2017/03/17

تحت رايات الموتى يُساق الفقراءُ إلى حتفهم بقلم: أسامة الحداد



تحت رايات الموتى

يُساق الفقراءُ إلى حتفهم
  أسامة الحداد – القاهرة  

من فى هذا  العالم لم يضل طريقه ؟ هذه العبارة التى جاءت على لسان ويليام هى مفتاح من بين مفاتيح قراءة رواية رايات الموتى للكاتب هاني القط عن إصدرات روايات وهى الرواية الثانية بعد روايته الأولي سيرة الزوال، والتى جاءت أكثر اتساعًا، وتفاعلًا مع العالم بعيدًا عن التجريد فى تجربة مختلفة عن روايته الأولي، بما يؤكد أننا أمام كاتبٍ متعددٍ  لديه القدرة على التجديد والتجاوز، ويلج خلال الرواية عالمًا مسكوتًا عنه من خلال صناعة الإرهاب، ودور الأجهزة الأمنية بمستوياتها المتعددة فى صناعة العدو، وكيف يتم استغلال الفقراء والمهمشين، ويرصد من خلال الرواية حالة الاغتراب التى يعيشها المهمشون فى مصر، وأزماتهم المتعددة والمتشابكة، وقهر السلطة بعنفها وهشاشتها للضعفاء  .
 وجاءت الرواية بفصولها  ال 31 أقرب إلى ما يعرف برواية الأصوات،  برغم ترقيم الفصول  حيث يتناول الرواي حدثًا يخص شخصية من بين شخصيات
 الرواية ،  فى بنيةٍ دائريةٍ تبدأ بالحدث الرئيس فى الفصل الأول وتنتهي به فى الفصل الثلاثين، قبل أن تختتم الرواية  ب " جانيت " وهى تودع الشاعر الذى راح ضحية الحادث، وهو يلح على البنية الدئرية،  حيث يبدأ كل فصلٍ بالكلمة الأخيرة فى الفصل السابق، وكأنه يؤكد على التواصل واستمرارية الصراع والحياة أيضًا، ويمكن القول كذلك أن الرواية هى متوالية سردية يتناول خلالها الحدث ومقدماته، وجاء العنوان مراوغًا، فالرواية تحفل بالحياة حيث تتعدد الصراعات من خلال خطوطٍ  متوازيةٍ ومتقاطعةٍ، وشخصياتٍ يمكن أن نجدهم معنا وبجوارنا فى الشارع أو المقهى،  فالحياة بإشكالياتها المتعددة تبدو ساطعةً تجاور الموت، والرواية تبدأ بالحدث الرئيس حيث تخترق رصاصةٌ جسد ويليام سيميث الشاعر الأنجليزي فى صحن المدينة الجنائزية غرب طيبة، وهو الحدث الذى هز مصر والعالم عندما أقدمت مجموعة إرهابية على قتل مجموعة من  السائحين فى الأقصر، وهذا الحدث المعرفي تم توظيفه داخل النص ببراعةٍ – دون السقوط فى براثنه – ليرصد من خلال مقدماته عن لعبة السلطة وصناعة العدو، ويضع أسئلته البديهية فى الواجهة فالدنيا ليست سؤال جانيت زوجة الشاعر الأنجليزي ويليم سميث الغامض، بل سؤال الجميع حتى من يتصورون أنهم يصنعون العالم، وبين العلاقات المتشابكة والتباينات بين الشرق والغرب والتى بدت جلية فى العلاقات العاطفية وحالة الكبت الجنسي الذى يعاني منه سعيد بطل الرواية بأزماته المتعددة وصراعاته النفسية وهزائمه التى لا تفارقه، هو الممزق بين جاره أبى مصعب وضابط الشرطة بين انحراف رغباته التى تقوده ليكون مرشدا لأمن الدولة يخون جاره، وبين زوجة
يكتشف أن جسدها كان معه وقلبها ملك لآخر، إن الأقدار تسوق سعيد ليكون خائنًا وقاتلًا، أنه لا يملك إرادته طيلة الوقت تحركه شهوته مرةً والآخرون مرات، وأبو مصعب هو الآخر لعبة فى يد الأجهزة التى تعاونه للذهاب إلى أفغانستان، وتدفعه من طرفٍ خفي ليكون أميرًا لجماعةٍ متطرفة تعمل تحت بصرها، أنه يتصور قدرته على الفعل وإيجابيته ولكنه مجرد قطعة كبيرة فى لعبة الشطرنج تحركه أصابع لا يراها، وتقوده إلى نهايته، وعبر الرواية تتعدد الأمكنة والتى ترتبط بالزمن من خلال الحدث فى نسيج سردي ثري عبر خطاب روائي متعدد فى آلياته وأدائاته
بما يعيدنا إلى مقولة باختين " إن المشكلات التى واجهها المؤلف ووعيه فى الرواية المتعددة الأصوات أكثر عمقًا وأكثر تعقيدًا من تلك التى يمكن أن نجدها فى الرواية الوحيدة الصوت" 1 وبدا ذلك جليا فى بنية الرواية التى هى شبكة العلاقات المعقدة داخل النص من حيث الشخصيات والأمكنة والزمن والعلائق بينهم وفى مستوى اللغة واستخدام الجمل الحوارية والوصف والسرد والرواي ودوره، فالشخصيات وإن كانت كائنات ورقية إلا أنها تجاوزت ذلك، خاصة سعيد الذى يضعه الراوي فى ظروف تحتم عليه الفعل الآني، إنه يفقد الإحساس بنفسه ، ويفتقر للأمان، ويواصل السير فى طريقه إلى نهايته، وتبدو زينب بسلبيتها وانهزاميتها شبيهة به فهى تمضي مثله تمامًا إلى حتفها مقهورةً كأنموذجٍ لقهر المجتمع تستسلم لمرضها، كما استسلمت لحياة لا تريدها وزوجين لم يكن أحدهما من اختيارها، ومع العثور على من أحبت وخروجهما إلى شرفة حجرتها بالمستشفى تموت بين يديه، لحظة كشف علاقة عاطفية مقموعة، ليخفى سعيد جرحه الجديد، إنه ضحية ظروف إجتماعية تقوده وتحركه وكأنه بلا إرادةً،  حتى فى تردده بين قبول ما يريد الضابط وعلاقته بجاره أبي مصعب ( يسأل سعيد نفسه كثيرا، فتلقي به حيرة السؤال حيث مفترق طريق يحتم عليه الاختيار:
" هل يرفض التعاون أم يقبل " ص 79وهذا الصراع النفسي لا يؤدي إلى شيء إنه مُسير يتحرك بلا إرادة، وفى المقابل تبدو حياة ويليم سميث وجانيت كحالة موازية، حتى وجانيت تستعيد حديثه عن القدر عن القدر ( القدر !
" أتراه كان يسمع نبوءتك يا ويليم فاستجاب ؟"
قالتها جانيت بذهول، والدموع الدافئة تسيل على خديها الورديين ) ص19  تكشف التباين فى العلاقات الاجتماعية بين مجتمعين وهو هنا يحقق ما ذهب إليه رولان بارط  إلى أن الرواية عمل قابل للتكيف مع المجتمع وأنها الجنس الأدبي الذى يعبر بامتياز عن مؤسسات مجموعة اجتماعية، وينوع من رؤية العالم الذى يجره معه ، ويحتويه داخله2
إن رصد التغيرات الاجتماعية والسياسية، والتباينات بين مجتمعين تبدو جلية داخل الرواية، ليصبح الحدث التاريخي وهو الحدث الرئيس نتاج هذه الصراعات
والإشكاليات، التى هى بؤرة الفعل الذى تحركه قوى مختلفة، تعبث بأقدار البشر وتدفعهم إلى نهايتهم، فإذا كنا نقول أن القتيل يبحث عن قاتله كما فى قصة الأخوين
قايين وهابيل، فهنا القاتل هو أداة لا أكثر، والضحية لم يكن محددًا، والطريق إلى الحدث يوجد من يرسم له، ومن يمسك المهمشين بخيوط كأنهم عرائس خشبية فوق
خشبة المسرح، وفى فضاء النص ثمة تداخل جلي بين البحث عن الواقعية وحدود الفن، وفق وظيفة الفن المزدوجة، فالعالم غدا قرية صغيرة، وبالرغم من ذلك ثمة اختلافات اجتماعية وثقافية بين الشمال فى أوروبا والجنوب فى مصر، حتى وأن تواصلًا  عبر علاقة جسدية بين المرشد السياحي أحمد الرفاعي وسارا إدورد الأربعينية البيضاء، أو فى علاقة التعارف بين الطبيب مالك والشاعر الأنجليزي ويليم سميث، فالصراع بين المجتمعين لاينتهي حتى مع تواصل الفصول داخل الرواية بانتقال الكلمة الأخيرة بكل فصل لتكون بداية لما يليه، وكأن الروائي يلح على التواصل والامتداد، بل وعلى استثارة الماضي والذكريات، وارتباطها باللحظة الآنية، مع التأكيد لتجاوزه الثنائيات التى تلاشت أمام تقنيات عديدة، يتجاوز خلالها الواقع - وهو الحدث المعرفي والرئيس عن مصرع عدد من السياح فى الأقصر- ويتسائل ويتحاور فى علاقات جدلية ومتخيلة، تشكل رؤية جديدة للعالم، يسعي من خلالها إلى خلخلة ما اكتسب صفة القداسة والثبات،  ودفعه إلى مساحة من التوتر والجدل فالجماعات المسلحة، والمتطرفة التى شهدتها مصر فى التسعينات، لم تكن -  فقط  - نتاج أفكار ومفاهيم خاطئة، بل تتنوع مقدماتها وتتعدد من خلال قهر النظام والفقر واستغلال الضعفاء، وصناعة العدو، وهنا يتجلي المسكوت عنه، وهو توافر المقدمات كافة إلى اللحظة الراهنة، وأن شروط تنامي هذه الجماعات واستغلالها قائمة، فالقارئ هنا شريك فى النص يتفاعل معه يسعي خلف المسكوت عنه.
وداخل النص يبدو اللعب بالزمن الذى لم يعد خيطًا وهميًا تتابع الأحداث من خلاله، وبدا وكأنه يحقق مقولة بعض النقاد أن الرواية لعبة للزمن مثلها كالموسيقا، ولن يكون من المستساغ الحديث عن زمن المغامرة أوالحكاية، وزمن الكتابة، وزمن القراءة، وزمن ماقبل الكتابة فهذه التقسيمات النظرية يمل منها القارئ وتبعد بنا عن الرواية التى نحن بصددها، والتى لا يتتابع الزمن داخلها ولا يتحرك بشكله الاستطرادي المعتاد، فثمة لعب بالزمن الذى يتحول إلى حلقة أو دائرة يبدأ من لحظة وينتهى إليها من إطلاق الرصاص فى البهو الجنائزي غرب طيبة، وينتهي إلى اللحظة ذاتها، وكأنه يحقق مقولة " باشلار " : مادام الفعل القوي المُشتهى هو فعل العدوانية، فإنه ينبغي تصور الزمن كونه تراكمًا للحظات حاسمة 3
ومقولة باشلار وإن تحققت فى رواية رايات الموتى فى العديد من المشاهد حيث التحول يقودنا إلى أوج الزمن، كلحظة موت زينب والكشف عن علاقتها العاطفية،
 أو لحظة اكتشاف الضابط لسعيد كجار لأبي مصعب، فثمة تلاعبات عديدة بالزمن تبدو جليةً داخل النص، وبعضها من خلالها استعادة حدث من الماضي بصورة أقرب إلى النوستولوجيا حينًا وأحيانًا بلعبةٍ تشبه " الفلاش باك " فى الأعمال السينمائية، وكذا فى بناء الرواية حيث الأحداث متقاطعة ومتواصلة ويأتي كل فصلٍ بحدثٍ يتناول شخصية داخل النص، فتفكيك الزمن هو أحد آليات التعامل معه حتى وهو يتواصل،
وتتجمع الخيوط المتصلة والمنفصلة فى آن فى لحظة أوج الحدث مع الرصاصة المصوبة إلى القصيدة إلى ويليم سميث الشاعر الذي يتنبأ بموته كالكثير من الشعراء مثل لوركا وفروغ فرخ زاد وغيرهما .
وبجانب اللعب بالزمن فالأمكنة المتعددة داخل النص، والتى تمتد من لندن شمالًا إلى الأقصر فى جنوب مصر وبينهما أمكنة عديدة من إمبابة إلى المستشفي  والسجن، هذا التعدد فى الأمكنة والتى تتجاوز فكرة الجغرافيا إلى مصطلح الحيز أو الفضاء الذى هو رؤية فنية، وليس مجرد مساحة تتحرك خلالها الشخصيات، وهو ما بدا جليا فى علاقته بالزمن، وهما متلازمان فلا زمن بلا حيزٍ والعكس صحيح، وهو ما يصطلح البعض على تسميته بالزمكانية، والخلاف حول إشكاليات هذا المصطلح لا تعنينا الآن بقدر أهمية الحيز داخل النص وتأثير تعدد الأمكنة، وتوافق ذلك مع تفكيك الزمن، بل وعلاقة البهو الجنائزي بالموت، والصراع بين الأمكنة والذى يشبه الصراع بين الشخصيات، وتوتر العلاقات واستغلال المهمشينن وعلاقة الجماعات المتطرفة بالسلطة، ولعبة صناعة العدو.
ولايمكن تناول الرواية دون الوقوف أمام الشخصيات، التى وإن كانت مصنوعة باعتبارها كائنات ورقية، إلا أنها المحرك للأحداث، والتى يدور الصراع من خلالها، وجاءت الشخصيات متنوعة ومتعددة، بما أثري الرواية، وأهمها بالتأكيد شخصية سعيد بتوتره واستسلامه، وويليم سميث الشاعر الضحية بانعزاله الاختياري، وتجوله بين العالمين المعاش والمتخيل، وزينب المقموعة بانهزاميتها واستسلامها كصورة لقمع المجتمع للمرآة فى المجتمع الشرقي، والتى تقابلها شخصيتي سارا وجانيت، وكانت لكل شخصية دورها داخل النص الذى لا نتصور وجوده دونها، وجميعها تسير نحو قدرها المرسوم وفق أخطائها ورغباتها، بما فى ذلك الشخصيات التى بدت هامشية مثل الدكتور مالك والمرشد السياحي أحمد الرفاعي وكذا العازف الكهل الذى بدا كرمز لرسول من السماء يحمل النبؤة، أو كشبح بما يمثله من غرابة تتفق والموت غير المتوقع حتى لو تنبأ به الشاعر فى قصائده   .
ومن أبرز ملامح الرواية هى اللغة الشاعرية التى حملت السرد ليمتزج السرد بالوصف والحكي من خلال لغة دالة ومكثفة، تحملنا داخل الحدث ونجد ذلك فى
( لون خضار الأشجار كئيب، يشعر ويليام بشيء من الانقباض، الرجل الهرم الذى جاوره فى الطائرة يجاوره أيضًا فى مقعد الحافلة، كثيرًا ما شعر بذلك الهرم ينظر إليه بتركيز ولا يعرف لِمَ ؟)  ص 132
أو ( فتح الباب وخطا تجاه الصالة ذات الأرضية المقوسة بلاطاتها بفعل الرطوبة، والتى تخفي أشباحًا تتراقص على الجدران طوال الليل بجوار صورة أبيه المعلّقة ) ص 62
والأمثلة عديدة على هذه اللغة الجمالية الدالة التى حملت الخطاب الروائي، وتنوعها واستخدام الحوار بما يكسر مطلقية صوت الكاتب بما يثري الرواية التى دخلت إلى عوالم مسكوت عنها وكشفت عن مقدمات حدث تاريخي دون الوقوع فى براثنه أو السماح له بالطغيان على السرد، كما رأينا فى العديد من الأعمال التى تناولت أحداثًا متشابهةً حيث يكون للحدث الدور الأكبر ويتجاوز البناء الروائي، وهنا نجح هاني القط دون أن يغفل المعرفية والكشف عن مرجعيات هذه الجماعات المتطرفة، فى الكشف عن مقدمات وجودها بل وإنسانية أعضائها، وكيف تتلاعب الأجهزة الأمنية بالبسطاء والمهمشين فى نصٍ شديد الإنسانية ينحاز إلى الفن والإنسان ويواجه ألعاب القمع والسلطوية، ويضعنا فى دائرةٍ من الأسئلة، ويعلن إدانته لمجتمعٍ مقهورٍ، وسلطات تقود المهمشين إلى حتفهم، أننا أمام واحدة من  الروايات الثرية فى عوالمها، وآلياتها، والتى تشكل مساحة داخل الخطاب الروائي العربي فى لحظته
 الآنية .
---------------
1-ميخائيل باختين المبدأ الحواري – تزفيتان تودوروف – ترجمة فخري صالح –المؤسسة العربية للدراسات والنشر ص 41
2- د . عبد الملك مرتاض – فى نظرية الرواية – عالم المعرفة  ص 37
3-  غاستون باشلار – لوتريامون – ترجمة حسين عجة  - الروسم – دار المؤلف للطبع والنشر بغداد ص 39

ليست هناك تعليقات: