقلى..له فكره ولى فكرى.
مهدى : قلنا لك هذا الكلام لا يفيد .
طارق : أنا سأجن ..أين اليقين ؟ ما حدود الصواب والخطأ ؟ من يحاسب من؟ من الجانى ؟ ومن المجنى عليه ؟
واعر : سوف تشرق الشمس يوما ويطبق شرع الله.. ولن يبقى فى الأرض سوى ما ينفع الناس .
ليلى  : لا يبدو لهذا الليل من آخر .
واعر : ( بحسم وتصميم ) سنجاهد حتى يشرق نور الحق .. ( مناديا ) الجهاد .. الجهاد ..الفريضة الغائبة ..الشهداء فى أعلى مراتب الجنة حيث النعيم الأبدى الذى لا يزول.
عبد القاهر : أنتم مصرون على هلاكنا غيروا الموضوع .. لن يغير هذا الجدل شيئا .
واعر : نحن هالكون .. هالكون ، فعلام تحزن ؟
طارق : النقاش ينشط العقول ويشحذ الهمم .
عبد القاهر : نحن نؤذن فى صحراء خاوية .
واعر : سوف يأتى المهتدون يوما من كل فج عميق ليرفعوا راية الحق عالية خفاقة .
عبد القاهر : سوف يأتون ويلقوا بنا خلف الزنازين .
واعر : من معه الحق لا يخشى البشر .                               
إظــــــلام
 المشهد الثانى

  (المشهد السابق نفسه ، لا يوجد سوى عبد القاهر صامتا شاردا حزينا، يدخل طارق )
 طارق : السلام عليكم يا أستاذ عبد القاهر .
عبد القاهر : وعليكم السلام يا أستاذ طارق .
طارق : ( يجلس ) انصرف الجميع اليوم مبكرا .
عبد القاهر : ذهبوا لقضاء مصالحهم .. فلا عمل هنا .
طارق : وأنت لماذا لا تذاكر ؟
عبد القاهر : لم يعد الأمر يستحق العناء .
   طارق: لا تضخم الأمور ..( صمت ) دائما يحيرنى صمتك الطويل ، هل تغضب لو سألتك عن السبب ؟
 عبد القاهر : لا .. لكن فيما أتكلم ؟
طارق : فيما يدور حولك ، فأنت دائما تحتج حتى على كلام الآخرين وتريدهم أن يبقوا صامتين.         
عبد القاهر : من الأفضل أن يظل الإنسان صامتا .
طارق : لا يمكن ..هذا أمر لا يطاق .
عبد القاهر : بل يستحب إذا كان الكلام سيكلف عناء أكثر من الصمت .
طارق : أى كلام ؟
عبد القاهر : ( يبتسم بمرارة ) الكلام الذى يجب أن يقال .
طارق : على الإنسان أن يقول الحقيقة وليكن ما يكون .
عبد القاهر : ( يضحك بأسى ) أنت ما زلت شابا فى مقتبل العمر .
طارق : لا أظن أن فارق السن بينى وبينك كبير .
عبد القاهر : ( بألم ) الحياة تقاس بالتجارب .
طارق : لدى إحساس بأنك تحوى ألما دفينا .
عبد القاهر : ( بأسى ) ربما .
طارق : أنا واثق من ذلك .
عبد القاهر : الألم كالبركان ، إذا زادت حممه لا يمكن إنكاره أو إخفاؤه .
طارق : كما لا أستطيع أن أفهم سبب دراستك للإنجليزية لتتخلى عن تدريس العلوم .
عبد القاهر : أنت تعرف السبب .
طارق : الدروس الخصوصية .. هل أنت مؤمن بها ؟
عبد القاهر : ليس المهم ما تؤمن به ، لم تعد هناك قضية تستحق الدفاع ، المهم ما يُؤمن لك  حياة معقولة .
طارق : كنت سأسعد لو أنك تدرس الإنجليزية من أجل زيادة إطلاعك على الكتب العلمية، فتثرى تدريسك للعلوم .
عبد القاهر : ( بلا مبالاة ) ومن يهتم ؟
طارق : إذن ستصبح رجلا إفرنجيا .
عبد القاهر : معاذ الله ..الإنجليزية وسيلة للعيش ..هذا إذا استطعنا أن نعود للتدريس .
طارق : طموح المعلمين اليوم ..إما السفر ..وإما الدروس الخصوصية .
عبد القاهر : هل عندك حل ثالث؟ .
طارق : للأسف لم يعد التدريس رسالة سامية .
عبد القاهر : ( بسخرية ) رسالة سامية..وما الرسالة السامية؟
طارق : هدف نبيل نسعى لتحقيقه .
عبد القاهر :( بأسى ) هل جربت الاعتقال ؟
طارق : ( يفاجأ بالسؤال ) هه ؟
عبد القاهر :  الاعتقال ..
طارق : لا .
عبد القاهر : ( منفعلا ) هل جربت أن تأكل وتشرب وتنام بميعاد وأمر؟
طارق : لا .
عبد القاهر : وأن تضبط جسمك ليتعود الذهاب للحمام فى ساعات محددة ؟.
طارق : لا .
عبد القاهر : ( يقف ثائرا ) وأن تظل وراء الأسوار سنوات ، لا تعرف متى ستخرج، ولا ما أهمية الليل والنهار ؟ ما             جدوى تلك الحركة الكونية العبثية التى تفنى أعمارنا ..ما دامت تستوى كل الأوقات ؟.
طارق : أحيانا يمل الإنسان ويسأم التكرار ..لكن ليس إلى هذا الحد.
عبد القاهر : هل لديك أم كانت  تحرم نفسها من الضروريات لتكمل تعليمك ؟ ثم ما إن داعبها الأمل بتخرجك حتى  وجدتك حطاما وراء الأسوار ، وضاع نور عينيها فى البكاء  وحرقة الانتظار .       
طارق : ( حزينا مشفقا ) اليأس ليس هو الحل .
عبد القاهر : ( يبكى بحرقة ) إنا ضائع ..أتألم الليل والنهار ..عقلى ينزف .. ولا أعلم لى قرارا .. تجرعنا أفكارا مسمومة ثم اكتشفنا أنها حماقات، وإننا كنا مجرد أدوات، لكن بعد أن دفعنا الثمن غاليا ، ورغم ذلك..ضاع ما كنا نظنه اليقين ، ولم نعثر حتى اليوم على البديل .
طارق : البديل هو العقل ..العلم.. التنوير ..الحرية .
عبد القاهر : وأين العلم ؟! أين الحرية ؟ الطرق فى سبيلهما مليئة بالعثار.
طارق : علينا أن نشقها ونهيئها .
عبد القاهر : ستجد من يراكم أمامك وخلفك التلال .. الجهل والعبودية لهما أنصار يدافعون عنهما ولو بالدبابات .
طارق : لا حرية بلا كفاح ..ولا علم بلا اجتهاد .
عبد القاهر : دفعت ثمنا غاليا ..أرجوك لا تطلب منى المزيد ..لدى من الجراح ما يكفينى ، فلا تثير ما لدى من آلام .
طارق : ( حزينا ) آسف إن كنت قد تحاملت عليك ..ولكنى حزين لأننا نسير إلى الوراء.
عبد القاهر : دع الأمور تسير كما تشاء ، وليكن ما يكون .
طارق : حان وقت الانصراف ..هيا بنا .
عبد القاهر : ( يجلس منهكا ) لا..فلتذهب بسلام.. دعنى أستريح قليلا .
 (  تتطاير ورقة من أوراق عبد القاهر، يتناولها طارق من الأرض لقربه منها، يدفعه حب الاستطلاع لقراءتها )
طارق :ماذا تذاكر يا أستاذنا؟
 (يقرأ ويحملق فيه عبد القاهر مبهوتا عاجزا عن الحركة 
صوت عبد القاهر: " السيد اللواء مدير أمن الدولة
              بعد التحية الطيبة
       تقرير مرفوع لسيادتكم عن غرفة المعلمين المقيمين بالإدارة عن شهر ديسمبر2007
أحيط علم سيادتكم أن النقاش والجدل فى الغرفة  دار فى تلك الفترة عن ......
( تتلاشى الكلمات ، يضع طارق الورقة أمام عبد القاهر مبهوتا  ويخرج دون تعليق ، يبدو عبد القاهر محطما بائسا منهكا، يجفف عينيه بمنديل ، يدفن رأسه بين ذراعيه وينام على مكتبه ، يمد الساعى يده ويسحب الباب ويغلق الغرفة دون أن ينظر بداخلها ظنا أن الجميع قد انصرف . يسود الظلام تدريجيا ليوحى بزوال النهار وحلول الليل،بينما عبد القاهر ما يزال منكبا على مكتبه . يبدأ ضوء النهار يتسلل إلى الغرفة ، وما يزال عبد القاهر بلا حراك ، نسمع حركة وضجيج الموظفين  فى الخارج مع بدء يوم جديد وصوت الساعى )   
الساعى : ( من الخارج ) وعليكم السلام يا أستاذ مهدى ..صباحما فل  ..دقيقة افتح لك الباب .( يفتح الساعى الباب ويدخل وخلفه مهدى ، يفاجئان بوجود عبد القاهر منكبا على مكتبه )
 مهدى : من أى باب دخل عبد القاهر ؟!
الساعى : ( مذعورا ) من أى باب ؟ الله اعلم .
مهدى : أنت فتحت الباب مبكرا وأغلقته ؟
الساعى : أبدا.
مهدى : ( منزعجا ) إذن كيف دخل إلى هنا ؟!
الساعى : الباب مغلق من الخارج كما هو ولم أفتحه منذ الأمس والشباك مغلق.
مهدى : ( مرتبكا ) استر يا رب ( يقترب من عبد القاهر ). أستاذ عبد القاهر ..( لا يرد ) أستاذ عبد القاهر ( لا يرد ).
الساعى : يبدو أنه نائم .
مهدى : نائم ؟! من الأمس ؟ ( يقترب منه ويرفع رأسه، فتسقط على المكتب ).
الساعى : ( بفزع )  يا ألطاف الله .
مهدى : ( يمسك  يد عبد القاهر ، يجس النبض ثم يتركها فتسقط ) لا حول ولا قوة إلا بالله..الأستاذ عبد القاهر مات ..الأستاذ عبد القاهر مات ..لا إله إلا الله .
    ( يردد التشهد بصوت حزين ، يبكى الساعى مفزوعا ، يهرول الموظفون إلى الغرفة ، يرفعون عبد القاهر ويمددونه على المكتب ، ينزعون مفرشا من على  أحد المكاتب ويغطون به الجثمان ، موسيقى جنائزية حزينة )       

إظــــلام
المشهد الثالث
(المشهد السابق نفسه ، لا يوجد سوى هدى وواعر ، يخرج واعر حقيبة سوداء من درج مكتبه ، ينظر فيها ثم يغلقها ويعيدها إلى الدرج ، تلاحظ هدى ارتباكه )
هدى  : لم أر هذه الحقيبة من قبل ..هل اشتريتها مؤخرا ؟
واعر : نعم منذ أيام قليلة
هدى  : وماذا ستفعل بها ؟
واعر : سأضع فيها ما يمكن أن يقضى على الشر فى المهد .
هدى  : ( متوجسة) ماذا تقصد ؟
واعر : إذا كنا لم نستطع أن نشكل النشء الجديد على مبادئنا ، فلا يمكن أن نتركهم يربون على مبادئ الكفر والضلال .. فيشبون ملحدين يهدمون الدين .
هدى  : إذن ستوزع فيها كتبا للتوعية الدينية .
واعر : وهل سيدعوننى أوزع كتبا دينية؟ لقد حرمونا من التدريس ، بل من النقاش .
هدى  : فعلا..لقد دهنوا جدران الغرفة بالجير الأبيض وأبعدوا الطباشير من هنا .
واعر : لقد أحضرت طباشيرا من نوع خاص .
هدى  : طباشير ملون ؟
واعر : بل طباشيرا أسود .
هدى  : وهل يوجد طباشيرا أسود ؟
واعر : يوجد .. يستخدمه المجاهدون ضد أعداء الله والدين .
هدى  : أود أن أراه .
واعر : سترينه .
هدى  : ولكن ماذا ستفعل به ؟
واعر : ألم يحرمونا من العمل بالمدارس ؟
هدى  : بلى .
واعر : ويعلمون الأطفال نظريات ضالة وآراء فاسدة؟ .
هدى  : أحيانا .
واعر : ويزيفون المناهج لتتماشى مع مصالحهم ومصالح سادتهم .
هدى  : أحيانا .
واعر : ويجبرون التلاميذ على ارتداء ملابس غربية تشجع الفجور .
هدى  : لا أظنهم يتدخلون فى الملبس .
واعر : يجب أن يجبروا التلميذات على ارتداء الحجاب ثم النقاب حسب السن .. لكنهم أعداء الله .
هدى  : أرجوك لا تتمادى فى هذا الكلام ، إنهم يعرفون كل صغيرة وكبيرة .
واعر : أحس أنهم سيعتقلوننا قريبا .
هدى  : عليك إذن أن تلتزم حدود الاعتدال ..أخشى عليك ..ألا تعلم ما حدث لخطيب ليلى .
واعر : لن أتركهم يرموننى خلف الأسوار .
هدى  : ( منزعجة ) ماذا ستفعل ؟
واعر : الشهداء فى أعلى مراتب الجنة .
هدى  : ( خائفة ) ماذا تقصد ؟
واعر : ( يقترب منها ويخفض صوته ) هذه الشنطة بها عدة أصابع من الديناميت .
هدى  : ( مرعوبة ) ديناميت ؟ متفجرات ؟
واعر : اخفضى صوتك .
هدى  : أنت تهلك نفسك وتهلكنا .
واعر : ( غاضبا )أنت تتخلين عن رسالتنا من بداية الطريق .
هدى  : هل أشجعك على الموت والقتل؟!
واعر : إذا كانت الجنة هى الغنيمة .
هدى  : هل تتكلم جادا ؟
واعر : ( بحزم ) بالتأكيد .
هدى  : لا أصدق .. لا يمكن أن تدمر نفسك وتدمرنى ..وتقتل الأبرياء .
واعر : أليس خيرا لهم أن يدخلوا الجنة ، من أن ندعهم يشبوا ويلتف طوق الجحيم حول أعناقهم ؟.
هدى  : ( بذعر ) تقصد من ؟
واعر : سوف نضع هذه المتفجرات فى مدرسة .
هدى  : مدرسة ؟ هل جننت ؟ لا يمكن أن تفعل هذا ؟
واعر : لماذا ؟ أليس خيرا لهؤلاء الأطفال أن يدخلوا الجنة ؟
هدى  : ( بألم وحسرة ) هؤلاء الأبرياء ؟ إنهم لا يميزون بين أصابع أيديهم حتى يميزوا بين الجنة والنار .
واعر : واجبنا أن نحميهم من الضلال وأن ندمى قلوب آبائهم الكفار الذين سلموهم إلى الهلاك.
هدى  : ( بصوت موجوع ) وما ذنب هؤلاء الصغار ؟ أنت تحطم نفسك وتحطمنى .
واعر : لقد كنت أفكر في أن أستعين بك فى تنفيذ العملية .
هدى  : أنا ؟ تريدنى أن أقتل ؟ يا لك من شيطان .
واعر : فى سبيل الحق تهون الروح ، الجهاد فريضة واجبة .
هدى  : الجهاد ضد الأطفال ؟! خلقنى الله لأحتضن الحياة، لا لأبيد الزهور ، أنا أتحرق لليوم  الذى أقف فيه فى الفصل بين الأطفال أردد الأناشيد العذبة ويرددونها خلفى . لا أصدق أن تفعل هذا . لن أدعك تفعل هذا . أنت تهزل بلا شك .أرجوك فكر فى النتائج الأليمة ..تخيل هؤلاء الصغار أطفالنا .
واعر : عزيمتك ضعيفة لا تصلح للجهاد .
هدى  : الجهاد ؟ ضد من ؟ واعر .. لا تدع هذه الأفكار المجنونة تتسلط عليك ..فكر فى الغد  .. فى المستقبل .. فى بيتنا .
واعر : سوف تتحقق مشيئة الله .
هدى  : الله لا يمكن أن يسامح قاتل الأطفال والأبرياء .
واعر : ( هائما يناجى نفسه ويتطلع إلى السماء ) الشهداء فى أعلى مراتب الجنة ..الجهاد  فريضة واجبة ..الجنة..حور العين.. الجنة.. الحدائق والبساتين.. الجنة .
( يتلاشى المشهد ويتحول  إلى فناء مدرسة ، حيث يلهو عدد من الأطفال ، يدخل واعر من باب جانبى ..متوجسا مرتبكا ..يحمل الحقيبة السوداء ..يتطلع نحوه بعض الأطفال ويقتربون منه ) 
طفل 1 : حضرتك مدرس جديد ؟
واعر : لا .. مدرس قديم .
طفل 2 : وماذا تُدرس ؟
واعر : عربى ودين ..من يدرسهما لكم ؟
طفلة 3 : أبلة نرفانا .
واعر : ( بتقزز) نرفانا؟ ! وتدرس لغة عربية . وماذا تدرسون فى التربية الدينية ؟
طفل 1 : القيم والأخلاق .
طفل 2 : والسلام والتسامح .
طفلة 3 : وتلوث البيئة .
واعر : ألا تدرسون الجهاد والحجاب ؟ وطبعا تدرسون لغة إنجليزية ؟
طفل 1: مس ميار تدرس لنا الإنجلش .
واعر : الإنجلش ؟ ما شاء الله .
        ( يدخل أحد المعلمين  فيرى واعر ..يتجه نحوه ..يرتبك واعر ..يخشى اكتشاف أمره  ..يفتح الحقيبة ويفجرها ..فيدوى صوت مهول يهز الأركان ..يتحول فناء المدرسة إلى بركة من الدماء ، وكومة من الأشلاء المتناثرة المحترقة..تتصاعد صيحات الهلع والذعر والأنين )                                                   
إظـــــــلام 
المشهد الأخير

( نفس المشهد السابق ، طارق يجلس وحيدا فى غرفة المعلمين المقيمين ، يتأمل المكاتب الخاوية فى أسى . تدخل ليلى منتقبة تماما ، يظنها هدى ، لولا أنها أكبر بنية )
ليلى  : السلام عليكم .
طارق : وعليكم السلام ( صمت .. يتأمل طارق السيدة الجالسة أمامه صامتة دون أن يعرفها ) حضرتك أبلة هدى ؟
ليلى   : لا..أنا ليلى .
طارق : ( مندهشا ) أبلة ليلى ؟
ليلى  : نعم .
طارق : ماذا حدث ؟ ما هذا التغيير ؟ ( تدخل هدى وقد نزعت النقاب ، فظهر وجهها نضرا جميلا )
هدى  : ( تبتسم بخجل ) السلام عليكم ( تتجه لمكتبها وتجلس )
ليلى  : وعليكم السلام .
طارق : ( مندهشا ) حضرتك معنا فى المكتب ؟
هدى  : نعم .
طارق : مبعدة جديدة ؟
هدى  : ( تضحك ) لا.. زبون قديم .
طارق : ( سعيدا ) حضرتك أبلة هدى ؟
هدى  : هى بعينها .
طارق : أبدو اليوم كالغريب عن المكان لا أكاد أعرف من فيه ، ماذا حدث ؟!
هدى  : التغيير سنة الحياة .
طارق : موضة جديدة أم فكر جديد ؟
هدى  : فكر جديد، عقل جديد، تصالح مع الطبيعة والحياة والناس .
طارق : و أبلة ليلى ؟
ليلى  : ليس فى الحياة شىء أود أن أراه .
طارق : ليس إلى هذا الحد .
هدى  : حاولت إقناعها ..لكن الفكرة ظلت تراودها منذ أيام .
طارق : أمر محزن حقا .
ليلى  : لا أحب أن أرى أحدا، أو بالأدق لا أحب أن يرانى أحد.
طارق : لماذا ؟
ليلى  : نظرات الناس سهام تمزقنى .. كأننى جانية .. ولا أدرى ما جنايتى والعمر يجرى .. والشباب يضيع ( تجهش بالبكاء )
طارق : أنت مثال للوفاء النبيل..فكيف تستسلمين لهذه الأفكار ؟ لا تهتمى برأى الناس .
ليلى   : (باكية) لم أعد أستطيع ..لكنى الآن أسير دون أن يعرفنى أحد ، فأتجنب نظرات الشامتين والمشفقين.
طارق : ليس الحل أن نتخفى وراء القماش ..الملبس ستار ..ولكنه ستار ضعيف ..انظرى إلى هدى لقد أشرق وجهها وملأ الدنيا بهجة .
هدى  : ( محذرة بسرور ) إياك والتمادى فى هذا الكلام .. وإلا لبست النقاب من جديد .
طارق : ليس النقاب ضمانا لعفة أو أدب .. العفة الحقيقية فى الأخلاق النبيلة .
هدى  : وأين أستاذ مهدى اليوم ؟
طارق : متعب ..وحصل على أجازة مرضية .
هدى  : ربنا يشفيه .
طارق : وما أخبار خطيبك يا أبلة ليلى ؟ ألا توجد أخبار عن قرب خروجه ؟
ليلى  : لم يعد ثمة أمل ..أفرج عن مجموعة منذ أيام وكنا نظنه بين الخارجين ..وقال بعض زملاؤه إنه مريض ..      ( تبكى ) بدأ جسمه ينهار..ويسقط فريسة للأمراض .
طارق : كانت الأيام الماضية عصيبة حقا علينا جميعا ، فقدنا اثنين من الزملاء ، عبد القاهر وواعر ، وكانت التحقيقات سيلا لا ينتهى ، وكأننا كنا الجناة أو المحرضين على الجريمة التى ارتكبها واعر .
هدى  : لقد استدعونى عدة مرات ..وكل مرة تستمر التحقيقات عدة ساعات ،لا يصدقون أننى بريئة. أنا فعلا لم أكن على يقين أنه سيقدم على مجزرة رهيبة بهذه السرعة، كان لدى أمل فى إقناعه ، لم أتخيله بهذا الجنون، ( تبكى ) لم أكن على يقين.
طارق : سيأخذون ذلك فى الاعتبار ( يغير الموضوع ) لقد ذهبت إلى المحامى بالأمس..وطمأننى على اقتراب موعد الحكم فى القضية.
هدى  : بعد ما حدث لا أظن أن ثمة أمل فى العودة للتدريس ..ستؤثر قضية واعر على موقفى  كثيرا. 
طارق : أنت لست مسئولة عما حدث ، وهناك أمل كبير فى أن تعود أبلة ليلى إلى التدريس قريبا .
ليلى  : أنا ؟
طارق : نعم .
ليلى : ( بأسى ) لم أعد استطيع الوقوف أو الحركة طويلا .
طارق : سيعود نشاطك سريعا بمجرد العمل ، فهيئى نفسك لتقبلين على تلاميذك الأذكياء  بابتسامة مشرقة ووجه بشوش بسام .
ليلى  : ( منهكة يائسة ) لم أعد فعلا أستطيع ..على الأقل هذا العام ..ربما العام القادم ..أو بعد القادم ( يبدو عليها الألم ..تمسك رأسها وتعصره ..تسرع هدى نحوها )
هدى  : ليلى..ما بك ؟
ليلى : أشعر بصداع قاتل.
هدى  : تعالى معى لنذهب للطبيب.
ليلى  : لا ..لا ضرورة لذلك ( يزداد الألم ، فتتأوه وتضغط رأسها بكفيها )
هدى  : بل أنت متعبة ..هيا بنا ( تسندها هدى ويخرجان ، يشيعهما طارق بأسى ..يقف وحيدا حائرا..يسير جيئة وذهابا..يناجى نفسه )
 طارق : يا مركب الأفكار .. خبرينا إلى أيـن المسـار .
        تقاذفتنا الأمواج .. ولا ندرى أين شاطئ القرار .
        أين ميناء الوداعة .. أين يقين العقل ومعالم الطريق .
        الظلام يلفنا ..وعيوننا تكل ..وعزيمتنا تنهار .
                فمتى يشرق النور ويطلع النهار .
                   خبرينا يا مركب الأفكار.
                  خبرينا إلى متى نظل حيارى
              نبدو كالسكارى فى شارع الحضارة
                   خبرينا يا مركب الأفكار.
                  خبرينا إلى أين المسار
                    يا مركب الأفكار.
                    يا مركب الأفكار.
( ستــار )
( تمــت )
الفيوم   2007
 

ليست هناك تعليقات: