2012/08/07

" ترنيمة الخامس من يونيو " بقلم: حسن النجار


    ترنيمة الخامس من يونيو
  " كتاب قرأناه في الحرب ولم نعثر له علي أثر "
حسن النجار

قبلتُ بفرح غامر دعوة من صديق قديم لزيارة سيناء التي لم أزرها بعد انفضاض الحرب.
سيناء هذه التي أَخضَعتْ جسدي لتراتيل عشق لايُضاهي، وما زالت . أطلُّ عليها من وقت لآخر من خلال نافذة الشعر فأرسم تختة رمل في الذاكرة كما كنتُ أرسمها في الحرب ،وأحدد عليها النقاط الإشارية كما كانت في الحرب.. وأعاين فيها ما كسبتُ وما خسرتُ .
لم يقل أحدٌ أن سيناء هي أرض الفيروز إلا عندما أُخليتْ من عِتاةِ الحرب لتصبح منتجعات سياحية يملكها غلمان السوق.
    " _ سيْناء ياامرأتي العاشقة ...... "

هكذا كنت أقول عندما كانت سيناء لها مكانة العشق في قلوب محبيها العشاق ويحاورونها في كل ظلام :
    
     " ـ لمن تنشرين الثياب علي حافة الشاطئين  ؟
        ـ لأهلي الذين يجيئون في ساعة الاغتسال .
        _ لمن تَشْخُبين حليب الفصول   ؟
        _ لطفلي الذي لايريد الفطام  .....
         ـ لمن تسكنين نواصي الجبال ؟
         ـ لأهلي الذين يبيتون تحت حروف الهجاء ..
         ـ فقومي إلي الدرس نكتب أسماءنا  في
          كتاب الرسوِّ ....       "

كان بإمكان المحارب أن يري سيناء علي امتدادها من فوهة بندقيته ..كانت علي مرمي رصاصة .
أول مرة زرتها قبل حرب أكتوبر ضمن مجموعة قتال في إغارة علي مواقع العدو .. قبَّلتُ ترابها وغمرني دفؤها الإنساني ..
وانفطرنا بكاء نحن الاثنين .كنت أحس بأن جسدي قد التصق بجسدها في حميمية لاتُجاري .. وتواعدنا علي اللقاء ثانية .
السيارة تقطع بنا المسافة في سيناء عبر طرق ممهدة لا تميل يمينا أو يسارا، كنا نود أن تكون كذلك قبل الخامس من يونيو الحزين حتى لايضلّ  أحدٌ الطريق في زمن الانسحاب المزري.
 السائق منشغل بسماع أغنية من المذياع ، وصديقي منشغل بقراءة جريدة ، وأنا منشغل
  بالنظر إلي سيناء من خلال النافذة ..وأشم عبير ذكريات مندَّاة برائحة العرق والدم والرمل والبارود .
قلت للسائق : مُرَّ بنا علي جبل لُبني رجاءً ..
ضحك وتصور أني أطلق إحدي النكات .
قلت لصديقي الذي لابد أنه سيفهم :
   _ لقد دفنتُ سلاحي بالقرب من جبل لبني ونحن ننسحب في يونيو حتى لايقع في أيدي العدو .. وأنا أعرف مكانه جيدا ..إنه تحت قطعة كبيرة من الحجر ولففته بسترة الأفرول حتى لايطاله الصدأ..
قال وهو يبتسم :
    _ لم يعد في سيناء شبر واحد إلا وقلَّبتْه الجرافات  وكل
     أدوات الحفر ..
يبدو أن لا أحد في هذا الزمن يعرف أن سيناء هي منطقةُ صدِّ
قتال عبر التاريخ أو سد ناري كما أراها.. مهما صُوِّرَ له غير ذلك ، وستفقد صلتها بالوطن إذا انتفت عنها هذه الصفة .وأنها منطقة تواصل مع الجغرافيا العربية في نفس الوقت .
ولا أحد يعرف أسماء : مكسَّر الفناجين ولا جبل لبني
 ولا أسماء الممرات الثلاث الشهيرة التي أُوقفنا في الحرب
دون الوصول إليها .

أحس أحيانا أني صاحب هذه الأرض التي اسمها سيناء .. معشوقتي السمراء التي أشرب من ثدييها حليب الرؤيا ، ومن حقي أن أغار عليها إذا تحرش بها أحد غيري .. 
ثم واصلتُ النظر من النافذة وأخذتْني الذكرياتُ إلي زمن   الوثوب إلي النار :

كانت الوثبة الأولي علي جبل في اليمن بالقرب من صنعاء قاتلنا ،
 واسترخينا ،
وفتنتنا لعبة الورق (الكوتشينة )
وكسبنا ،وخسرنا ،
وملأنا خيامنا بما نشتهي من أسواق اليمن العامرة في انتظار أن نعود بها إلي الوطن في
أجازاتنا المقبلة.
وتبدلت الأمور فجأة ..
فحين صدرت إلينا الأوامر بالاستعداد للرحيل إلي سيناء عبر البحر ، لممنا علي الفور فرْش
متاعنا وهيأنا أنفسنا للوثبة الثانية إلي ميادين الحرب الحقيقية التي اجتمعت في ميدان واحد ..هو ميدان سيناء :

ظهر الثالث من يونيو 67 ألقت بنا الباخرة العائدة من مسرح العمليات باليمن علي أحد شواطئ سيناء القريبة من خطوط العدو ،ولم يتبق سوي يومين اثنين لكي احتفل بعيد ميلادي الذي يصادف الخامس من يونيو كدأبي في كل عام .
 اختير لنا موقع قتال جهزناه هندسيا علي عجل  ،ثم في اليوم الثاني اُختير لنا موقع قتال آخر انتقلنا إليه فجهزناه هندسيا لكي يتلاءم مع قدراتنا المحدودة , ثم في اليوم الثالث اُختير لنا موقع قتال ثالث ..وفاجأتنا  الحرب دون ان نكمله هندسيا وحدث ارتباك وهرج ومرج ، ولم ينقذنا من هذا الهرج والمرج سوي قرار الانسحاب المفاجئ .
 لم يكن لدينا سوي ربع خط ذخيرة فقط  تكفي بالكاد قتال يوم أو أقل من يوم حسب زخم الحرب ، وقالوا لنا قبل مغادرة ميناء الحُدَيِّدَة :
_ ستستكملون خطوط الذخيرة عند وصولكم إلي جبهة سيناء.
وأتساءل :
 لماذا اختارتْ إسرائيل هذا اليوم تحديدا لشنِّ عدوانها ..
وكأنها شنَّتُه عليَّ وحدي ؟
فقد صدرت لنا الأوامر بالانسحاب المبكر إلي خط الدفاع الثاني ، دون أن نطلق طلقة واحدة من ربع خط الذخيرة الذي حملناه معنا من اليمن ، وقد ذهب إلي العدو معبأً في صناديقه..
 ولم نجد خط الدفاع الثاني .      
( هذه الواقعة لم تذكر في كتب أو مرجعيات  .. لكنها حدثت بالفعل )
وتذكرت علي الفور ماقاله المشير عامر في آخر اجتماع له بالضباط المصريين قبل شهرين حين زار جبهة اليمن :
     " الحرب بيننا وبين إسرائيل آن لها أن تقوم في هذا الزمن ..ونحن مستعدون لها "
كنا في بداية الانسحاب قرابة المائة ،ثم بعد انقضاء يوم اقتصر العدد علي العشرين بعد أن انتشرنا علي مساحات شاسعة من الأرض خشية طيران العدو الذي راح يتعقبنا بضراوة ،وبعد يومين استقر العدد علي ستة :
ضابطين وأربعة جنود ..ضمنا كتابُ التشرد الطويل ..
      ( كتابٌ قرأناه في الحرب ولم يُعثَر له علي أثر ..)
تشابهت الأرض من حولنا إلي حد أننا لم نكن نعرف في أي الاتجاه نسير من أثر الصدمة، ولم تكن لدينا دراية  بسيناء إلا علي الخرائط فقط  .. لم تكن داستها أقدامنا من قبل ..
وكان دليلنا هو شروق الشمس وغروبها .
والليل كان وبالا علينا .
لم يتسن لأحد حمل ماء أو زاد ، أو أي متاع شخصي ، أو حتى أي من الهدايا التي جلبناها من أسواق اليمن .. كان السلاح الشخصي فقط هو الذي استطعنا حمله :
         لا أتركــــه قط / حتى أذوق الموت .
في ظهيرة يوم اصطدمنا بمفرزة  إسرائيلية عند أحد المفارق، كانوا من جنسيات مختلفة ،فمنهم الأشقر ومنهم الأسمر ومنهم بين هذا وذاك .
أوقفونا .. وفتشونا..
 ( كنا هيأنا أنفسنا لمثل هذه المفاجآت حين ابتدأنا السير إلي الوراء )
ولما لم يجدوا لدينا شيئا ذا بال قيدونا بالسلاسل وقال أحدهم بالعربية :
انقلوا هذه الرسالة إلي رئيسكم عبد الناصر:
    _ إنه هو الذي أطاح بكم في الصحراء وليس نحن ..
كنتُ أعرف أن هذه هي أساليبهم في الحرب النفسية التي يجيدون فنونها كثيرا.
ولم يكن باستطاعتنا عمل شيء أمام هذا الموقف الصارخ 
والمهين سوي أن نرد عليه بنظرات  غيظ مكتوم .
ثم غادروا المكان وتركونا في السلاسل .
ربما لم يكن لديهم وسيلة مواصلات لكي يحملونا أسري إلي إسرائيل ..
واستطعنا بعد طول عناء أن نتخلص من هذه السلاسل  وهربنا في اتجاه آخر . وهذا الاتجاه الآخر هو الذي أدخلنا في متاهة سيناء  فضللنا الطريق ..
في الحرب كل شيء مباح لدي العدو  حتى القتل العمد ..
ففي أحد المدقات رأينا جثثا للعشرات مكبلة ومهروسة كأن دبابة مرت عليها .
وطوال الطريق كان من السهل تمييز من قُتل بالرصاص أو بشظية أو من مات جوعا وعطشا .وكلما وجدنا جثثا نعرف أننا نسير في الاتجاه الصحيح .
 وقد خلتْ سيناء علي اتساعها الرهيب إلا من فلول تائهة في الصحراء ،وعربات محطمة ،ودبابات مغروسة في الرمال وقد تفحمت ،وطيور جارحة انشقتْ عنها السماءُ فجأة كأنها مدعوة لمائدة عامرة ،ومقْدِم الموت في كل لحظة .
ونتخذ من حفرة أو خندق ،وما كان أكثرها خلوا ،مكانا نغفو فيه بعض الوقت بالدور ،ونعين قيَّما علينا في كل نوم ،وكان نوما متقطعا تزوره الكوابيس ،ونتخيل الوطن ينمو في داخلنا كالعشب الأخضر .
لم أكن قد رأيت سيناء من قبل إلا علي الخرائط كبقعة من هذا الوطن الممتد ، ومن الصعب علي المرء أن يحدد زواياها وإحداثياتها علي الأرض .فكان علينا أن نختار مسالكها الوعرة علي آثار العربات كأننا من مقتفي الأثر .
هكذا كنا نري الحياة أو ماتبقي منها فينا . وسؤالان ينغرسان في اللحم المتورم :
هل يتذكرنا أحدٌ ونحن في هذه اللحظة الفاصلة بين الحياة والموت ؟
وهل تشكيلنا فقط هو الذي تشتت في الصحراء أم التشكيلات الأخرى المماثلة  ؟
ورحت ألوك في سري مقطعا شعريا كتبته منذ ثلاثة أعوام قبل الجندية :
      " ورحنا نجدف في ساحة الملح جُندَ الهزيمة
          نعانق في الريح أصواتَ بومة
          ونسأل أنَّي نواريكَ يا عالم الانتظار
           وحتى نغنيكَ يا صبح
           هل يسلم النجمُ أشواقنا للنهار ؟ "
وجاء علي الوجيعة كما يقولون ..
وأعتقد أنه  لم تكن ثمة كارثة بهذا الحجم المرعب مثل التي نعيش فيها الآن عندما كتبت هذه القصيدة والتي عنوانها
 " ميراث الزمن الضائع"  
 وعدنا نجدف في ساحة الملح  جند الهزيمة ."
وتمضي بنا الرحلة في متاهة الصحراء بدون أن تلوح في الأفق بارقة أمل .وأشرف بعضنا علي الموت عطشا ..
قال جندي : لو تمطر السماء الآن ..
 وهو يدقق النظر إلي أعلي ، وأطال النظر ..وخفتُ أن يتعلق نظره في الفضاء فلا يري الأرض بعد ذلك .
 صرختُ فيه : كفي ..
 إلي أن منَّ الله علينا بقشرة بطيخ طازجة عثر عليها أحد الجنود حين ذهب لقضاء الحاجة ، وأتي بها إليَّ لنقسمها بيننا ( رفقة ميدان )
كنا نلوكها ونستحلب ماءها ثم نبتلع ما تبقي منها لنمد من عمرنا يوما آخر .
وتمرق من علي بعد أمتار منا عربة زيل عسكرية تلاحقها طائرة معادية فأصابتْها بصاروخ فاحترقتْ عن آخرها ،وحمدنا الله علي أننا لم نكن من بين راكبيها ،فقد أشرنا إليها بالتوقف فلم تتوقف .
       ( كتاب قراناه في الحرب ولم يُعثر له علي أثر )

وراح كل منا يتذكر الأيام الأخيرة التي سبقت الكارثة في لحظة من لحظات المكاشفة كما لو أننا نتشبث بالحياة :                
وحانت لحظة الاعتراف التي تسبق الموت .
قلت لهم :
 _ إذا كانت هذه هي لحظة النهاية فلنصل صلاة المودع ..
وقمنا لأداء الصلاة جماعةً بعد أن تيممنا بتراب سيناء .
    ( كتاب قرأناه في الحرب ولم نعثر له علي أثر )

في اليوم الخامس علي ما أتذكر أهلَّ علينا أحدُ الشاردين وقال لنا بدون مقدمات:
 _ اسمي روزين ..الملازم أول روزين زميل لكم من الوحدة
   كذا ..
في البداية توجسنا منه خيفة ،ليس لأنه يحمل إسما غريبا لم نسمعه من قبل  ،بل لأنه مازال يحتفظ برتبته العسكرية
 ( كنا نزعنا رُتبنا ودفناها في الرمل ) وثيابه نظيفة وحذاءه
لامع ..كما لو أنه لم يدخل مثلنا كتاب التشرد .
 قال : اتبعوني فأدلكم علي طريق آمن للعودة .
لم يسأل أحد منا من أين جاء هذا الروزين ؟
 ولا لماذا يحتفظ بهندامه نظيفا كل هذه لأيام ؟
لكنه أخرج علبة سجائره وعزم علينا حتى يشيع فينا هدأة 
الاطمئنان .
وانقسمنا إلي فريقين :
 فريق وافق علي الذهاب معه ..
،وفريق لم يوافق علي الذهاب ..
وأنا كنت من الذين وافقوا علي الذهاب معه لآخر الشوط ،ليس تأكدا من سلامة نواياه ،بل لأن اثنين من الجنود قد أوشكا علي الانهيار من شدة التعب والجوع لدرجة أن  قال أحدهما في لحظة يأس :
     _ اتركوني هنا لأواجه مصيري وحدي وامضوا  إلي
     حال سبيلكم .
 تاركا للفريق الآخر حرية اتخاذ مايرونه ..فنحن في مجموعنا الآن نشكل دولة لها قانونها الخاص بها وحرية الرأي مكفولة للجميع ولا أحد يستطيع أن يكره غيره علي فعل شيء لا يريده
وذهبت ُ وفريقي وراء الملازم أول روزين  ،والفريق الآخر
اتخذ وجهة أخري .
وشعرت بنوع من الأسى لانفراط شمل المجموعة عند أول
نقطة اختلاف.
في أول ليلة دلَّنا روزين علي ما يشبه كهفا بتنا فيه وتولي هو حراستنا .
 ولأول مرة أنام نوما عميقا غير متقطع لا تزوره الكوابيس .
ولأول مرة أخلع حذائي أثناء النوم لتأخذ قدماي  قسطا من
الهواء الطلق .
وتمنيت لو كان معي ورق وقلم لكتبتُ ما يُمليه عليَّ جسدي المستريحُ الآن  من قصائد التعب ..
وشعرت للمرة الأولي منذ ابتدأنا هذه الرحلة الحزينة  أننا ابتعدنا عن مخاطر العدو في ظني .
 في اليوم  التالي تقدَّمَنا روزين إلي طريق خالٍٍ من الجثث والعربات المحطمة لم يخطر ببال أحدنا أن يسلكه .
ورأينا من بعيد ظلا لثلاثة أشخاص يقتربون منا رويدا رويدا ..
إنهم الفريق الذي اتجه الوجهة الأخرى .
جاءوا واعتذروا ..وكنت علي يقين من أنهم سوف يعودون إلي بقية الشمل لتلتئم الجراح التي خلفها انفراطهم عنا.
فطريقنا واحد : إما أن نموت معا .. وإما الحياة لنا كلنا .
بدأت الأرض تنبسط من تحت الأقدام .وازدادت شكوكي تجاه الملازم أول روزين :
هل هو عدو أم صديق ؟
لم أفصح بهذه الشكوك لأحد ، فقط كنت شديد الحيطة والحذر تجاه ما يدور ، فنحن ستة ضد واحد لو اقتضي الأمر. ثم أن ليس معه سلاح .  ورغم هذا لم نفارقه .فقد تولد فينا شعور الغريق الذي يبحث عن قشة فوجدها واستعصم بها .
وفي الليل ظللنا نسير خلفه وقد اشتدتْ عزيمتنا ولم نعد نشعر بجوع أوعطش ..ثم لمحنا من بعيد ضوءًا خافتا أشاع فينا بصيصا من أمل .
 قال روزين وهو يبتسم :
 _ انتظروني هنا حتى استطلع المكان جيدا .
وترك لنا علبة سجائره .. وغاب في الظلام الدامس .
انتظرناه طوال الليل ، ثم نهار اليوم التالي ..فلم يأت .
 وفي الليلة الأخيرة لمحنا من بعيد الضوء الخافت فسرنا باتجاهه قرابة الساعتين ..يدفعنا هاجس الذي رأي الحياة تنبعث من الموت ..
وازدادت الأرض انبساطا تحت الأقدام إلي أن اصطدمنا بمفرزة مصرية كانت تستقبل الشاردين
اصطحبتْنا إلي الشاطئ الغربي للقناة .
وعندما كان القارب يقلِّنا  لم نجد بيننا روزين .
                        


ليست هناك تعليقات: