2011/10/17

"شهيد عند المصب " بقلم د. صديق الحكيم

شهيد عند المصب*
 د. صديق الحكيم

" الأدب هو موهبة أن نحكي حكايتنا الخاصة كما لو كانت تخص آخرين، وأن نحكي حكايات الآخرين كما لو كانت حكايتنا الخاصة."
أورهان باموق الأديب التركي الفائز بجائزة نوبل للآداب 2006

(1)
كان ما يزال فى أول سنوات العقد الخامس من عمره (إحدى وأربعون سنة) تقلب فيها بين جميع أنواع الشقاء وذاق فيها من عذابات الحياة الدنيا ألواناً و صنوفاً مابين فقر مدقع وبطالة محبطة وما أن ضحكت له الدنيا وتدرج صعودا من فئة رقيقى الحال إلى فئة ميسور الحال مروراً بفئة محدودى الدخل - أو كما كان يقال أيام الزمن الجميل فى العهد الملكى - من فئة معذور إلى فئة ميسور مروراً بفئة مستور، وهكذا ضحكت له الدنيا بعد طول عبوس، ولكن مالبست أن عاودت العبوس.

(2)
وهكذا هى الدنيا إذا حلت أوحلت..
وإذا كست أوكست..
وإذا جلت أوجلت
وإذا أينعت نعت..
وإذا جفت أوجفت..
وكم من قبور تبنى وما تبنى
... وكم من مريض عدنا وما عدنا
وكم من ملك رفعت له علامات.. فلما علا مات
هى الدنيا تربى الفتى حتى إذا ما تم:
أمره دهته كما ربى البهيمة جازر

(3)
لم يكد يبلغ الخامسة والثلاثين حتى كشر له المرض اللعين عن أنيابه فأصاب منه الكبد، والكبد هو التعب والمشقة كما جاء فى التنزيل "ولقد خلقنا الإنسان فى كبد"، وفى لغة أهل لندن عاصمة الجزيرة العجوز فى أقصى غرب أوروبا المنحدرة من لغة أهل اليونان فى أقصى الشرق الأوروبى، الكبد من الحياة وصحة الكبد تساوى حياة صحية ومرض الكبد يعنى حياة بلا حياة
خمس سنوات عانى فيها من داء الكبد وأخد الجولة المعتادة على الأطباء فى القاهرة والأسكندرية ودمنهور واستقر فى المتابعة الشهرية على طبيب القرية.
(4)
ومرت الأيام والمرض اللعين ينهش فى كبد ه وهولا يدرى تعتريه على فترات بعض الأعراض يزور على إثرها الطبيب فيصف له مزيلات الأعراض لأنه لا دواء ناجع لهذا الداء العضال الذى استشرى فى أكباد المصريين ولم تحرك الدولة له ساكنا ربما لأنه مرض من أمراض الشعب المطحون وليس من أمراض علية القوم كالشد والنفخ والشفط.
(5)
إنه لعنة النيل على المصريين كل من يقترب من النهر الخالد تصيبه اللعنة ولكن بدرجات متفاوتة كل حسب براءته وجنايته
وتلك اللعنة ليست جديدة على أكباد المصرين لقد اكتشفها بلهارس فى مومياء أحد الفراعين قبل مائة وخمسين سنة.

(6)
تطور الداء العضال مع يوسف، وصل ذروته فى السنة الأخيرة
ظهر ماء النيل كأنما يفيض من بئر عميقة، فيضان من ماء النهر يستقر فى بطنه لينتج عنه تابع من توابع لعنة النيل يطلق عليه الأطباء الاستسقاء.

(7)
يناير 2009، ماء النهر ما بين مد وجذر، يرتفع المد فلا يستطيع التنفس وربما ينام جالسا من شدة التعب، ويهبط فى الجذر فيتحسن ويخرج إلى الناس الذين عرفوه هاشاً باشاً، كثير المزاح يجلس على الدكة الخشبية أمام محله فى الشارع العمومى.
يتجاذب أطراف الحديث مع صنوف شتى من الناس الناظر والحداد والمدرس والبواب والفلاح.


(8)
فبراير 2009
غياب عن الوعى تابع آخر من توابع لعنة النهر يحضر الطبيب فيصف المحاليل والحقن بعدها يرجع الوعى وتستمر الحياة بلا حياة.

(9)
مارس 2009، نحو المصب، أرى من بعيد النقطة التى يلقى النهر فيها بنفسه مستسلماً لتنتهى به الرحلة بين أماج البحر.
يجرفنا تيار النهر المتسارع من الجنوب إلى الشمال لا يتركنا لحظة نلتقط فيها الأنفاس اقترح البعض أن نذهب إلى المستشفى لمزيد من الرعاية وماذا سيفعل الأطباء لنهر كتب عليه أن تنتهى قصته عند المصب، هذا قدر وليس من القدر فرار؟!

(10)
أبريل 2009، عند المصب، ثلاث ليال جلسنا فيها حول النهر نصلى وندعو ونبتهل إلى الله أن تعود الحياة، لكن أبى النهر إلا أن يخرج من مجرى الحياة إلى حيث مثواه المحتوم شهيداً نعم شهيدأ ولما لا ودليلى ما ورد عن نبي الرحمة أن المبطون شهيد.
هاهو يلقى بكل همومه وعذاباته التى لاقاها طوال الرحلة الممتدة عبر أربعة عقود خلفه ويغتسل، ويزوره الأهل والأقارب والأحباب ويمنع من زيارته أناس قليلون لم يكن ينسجم معهم
(11)
الليلة الأخيرة، الجمعة 3 أبريل 2009
فى ليلة مثل هذه الليلة مساء الجمعة 24 فبراير 1991 رحلت أمى، وكان يوسف يجلس، جلسنا عند الممر الضيق الذى تتسرب منه مياه النهر إلى حيث البحر الأبيض من حياة الكد والمرض إلى سعة رحمة الله، جف النهر، همد النهر، مات النهر
(12)

عند التاسعة مساءً، أعلنت الخبر فأذاعته النسوة المتشحات بالسواد اللاتى كن يجلسن عند عند حافة النهر
الآن تحولن للالتفاف حول زوجته الثكلى، بدأت تبكى زوجته فى صمت ومن حولها يتبارين فى العويل والضراخ، فنهرت الجميع وليست النائحة الثكلى كالنائحة المستأجرة، وكل البواكى يكذبن الإ باكيت الشهيد، مرت ساعات الليل الطويل المظلم
مرت خلالها ذكرياتى معه خلال ربع قرن كان فيها الأخ والأب
شاركنى فيها الأفراح والأتراح، وشاركته فيها الآمال العريضة والطموحات، نفذت وصيته الأولى وجعلت قبره ملاصقا لقبر أمى عند حافة النهر وعدت إلى البيت أغلقت الباب.
واقتصر العزاء على المقربين

(13)
فى ذكرى رحيله الأولى جاء وقت تنفيذ وصيته الثانية حضرإلى بيتنا الشيخ عبد العظيم زاهر قرأ آيات الذكر الحكيم بصوته العذب الشجى على مسامع الحضور من المقربين الذين حضروا بعد صلاة المغرب.
(14)
وفى ذكرى رحيله الثانية كانت ذكرى فريدة كنت هنا وحيداً غريبا على شاطئ الخليج العربى أجلس كانت ذكرى مسيّلة للدموع عبرت فيها عن حزنى علي فراقه بالبكاء والنحيب، لأول مرة أبكى على فراقه سألت نفسى: لماذا تأخرت دموعى كل هذه الفترة؟
لأننى الآن فقط ومع وحشة الغربة والوحدة استوعبت أنه رحل
طوال الأيام الماضية وعقلى لا يريد أن يصدق أننى من أعلن نبأ وفاته وأنا من صلى عليه ودفنه وتلقى عزاءه ونفذ وصياه
الآن فقط استطاع عقلى أن يصدق أننا لن نلتقى ثانية عند النهر
رجائي من رب الشهيد أن نلتقى عند نهر الكوثر.

 4/4/2011
* من مجموعة وادي القمر* الذكرى الثانية لوفاة أخى يوسف رحمة الله عليه
* كتبت المسودة الأولى على كورنيش الخبر
*كتبت المسودة الثالثة 30/5/2011
بفندق الفورسيزون – برج المملكة - الرياض

هناك تعليق واحد:

إيهاب الحمامصى يقول...

انا فى شدة الحزن والألم يا د صديق
هل حقا مات يوسف ؟؟
هل غابت تلك الضحكة الصافية البريئة وانا بعيدا غريبا لا اعلم ؟؟
رحمك الله يا صديقى الغالى
يعلم الله اننى كنت اتذكره بالخير دوما
إيهاب الحمامصى