2010/11/11

روايات قائمة البوكر الطويلة في ميزان النقد

روايات القائمة الطويلة في ميزان النقد

القوس والفراشة : سياحة في خرائب حداثة المجاورة

بقلم: إبراهيم أزروال
مما لا شك فيه أن علاقة الرواية بالتراجيدي حميمة؛ فالرواية لا تستوطن إلا شقوق المأساة، ولا تستظل إلا بالظلال الكئيبة للخرائب، ولا تستسيغ إلا الإقامة في الزوايا المظلمة للنفس الفردية ولمخيال الجموع.
لا يمكن للرواية إلا أن تستكشف جغرافية الالتذاذ بالموت، وبصناعة الموت وبأماكن انبثاق التهوس بالعوالم البديلة للعالم الحسي المشاهد. ليس الموت إشكالية الإشكاليات أو حقيقة الحقائق المرة في عالم الانتحار الطقوسي، بل معانقة احتفالية للحياة الأخرى وصناعة مشهدية متقنة للكينونة وهي تصنع النجاة بالدم المراق وبالأجساد المحترقة وبالرعب المعمم. لا يأتي الموت من المجهول، بل تبنيه الطوبى تدريجيا، ليحصد الجميع في طقسية مشهدية لا تخلو من الاستعراضية الفرجوية. لم يعد الموت إشكالية أنطولوجية بل طوبى ميتافزيقية. لا يأتي الموت من بعيد، بل ينبثق من كوى الذات والقلب المنهجي للقيم ومن قيعان مخيلة قيامية جامحة.
فالإرهاب لا يعني سوى الذهاب الفرح إلى الموت… سوى تسريع الزمان البيولوجي وتقريب الفناء من الذات ومن الجمع. إنه نوع من حصد الخيرات بأدوات أخرى!
كيف يختار الحفيد(ياسين الفرسيوي) الانخراط في المتخيل القيامي، وينزاح عن الذاكرة التاريخية الاستعادية للجد(محمد الفرسيوي) والذاكرة المفتتة للأب (يوسف الفرسيوي؟ كيف اختار الحفيد أن يشيد أسطورته القيامية، بعيدا عن الأسطورة المرممة للجد وعن الأسطورة المتشظية للأب؟ كيف ينحاز الحفيد إلى سردية الموت الجاهز، بعيدا عن سردية التاريخ المستملك وسردية التاريخ المتحرك بين مثالية يسارية هي برسم الاستعادة الحالمة وواقعية نثرية هي برسم التفكيك؟
كيف انتقل الحفيد من التركيبية التثاقفية للجد والابن، إلى الأحادية الثقافية للفكر السلفي الجهادي؟ كيف ينتقل الحفيد الغض من التثاقف الصعب والمتراكب، إلى ثقافة تقديس الثنائيات الميتافيزيقية وعشق الموت؟
ليس الموت الميتافيزيقي من فصيلة الموت التراجيدي؛ فالموت الميتافيزيقي خال من عناصر الدراما ومن تراكب الحوافز والغرائز والأزمة؛ إنه محو معلن للتشابك والتراكب والتعارك، والتحاق فرح بعدم امتلائي. ليس الإرهاب والحال هذه، إلا عملية محو منهجية للثقافة أي لحصيلة التفاعل بين الإنسان والطبيعة، بين الإنسان والزمان، بين الذاتية والغيرية. الإرهاب إذن، هو قفز على الحضارة لمعانقة لا الطبيعة المتحولة المتزمنة المؤنسة، بل الثقافة المؤسطرة في بعدها القيامي. أنا أموت من أجل اللذة الأخروية، إذن أنا موجود. ذلك هو كوجيطو الإرهابي. أو بالصيغة التداولية العربية – الإسلامية : انقتل تلقَ الجنان!
الإرهاب تحويل لإحداثيات التلذذ، لأمداء التمتع، لزمانية الانتشاء. يريد الإرهابي لذة لا تخترقها سهام الزمان، ولا تنالها ظلال التقطع. الإرهاب هو إرجاء اللذة، نقل الالتذاذ من حداثة التحقق، إلى قيامية الافتراضي.
( اختلت حياتي لهذا الحد، عندما قرر ابني الوحيد الذي كان يتابع تكوينا لا معا بإحدى أكبر المدارس الهندسية الفرنسية أن يذهب إلى أفغانستان ويجاهد مع مجاهديها إلى أن يلقى الله. وقد لقيه فعلا، في الأيام الأولى، وفي ظروف غامضة لم أستطع استجلاءها ولما يبلغ العشرين من عمره. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب - الطبعة الأولى 2010- ص . 15 )
تكمن المفارقة هنا في الانعطافة الحدية لياسين الفرسيوي، وتحوله من الهندسة المدنية إلى هندسة الموت. كما أن فرنسا الديكارطية والأنوارية، تحولت إلى مجرد محطة استقطاب ثيولوجي. وهكذا تحولت الفعالية العلمية إلى معبر لاعتناق أشد الفكريات منافاة ومجافاة للمنهجية العلمية؛ كما تحول فضاء الثورة الفكرية والسياسية، إلى محطة عبور إلى فضاءات القتل والانقتال باسم اللذة المرجأة.
فالإرهاب هو حصيلة التقاء سيمولاكر الحداثة بأيقونة اللذة المرتقبة.
تكمن مرارة الإرهاب الكبرى في إثارته المزمنة لسؤال الانبثاق. من أين انبثقت هذه الرغبة القاتلة في اللذة القيامية؟ كيف يبزغ هوى الامتلاء الافتراضي، في سياق ثقافي، متخم بأسئلة المسار والصيرورة، بالولادات المستعصية وبخرائب الروح؟ كيف يكبر التيتم بالانقتال في وسط يخلط الأسطورة بالتاريخ ويبحث لاهثا عن الفعل الممتلئ وعن المعنى المؤسس؟
( كيف يمكن أن نفهم الإقدام على تفجير النفس في مطعم أو في مسجد أو أمام مدرسة أو في موكب جنائزي.. كيف يمكن أن يكون ذبح الأطفال من الوريد إلى الوريد في قرية جزائرية تعبيرا؟!كيف استطعنا أن نلد هذه الكائنات؟)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 140 )
يمثل الانبثاق الصاعق للقدامة الفائقة، مفاجأة في مشهد تاريخي، يصطرع فيه الفرفاء تحت مظلة الزمان، وبآليات مصاغة بأنامل وضعية. لا يملك السارد، أمام الانبثاق المفاجئ للقدامة الفائقة في المشهد الثقافي المغربي، سوى استعادة المسار الأسطوري لمحمد الفرسيوي واستقصاء علل الخرائب في مغرب هناءة الحداثة الفائقة والإيغال في قياس مساحات التحول الميتامورفوزي لدى المهووسين، ذات زمان ثوري، بتثوير الفعل وتسريع التاريخ على إيقاع الزمان الماركسي اللينيني!
( قلت، لست كذلك، ولكنني أتفهم أن أكون كما تدعي، لأن هذه الطمأنينة العامة تزعجني. هذا الشعور بأن الجميع قد وصل إلى بر الأمان، وأن لا شيء يهدد غفلتنا هو شعور بليد ولا مكان فيه لأي شيء إنساني.)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 290 )
يأتي انبثاق الإرهاب ليرج الأمان الخادع، وليرمي بمن يستظل بالمصالحة السياسية وبالموافقة الفكرية، في لجة جديدة، لجة استكشاف اللهب الجديد الأتي بعد انطفاء الاعتراك الفكراني. لقد خمدت نيران الايدولوجيا، لتتأجج، حمم القيامة .لا ينسحب أفق التاريخ من المشهد، إلا لتشحذ القدامة الفائقة أسلحتها الانتحارية. لا يغيب الفعل التاريخي، إلا ليطالب الجذمور الإبراهيمي باجتثاث المفعول التحديثي والتنويري للحداثة، وقلب مسار التاريخ الحديث جذريا!
فالأمان الناتج عن المصالحة، ينطوي على انتفاء العنف العمودي ظاهريا على الأقل؛ إلا أن الإرهاب يكشف عن عنف أفقي أشد ضراوة، لأنه منغرس في قيعان الميثولوجيا وموجه إلى الالتذاذ القيامي .فالعنف القيامي المنفصل عن العنف السياسي للدولة، يعلن عن انبثاق عنف متأجج، شغوف باللذة الفردوسية وبتضاريس الإمتاع القيامي.
فحين ينفصل العنف عن الفكر والسياسة، وينصرف إلى رسم خرائط الرغبة المرجأة، ينبجس الفعل الإرهابي، ويخلخل بنية المصالحة من الأساس ويرج العقل الذرائعي.
ليست رواية " القوس والفراشة "، على الحقيقة، إلا تأملا في صدور اللامحتمل واللامتوقع في سياق تحكمه الموافقة، فكرا وفكرانية، والتناهب، سياسة واجتماعا واقتصادا .كما ليست إلا تأملا في مكر القدامة الفائقة، القادرة على الاستعانة الماكرة بخدمات الحداثة الخلاسية والحداثة الفائقة معا. لا تتفوق القدامة الفائقة في صناعة المشهديات القيامية، فقط، بل في استملاك الايطيقا والقانون والتقانة، وكل ما بلورته الحداثة من إبدالات ومتصورات، لتنفيذ مخططاتها الكابوسية.
فقد تمكنت القدامة الفائقة من استقطاب موارد بشرية، تؤهلها نشأتها الاجتماعية وتكوينها الثقافي الأصليان، لتبوأ مقاعد وثيرة في فضاء الموافقة. تتجلى فداحة القدامة الفائقة، في قدرتها على إصابة الحداثة الفائقة، في مواردها البشرية وبآلياتها وتقانتها وقوانينها وعلومها نفسها. فهي لا تسلل من الهوامش ومن الحواشي، بل تنفذ من البؤرة، ومن العمق البشري والعلمي. فالإرهاب القيامي، لا يتغيا الحجاج أو الاحتجاج، أو التناظر. إنه مسكون بالثأر من الصوت السالب في الميثولوجيا المؤسسة ومن الهندسة الكيدية ضد التجليات العصرية للرافض الأول لخطاب التعالي. أليست مطالبة الإرهابي المسجون بالخلوة الشرعية، مكرا وكيدا، وثأرا من العمق النظري للحداثة القانونية والحداثة الأخلاقية؟ ألا يضيف الإرهابي إلى سفسطته المرجعية، كلبية سلوكية بها تكتمل كيديته المؤصلة؟ أليس الانقتال، الخاتمة المنطقية لثورة العبيد في الأخلاق؟
( …وقال كأنه يكمل حديثا سابقا :
كل هذا العمر الذي ضاع منا، يستحيل تعويضه ولو بكل ثروات الدنيا. لا توجد سنوات تباع في أسواق صغيرة أو كبيرة، يا له من غبن !عندما أفكر في ما اغتصب منا من أعوام لمجرد أن أحدنا نسي كتابا سخيفا للينين في أمتعته، والحال أن إرهابيي الخلايا النائمة اليوم بأحزمتهم ومتفجراتهم لا يقضون في السجن سوى بضعة أشهر يتمتعون خلالها عشرات المرات " بالخلوة الشرعية ". إنه شيء يفجر المخ!
قلت مواسيا.
وكل ذلك من أجل "المراكشية اللينينية". لا يمكن حتى أن نقول. في سبيل الله!)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –-ص . 128 )
يتسلل الإرهاب من خلال شقوق الحداثة الخلاسية، ليهز الطمأنينة الوجودية وليعيد صياغة العنف المؤسس بآليات الحداثة الفائقة. فالإرهابي مرمق حاذق، يستطيع عبور فجوات الحداثة الخلاسية اللانقدية وأن يدير آليات الحداثة الفائقة بحذق ماكر وانتقامي. فهو بارع في إبراز العتمات والفجوات والأخاديد المرسومة على تضاريس حداثة المؤالفة، البعيدة عن مساءلة الإبستيمية العقدية في نواتها الصلبة وفي جسدها النظري. لا يعني ظهور الإرهابي، إلا عجز فكرية التساكن والمجاورة الإبستيميين، وصعوبة إقرار الحداثة في سياق يرجئ استشكال النصوص المؤسسة والبنيات الأنثروبولوجية للمتخيل الإبراهيمي.
( هنا تستفيق الدودة، وتوسوس لصاحبنا، هل تريد أن تفني صحتك على هذا الجنس، هل تريد أن يكبر ولدك نصرانيا و أجداده كلهم إلى سيدنا إبراهيم يحملون القرآن في صدورهم هل تريد أن تترك " الشرفاء" يذلون من تبقى من أبناء قبيلتك، هل تريد أن تتحول مدينة تضم رفات بضعة نبوية إلى وكر للواطيين والحشاشين والمتسولين؟ )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص . 70 )
لا تخلو المثاقفة المركبة لدى محمد الفرسيوي من نزعة وطانية ومن تهوس بالأصول الميثية؛ إنه يواجه الحداثة الظافرة، بوطان الجذمور، والعلمانية شبه النفاتية باستعادة التمثلات القروسطية للخصم العقدي. ثمة جرثومة قروسطية في المتصور النظري لحداثة المجاورة والتساكن المستحيل بين قدامة مرجعية متحصنة بأساطيرها وحداثة قارضة لسماكة السرديات المتعالية. فالجد يرفض تربية النصارى، أما الحفيد فسيرفض تربية الحداثة المجاورة والإقامة المزدوجة في صوان الأسطورة الإبراهيمية وفي عمارة الثقافة الألمانية .فلئن احتفظ الجد بشذرات من الأسطورة المؤسسة وبأوتاد مأخوذة من خيمة القبيلة وبتحليقات الشعرية الألمانية، فإن الحفيد سيعلن بالدم المراق على إيقاع الكلمات المسجوعة، انتهاء كل مثاقفة وكل مجاورة ثقافية. كما سيعلن انتهاء التناقض الوجداني، و زوال توتر الذات الانقتالية الناتج عن الفجوة الرهيبة الموجودة بين الجبروت والرحموت في البنية التأسيسة للرؤية الإيمانية نفسها.
يقول علي حرب :
( كان الدين فيما مضى، شأنه بذلك شأن أي مشروع بشري، عبارة عن صيغة مركبة ومزدوجة تؤمن نوعا من التوازن بين الايجابيات والسلبيات : بين التقى والانتهاك، بين الحرام والحلال، بين الوعد والوعيد، بين الخديعة والحقيقة، بين العصبية والسلطة، بين الحقوق والواجبات، بين الوازع الخلقي والسلوك الهمجي، باختصار : بين الرحمن الرحيم من جهة وبين الجبار المنتقم من جهة أخرى. )
(- علي حرب – الإنسان الأدنى –أمراض الدين وأعطال الحداثة – المؤسسة العربية للدراسات والنشر – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى : 2005- ص. 51)
ولئن ذهب ياسين الفرسيوي بالنفي إلى أقصى تخومه، فإن المتخيل الجماعي، ما يزال يداور رهابه القروسطي من الغيرية، ومن الغيرية الغربية الحداثية تعيينا، ويصر على وسمها بصفات تاريخية منقضية الصلاحية . فقد اختارت الجدة ديوتيما، الانتحار، تتويجا لغربتها المزمنة في فضاء يدمن أساطيره الألفية ولا يقبل المثاقفة حتى ولو أتت في رحاب التنمية المستديمة أو العمل الاجتماعي الغيري.
(لا أحد سواء وصله بعض من خيرها أم لم يصل، حمل لها في قلبه شرارة محبة أو امتنان أو عرفان أو تقدير . كانت تجدف في نهر مضاد من التقزز والكراهية، يعبر عنه الناس بتعبيرات مختلفة، من الإشاحة بالوجه، إلى الاستعادة بالله.)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص. 71)
لا تعلم ديوتيما الفرسيوي لا الحكمة مثل ديوتيما سقراط ولا الشعر مثل ديوتيما هولدرلين، بل تعلم الموت المفكر فيه، في رحاب المساكنة المستحيلة بين الضريح وأطلال الرومان، بين الحداثة الجمالية والقدامة الثيولوجية.
( وعندما استدار والدي ليصرخ فيها تعبيرا عن مشاعره الفياضة، لم يجدها حيث توقع، وسمع الطلقة النارية كأنها تحت هيكل السيارة، فاندفع مذعورا ليرى والدتي ممدة بلا جمجمة تقريبا قبالة ضريح المولى إدريس الأول، وغير بعدي عن الأطلال الرومانية التي غربت الشمس قبل قليل في وحشتها. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص .65-66)
فقد اختارت ديوتيما الباحثة عن تجميع خيوط أسطورة جدها، الباحث عن الدلالة في الشعر وفي استخراج علامات المثاقفة الرومانية – الأمازيغية في شمال إفريقيا، تتويج التراجيديا والغربة القصوى بالموت الاختياري. وكأن الغربة، لا تنتهي إلا بالانتحار، والمثاقفة إلا بالانسداد، مادام الكل مكتفيا بصقل أساطيره الخاصة.
وليس الانحباس محصورا في حداثة المجاورة، فإن النسخة المغربية للحداثة المعولمة، لا تجد أمام امتحان حداثة المجاورة (محاكمة المجموعات الغنائية المحسوبة على "عبادة الشيطان") إلا العودة الظافرة إلى أطياف الميثولوجيا المؤسسة.
( وفي هذه الفترة ظهرت على يد عصام فكرة استبدال اسم المجموعة " أرتروز "" بالمشكاة "، إلا أن مهدي وباقي أعضاء المجموعة رفضوا ذلك رفضا باتا مما ساهم في توتر إضافي في العلاقات بينهم. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص . 244- )
لا تملك السردية الفنية المستعارة من معارض الحداثة الفائقة، في مواجهة الحداثة المخاتلة إلا الاعتصام بالترميق الروحاني وبالتلفيق العقائدي والعودة إلى القدامة التصورية في أشد تجلياتها مخالفة لمنطق الحداثة.
( لا يعرف أحد ما إذا كان الأمر له صلة بهذه المرحلة، لكن اعتكاف عصام لفترة طويلة ونزوعه إلى نوع من الدروشة المضطربة، التي تمزج بين طقوس صوفية سنية وطقوس شعبية، و أخرى من ديانات وحركات روحية مختلفة، يرجع على الوجه الأرجح لتداعيات تلك المحاكمة.)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب -2010- ص. 245- )
لا يختلف الاعتكاف عن الإرهاب إلا في الوسائل؛ فهما مشدودان إلى النفي المنهجي للحدثية وللزمانية وللعينية وللجسدية .فلئن استوطنت كائنات الحداثة الفائقة هناك، إبدال الاكتئاب كرد على البيو- سلطة وعلى بربرية البيو-سياسة ، فإن الكائن الطرفي، سيركن إلى الدروشة لاتقاء شرور الثيو- سلطة الملقحة ببعض عناصر البيو-سلطة.
يبدأ الإرهاب بإرهاب المخيلة والجسد والشهوة، وبإفراغ الجسد الإنساني من أنساغه الحيوية ومن طاقاته الليبيدية، ليشحنه بليبيدو افتراضية. وهكذا تشرع القدامة الفائقة، في تفتيت شهوانية الجسد وفي تجفيف منابع الخيال الفني في الكائن، لينخرط في طقوسية كابوسية لا يتوجها إلا التفجير الانتحاري في أحضان الحداثة النغولية أو في مراتع الحداثة الفائقة.
( ابتسم إبراهيم وقال :
إننا بلد متزمت بشكل لا مثيل له. انظر إلى الطريقة التي تتعامل بها مع الموسيقى والرقص والغناء. لم يوجد في بلادنا صنف من هذه الفنون لم يتعرض للاحتقار والاضطهاد منذ العيطة إلى الهيب هوب!
قلت : إنك تبالغ، كل التعبيرات الفنية كانت طبيعية وتلقائية حتى حل الطاعون الظلامي فحرم ما حرم وحلل ما حلل! ومع ذلك لم ينتصر على الرقص والغناء، بل استطاع فقط أن يفرض الحجاب والعمرة على الشيخات!)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة ص. 211- )
ليس الإرهاب الانقتالي إلا السقف الأعلى للإرهاب المخيلة والجسد والإمكان الراقد في ليل ثقافة لا تتقن تفكيك أسطورتها المرجعية واستشكال إبدالها المركزي، وتتفنن في المماطلة الهيرمينوطيقية باسم التجديد من الداخل!
وفي هذا الصدد، كتب عبد الله العروي عن التقليد باعتباره إستراتيجية سياسية، في مغرب السبعينات.
(ما يلفت النظر – ربما لأول مرة – ليس أن المجتمع المغربي تقليدي وأنه راض على حاله، بل ما يتطلبه تركيز التقليد من مجهود. لم تعد تكفي المدرسة ولا الأسرة ولا حتى الزوايا – ما يقي منها - لترسيخ الذهنية التقليدية، بل لم يعد من شغل للدولة بكل دواليبها سوى دعم التقليد وتبريره. لو كان قويا، لو كان فطريا، لو كان جزءا من التركيبة المغربية، كما يقال في الدوائر الرسمية وغيرها، هل كان يحتاج إلى هذا النشاط الشاق المتواصل؟
لنترك، مؤقتا، التقاليد الأنثروبولوجية ولنحاول رصد التقليد كبرنامج سياسي.)
( - عبد الله العروي – خواطر الصباح – يوميات ( 1967-1973) – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2001- ص. 93).
لا يعمل الإرهاب إلا على زعزعة أركان بنية المؤالفة، ونسف سكونية التجاور بين المتخالفات. لقد برعت الخطابات شبه الحداثية للنخب، في إخفاء اللامحتمل النظري الثاوي في قاع المنظومة التراثية، وفي طمر الإشكاليات الثيولوجية بدعوى تكفل الزمان بتذويبها. إن للفعالية الإرهابية موجبات، لا يستقصيها إلا النظر المتروي في تشابكات البنيات الأنثروبولوجية للمتخيل الإبراهيمي.
فالواقع أن الإرهاب الأقصى، لا ينفصل عن الإرهاب الثقافي، وهما ينبعان من الديناميات الايجابية للفاعل العقدي، المتحرك كونيا دفاعا عن كوننة الميثولوجيا الجهادية، ومن الديناميات السلبية لحداثة نفعية، تخلت عن الفعالية الأنوارية بدعوى نقد الوضعانية وتجاوز الحداثة الكلاسيكية والميتاسرديات.
يعكس انبثاق الإرهاب من رحم حداثة المجاورة، استحالة إنجاح حداثة الفعل في فضاء تؤثثه خيمياء الأساطير الألفية. لا تفيد لا صياغة الأسطورة القبلية والتغني بمثاقفة أمازيغية ألمانية بمحضر بقايا الثقافة الرومانية وبمعزل عن ابدلات فكرية الحركة الوطنية المغربية كما يفعل محمد الفرسيوي، ولا الانخراط في فلسفات الفعل والثورة بدءا وفكرانيات الإصلاحية الوطنية تاليا كما يفعل يوسف الفرسيوي في تفكيك الجذور الثقافية للإرهاب، نظرا وفعلا.
فمن السمات الفارقة لحداثة المجاورة، الشيزوفرينيا الثقافية وتغليب إبدال التصالح على إبدال الاستشكال. والمجاورة اللانقدية، لا تقوم سوى بحجب الأعماق حيث تينع براعم المتخيل القيامي.
لا تجيب الرواية عن علة الإرهاب، باصطناع تفسيرات طبقية أو اجتماعية مثل رواية ( نجوم سيدي مومن ) لماحي بنبين مثلا، بل تتوغل بعيدا في استكشاف خرائب الذات وحرائق الواقع وشظايات التاريخ. لا تأتي شهوة الإرهاب من العدم، بل من تمزقات ثقافة لم تعرف نار النقد ولا مطرقة الاستشكال، ومن اهتزازات تاريخ لا يعلو إلا لينحدر إلى سفوح الذرائعية المفخخة.
لا تتوخى رواية ( القوس والفراشة ) تقديم أطروحة فكرانية عن منشأ الإرهاب، بقدر ما تسعى إلى استقصاء ممكنات هذا الفعل الحدي كما تتجلى في أعطاب الذوات والتواريخ والانتماءات.
تنهض المقاربة الفكرانية للإرهاب عادة، في استعادة الاستعارات الطبقية، والكنايات التظلمية لوجدان طالما استمرأ تبوأ موقع الضحية المثالية. يقول ناقد العقل العربي، في قراءة لا نقدية لظاهرة الإرهاب الإسلامي ما يلي :
( هذا شيء واضح، ومنه يتضح أن الحل لمشكلتي " الحريك " و" الإرهاب " يجب أن يبدأ بمعالجة أسبابهما الأولى، الفقر والظلم. إن أي أصلاح لا يستهدف، أولا وقبل كل شيء، القضاء على الفقر والظلم اللذين يقفان بصورة أو بأخرى وراء " الحريك " و"الإرهاب" هو إصلاح كاذب، حتى ولو نتج منه تحسين " أو تزويق" على مستوى " الحريات العامة " " وحقوق الإنسان " . ذلك لأن أولى الحريات هي أن يتحرر الإنسان من الفقر الذي يستعبد فكره وإحساسه وإرادته، ومن الظلم الذي يشوش على البصر والبصيرة، ويجمد ويطلق عقال اللاعقل. )
( - محمد عابد الجابري – في نقد الحاجة إلى الإصلاح – مركز دراسات الوحدة العربية – بيروت – لبنان – الطبعة الأولى – 2005- ص. 238-239)
لا تتناول الرواية الحالات النموذجية للمقاربة الطبقية أو الفينومينولوجية، ولا تختار سلوك سبل التعليل الطبقي أو الاجتماعي أو السياسي أو الجيو- سياسي، بل تستقصي مكامن الاختلال في السياق السوسيو-ثقافي وتستعرض مختلف أشكال الفصام النفسي والثقافي في عالم مغربي ضائع بين ابدلات متضاربة وعاجز عن توليد ميثولوجياه الخاصة.
لا يبقى، للمتأمل في تتابع السيمولاكرات والمسوخات، سوى رثاء تاريخ لا يحبل إلا ( بأبطال بلا مجد ).
( السلالة !يا له من اسم ضخم !كأننا سنلد من جديد محمد بن عبد الكريم الخطابي ومن معه. نضبت ينابيع المحاربين، كل ما نلده اليوم تجار ومهربون وسماسرة وباعة شقق، وبعض البهلوانات الذين يجيدون باروديا الحرب، ويركبون فرحين حميرا بالمقلوب.
المحارب الوحيد الذي أنجبته السلالة هو ياسين. ولكنه ضاع بدون أسطورة ولا أمجاد.)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 183- )
فحين تعجز الأسطورة عن أداء وظائف التماهي والتنظيم والإسناد، يتضخم المتخيل القيامي، ويصطنع البطل المجرد من البطولة، عالما بمقاييس فردوسية.
فالإرهاب تتويج لمشهدية تنتصر فيها النسخة على الأصل، والسيمولاكر على الايقون، وياروديا التجذر على الانتماء، والموت على التحقق. كما أنه نتاج وضع مثاقفة ترصيفية لا نقدية، لا تكاد تفكر في حتمية إجراء استشكال جينيالوجي لمنظومة القيم ونقد ابستمولوجي لنظام المعارف، ونقد اركيولوجي لسجل الميثولوجيات المقدسة وتفكيك الميثاق النرجسي.
فالواقع أن بطولة العار، تتولد عن تاريخ الانقطاعات والخيانات، وعن غياب المهمة الاسنادية للميثولوجيا السياسية.
( هنا كان يمكن لدولة الأمازيغ أن تكبر وتملأ الدنيا، فلا يكون هناك إدريس أول ولا ثاني ولا ثالث، ولكن الأمازيغ لا حظ لهم، ما أن اعتلى بطلومي العرش بعد وفاة والده جوبا الثاني حتى أشعل الرومان الفتنة في وليلي، وأمر كاليغولا باغتيال بطلومي، ثم بعد ذلك بالقضاء التام على تمرد أيدمون بواسطة الجيش الروماني معززا بالتحالفات والخيانات المحلية. لم يقض علينا نحن الأمازيغ شيء سوى الخيانات، من بطلومي حتى بن عبد الكريم الخطابي!)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص. 168)
حين تغيب الهندسة يبرز الترميق وتستفحل الذرائعية الماكرة؛ لا تغيب الطوبى، إلا لينفرد الاستئثار بمقدمة المشهد، وتنفرد كناية الحطام ببؤرة اللامعنى .واللامعنى ثمرة السياحة النفسية بين النماذج والحساسيات الفكرية، والافتقار إلى ملكة التدليل والاستدلال، بعيدا عن الرطانة الفكرانية – السياسية. اللامعنى، هو أن تتحسس الأفكار المتناقضة، دون أن تستشعر فداحة التضارب ومستتبعات التناقض.
( كان أحمد ينتقل بسهولة بالغة بين وضعية " الموبيليت " التي تسلل بين نقط المطر، وبين وضعية الرجل الصالح المرتاح في جلسته الأبدية، كان ينتقل بسلاسة كاملة من الصلاة في ضريح سيدي بلعباس، إلى السهرة في ملهى الباشا دون أن يشكل ذلك أي انفصام في شخصيته المتماسكة دوما والهشة على الدوام. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 142 )
مثل أحمد مجد النموذج المثالي، للارتحال الهادئ بين النقائض، والانتقال الفكراني الأنيق من الماركسية اللينينية إلى الليبرالية المتوحشة، والنوسان العملي بين أنماط كينونية متضادة. لا يمكن العبور من تجربة الاعتقال السياسي إلى اعتقال المخيلة والطوبى في عمارة " الفراشة "، إلا أن يفصح عن سيولة غير عادية في مجرى الكينونة .كما الانصهار في رذاذ العولمة الاقتصادية، يعبر عن غياب كلي للمنظورية الثقافية، في زمانية مرتكزة على سردية التكيف لا على سردية التغيير .تجتمع التقليدانية الرثة مع "التعولم " الرث للأطراف، لخلق كائنات هشة وجوديا ومتذبذبة معرفيا ومتذررة ايطيقيا وكلبية سلوكيا.
( وبينما استمر العقار في احتلال بؤرة المال والأعمال في المدينة، استقر في الأذهان أن النجاح السياحي لمراكش هو مبتدأ الثروة ومنتهاها، أما أحمد مجد فقد طور نظرية مفادها أن الشمال(= شمال المغرب) يبيض أموال المخدرات في العقار، والجنوب يبيض أموال الرشوة في العقار، والعقار يبيض نفسه في الزمن!)
( محمد الأشعري – القوس والفراشة - ص . 152)
ويصاحب هذا التبييض، تسويد ثقافي، يتأسس على مرتكزات تقليدانية ؛ ففيما يبني الاقتصاد الجديد، فعاليته على المضاربة عموما وعلى المضاربة العقارية خصوصا، فإن الخصوصانية الثقافية، تبني خطابها على تثبيت السنة في عالم تحكمه فوضى تأويلية طاحنة وأعطاب الأنظمة المعرفية والايطيقية. يقول فتحي المسكيني ما يلي :
( إن الحداثة إذن هي اللباس الذي اختفى وراءه المسلم الأخير لإكراه حيوانات الديجتال على إخراج كل " الهائل " التقني الذي تختزنه في رفاهيتها الوثيرة، نعني على إخراج " القيامة " التي تختبئ في " الهائل " التقني دون أن يراها. إن القيامة هي الخروج من الجسد / الموضوع إلى الجسد / الآية خروجا عدميا وطقوسيا واستطيقيا في آن. )
( - فتحي المسكيني – الفيلسوف والإمبراطورية – في تنوير الإنسان الأخير – المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2005-ص.184).
تستعرض الرواية فصولا درامية عن اللاعقلانية الاقتصادية، المتضخمة في سياق التعولم الرث للأطراف ؛وتتجلى هذه اللاعقلانية في نزع الملكية وتضخم دور مافيا العقار ولوبيات الإنعاش العقاري والاعتماد الحصري على المضاربة اللاقانونية والاهتيام بالفنطازيا المعمارية كما في عمارة "الفراشة".
وكما ينشغل الزمان المغربي بالربح والحذاقة المالية، فإنه يعبر عن تهوس تقليداني بطهرانية تعويضية واستيهامية هي المؤشر الدلالي المعبر عن اللاعقلانية الثقافية.
لا تكتفي حداثة المجاورة في تعالقها مع الحداثة الفائقة، بفصل الاقتصاد عن الايطيقا وبإعلاء منطق المضاربة، بل تلوح بطهرانية هجاسية، معبرة عن الشيزوفرينيا الثقافة الحادة للفاعل التاريخي المفتقر إلى التاريخية. وليست حادثة محاكمة عبدة الشيطان وزواج المثليين و ما سماه أحمد مجد بالنضال البيولوجي، إلا نماذج معبرة عن افتقاد حداثة المجاورة للتناسق المنهجي والفكري.
ومن علامات هذا اللاتناسق، اللهج بالحداثة قولا، والذب عن التقليدانية عملا، ومواجهة كل خطاب احتجاجي ونقدي بالامتياح من معين المنظومة القيمية التراثية. وتكمن خطورة هذا الامتياح، في اصطناعه صورة لا تاريخية عن تاريخ اجتماعي وثقافي،متداخل المشارب وفي سعيه إلى تقديم الصراطية الأخلاقية باعتبارها الإمكان الوحيد،فيما يحبل التاريخ الحي ببدائل متعددة وبنمذجات سلوكية مختلفة.
(هناك كمياء غامضة تجعل أشياء متناقضة تخرج من نفس النبع. هذا موسم يقام احتفاء بالمولد النبوي، حول ضريح سيدي على أحد أحفاد الهادي بنعيسى، و أحد كبار متصوفة المغرب، يصبح وجهة وملاذا لطقوس المثليين والعرافين. في نفس الأمكنة وانطلاقا من نفس المشاعر الروحية، تلتقي ابتهالات المتعبدين، بصخب الأجساد المضطربة.. كل ذلك يتم تحت هيمنة الطقس الشعبي المنوط بعائشة مولات الواد، تلك المرأة التي استقدمها سيدي أحمد الدغوغي تلميذ ومريد سيدي على من الشرق ليعقد لشيخه عليها ويضع حدا لعزوبته المزمنة.. فلم يكن له ذلك، لماذا لم يتزوج سيدي علي أبدا ؟ ولماذا يتزوج المثليون حول ضريحه؟ لا أحد يعرف؟ )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 207-208 )
لا يطلب الخطاب الامتثالي من الطقس الشعبي، المسوغات النظرية والتاريخية لجمعه بين المقدس والمدنس، بين الخطاب العاشق للذات المتعالية وعشق المثيل الجنسي، بين الإيمان والعرافة .يكتفي برصد المفارقة، ناسيا أنه ينهض على نفس البنية، ويقيم عالمه الدلالي على عناصر متنافرة في الصميم . ومما لا شك، أن خطابا تصنيفيا من هذا الصنف، ينطوي على كلانية ثيولوجية ظاهرة، رغم المتصورات شبه الحداثية المعلنة. فلئن اختار الخطاب العرفاني العبور من الجبروت إلى الرحموت على أجنحة الولاية، فإن الخطاب الانقتالي، انحاز إلى الانتحار سبيلا إلى إنهاء المفارقة، والانتقال الفوري من الشريعة إلى الجنة.
ولا ينحصر دور خطاب الحداثة المجاورة هنا، على بلورة تصور توهمي واستيهامي عن الخطاب الأرثوذكسي، بل يفرض سلطته القانونية والمعرفية على المشاريع البديلة .ألم يحول خطاب الثيو- سلطة، عصام إلى متدروش رافض لنسغ الحداثة؟ أليست المعاقبة، بداية تحويل المسار، والانعطاف من الفن إلى التدروش؟ أليس التدروش امتدادا لخطاب المعاقبة بأساليب أخرى ؟أليس التدروش امتدادا للبنيات الأنثروبولوجية للمتخيل العرفاني المغربي أولا، ولإستراتيجية التقليد والتتريث المعلنة منذ الاستقلال؟
( فقد أصر عصام على الانخراط العلني في تدين صارم الطقوس في الوقت الذي استمرت فيه مجموعة أرتروز وهو أساسا كاتب كلماتها في تحقيق نجاحات متوالية . وتسبب هذا التدين المعلن في جر إبراهيم إلى نوع من الامتثال جعله يوقف بكثير من الاكتئاب المضمر نمط حياته الخاص، القائم على السهر والعشاءات الجذلانة، والخروج إلى ليل الدار البيضاء .. ثم بدا له أن يتوج هذا " البيات القسري " بعمرة سريعة، . وأتذكر أنني سألته عند عودته منها، عما إذا كان قد شعر بشيء استثنائي وهو يؤدي مناسكه فاعترف لي أن الأمر لم يمسه من قريب ولا من بعيد. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –- ص . 246 )
وهكذا يقود الفعل العقابي لحداثة المجاورة، إلى قلب الفني إلى الطقوسي في شكله الانتقائي تركيبا، والصارم ممارسة. يجتاف الفنان الواعد، الخطاب المعياري ويفرض معياريته المستعارة على مستهلكي متع بدون شرف ابستيمي.
فكما يذعن مداور خطاب الاحتجاج الفني، لخطاب المعاقبة والتطويع الثيو- فكراني، فإن العائش على أطراف الجنسانية المعيارية والفكرانية الأرثوذكسية، سرعان ما يرضخ لاملاءات الخطاب النقيض بدون مقاومة ظاهرة وينخرط في محاكاة طقوسية بدون اقتناع عقلي أو وجداني.
ثمة قابلية للامتثال للخطاب اللاهوتي، لا يفلح حتى الواقفون بعيدا عن بؤره في مقاومته. تكمن خطورة الإرهاب، النظري والعملي، في انبثاقه من مركز ومن أطراف حداثة المجاورة، من تاريخها الملغوم بالأساطير المؤسسة ومن حاضرها المتشظي الباحث، عن التبئير الدلالي بدون جدوى. تتعدد سبل السالكين في أحوال حداثة المجاورة، إلا أنهم يتماثلون في محاكاتهم للإبدال المؤسس، ويسعون إلى استعادة بهاء الأسطورة المرجعية بلمسات مختلفة .فخطاب المعاقبة يحارب خطاب الإرهاب العملي، ميدانيا، فيما يزود الإرهاب النظري بدماء جديدة . فما يفاجئ المتدبر، هو امتلاك الكثيرين" للإرهابية" بوصفها القابلية لتقبل الإرهاب النظري أو العملي، أو الاستسلام على مضض لإجراءاته في أحسن الأحوال، كما نجد في حالة إبراهيم الخياطي مثلا.
( قرأت الأسماء بتأن كأنني أحاول التعرف على ملامح أصحابها. كان يعالجني شعور مبهم أنني سأعرف أحدهم. دائما هناك شعور مبهم بالتعرف على واحد منا يوجد في اللائحة.. أقصد واحدا من هذا الكم الملتبس الذي لا نتوقع إطلاقا أن يكون في تنظيم إرهابي. ذلك الشخص الذي يأكل معنا ويشرب ويضحك ويرانا أشلاء متطايرة وهو يحدق في وجوهنا. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 229)
لقد اندغم الإرهاب بالحياة اليومية،وصار يكيف اليومي بقتامته القيامية ؛ لقد وسع الإرهاب التقاني من حقل إمكانه، وصار قادرا على استثمار الطاقة الترهيبية الكامنة في منظومة القيم التراثية، بكفاءة تقانية كبيرة وبحقد متفجر يذكرنا بحقد الكهنة عند نيتشه.
( لقد تركوا على كل معبر اجتازته أرجلهم آثار الدماء، إذ كانوا يستلهمون جفونهم ليعلموا الناس أن الدماء تقوم شاهدة للحق. وقد جهلوا أن أفسد شهادة تقوم للحق إنما هي شهادة الدم، لأن الدم يقطر سما على أنقى التعاليم فيحولها إلى جنون وإلى أحقاد. )
(-فريدريك نيتشه – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة : فليكس فارس-دار القلم – بيروت – لبنان - ص. 119).
لا يعمد الإرهاب الأرض بالأحمر فقط ويحول الأجساد إلى شظايا وذرات في مهب الموت فقط، بل يخلق فوبيا أو رهابا، يتحول تحت وقعهما كل شخص ذي علامات سيميائية خاصة إلى مشروع انتحاري. لم يعد الفضاء العمومي يوفر المتعة الجمالية، والاغتناء المعرفي والاجتماعي، بل استحال إلى فضاء للخواف والتشكك في نوايا الغير .كما لم يعد مجالا لانتعاش الطاقات الإيروسية، بل أضحى ساحة لعشق الدم والغرائز التناتوسية. ويكفي الشعث السيميائي، لإيقاظ المصدوم من خدر اليومي ومن صعوبة استعادة الفرح في ( جنوب الروح )ومن زئبقية اليقين في العلاقات العاطفية المنسوجة بكثير من التجاذب والتنافر مع بهية وليلى وفاطمة.
( كان واقفا قبالة الحافلتين بقميصه الباكستاني و" طاقية الحج " المتسخة، والجاكيت النايك المزور، والحذاء الرياضي من نفس الصنف. )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة –ص . 326-327).
إن للإرهابي الفعلي أو المحتمل، علامات وإمارات، هي خليط من الرمزانية التقليدية ومن المستنسخات المزورة للحداثة التقانية .لا يكتفي الإرهابي بالأداء الحي والفرجوي للموت فقط، بل يخلخل منطق الاستعارة الحضارية والنسق الجمالي المتواضع عليه في بنى حداثة المجاورة والعوازل السيميائية بين فكرية التسلف وفكرية التدروش العرفاني. فالإرهابي الحركي، إذ يعلن المفاصلة الفكرانية مع الفكرانيات الأخرى، فإنه يشوش العلامات والأيقونات، ويضيع الحدود الدلالية بين الأنظمة الفكرية والحساسيات الفكرانية لدى ضحية الصدمة الإرهابية( يوسف الفرسيوي ).
مما لا شك فيه إذن، أن رواية ( القوس والفراشة ) تبحث في القابلية للإرهاب، وفي المحاضن الشعورية واللاشعورية، الثقافية والاجتماعية والسيكولوجية لهجاس الموت الاحتفالي. تتناول هذه الرواية، اعتناق الإرهاب، في محيط سوسيو- ثقافي،يداور مصائر ميثولوجيا السلالة كما في حالة محمد الفرسيوي وميثولوجيا الثورة والاشتراكية كما في حالة يوسف الفرسيوي. ففيما يحاول الجد التشبث ببهاء السلالة وبألق الحفريات والحفاظ على أمثولة باخوس والأساطير اليونانية والشعر الألماني الرفيع، والأب صقل الذات وإجلاءها في راووق الميثولوجياالأدبية ( رسائل إلى حبيبتي)، فإن الحفيد سيختار المكان النموذجي لمسرحة الموت، وإنهاء الرصيد السلالي والميثولوجي على نحو كلي.
ولئن اختار يوسف الفرسيوي النضال اليساري – الماركسي بفضاء متزمن ( مغرب السبعينات ) أولا والانشغال بالجماليات والكتابة الصحافة ثانيا والحفر الاركيولوجي في الأسطورة العائلية ورسم سيناريوهات تمثال باخوس ثالثا، فإن الحفيد سيختار فضاء جهاديا مثاليا، لتحقيق أعلى درجات التماهي مع الأمثولة الجهادية. والتماهي يقتضي محو الخصائص والإحداثيات الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، مما يفسر انفتاح القبيلة على عولمة الجهاد وانقطاع سندها الجمالي والتاريخي. وحين تتخلى القبيلة عن فرادتها الأنثروبولوجية وعن توطنها المجالي، فإنها تكشف عن تصدع كبير في جدار الانتماء لا تملأه إلا عولمة الانتحار الثيولوجي.
ثمة مسارب عميقة في بنية الكائن والثقافة، هي المسؤولة عن احتضان ميثولوجيا الموت الخلاصي ضدا على الآلام التاريخ الحي. ولا مناص من التقاط سلاسة ذلك الانتقال اللااشكالي، من مؤالفات حداثة المجاورة إلى بداهة القدامة الفائقة المصاغة بلون الفجيعة .
(بهذه السهولة يولد الوحش، بهذه البساطة يعبر إلى ضفاف الجحيم . )
( محمد الأشعري – القوس والفراشة – المركز الثقافي العربي – الدار البيضاء – المغرب -2010- ص . 249- )
ولا مفر، لا من عودة المكبوت فقط، بل من عودة بربرية العنف المقدس؛ فغياب اليقظة النقدية والإستراتيجية، والانشغال بعقد الموافقات الفكرية، لا يمكن أن يساعدا على تحجيم الكاووس العنفي ولا شهوة القتل / الانقتال المتجذرة في التراث الروحي السامي. إلا يجدر بمن فاتته الوصية الفولتيرية، أن ينصت إلى التحذير النيتشوي؟ !
( وهل من تنين أشد خطرا على أبناء الحياة من تنين الوصايا والكلمات الوهمية وقد كمن فيها المقدور طويلا حتى حان وقت انتباه التنين ؟ وها هو يهب مفترسا جميع من بنوا مساكنهم على ظهره. )
(-فريدريك نيتشه – هكذا تكلم زرادشت – ترجمة : فليكس فارس-دار القلم – بيروت – لبنان - ص. 118).
ليست رواية (القوس والفراشة)، إلا استقصاءا جماليا وفكريا، لحيوات كل من ارتضوا ذات زمان مغربي، بناء مساكنهم الروحية والثقافية على ظهر تنين التقليد والإرهابية الرهابية الثقافية .ومن المؤكد أن تفكيك تلك المساكن غير المطمئنة يمر، عبر تفكيك كل ضروب التماهي مع بؤرة دلالية عقدية – تراثية مهووسة بـ"الهناك"، وتفكيك الجذمور الإبراهيمي وتدشين سياسة حقيقة وسياسة حقيقية، تتجاوزان أفق اللاهوت والآنسة المخاتلة جذريا. يقول فتحي المسكيني ما يلي :
( إن سياسة الجليل مثل سياسة الهائل لا تهبنا إلا تدميرا عدميا واستطيقيا لجدار المستقبل، ومن ثم هما صيغتان عنيفتان وعاميتان لتأجيل التهيؤ الأصيل لسياسة المستقبل التي لن تبدأ إلا متى أفلحت العقول القادمة في حل المسألة اللاهوتية على نحو جذري، أي متى استطعت الإنسانية القادمة الخروج من أفق عصر الأديان وارتسام " بدء آخر " لتاريخ الحقيقة الآدمية على الأرض لا علاقة له بتصوراتنا الحالية عن الزمان . )
( - فتحي المسكيني – الفيلسوف والإمبراطورية – في تنوير الإنسان الأخير – المركز الثقافي العربي - الدار البيضاء- المغرب – الطبعة الأولى – 2005-ص.197-198).
ذلك ما يتوجب فعله، إن شئنا ألا تتغلب الفنطازيا على الواقع، وأن لا تعود الأجساد إلى لعبة الموت تحت ظلال العوالم الافتراضية!

«البيت الأندلسي» من أزمة التاريخ إلى هزيمة الحاضر

جون ضاحي
بعد جهودها في ترجمة رواية «حارسة الظلال» إلى اللغة الدنماركية، التي قدمت بعض فصولها في قراءة موازية مع الروائي واسيني الأعرج، في مكتبة مدينة أونسا (الدنمارك)، تنكب الأستاذة والباحثة الدنماركية، في جامعة كوبنهاغن، جون ضاحي على ترجمة رواية واسيني الأخيرة «البيت الأندلسي» التي صدرت في شهر حزيران (يونيو) من هذه السنة، في بيروت عن دار الجمل. ويُرتقب أن تصدر الرواية أيضاً في ترجمتها الفرنسية (مارسيل بوا)، والكردية (إسماعيل صباح). هنا بعض انطباعات المترجمة، حول الرواية.
< أهم صفات واسيني الأعرج في الكتابة الروائية هي الاستمرارية والمداومة حتى في أقسى الظروف وأصعبها، ضمن وحدة موضوعاتية تحافظ على استمرارية خط الكتابة لدى هذا الروائي الذي يشكل التاريخ في السنوات الأخيرة أحد أهم انشغالاته الكبيرة. ليست عودة ميغيل سرفانتس، الروائي الإسباني من القرن السادس عشر في هذه الرواية، إلا محاولة لاستنطاق تاريخ ظل صامتاً مدة طويلة، فقد استعار الروائي هذه المرة من سرفانتس شخصية سيد حامت بن انجلي ليصبح راوياً أساسياً في رواية البيت الأندلسي المتعددة الرواة.
البيت الأندلسي هو بيت أنشأه الموريسكي سيد أحمد بن خليل المهجر قسراً من أرض أجداده في غرناطة، في القرن السادس عشر، أنشأه في مدينة الجزائر على مرمى حجر من البحر المتوسط، ليكمل حياته هناك في أرضه الجديدة وليستمر البيت بعده عبر خمسة قرون حتى يومنا الحاضر حيث يتم تدميره في حالة أقرب إلى الفعل التراجيدي بسبب مصالح شديدة الضيق ويعوض ببرج لا يحمل من الإرث الأندلسي إلا الاسم المفرغ من أي محتوى تاريخي حقيقي. كل المحاولات للحفاظ عليه تخفق لأن هاجس المصلحة الضيقة والحداثة المبتورة ينتصران على العقل والتاريخ. التاريخ لا قيمة له إلا من حيث هو قوة أيديولوجية للحفاظ على المصلحة الخاصة للطبقات الجديدة التي لم تنشأ من عمق اقتصاد حقيقي ولكن من جوهر إخفاقات الاقتصاد الطفولي المبني على المضاربة والاقتصاد الموازي الذي يعطي الانطباع بغياب الدولة أو بوجود دولة في رحم دولة أخرى. وهو موضوع لا يتأسس إلا على الجرأة، والدقة، والإبداعية التي تذوّب كل شيء في عمق الكتابة الروائية، وهو ما يجعل من نص «البيت الأندلسي» قفزة نوعية تستحق أن يكتشفها القارئ في الوطن العربي والعالم مثلما كان الحال مع رواية الأمير وشرفات بحر الشمال وسوناتا لأشباح القدس وغيرها...
من حيث بنيتها الداخلية، تتحرك الرواية بين مستويين زمنيين واضحين، مستوى تاريخي بعيد يمتد حتى القرون الوسطى، ومستوى عصري يلامس حياتنا اليوم في ظل وضع عربي لا شيء فيه يبشر بخير. وإذا كان سيد أحمد بن خليل (غاليليو) هو راوي النص التاريخي الأساسي في دوره القائم الأول بأمور البيت الأندلسي، فإن وريثه في الحاضر مراد باسطا هو من يروي لنا نهاية البيت في عصرنا ويكشف لنا الجريمة الموصوفة المرتكبة في حقه. من نتيجة ذلك أن البيت هُدم ولم يستطع مراد باسطا التماشي مع ذلك وقبول منطق العصر، وأصرّ على إنسانيته السخية والحية التي لا يعترف بها عصر أصبح فيه المال أهم من أية جمالية وأصبح الجشع يتكلم بدل الإنسان وقاتلاً للتاريخ. سيشعر القارئ بالتفاوت الزمني في النص ليس فقط من المحتوى والهموم، ولكن أيضاً بأجواء النص نفسه.
كُتبت الأجزاء التاريخية بأقصى درجة من الجمالية والدينامية التي تقلل من ثقل التاريخ، بينما خيم على السرد العصري نوع من الحزن والخيبة بخاصة عندما ينقل مراد باسطا ما يريد أن يقوله لنا عن عصره ومجتمعه إذ لم يعد البيت الأندلسي مصدر فرح مثلما كان، ولكن مصدر يأس وخوف من المستقبل. مما يجعل من هذا النص الروائي استعارة جميلة تخترل قروناً من السعادات والانكسارات والخيبات.
المستوى التاريخي في البيت الأندلسي، ينتقل بين أزمنة تاريخية عدة، ويشعر القارئ أنه قريب جداً من الأبطال والزمن المعني على رغم بعده عنه بقرون كثيرة. ومهما يكن من خيالية النص، والبيت الأندلسي الذي استقى الكاتب وجوده من بعض البيوت الأندلسية والتركية، فالماضي مادة مطيعة بين يدي واسيني ويستطيع القارئ أن يعيش أحلام الحاضر فيه كما يشاء من دون الثقل الذي تفرضه عادة صنعة الرواية التاريخية. السرد التاريخي المسيطَر عليه باحترافية، يذكّر القارئ بهويته التي استوعب عبر الأزمنة المتعاقبة كل العناصر المستجدة، ويحيي له عصوراً تاريخية كان لها ناسها وعواطفها وربما يسترجعها بعفوية عندما يرى آثاراً منها بغض النظر عن نوعية هذه الآثار – بنايات ملابس وأطعمة، وحتى أدوات شغل وأشغال يدوية - ليتذكر من أين جاء وما هو مآله التاريخي. يصف النص بدقة معمارية، البنايات والهندسة المعمارية وحتى طرق تنفيذ أشغال معينة والأدوات المستخدمة. ربما كانت هذه خاصية فنية لدى واسيني، فحضور الفن من لوازم كتابته الروائية، من الموسيقى (شرفات بحر الشمال)، إلى النحت (مرايا الضرير)، إلى الفن التشكيلي (سوناتا لأشباح القدس)، إلى المعمار (البيت الأندلسي). في النص أيضاً مرجع تتم العودة إليه باستمرار ألا وهو التعدد اللغوي الحقيقي والتاريخي، الذي يعيشه سكان المغرب العربي والكثير من البلدان العربية، فعندما نكون على معرفة بلغات بعضنا بعضاً يسهل التواصل وتقل الأحكام الاختزالية السهلة المؤسسة على فرض الحواجز المتعددة بين الناس والشعوب، كما أن النص يختار فكرة التسامح الديني، على الإقصاء، ويشدد على قلة أهمية الاختلاف الديني، في أنسنة الإنسان، في النهاية تجتمع الأديان كلها في كل واحد يتعلق بسعادة الإنسان، ما عدا ذلك، هو حروب دينية، ونقاء عرقي وتدمير للعنصر البشري، وأرض جرداء لأنه يناهض طبيعة البشر.
وهكذا يربط السرد المتنوع العصور التاريخية ببعضها بعضاً كما عيشت خلال شخصيات مختلفة بداية من الخروج من الأندلس وجرائم محاكم التفتيش والحركة التاريخية التي نتجت منها والتفاعل بين أوروبا محاكم التفتيش وعصر الأتراك في الجزائر، وبعض نتائج القرصنة ونُشدّ أكثر للقصة عندما يتحد (غاليليو/ خليل) بحبيبته سلطانة فهي تأتي إلى بيت زوجها لتحييه بحبها وبفرقتها الموسيقية النسائية: لاكاسا أندلوسيا. وعندما ندخل عالم غاليليو في عمله اليومي كصائغ ذهبي وفي علاقته مع ريّاس البحر حسن فنيزيانو وحسن كروغلي وإصراره على جعل حياة المنفى الغريب حياة مستساغة، ترتفع دراما الرواية إلى أقاصيها لتدفع بنا إلى عيش حياة قاسية لم نعشها إلا كأخبار باردة في الكتب التاريخية. وفي هذا السياق، لا يفوّت واسيني علينا الفرصة للتعرف إلى «الرجل الأحمر» الذي اتخذه القراصنة الأتراك رهينة في الجزائر لنسمع قصصه مع البحرية الاسبانية والإيطالية في المعارك البحرية على العثمانيين والتي يحكيها بالتفاصيل لغاليلو أو خليل أو بن أنجلي كما سماه الرجل الأحمر في ما بعد في روايته الكبرى دون كيخوتة. الرجل الأحمر هو طبعاً سرفانتس الذي قضى خمس سنوات من عمره كرهينة في الجزائر ولم يخرج منها إلا بسد أهله مبلغاً باهظاً لحسن فينيزيانو، الحاكم، والحامي نظام القرصنة في الجزائر وهو ما تقوله المخطوطة القديمة قدم استقرار الموريسكيين في الجزائر.
يتعاون مراد باسطا والي البيت الأندلسي في الحاضر مع حفيده سليم والطالبة ماسيكا في الحفاظ عليها وفي قراءتها وتقودنا قصة المخطوطة المتعلقة علاقة جذرية بالبيت نفسه ومن ثم بشخص مراد باسطا نحو إشكالية حفظ الآثار ومن ثم حفظ التاريخ الذي هو ملكنا جميعاً كمواطنين في العالم، وخطورة سقوطها بين أياد لا تأبه بقيمتها الرمزية بسبب عمى الجشع المادي الشخصي، ولا يتردد النص في ذكر كلمة مافيا وافتراض اتفاق مخيف ومسبق بين بعض النافذين في السلطة والإسلاميين والتجار والمهربين وانخراطهم وفق مصالح محددة سلفاً في تدمير أية مقاومة لسلطانها. وهكذا يعكس النص حالة عامة في الوطن العربي بلا استثناء.
رقصة شرقية.. خدعة الستمائة صفحة التي يكشفها «القارئ الصبور» متأخرا!

 طلال فيصل
يخدع خالد البري نقاده في روايته الجديدة «رقصة شرقية»، يخدعهم البري ببراعة ومهارة تندهش كثيراً حين تعرف بعدها أن الرواية هي روايته الثانية فحسب، غير أن الخدعة - حتي تكتمل- لابد أن تصبر علي البري قليلاً في رواية تتجاوز صفحاتها الستمائة ولا تكشف عن نفسها إلا في الصفحات الخمسين الأخيرة، وبين خديعة الروائي المحببة وصبر القارئ المحتمل يمكننا تقييم هذه الرواية بوضوح وبموضوعية.طوال الرواية ستظل منزعجاً من نبرة السارد وأنت تشعر أن هناك شيئا غير منطقي، السارد في الرواية يتخذ الشكل المتعارف عليه تقنيا باسم الراوي العليم أو الراوي الإله، الراوي الذي يعرف كل شيء، الأحداث والمبررات والدوافع وتفسير أفعال الأبطال، لكن السارد الذي يحكي الرواية هنا ليس الراوي العليم بالشكل المفهوم، إنه إبراهيم، أحد أبطال الرواية الثلاثة الرئيسيين «مع حسين وياسر»، إبراهيم مجرد خرتي من خرتية وسط البلد الذين يبيعون فحولتهم للعجائز الأجنبيات مقابل فسحة أو قليل من النقود، لكن إبراهيم المحظوظ يتزوج مارجريت التي تذهب به لإنجلترا، عجوز بريطانية في الخمسين يفرد الكاتب صفحات طويلة في تفسير أفعالها «ربما لأنها في كثير من الأحيان غير منطقية»، يعثر إبراهيم علي ياسر بلدياته والذي يبدو غير مرحب به تماما، شخصية دقيقة وعملية، مناسبة جدا للحياة في مدينة مثل لندن، يتعرف كذلك علي حسين «الذي يعتبر أفضل شخصية مرسومة في الرواية» مصري أعرج بعكاز يدرس الدكتوراه في القانون ويتأرجح بين تدينه ورغبته في إقامة أي علاقة جنسية وشعوره بالذنب تجاه زوجته المصرية تماما التي يسربها - كالقطط - من لندن ضيقا بها، ثم يتعرف علي مالك مارك - شاب بريطاني مسلم - نكتشف بعد ذلك أنه مجرد عميل للمخابرات البريطانية الداخلية MI- 5 ، ويدخل في علاقة مع والدته هيذر، يحصل إبراهيم علي الجنسية ويطلق مارجريت وبعد عدة مغامرات بوليسية بين لندن وروما يموت في قارب إيطالي بيد المخابرات التي تظنه متورطا في تفجيرات لندن، ستظل طوال القراءة مرتبكا وشاعرا بعدم الارتياح من لهجة إبراهيم الراوي، كيف يعرف كل شيء بهذه الطريقة، كيف لشاب بسيط كل ما يجيده في الحياة هو إمتاع المرأة في الفراش أن يتكلم بهذا الاتساع ويروي بهذه الدقة ويحلل بهذا العمق ويري بهذا الوضوح وأن تأتي عباراته بهذا الذكاء، لا شك أن ثمة خطأ ما قد وقع فيه الكاتب، عليك أن تصبر إذن أمام 555 صفحة لتعرف المفاجأة. وستجد أن اللعبة تستحق الإشادة في رواية طموح، أراد كاتبها أن يكتب عملاً كلاسيكياً كبيراً ضخماً وهو طموح يستحق الاحترام حتي وإن لم يتحقق كما ينبغي.تلخيص العمل الروائي في مراجعة نقدية أمر مكروه ولكنه في رواية كهذه كبيرة من الكبائر، فالرواية تضج بالشخصيات والمواقف وتدور في مجال جغرافي واسع يبدأ ببني مر في أسيوط ولا ينتهي بلندن حيث مجتمع المصريين المغتربين، كما أن مداها الزمني يتردد بين ماض سحيق يسترجع حكايات الآباء والأجداد ولا يتوقف عند حيرة الأبناء المحملين بإرث لا يحتمل، يصطحبنا البري لعالمه السابق في رواية «نيجاتيف»، عالم المصريين المغتربين في إنجلترا ولكن بشكل أكثر تماسكا مما في روايته السابقة، وهو يجيد وصف هذا العالم بدقة وحيوية تليق بروائي متمرس يعرف ما يتحدث عنه جيدا كما أنها تصور مجتمع المتدينين والسلفيين بشكل شديد الإنسانية والتلقائية خلافا للصورة النمطية التي نقرأها في الروايات ونراها في السينما المصرية، فضلا عن الثراء اللغوي والعبارات بالغة الذكاء واللماحية التي تزخر بها الرواية، وبقدر ما تتشابك الأحداث والمصائر في الرواية بقدر ما يبدو الكاتب غير مهتم برسم الشخصيات، يغرق في التفسير والتحليل دون أن نألف الشخصيات أولا أو نتعايش معها، لكن الأهم من ذلك هو الدراما التي تبدو أحيانا متعسفة طوال الرواية، تشعر أن الكاتب يدفع شخصياته دفعا للتصرف بهذه الطريقة بداية من حسين الذي يغرم بكاتيا فيرتكب في سبيل ذلك من «الزلات» ما لا حصر له أو كاتيا التي تريد أن تتعلم الرقص الشرقي فتعيش ستة أشهر مع شخص لا تطيقه لتتعلم اللهجة المصرية وغير ذلك، الأحداث تحدث لأن الكاتب قرر أن تحدث لا لأن الدراما جاءت بها في موضعها، كما أن الشخصيات الثانوية كانت كثيراً ما تمثل عبئا علي النص وتشتت ذهن القارئ، واللغة - خاصة لغة الحوار- جاءت خشنة ومحملة بألفاظ جنسية وشتائم مقذعة يمكن أن تزعج القارئ «الذي ينبغي أن يستأنس بالصبر حتي يستطيع قطف ثمرة هذه الرواية »، لكن يتبقي بعد كل شيء التحية التي ينبغي أن نوجهها لجرأة الكاتب وطموحه، حتي وإن خالط هذه التحية شيء من اللوم، أو شيء من النقد.الغلاف: من تصميم أحمد اللباد النصف السفلي أبيض نقي والنصف العلوي يستحوذ علي قناع بعيون مفرغة وعلي الجانب الأيسر شخصان في طريقهما إلي القناع. الرقص سيبدأ بعد الغلاف مباشرة.

رجل الأمن روائي في عزلة

 سلمان زين الدين
أن تكون الحياة موضوعاً للرواية فتلك مسألة طبيعية، أما أن تكون الرواية موضوعاً للرواية فتلك مسألة مختلفة. وحينها، يكون على الروائي أن يتحرّك بين حيّزي الحياة الرواية، راصداً نقاط التقاطع والافتراق والتواطؤ بين الحيّزين. وهذا ما يقوم به الروائي السوداني أمير تاج السر في روايته العاشرة «صائد اليرقات» (ثقافة للنشر والتوزيع ومنشورات الاختلاف 2010).اليرقات في اللغة هي جمع يرقة، واليرقة في العلم هي المرحلة الثانية من مراحل نمو الحشرة الأربع التي تبدأ بيضة، فيرقة، فشرنقة، وتنتهي حشرة، أي أن المفردة تنطوي على عدم الاكتمال، وتشير الى مرحلة انتقالية تحتمل الموت والحياة في آن معاً. فهل ينطبق هذا العنوان على أحداث الرواية؟يروي تاج السر في روايته حكاية رجل أمن سابق أراد أن يمارس كتابة الرواية، ملئاً لفراغٍ معيّن أو طمعاً في شهرةٍ ما، وأن يتحوّل من كاتب تقارير الى كاتب روايات، فعبدالله فرفار أو عبدالله حرفش مخبرٌ يرصد حركات الناس وسكناتهم بمن فيهم المثقفون والصحافيون، ويدبّج التقارير الأمنية يرفعها الى رؤسائه حتى اذا ما بُترت ساقه ذات حادث يُحال على التقاعد، ويتردّى في الفراغ، فتحدّثه نفسه كتابة رواية لا سيّما بعد أن سمع أن مهمّشين حول العالم قاموا بذلك وحققوا شهرةً طائلة، فلماذا لا يكون واحداً منهم؟ فيحقّق رغبةً فرديّة عارمة في التحوّل من رجل أمن عديم الاحساس الى كاتب روائي مشهور. فهل تسمح الأجهزة بتحقيق رغبات الأفراد وانجاز تحوّلاتهم الخاصة أم تتدخل في منتصف الطريق لتفوّت عليهم هذه الفرصة وتعيدهم الى نقطة الصفر؟يتّخذ تاج السر من عبدالله هذا راوياً لروايته، فيروح يسرد حكايته في التحوّل البطيء من حال الى حال. ولكي يحقق عبدالله هدفه، يروح يتقرّب من روائي مشهور هو (أ.ت.)، ويُلاحَظ هنا تشابه الحرفين مع الحرفين الأوّلين من اسم أمير تاج السر، فيختلف الى مقاهٍ يتواجد فيها، وينضمّ الى حلقته، ويقرأ بعض رواياته لا سيّما «على سريري ماتت ايفا». وهنا، يتحرّك السرد بين الحياتي المتمثّل في حركة عبدالله وعلاقاته الجديدة، والروائي المتمثّل في الرواية التي يقرأها. فيرد فصلان منها على الأقل في المتن الروائي يرويهما راوٍ هو مخرج سينمائي، وهو بطل الرواية المقروءة، أو ترد أحداث من هذه الرواية بصيغة الغائب على لسان القارئ/ الراوي الأصلي عبدالله. وبين الحياتي والروائي يتحرّك مكّوك السرد ناسجاً «صائد اليرقات».في سعيه الى تحقيق هدفه، تتوطّد العلاقة بين الراوي عبدالله رجل الأمن السابق والروائي (أ.ت.)، وتشكّل العمود الفقري للأحداث، وتتمحور حول كيفيّة كتابة الرواية وطقوس الكتابة. واذ يعرض عبدالله محاولاته على (أ.ت.)، يروح الأخير يبدي ملاحظاته عليها، ويصنّفها بين يرقات ميتة لافتقارها الى الخيال، ويرقات قابلة للحياة والتحوّل الى حشرة كاملة اذا ما جرى رفدها بالخيال اللازم. على أن عبدالله، خلال محاولاته الروائيّة، لم يستطع التحرّر من العقل الأمني يطلّ برأسه في كتاباته أو تصرّفاته، ثم يروح يستحضر من محيطه وتجربته الأمنية شخصيات مهمّشة يمكن تحويلها مع بعض الخيال الى شخصيات روائية وإدخالها في نسيج روائي ما.ومن هذه الشخصيات: المدلّك زوج العمّة، المشجّع الرياضي حفّار القبور، والسكرتيرة المستجوَبة. ويستمر في محاولاته الكتابية، وفي ابتعاده عن رجل الأمن كاتب التقارير واقترابه من المثقف كاتب الروايات. وخلال هذه العمليّة، يتابع حلقات صاحبه الروائي، يقرأ الكتب، يبدأ بتنظيم مكتبته الخاصة، يستلف طقوس الكتابة.غير أن اختفاء الروائي (أ.ت.) المفاجئ، بذريعة كتابة رواية جديدة، يقلق الراوي / رجل الأمن السابق الذي يخشى أن يسرق منه شخصياته، فيروح يواصل محاولاته حتى اذا ما اقترب من «صيد يرقات» قابلة للحياة هذه المرة، تكون المفاجأة المزدوجة التي تعيد الأمور الى نقطة الصفر.- فمن جهة، يتّصل به مسؤوله السابق ليأمر باعادته الى الخدمة، وكتابة التقارير عن الوسط الثقافي الذي أصبح قريباً منه، مقابل تمزيق ملفّه الأمني. وهنا، يكون عليه التخلّص من «البيض الفاسد» / الأوراق التي كتب والكتب التي جمع، في اشارة روائية الى عدم امكانية الجمع بين الأمني والثقافي.- ومن جهة ثانية، يظهر صاحبه الروائي ليفاجئه بأنه كتب رواية جديدة هو بطلها، غير أنه تصرّف في نهايتها بوحي من خياله، وقرّر اعادته الى الخدمة وتكليفه كتابة التقارير عن أصدقائه الجدد من المثقّفين والكتّاب.وهنا، يتواطأ الخيال مع الواقع، وتلعب الصدفة الروائية الخبيثة دورها، ويسخر القدر من الراوي، فيُجهض عملية تحوّله في منتصف الطريق، ويعيد الأمور الى نقطة الصفر، ويخنق اليرقة قبل أن تتحوّل الى حشرة قابلة للحياة.وهكذا، يقول أمير تاج السر في «صائد اليرقات» أن قرارات الأجهزة أقوى من ارادة الفرد، وأن عملية التغيير محكوم عليها بالاجهاض، وأن الواقع قد يكون غريباً كالخيال. ويأتي المتن الروائي ترجمة لمدلول العنوان، فيؤكّد ان على المرحلة الانتقالية للعالم المرجعي الذي تحيل اليه الرواية. لا، بل على عودة الأمور الى نقطة الصفر، وفشل امكانية التغيير حتى على المستوى الخيالي / الروائي.يصوغ تاج السر روايته بلغة سردية سلسة، مرنة، ساخرة. والسخرية موجهة الى الأجهزة الأمنية من جهة، والى الكتّاب من جهة ثانية. وهي ترد على لسان الراوي لتعكس نوعاً من النقد الذاتي والمرارة والخيبة. واذ تمتد الرواية على مدى عشرين فصلاً يتجاور فيها الحياتي والروائي المباشر أو غير المباشر، فانه قد ينتقل في الفصل الواحد بسهولة ويسر بين عدة مشاهد أو مسارات روائية، مظهراً قدرة واضحة على التحكم بالخيوط وتحريكها في الزمان والمكان المناسبين.على أن ما يلفت النظر تسمية الشخصيات بالأحرف الأولى ما ينسجم مع العقلية الأمنية للراوي، أو باللقب الديني أو الطبقي ما يعكس تغييباً مقصوداً له دلالته. لعلّه أراد القول إن الأسماء الكاملة تقتضي الخروج من المراحل الانتقالية، وأن الناس من منظور الأجهزة هم مجرّد أرقام أو حروف أو ألقاب لا تعبّر عن شيء محدّد.في «صائد اليرقات» ثمة تواطؤ غير معلن بين الحياتي والروائي، بين المسؤول الأمني والكاتب الروائي لاجهاض التغيير حتى على المستوى الفردي. واذا كان من المبرّر أن يفرض الواقع الأمني أساليبه، فانّ تواطؤ الفن الروائي معه أمرٌ لا يمكن تبريره.

عين الشمس/ محاولة لفض عتبة السرد!!

غفران طحان
تتفرد الروائيّة ابتسام تريسي بلغةٍ يعصى جمالها عن النسيان، وقدرةٍ سرديّة تجعلك تتابع تفاصيل روايتها بنفسٍ واحدٍ لا يفتر.
بعد"ذاكرة الرماد" روايتها الأولى التي كانت تنزع فيها نحو الداخل الروحي، تواطأت الروائيّة مع واقعها/مجتمعها، وانتقلت نحو التسجيل لسيرة مدينة في روايتها " جبل السمّاق "، ثمّ كان الجزء الثاني منها"الخروج من التيه" والذي حاز على جائزة المزرعة، ثمّ جاءت روايتها المعراج، التي اشتغلت فيها على الزمان والمكان، فحققت نقلةً نوعيّة في مستوى اللغة، والتناص وغيره من العلامات الأدبية.
وهاهي تطلّ علينا اليوم بروايتها الجديدة "عين الشمس" التي أرخت فيها من خلال البطلة"نسمة" وسيرة حياتها الخاصة، لسوريا في زمن الثمانينيّات، وجيل اختلفت رؤاه، ونظرته نحو الواقع باختلاف الأيديولوجيّة التي يعتنقها، حيث قدّمت لكل رؤيا بشخصيّة مستقلة، تتفاعل مع المجتمع بطريقتها، ليكون لها دورها الإيجابي/السلبي، في خلق الصراع الدرامي في إطار الخاص"حياة نسمة"، و العام" التغيرات المجتمعيّة والسياسيّة في سوريا".
وتقوم الرواية على الالتحام بالتاريخ فتتغلف به،وتضج به حياةً، وبما أنّها تعرض لتاريخ قريب فإن الكاتبة تتيح للمتلقي فرصة الاتكاء على ما تخزنه ذاكرته من مواقف تفاعل معها، بل عاشها، وأثرّ فيها وأثرت فيه، فهو يخزن حيالها مشاعر، ودلالات ستلوح له حتماً من خلال فصول الرواية.
وتعتمد الرواية أسلوب"السرد الذاتي" الذي ينطلق من رؤية داخليّة للأحداث من جانب البطلة"نسمة" التي تتمحور حول حياتها الأحداث في محاولة للمزج بين الخاص والعام، تصاعداً وهبوطاً، انفعالاً وهدوءاً، وبالتالي أظهرت الرواية دور المرأة في بنية المجتمع، تلك المرأة التي تمنح نفسها كمّاً لا بأس به من التجانس/التنافر مع الحياة من خلال فصول حياتها.
حيث تعود بعد سنين طويلة من الغربة، لترى أنّ ما كان قد تغيّر، فلا المكان، ولا الهواء، ولا حتى الأرواح هي هي، لينعكس ذلك على ذاكرتها التي ترحل بها نحو بدايات الحكاية. تقول" لم تلتقط حواسي مشاعر الغربة الحقيقية إلاَّ بعد اجتيازي الرمل الفلسطيني، ووصولي إلى الشاطئ الجنوبي. صدمني منظر الأبنية العالية على الطرف المقابل للشاطئ! كم مضى من الزمن؟"
وقد استطاعت الروائيّة نقل إحساس بطلتها بالزمان والمكان بطريقة أشبعت فيها اللغة بمخزون روحي، جمالي فجاءت تلك المحطات مشحونة عاطفيّاً، وقد نقلتها عبر سلاسل لغويّة مترابطة، متلاحقة، ليكون هذا الرمز اللغوي مجسّ لحظةٍ جماليّة أدركتها البطلة، فعبرت عنها بهذا التفاعل المعاش، تقول:" أين البحر؟
فوجئتُ حين وصولي أوّل الزقاق، أنّ لون الزرقة قد انمحى تماماً من الأفق، كان بيتنا في هذه البقعة! يطلُّ مباشرةً على البحر. شرفته العالية المكتظة بأصص الزرع، الفل والفتنة والجاردينيا وسلطان الزهور و...
أيعقل أن تكون تلك الشّرفة الرّمادية شرفة بيتنا؟"
ونلاحظ من خلال فصول الرواية الحضور الملفت للأشجار، والحبق، والقرنفل الذي مارس دوراً لافتاً في صنع الحدث الخاص/العام..تفاصيل صغيرة رسمت الألفة والدفء، وكانت أدوات طيّعة بين أصابع الروائيّة التي تعشق الطبيعة، وسحرها.
تقول في آخر الرواية:" قلت هامسة: "هناك أخطاء مخجلة، يجب أن نصححها".
قال: "هناك أخطاء طبيعية، لا بدّ منها كي نكون عشاقاً خائبين أو بشراً أسوياء... كباقة القرنفل المئوية!".
عين الشمس رواية تحمل في فصولها بعدين داخلي مفجوع بالواقع ومتغيراته، وتأثيراته السلبيّة، وسياسي مهموم بتوترات يشيعها الواقع من حوله.
هي نص أدبي مشغول بحرفيّة عالية، وأسلوب شائق ماتع، يحمل إسقاطات دلاليّة تشد القارئ للمتابعة وتحمله للغوص في عالمها ليحيا تفاصيل الحكاية، ويتفاعل معها، سلباً أو إيجاباً مع الأفكار المطروحة، ولكنه أخيراً سيخرج بمتعةٍ حققتها له "اللغة"، وزادها في روحه تسارع السرد، وإحياء الشخصيّات ، و نقل التاريخ بكلّ سلبياته وإيجابياته نقلاً حكائيّاً ممتعاً.

سرد كأحجار الدمينو في ” حياة قصيرة”

 باسم سليمان
يقول ميلان كونديرا : عليك بكتابة رواية لا تروى ولا تقلد . لم يكن قصده أن تصنع تحفة فنية عصية على التقليد بقدر ما كان يقصد أن تكتب الحياة والحياة إن ظهرت متشابهة ومكررة للكثير منا ؛لكنها كبصمة الإبهام خاصة خصوصية كل شخص منا.
رينيه الحايك في سردها الجديد ” حياة قصيرة” لعبت دور المتلصص الصامت والحيادي الذي يكتفي بتدوين أثر شخصياته فقط , فقد انسحبت حتى لا تجد لها همسا في روايتها, الهمس يخص الشخصيات التي تعيش حياتها وكأنها متغافلة عن ذلك العقد الضمني بينها وبين المؤلف , فيظهر صوتها واضحا كشخصيات لها استقلالها وخاصة لناحية شخصية إبراهيم وريتا اللذين يتبادلان محاور العمل الأفقية والرأسية ,فعندما يتكلم إبراهيم في فصله الذي عنون باسمه يمتد أفقيا لتقاطعه ريتا الحبية والزوجة والطليقة وعندما ندخل فصل ريتا يكون إبراهيم هو المحور الرأسي وبقية الشخصيات تلعب دورها كمنحنيات تقاطع المحورين الرئيسيين .
ينطلق إبراهيم من اللحظة التي تموت فيها ريتا في المشفى إثر اعتلال في القلب ويُغفل اسمه في نعوتها لكنه يقصه من الجريدة ويحتفظ به في حقيبة جيبه وبين اليومي حيث الحياة لا تلتفت للوراء يبدأ بالتعرف على ريتا من جديد من خلال الذكريات والتأملات الطويلة لما حدث أما ريتا, فتبدأ من بيتها لتصل إلى إبراهيم للحظة التي تسبق إسعافها للمشفى وهكذا تكتمل دائرة التعرف وكأننا في غياب الآخر نزداد فهما له, فبعد طلاقها عرفت إبراهيم أكثر وهو بعد موتها عرفها أكثر.
رينيه الحايك أرادت للسرد الذي كتبت بها روايتها أن يتخفف من المقولة لصالح جريان الحياة ,فلا نجد تلك المقولات الكبيرة بل نجد تلك التفاصيل حيث تعمل في نفس القارئ على إثارة انتباهه لما حوله تقول ريتا:” فكرت أن أكتب بعض ذكرياتي . الآن لم يعد هناك ما يكتب عنه أعجب كيف لا يبقى إلا القليل في رأسنا من ملايين اللحظات التي نعيشها” هذا القليل هو الذي يعذبنا, ما عشناه ينزلق رويدا رويدا من بين أيدينا حتى لم يعد ما نستطيع قوله إلا حركات غير مفهومة تشبه تلك الحركات والحشرجات المكتومة التي تطلقها الحياة وهي تنسحب كظل مع غياب الشمس وهذا يعني الالتفات باهتمام من يعرف أنه يعيش ,فلا يأخذه الانغماس في لجج الحياة عن جوهر الحياة ذاتها .
الرواية جاءت حتى في لغتها بسيطة حيث هي لغة بوح شفيف يشبه ما نتفوه به لحظة تأملنا لذواتنا في نهر الحياة أو نسر به لصديق ما ,فلا اصطناع ولا تمثيل كيوم عادي مهما حدث به .
مكان الرواية بيروت ولبنان وقت الحرب الأهلية والاجتياح الإسرائيلي وبعض دول الوطن العربي والمغترب حيث تتوزع شخصيات الرواية من خلال إبراهيم وريتا وهم الذين مروا بحياتهما ,ظهروا أو اختفوا, ففي الفلاش باك الذي نجده في الرواية والذي يتتابع كموجات متلاحقة تولد من بعضها البعض يقودنا لحقيقة واحدة أن الحياة هي ما نتذكر لا ما نعيشه والرواية تريد أن تثبت عكس هذه المقولة : إن الحياة هي ما نعيشه لا ما نتذكره ؛ لذلك نكتشف خواء إبراهيم وريتا نتيجة لعدم قدرتهما على اكتشاف العيش ,فاكتشفوا الذكرى يقول إبراهيم :” جالس في سريري. الغيم يعتم الغرفة ثانية . الجو أسود والعالم يموت ويتلاشى” وذلك بعد موت ريتا وتظهر له أن الذكرى سراب نعيش به في حين الحياة لا وقت فيها للتذكر.
تمتاز الرواية بقدرتها على مشهدة التفاصيل بكاميرا بالألوان أو بالأبيض والأسود مع موسيقا هادئة تترك للمكان المرصود والزمان قول نفسه بعيدا عن أية محمولات مقصودة ولكنه غني بكل الدلالات لأنه مكان العيش والذكرى.
الرواية واقعية مفتوحة أو ما بعد الواقعية حيث لا سير أبطال في صراعهم الطبقي أو محاولة لملمة شتات ذاتهم تحت قناع الوحدة بل الحياة ببساطة ,بساطة ولادة موجة وتكسرها على رمل الزمكان.
حياة قصيرة ل رينيه الحايك صادرة عن المركز الثقافي العربي الدار البيضاء المغرب / بيروت لعام 2010
جنود الله للروائي السوري فواز حداد: محاكمة المهمشين

جينا سلطان
في روايته الجديدة «جنود الله»، يوظف الكاتب السوري فواز حداد شغفه بالتاريخ المعاصر لمناقشة تبعات الانعطاف الخطير في مسار الأحداث العالمية، التي تذكرنا دوما أن الأقوياء حين يلعبون يدفع المهمشون الثمن.
يلج فواز حداد الجحيم العراقي الذي أُريد له التكريس كي ينجز الجبابرة انتقامهم الحاقد من تاريخ كتبه الأجداد حين دشنوا فجر الحضارة الإنسانية، فكانوا المبتدأ والمعاد، لكنه معاد تبدى لجاهلييهم إكمال الخبر بالإعتام!
تقسم الرواية (الصادرة حديثاً عن شركة رياض الريس) إلى قسمين متكاملين، يتقصى الأول منهما طريق إخراج عقيدة الإلغاء التكفيري إلى العلن ومناهلها، بينما يرصد الثاني كيفية تطبيقها ومساقطها الواقعية.
يتخذ فواز حداد من تيمة الأب ـ الابن وقضية صراع الأجيال، محركا يبث الحيوية في جفاف الأفكار وتجريديتها، فيجعل من الأب الخمسيني بطلا سلبيا اجتاز أزمة النكسة وما رافقها من تفريغ إيديولوجي مخيف مهد لتسيد عقيدة العنف الحالية التي جسدها الابن سامر المنتمي إلى التنظيمات الإرهابية.
يعود تاريخ الرواية إلى ما بعد سقوط بغداد بثلاثة أعوام، وتستمر لمدة شهرين وتتخذ من فقدان ذاكرة الأب العائد من العراق مدخلا إلى مقاربة مفهوم العنف عند الجماعات الأصولية، الذي يتسربل بعباءة الدين ونقاء العقيدة.
تدور الرواية على لسان الأب وتتخذ شكل التداعيات الذهنية التي تسرد الحدث التاريخي الراهن وارتباطه الخفي بما سبقه، وتبدأ بمغادرة الأب بغداد وهو أشبه بجثة هامدة، ترافقه مشاهد الموت المتلاحقة على مد النظر.
تبادل أدوار
يسهل موضوع فقدان الذاكرة المؤقت عند البطل مشروع بعث التاريخ الفردي، والتطرق إلى حماسة الأيام الثورية الأولى التي وجدت في الصراع الطبقي المحفز الأكبر في تحريك الجموع الهائلة نحو المستقبل العظيم. ثم حل الغياب عقب الخيانات المؤلمة وانتصار الثورة المضادة، ما جعل المستقبل يغيّر وجهته صوب اتجاه آخر.
يتوقف فواز حداد مليا عند هذه النقطة، ليبين أن البداية المتأخرة لهؤلاء المتحمسين، رغبتهم العارمة في التنظير، مزاجهم الشبابي التواق إلى التغيير، جعل ثوريتهم من دون دوافع حقيقية، وأقصاهم عن الفعل التاريخي، فبلغت خيبتهم مداها اللامعقول عندما رد عليهم الواقع بسريالية: «كان السؤال اللينيني الشهير: ما العمل؟ قد أجاب عنه الشيوخ المعممون… تبادلنا الأدوار على حين غرة، أصبحنا نحن التقدميين عالقين في العصر الجاهلي، بينما القادمون الجدد عادوا من هجرتهم مظفرين، ليباشروا نضالهم، بتحطيم أصنام المادية والإلحاد، وإعلان الإسلام هو الحل، والقرآن هو الدستور».
ولأن البطل كان واحدا من الذين عاشوا خدعة التوقعات الكبيرة، والتي أثمرت تمنيات حسمت فيها الخسائر على أنها فترة عارضة، لذا بقي التردد عزاءه الطويل واللامجدي، إلى أن وجد عملا على علاقة بالكتابة والسياسة اليومية، فركز تساؤلاته على هؤلاء الذين احتلوا مكانهم، وما الذي بوسعهم فعله.
تحول تخصصه في الدراسات عن «الإسلام السياسي» إلى مرجع عن تاريخ الجماعات الإسلامية، نشأتها وأفكارها، نشاطاتها وتنظيماتها، وتأكد له أن الدين لم يعد عزاء للإنسان واحتجاجا على الظلم، أو الإيمان بحياة في الآخرة أرفع مقاما في السماء، بل برفع لواء الجهاد حتى النصر، ولم يكن النصر سوى الشهادة، بعد أن أصبحت الإمبريالية هي الطاغوت، والأنظمة الرجعية العميلة، أنظمة ملحدة ومرتدة، والحزب الثوري، الجيل القرآني الشاب، والكفاح المسلح هو الجهاد، أما العنف الثوري فهو الاستشهاد!!
يشعر البطل كأن الروح قد ُردت إليهم وعادوا إلى مواقعهم ملتحين ومجلببين، وفي الطريق، إن لم يكن إلى أسلمة العالم فإلى قلبه رأسا على عقب، أو تفجيره بأسره، وإعادة تشكيله من جديد… وبدت الفكرة بحد ذاتها مثيرة ومحيرة، أن يكون هناك أناس يمنحون الأفكار الكبيرة حياتهم، أناس مهمشون من جميع الطبقات، أثرياء وأذكياء، متعلمون وأميون، فقراء ومعدمون.. رجال ونساء، شبان وشابات، حظهم من الثقافة متواضع أو ضئيل، ليس لديهم من أسباب القوة سوى أجسادهم، أما سلاحهم فرؤاهم الكونية، وإرادتهم في تحويل البشر من الكفر إلى الإيمان.
الإسلام السياسي
ما دفعه إلى الانحياز ضدهم، بعد أن كان مجرد باحث مراقب يرصد تحول الدين إلى قوة تحريض ورفض وتغيير وثورة، هو قيام تنظيم القاعدة بإسقاط برجي التجارة العالمية في نيويورك، ضربة لم تستثن المدنيين العزل والأبرياء، بالعكس كانت تستهدفهم، أو لا تليق الا بالتضحية بهم. وكان في تسارع الرد الأميركي بقصف أفغانستان، ثم امتداد الحرب على العراق، ما أوحى بالجحيم الذي سيعم البلدان العربية والإسلامية، وتحويل العالم إلى ساحات قتال مفتوحة للاستشهاديين.
في تلك الفترة كتب البطل مقالة بعنوان «الإسلام السياسي إلى أين»، وكان تساؤله في نهايتها: «هل هو الهلاك الذي فات أوان النجاة منه»، يحمل في طياته التشتت بين التبليغ والتنبؤ!
ينتهي الجزء الأول من الرواية بصدمة الأب حين يكتشف أن ابنه سامر /23 سنة/ عضو في تنظيم إرهابي إسلامي، وقد دخل العراق ليستقر هناك كأمير للجماعة، أي إنه تابع مشوار الأب المشؤوم نحو الهدف نفسه: إنقاذ العالم، لكن على نحو آخر: إنقاذه من الجاهلية!!
وحين عرضت أجهزة الأمن السورية على الأب دخول الأراضي العراقية تحت حماية الأميركيين وافق فورا إذ بدت له مهمة العمر، باعتباره لن ينقذ ابنه فقط بل سينقذ غيره أيضا، لكنه لم يتوقع أن توضع مسؤوليته كأب موضع الاتهام والإدانة!
في الجزء الثاني ندخل مع الأب إلى أتون الجحيم العراقي، إلى بلد الشهداء كما يصفه المجاهدون، ونلمس واقعيا تطبيق الحلم الأميركي في المنطقة الخضراء، وأسوار العزل التي تفصلها عن مجازر الإبادة الجماعية الطائفية والعرقية، ونتعرف على دور شركات المقاولة الأميركية في تصدير الجنود المرتزقة مما يذكر بالانكشاريين ووحشيتهم في انتزاع النصر!
بالمقابل يعاين الأب نبض الحياة خارج الأسوار، إذ على الرغم من التطيّر، الريبة، الحذر، الترقب، ثمة استهانة، فالحياة تجري بقوة، وآلاف البشر يتدافعون غير عابئين بموت بات يوميا، مبذولا ومبتذلا، على الطرق والحواجز، وقد يحدث في أية لحظة، في ظل الأحياء المغلقة التي تخضع بالقوة لتطبيق الأحكام الشرعية.
لم يع ِ الأب سوى أن العراق بلد أعمى، يتلمس طريقه بالنار والسكين، وأن السياسة تضلل الدين وتقوده إلى العار في حياة أصبحت موعودة بالهلاك، مما يجعل صفحة بلد بكاملها تطوى بموت مديد وبشع. وتكون زيارة المستشفيات بحثا عن بقايا محتملة لابنه فرصة حقيقية كي ينقم على نفسه ويرى إلى أي حد هو مسؤول عما يجري، فالجثث المشوهة لا تخفي تنكيلا وأحقادا لا يمكن غفرانها، بعد أن صار التمثيل بالجثث مجالا للتفنن في تشويهها، تتنافس عليه الجماعات المتقاتلة، ما يجعل استدراك القسوة البشرية اللامتناهية، وتخيل مقدار الجنون اللازم لفعل هذا الشر الهائل، عبئا مستحيلا، فيتمنى في أكثر من لحظة، أن يعثر على ابنه ميتا ومشوها، وأن يكون القتيل لا القاتل.
يعرض الأب نفسه للاختطاف بعد أن يحاصره اليأس من إيجاد ابنه، فينجح، لكنه يكبل ويضرب لانتزاع أي معلومات قد تزيد من سعره، فتكون فرصة لتفعيل المحاسبة الذاتية القاسية، التي ينقذه منها أتباع ولده المسمى بالأمير عبد الله السوري، وتأتي صدمته الكبرى عقب الحوار المتبادل مع ابنه عندما يتحقق أن الحب، ليس الحقيقة الوحيدة التي يرتع فيها في العالم، وإنما الباطل، ففي معركة الإيمان والكفر الدائرة، المؤمنون مدعوون إلى إثبات إيمانهم بعظيم قدرتهم على الفداء، وكأن «الله يقيم حروبا لا غرض منها إلا اصطفاء الشهداء، وكأن خديعة الإيمان تقود إلى العماء، وخديعة الشهادة إلى التهلكة، وخديعة الله إلى هذا الكم العظيم من الأذى»!!
عندما أراد «فواز حداد» إنهاء الرواية/ المحاكمة جعل البطل يتخيل أنه خرج من الجحيم حاملا معه حقائق الزمن والتاريخ والجنون والقتل والنسيان والغفران والخيانة والعنف والكراهية والحماقة، دون أن يهتم لأي منها، ما دامت الحقيقة باردة ومتحولة، ولا أمان لها، وقد تنقلب إلى ضدها، أو تتغير، وتتعدد أوجهها، أو فات أوانها.
يحذر «فواز حداد» على لسان صديق البطل حسان من مغبة الاستسلام لتيار العنف الإلغائي: «ماذا يكون شكل العالم عندما يسيطر عليه أتباع الله؟ ألن نعود إلى عصور الظلام والتفتيش؟»، وهو حين يتخذ لنفسه صفة الأديب المؤرخ الذي يحقق في وثائق عصره فإنما ليستخلص منها شهادة تثبت حجة على المتواطئين، دون أن ينسى التذكير أن العذاب الحقيقي هو أن يكون لدى المرء المقدرة على أن يهب الحياة، لكن الظروف لا تسمح له سوى بالقتل!!

حبل سري” للسورية مها حسن: رواية مفتوحة على النزق.. والأحزان

عناية جابر
عن «دار الكوكب» ريــاض الريس للكتب والنشر، صدرت رواية الكاتبة السورية المقيمة في باريس مها حسن تحت عنوان «حبل سري» تتمهل فيها الكاتبة في سرد حياة باريسية، فرنسية على وجه الخصوص، مكثفة لشخصيات تتنوع نوازعها العاطفية، والمادية، جذرها عنوان الرواية الموفق «حبل سري» الذي يربط كل منها ببيئته ونشأته في تباينات شعورية تشوبها الرقة والقسوة بحسب الكشف الذي برعت الكاتـبة في الاعتناء السردي به.
الخطوط الروائية المتشعبة لرواية «حبل سري» مرتبــطة بتكــنيك السرد الروائي، لكن ترتبط أكثر بموضوعها العــام: شياطين الحـنين الى الانتماء التي تستحوذ على بطلة الرواية الآتية الى باريس بموروثها العربي ـ الكردي المتــسلط، لجهة تسلــّط العائــلة (ذكــورها على الإناث) تعطي الروايــة كــكل وحدة داخلية هي الأبرز في التحام الســرد ونكهته، وفي تأمل حياة أبــطال «حبل سري» كل من بيئـته وثقافته المختلفتين.
ما فعلته حسن في روايتــها، هو تأليفها من منطقة غير كلاسيــكية تأخذ معها الروائية بتـطوير موضوعاتها التي تتحقق بثبات داخل ومع القصة في آن. ثمة ما يشّد مها حسن الى هجر روايتها في بعض المواقع، لتبيان بعض الثوابت عندها في الانتصار للمرأة، او للإنسان بشكل عام ولحقوقه المشروعة، ويظهر هذا الكشف في مواضع عديدة ما يضعف قليلاً قوة السرد، وتلقائيته، كمن يستنطق عامداً شيئا سبق استنطاقه وتعريفه، فيما في مواضع اخرى تبرع حسن في صهر الحلم بالواقع على سجية شاعرة تعرف تماماً ماهية الحب في شقه العاطفي والجسدي.
سرد رشيق
صوفي بيران، بحقيبة ظهر صغيرة، تنتقل بها من مدينــة لاخــرى، وترافقها مع محتوياتها ذاتــها في جميع الفنادق. صـوفي الباحثة في رواية آلان بيران عن مصيرها الذي تجهله، تأخذنا معها في سرد الكاتبة الرشيق الى دواخل ورغبات مفاجئة وحزن مباغت، وتلعب على هوسها بالقيادة السريعة المتأصل فيها، كحالة انتقام من الثبات، او حالة سخرية من عالم آلان بيران نفسه، الذي تحمل اسمه. حقيبة هي مجرد حجة، لحمل مجموعة من نوازع صوفي، ومن رغباتها وتأملاتها، ومع ذلك فهذه الحقيبة تشكل مدخلاً الى عالمها، وضرورة لإعطاء السرد حس الرواية المفتوحة على النزق، والحزن.
فرنسيان وسوريات. فرنسيون وسوريـون وأكـراد أشــخاص روايـة مهـا حســن، نجد فــيها عرضــاً لأفكار الكاتبة التي تتركهم الى مصائرهم من دون كثــير تدخل، تتركهـم لوجودهم الــحر، ولكل صخرته التي تسحقه ويتلوى تحت ثقلها.
مـن الســطر الاول في الــرواية، تتعــمد الكاتبة تحــميل لغــتها نغـمة مرحة، ساخرة، مستفزة، تجريبية ومتـسائلة وإن تضـعف على ما ذكرنا، حـين تكون حكــمية او مبـاشـرة تشـير بأصــابع الاتــهام الى «دونية» المرأة العــربية في مجتمعاتنا، في إدانة واضحة، مترابطة مع أفكار الكاتبة وحقيقة المسألة المشار إليها. المرأة العربية في حياتها في باريس او سواها، تبقى استمراراً لحياة أمها، كقدر لا مفر منه لان جوهر حريتها الحقيقية متجذر في مواضيع اخرى، ما يجعل حياتها أقل حياة، ومقتصرة على التأمل الشعري في الوجود، ما يستدعي بعض التفسيرات الاجتماعية والتاريخية لمجتمعاتنا المتخلفة، من دون تحديد حياة الشخصيات في مجال زمني معيّن.
تفسّخ
أغلب شخصــيات روايـة «حبل سري» كما لو هي في قفــص، وعليــها ان تجـد طريـقة للخــروج منـه، تناسب الاختفاء التدريجي لمفهوم التفسخ الذي يعيــشه الإنــسان العربي والغربي في آن، التفـسخ الروحي والاستــلاب المــادي الذي يعبث الآن بكــل شيء، ويقذف بالإنسان الى شواطئ مجهــولة، من دون إمكانية «الحب» الذي يبقى حاجة اولى وملاذاً، وغالياً أكثر من الأوطان نفسها.
نستطيع ان نتبـين في رواية مها حسن، المهارة في سرد الطبيعة العلائقية بين كائنين، ســواء في الحب او في الصــداقة او النــبوة والأخــوة. كل علاقــة عندها تتــوفر علـى كمية من الإشارات تسيّرها حركة ذكية وعارفة للدواخل البــشرية، المفتوحة على كل الاحتمالات التي تـذكي حيويتها. كثافة متساوية في كل المشاهد، خصوصاً مواصفات الحب الذي تذهب فيه الكــاتبة حتــى منتهـاه، غــير متحرجــة من أي توصيف يرفع في الضغط الانفعالي للمشهد حتى لو أتى جريئاً. مهمة الكاتبة في المواضع التي ذكرنا هي إيجاد ألفاظ صـادقة، جديدة أكثر كثافة وتضجراً من المشـهد نفـسه، والأمر برأيي، هو حاجة الكاتبة قبل كل شيء، التي تحتاج الى الفن في التعبير، فيكون الانتشاء بصياغة الكلمات أكثر من الانتشاء من المشهد نفسه. رواية ضخمة لمها حسن تستحق التأمل والمتابعة.

بنسالم حميش يروي معذبتي

بقلم: د‏.‏ صلاح فضل
بذاكرة فكرية‏,‏ وإيقاع لغوي كلاسيكي يقدم أستاذ الفلسفة ووزير ثقافة المغرب بنسالم حميش مغامراته الروائية الجديدة‏,‏ في نقد عولمة التعذيب السياسي في السجون الأمريكية العابرة للقارات‏.‏
يروي بضمير المتكلم احداثا معاصرة‏,‏ بعد ان أشبعنا بتجاربه التاريخية منذ مجنون الحكم‏(1990)‏ والعلامة‏(1997)‏ إلي هذا الأندلسي‏(2007)‏ فيقبض علي جمرة السياسة الدولية ليتأملها‏,‏ في لون من التجربة الفكرية المتخيلة‏,‏ وهي تمسك بشخص مغربي بريء‏,‏ لتجبره علي الاعتراف بما لايعرفه‏,‏ أو الانخراط في سلك عملائها المجندين‏,‏ وتذيقه من مشاهد الجحيم الأرضي مايهتك دعواها في رعاية حقوق الانسان‏,‏ ويدفعه الي المبالغة في التمسك بدينه واستنفار طاقاته الروحية في المقاومة والتماسك‏,‏ بما يؤدي الي عكس ما تستهدفه من اقتلاع جذوره وترويضه‏,‏ ولأن الكاتب مثقف محنك‏,‏ برع في تشكيل نماذجه الروائية بمنطق التصوير الدرامي واستثمر حسه السينمائي‏,‏ فهو يدير روايته الجديدة معذبتي ـ وقد نشرها في دار الشروق ـ علي محور الاعترافات الحميمة‏,‏ حيث يستهلها الراوي السجين برسالة كاشفة دستها في يده مواطنته نعيمة بعدما أشفقت عليه فكتبت له‏:‏ عزيزي حمودة‏:‏ إذا شق عليك أن تصير خديم أعتاب الطغاة وخططهم الجهنمية عميلا مزدوجا‏,‏ قاتلا أجيرا‏,‏ فعليك بمراودة حل قد ينجيك لو أتقنته‏:‏ أن تتحانق وتتمارض‏..‏ دوخ مستنطقيك بأعتي كلام الحمقي والمجانين‏,‏ هدد معذبيك بسعالك وعدوي مرضك‏,‏ لعل وعسي ان ييأسوا منك فيعيدونك الي موطنك أو قريبا منه‏,‏ مخدرا بأفيون‏,‏ تصحو منه وأنت مراقب بدمليج كهربائي‏,‏ ومستهدف برصاصة في الرأس‏,‏ تصيبك ولاتخطئ‏,‏ إذا مارويت قصتك او رفعت في شأنها شكاية‏..‏ في هذه السطور الاولي من الرواية يجازف الكاتب بكشف سر الموقف في ذروته السردية‏,‏ بما يجعل الصفحات التالية بسطا لما يسبق احتدام المصيدة‏,‏ أو تطبيقا عمليا لما يرد فيها من إشارات جامعة‏,‏ بلغة مغرقة في وجازتها البليغة ومائها العتيق‏.‏
عنف المتخيل
يمتلك حميش حافظة شعرية مستوعبة‏,‏ ربما كان اختيار عنوان الرواية بضغطها‏,‏ فصيغة معذبتي تذكرنا بقول الشاعر‏:‏ جاءت معذبتي في غيهب الغسق‏,‏ ومع أن التعذيب قد ينصب عند إسناده للمؤنث الي مواجع العشق‏,‏ فإن المفارقة هنا تكمن في قصد معناه الحرفي‏,‏ وهي التجربة التي يمثلها الكاتب بعنفوان متخيله‏,‏ تقع لمواطن مغربي طيب‏,‏ يحمل قسرا بعد تخديره‏,‏ وعصب عينيه الي مكان مجهول‏,‏ ويخضع لسلسلة من الاستجوابات الشنيعة‏,‏ بعد ان يمر في البداية علي مايسميه المؤلف لقاط الأكاذيب اي جهاز كشف الكذب‏,‏ فيضطرب عند سؤاله عن انتمائه الي خلية جهادية نائمة او عاملة‏:‏ سكت معرضا متمعنا‏,‏ لكني اضطررت الي تلفيق جواب بعدما شعرت بموسي حاد تلامس قفاي‏,‏ مفاده اني عاشرت فيما مضي فرقة صوفية لمدة محدودة‏,‏ سألني عن اسمها‏,‏ قلت‏:‏ فرقة اليقطين‏,‏ وعن شيخها ومقربيه‏,‏ أجبت بعد تلكؤ نسيت‏,‏ فاسودت الشاشة فجأة كأنها عطبت في إشارة الي احتمال كذبه‏,‏ واسود بعدها مصيره في السجن‏,‏ حيث اخذ يتعرض لاختبارات شديدة القسوة بدأت بإلقاء رفاق ورفيقات‏,‏ جرحي ومشوهين من التنكيل بهم في فراشه حتي يري بعينيه ماينتظره مثلهم‏,‏ وأخذت تتصارع وتيرة التعذيب النفسي والجسدي بأشكال عديدة حتي انتهت الي تسليمه لما أسموها ماما غولة وأعوانها‏,‏ فيسرد الراوي‏:‏ علقوني من رجل واحدة الي حبل متدل من السقف مثل كبش معد للسلخ‏,‏ اقتربت الغولة مني‏,‏ سيجارة بين شفتيها‏,‏ أخذت تكوي بتبغها المتقد أخمص قدمي فردفي وظهري وإبطي‏,‏ بالرغم من صبري الأيوبي‏,‏ ندت عني صرخات مخنوقة‏,‏ ثم اقدمت الغولة علي تفريق فخذي واسعا‏,‏ وحشت رأسي قنينا في سوتي بعنف جعلني أملأ المكان بصرخات الألم‏,‏ فاهتبلتها معذبتي فرصة لتضيق الخناق علي بأسئلتها عن انخراطي في الخلايا الجهادية‏,‏ وتتخلل صور العذاب فترات من الرفق الذي يمهد لتراجعه وخضوعه لإغراء العمالة‏,‏ فتقوم بينه وبين المحقق الذي ينتمي الي بلد عربي حوارات طريفة‏,‏ تتعرض للأوضاع العربية في علاقتها بالسياسات الأمريكية‏,‏ منها مثلا ما يقوله المحقسق كلما ناوشت مساعدتي المغربية بالقول‏:‏ مصر أم الدنيا‏,‏ ردت علي توا‏:‏ والمغرب أبوها‏,‏ لكنني اليوم مصري بالعرض‏,‏ عربي قومي بالجوهر‏,‏ مصر كانت ام الدنيا أيام زمان‏,‏ لكن اليوم ياخسارة‏,‏ الأرض اللي تطلع جماعات التكفير والهجرة وإخوان كذا‏,‏ وهي دولة علي قدها كيف تكون ام الدنيا؟ البلد الذي عجز عن ان يكون في التنمية الشاملة القاطرة‏,‏ وفي الديمقراطية المثال والقدوة‏,‏ نقول عنه ام الدنيا؟ أحسن لي أسكت ومع هذا الاستطراد النقدي الصائب فإن ذاكرة الراوي عندما تستنجد بقطعة شعرية عن عذاب المعتقلات لاتجد سوي قصيدة لأحمد فؤاد نجم عن سجن القلعة يقول فيها‏:‏ في المعتقل ياسلام سلم‏..‏ موت واتألم‏..‏ لكن لمين راح تتظلم‏..‏ والكل كلاب كلاب‏..‏ حراسة وكلاب صيد‏..‏ واقفين بالقيد‏..‏ يكتفوا عنتر وأبوزيد‏,‏ والسجانون في هذه المعتقلات الرهيبة أشد خسة من الكلاب‏,‏ فالغولة تنتهك عرض سجينها الوجودي حمودة وتذيقة ومئات مثله سوء العذاب حتي يعمد الي الحيلة التي نصحته بها مواطنته نعيمة عندما زودته بأنبوب من الدم كي يضعه في فمه ويوهم المحقق بأنه يبصق دما من مرض السل الذي تغلغل في صدره فيخشي من العدوي ويكف عن استدعائه‏,‏ ومع ذلك يطلقون عليه الرصاص الزائف لكسر ارادته وترويضه وإذاقته رعب الموت وهو حي‏,‏ ولايصبح في وسعه حينئذ الا ان يعتصم بمذخوره الديني في الآيات القرآنية والاحاديث النبوية‏,‏ ويكون مغزي ذلك الدلالة علي فشل المشروع القسري للسجن والتعذيب‏,‏ ويصبح مصرع الغولة علي يد مساعدها العملاق الأسود في نوبة هيستيرية جزاؤها العادل‏,‏ ويفرج عن السجين ويعود للاعتزال في قريته المغربية ليعيش في تبات ونبات علي طريقة الأفلام المصرية أيضا‏.‏

رواية (إسطاسية) لخيرى شلبى.. بكاء صامت حراق على حال مصر

سامح سامى
«واحد اتنين سرجى مرجى.. أنت حكيم ولا تمرجى

أنا حكيم الصحية.. العيان أديله حقنة
والمسكين أديله لقمة.. يارب أزورك يا نبى
يا اللى بلادك بعيدة.. فيها أحمد وحميدة
حميدة ولدت ولد.. سميته عبدالصمد
مشيته ع المشاية.. خطفت راسه الحداية
حد حد يا بوز القرد».
أغنية شعبية مصرية عريقة تسبق صفحات رواية «إسطاسية» للروائى الكبير خيرى شلبى، الصادرة حديثا عن دار الشروق، وهى رواية تخطف البال فلا يهدأ القارئ، ويظل حائرا ليبحث عن قاتل «محفوظ» ابن السيدة إسطاسية.
كلمات الرواية دم طازج ينزف من جرح قديم، يضغط عليه شلبى ليكشف تنويعات علاقة عميقة فى أحيان كثيرة تكون متوترة وعصبية بين المسلمين والأقباط، وكأن لسان حاله يدعو «يارب إن شئت أن تجيز عنى هذه الكأس المُر، ولكن لتكن إرادتك لا إرادتى».
كأن نواح إسطاسية على ابنها محفوظ «حُرقة بكائها تنسرب إلى أفئدة النساء فينخرطن فى بكاء صامت حراق تتخلله عبارات أسيفة».
اصطلحت عوامل كثيرة: صفاء الذهن، والاتصال الدائم بالتراث والعوالم الخفية من حياة الناس، وشغفه بالحزن المصرى على أن تصنع «خيرى شلبى» هذا الروائى الكبير، فهو يمتلك أدوات مبدع فطرى، وكأنه أحد منشدى السيرة الهلالية الجبابرة، يطوع أدوات اللغة ليخرج أبراجا من الجمال شاهدناها من قبل فى رواياته «وكالة عطية»، و«صالح هيصة»، و«زهرة الخشخاش»، وثلاثية الأمالى: أولنا ولد.. وثانينا الكومى.. وثالثنا الورق»، و«نسف الأدمغة»، و«صحراء المماليك».
الرواية تحمل اسم بطلتها «إسطاسية». وقد سألت الدكتور كمال فريد أستاذ اللغة القبطية بمعهد الدراسات القبطية عن معنى «إسطاسية»، إذ اعتقدت أنها كلمة قبطية خالصة، فقال إن «إسطاس» كلمة يونانية تعنى «وقوف» أو حالة الفرد وموقفه، موضحا أن بعض كلمات اللغة القبطية مشتقة من اليونانية. وأشار إلى أن «إنسطاسية» وهى تنويعة من «إسطاس» تعنى القيامة أو البعث، وأن هناك لحنا قبطيا داخل الكنيسة المصرية تحت عنوان «إسطاسى طيه» أى قوموا ويقصد به (قوموا للصلاة).
«حطيت على القلب إيدى وأنا باودع وحيدى
وأقول يا عين اسعفينى يا عين وبالدمع جودى»
هكذا قال بيرم التونسى شعرا عن لوعة وحرقة فراق الحبيب الوحيد، أما خيرى شلبى ففى روايته يحاول أن يوصل قول بيرم ــ الذى وضعه شلبى فى استهلال روايته ــ من خلال حكاية إسطاسية أرملة المقدس جرجس غطاس، التى تعيش فى إحدى القرى النائية بكفرالشيخ، قُتل ولدها محفوظ الحلاق فاشتعلت نارها وأصبحت تخرج كل يوم مع الفجر تصرخ وتناديه: «يرتفع أوار النار، يعلو زئيرها وصريخها بشكل ينذر بخطر يحرق البلدان كلها.
تتفرع ألسنة اللهب مع وهج الاستغاثة وجلجلة التكبيرات المؤكدة بأن الصلاة خير من النوم. عندئذ تكون إسطاسية قد دخلت فى صُلب النار، صارت لها عشرات الألسنة الحادة الملتهبة، وصارت هى قريبة من السماء، تتطاير منها العبارات الملتهبة المكلومة إلى الفضاء كذرات من المشاعر المنصهرة فى صدرها، صورا من الوجع الشعورى الأليم، بمرارة الفقد والحرمان تقول: فيك يا من قتلت ولدى».
نقرأ «إسطاسية»، الذى صمم غلافها الفنان عمرو الكفراوى، لنكتشف أن الصراع فى الريف بين العائلات «ماكيت» لما يحدث فى مصر كلها، فهناك بالريف تشتعل الصراعات والحكايات بين «حمزة البراوى» راوى الحكاية وبطلها الذى درس الحقوق وفشل فى أن يصبح قاضيا، والعمدة «عواد البراوى» عم حمزة وشريك محفوظ القبطى فى ماكينة الطحين، ومن ناحية أخرى هناك الجزار «عبدالعظيم عتمان» المتهم بقتل حمزة، والذى كان يزفر من الغيظ، يكز على أسنانه هادرا فى كل مكان أمام كل الناس:
«طيب يا عضمة زرقا! إن ما وريتك النجوم فى عز الضهرما أبقاش أنا! ودينى لأدفعك التمن غالى ببركة نبينا المصطفى!حاكسب فيك ثواب إن شاء الله».
وكان ذلك كله بسبب ماكينة الطحين التى نجحت فى التنكيل بعبدالعظيم عتمان، وخفضت رزقه إلى الثلث. يُقتل محفوظ ابن إسطاسية دون أن نعرف من القاتل الحقيقى إذ برأت المحكمة المتهم عتمان من تهمة القتل.
لكن تتلاقى الخيوط، وتتعقد أكثر، فى توليفة تزيد الأمر تركيبا إذ أراد حمزة أن يفتح ملف قضية محفوظ ويعيد التحقيق فى مقتله، ويقول إنه سيفعل ذلك لنفسه لا للحكومة!:» يا أمى! أريد أن أعرف ليستريح قلبى! إننى إذا لم أتوصل إلى قاتل شريك عمى وأقدمه للمحكمة فلن أنجح فى مستقبلى كوكيل للنائب العام! دعينى أتمرن! لعلنى أفلح فى كشف غموض هذه القضية!. يا ولدى! اعقل! ستدخل فى سكك سوداء مليئة بالشوك! وقد يكون مصيرك مصير محفوظ!».
يقول شلبى فى فصله: «انعتاق من موقف الذلة» وكأنه ينبهنا: «نجح محاما العائلة فى الوصول بالقضية إلى ما يشبه منطقة انعدام الوزن...ذلك أن غباء المحامين قد تصاعد بهما وبالأدلة وبالأسباب وبالنوايا إلى مرام وأغراض طائفية، مما تطرف بالقضية وحولها إلى قضية رأى عام ذات ورم طائفى كريه ومبالغ فيه يوهم بأنها قنبلة موقوتة سوف تنفجر عاجلا أو آجلا لتقضى على استقرار المجتمع المصرى إلى الأبد».
الخلاصة أنه بعد مشوار طويل للراوى حمزة المحامى من الحيرة والألم من عائلته ومجتمعه وحبه لمعشوقته راندا، وثبوت أن البندقية التى ضربت محفوظ هى نفسها التى ضربت أدهم أبوستيت، يختم شلبى روايته المبهجة، التى تمثل عصارة خبرته النافعة والبناءة بحديث دار بينه وبين إسطاسية والمقدس عازر: «شعرت أنها تحاصرنى بالمنطق الفطرى المتسق تماما مع روح القانون وجوهره وكلمته.
قلت: إيه بقى القضية؟. قال المقدس عازر: أرض الغطاسين اللى البراوية اغتصبوها! وآدى كل وثائقها اللى تدى إسطاسية وتدينى حق التقاضى بشأنها!... ومن بكره الصبح آخذها على الشهر العقارى تعمل لحضرتك توكيلا باسمنا إحنا الاثنين». ورأى حمزة أن قبوله لقضية إسطاسية هو الحبل الذى يجب أن يمسك به للصعود رغم أنه سيقف ضد عمه فى هذه القضية، وكأن «إسطاسية» تخرج من اسمها حليبا، وتسقيه لحمزة، فتدعوه للوقوف والبعث ضد الظلم، ضد بحر التيه الذى يتسع، وتتلاطم أمواجه فى عقل وصدر البطل.

ميرال الطحاوي في بروكلين هايتس
بقلم: د‏.‏ صلاح فضل
معجونة بالشجن المرهف‏,‏ والشعرية اللاذعة‏,‏ والوعي الشقي بأوجاع الغربة وقلق الإبداع وشغف السفر‏,‏ تنسج الروائية النابهة ميرال الطحاوي خيوط روايتها الجديدة‏,‏ المطرزة بألوان الذكريات والمشاهد‏.‏
وتطلق عليها اسم أحد أحياء مدينة نيويورك بروكلين هايتس وهي توزع فصولها علي طرقاتها وحدائقها ونواصيها‏,‏ لا لتجعل البطولة السردية للمكان المنفي‏,‏ بل لتفجر في قلب هند‏.‏ قرينتها البعيدة‏.‏ ينابيع الإلهام المتمثلة في ثلاثة مصادر أساسية‏,‏ هي مشاهد الحياة اليومية في الغربة لامرأة تكتب الشعر وتصحب ابنها الصبي الذي يشغل حيزا كبيرا من كينونتها وأفقها‏,‏ والذكريات الدفينة اللاهثة وراء الماضي الطفولي البعيد في قرية تل فرعون بأقصي أطراف الدلتا‏,‏ أما المصدر الثالث الثري فهو خلاصة الحكايات المدهشة عن عوالم الجالية الأجنبية في بروكلين‏,‏ خاصة العربية والإسلامية التي تقطن برج بابل الأمريكي الجديد‏.‏ ويظل شغف الإبداع وحرقة تحقيق الذات وتقديم رؤيتها عن بعد هي العوامل الديناميكية التي تقود حياة هند مع حبيبها الفضولي في تلك الأصقاع التي لم تعد بعيدة الآن‏,‏ حيث يمثل التقابل الحاد في اللون والمذاق بين صورة الذكريات القروية المصرية‏,‏ والمشاهد الأمريكية المفعمة بالتناقضات‏,‏ فضاء الرواية المثيرة للتأمل‏,‏ في محاولتها للقبض علي روح اللحظة التي تعيشها المبدعة‏,‏ فتصب لهب أشواقها للخلق‏,‏ وتفاصيل علاقاتها بالأشخاص والأشياء في تيار الشعرية الحميمية‏,‏ المفعمة بولع الكتابة‏,‏ ومطاردة الذاكرة واعتصارها‏,‏ لرسم لوحات وصفية شائقة‏,‏ تتماس بقوة مع عدد من نماذج المهجر المرسومة بدقة توثيقية‏,‏ تكشف عن جهد كبير لبث الحياة في عروقها النابضة‏.‏
قبو الذاكرة‏:‏
تصور الكاتبة‏.‏ بدقة محترفة تشف عن خبرتها الجمالية‏.‏ أرضية الواقع المهجري الذي تخطو فوقه روايتها‏,‏ دون أن تلتزم دائما بمنظورها السردي‏,‏ بل تنزلق منه أحيانا‏.‏ علي الطريقة التقليدية‏.‏ لتقص ما لايقع في دائرة عملها الممكن‏,‏ لكنها ترسم ملامحها بوضوح قائلة‏:‏ اسمي هند‏,‏ جئت من القاهرة‏,‏ لا أعرف بالضبط لماذا؟ أحاول تعلم الانجليزية‏,‏ أحب اللغة العربية‏,‏ أدرسها‏,‏ أشعر أنها فقط لم تعد كافية‏.‏ أشعر بخجل كلما كان علي أن أتكلم الانجليزية‏,‏ حتي الكلمات الصحيحة التي تعلمتها عادة ما أنطقها بطريقة تجعل الآخرين لايفهمون ما أقول‏,‏ أذهب دائما الي أماكن المثقفين‏,‏ وأدعي أنني واحدة منهم‏,‏ لا أفهم تماما مايتكلمون عنه‏,‏ أجلس علي المقعد البعيد كي لا يسـألني أحد‏..‏ ولدي مشكلة مزمنة مع التواصل‏.‏ نلاحظ أن تقطيع الجمل وتنظيم الأفكار والأسلوب يستهدف سهولة الترجمة ويعكس هذا الوعي الحاد بتقديم حالات تقف علي الحافة بين ثقافتين‏,‏ وكأن الكاتبة تنظر في صياغتها ورؤيتها للقراء علي كلتا الضفتين العربية والأجنبية في الآن ذاته‏.‏ وبدلا من أن تنشط ذاكرتها في اتجاه السنوات السابقة علي هجرتها الطوعية واغترابها الموجع‏,‏ فإنها تؤثر أن تمتح من بئر الطفولة الأولي محلقة في سقف الذاكرة البعيد‏,‏ تاركة الفضاء المجوف الذي يشغل عمرها كله مثل فجوة القبو الفارغة‏,‏ باستثناء إشارات محدودة عن تجربة زوجية محبطة وأمومة تجعل ثديها ينز بالألم واللبن المتخثر‏.‏
تستحضر هند وهي تركض في البيت فرحانة‏,‏ تبني من التراب وبقايا العلب والزجاجات الفارغة لعبتها المفضلة‏.‏
بيت بيوتة حيث ترسم علي التراب بيتا ومطابخ وأولادا‏,‏ وتضع الدمي القطنية علي حجرها‏,‏ وترضعها حليب صدرها‏..‏ تبني بيتا يسكن أحلامها ويمر الربيع علي نوافذه دائما‏,‏ تنعي فيه دون أن يعبر رجل في الظلمة‏,‏ ويصرخ في وجه امرأة في روب ملون بالطحينة والعسل والأزهار‏:‏ أنا هغور في داهية من وشك حتي إذا عادت من تجوالها النفسي الي حياتها المتوترة وحجرتها الضيقة ورعبها الدائم من مفاجآت الأقدار في المهجر طفحت مشاعر الأمومة عليها بعنف‏,‏ حيث تجلس طوال الليل خائفة أن يتوقف قلبها فجأة‏,‏ تاركة هذا الولد الصغير علي فراشه‏,‏ خشية أن يفرك عينيه في الصباح‏,‏ ويهز جسدها فيجده متصلبا باردا‏.‏ كتبت علي كل الحوائط أسماء أناس تعرفهم وأرقام هواتفهم‏,‏ ثم وضعت جواز سفره علي الطاولة‏,‏ حتي يمكن لأي شخص أن يرسل بطفلها الي أبيه ويترك جسدها لصاحب البيت والشرطة والمكتب الثقافي كي يلقوا به في أية مقبرة‏.‏
أجندة المهاجرين‏:‏
يمتد سقف الذكريات ليحيط بشطر كبير من حياة هند العائلية والمدرسية في قريتها حتي يبلغ أفول نجميها‏:‏ الأب الذي كانت ترتبط به‏,‏ والأم التي رأت قلقها الباكر وأحلامها الطازجة‏.‏ لكن حشو الرواية تشغله أجندة المهاجرين من أعراق وأجناس عديدة‏,‏ نماذج بشرية بالغة الحيوية والتجسيد‏,‏ تلتقط الرواية زوايا أعمالهم وطموحاتهم بمهارة لا تتوفر إلا بالمعايشة الحميمية‏,‏ ولعل نموذج زياد الذي يحلم بإنجاز فيلم عن حياة عرب بروكلين والمشكلات الأسرية التي تنهشهم‏,‏ وكيف استعد ثقافيا له بقراءة إليوت و ويتمان وحفظ أشعار لوركا عن ضواحي هارلموجسر بروكلين حتي أصبح مشغولا بجمع المادة وتوثيق المشاهد‏,‏ لعل هذا الفيلم الذي اشتركت هند بدور ثانوي في تمثيله أن يقدم لنا معادلا فنيا للرواية ذاتها‏,‏ وكيف أنها لاتشبع طموح روايتها التي عاشت في أوهام صباها كل أدوار البطولة‏.‏ وتماهت في مهجرها مع شخصية ليليت أو ليلي سعيد المصرية التي هاجرت مثلها في شبابها‏,‏ وأفنت عمرها مع ابنها حتي فارقت الحياة‏,‏ فجمعوا مخلفات بيتها ووضعوها في كراتين ألقيت في الشارع وعليها لافتة خذني إن أردت فأخذت هند تقلب لتعثر علي صفحات ورسوم من مذكراتها تشبه تلك التي ترويها‏,‏ وكأن كلا منهما كان يبوح بذات نفس الآخر‏,‏ ومهما تماثلت تجارب المهاجرين فإن ما يشغل عوالمهم المستلبة يظل بعيدا عن هموم الناس من حيوات وطموحات في أوطانهم الأصيلة التي تختزل لديهم الي مجرد ذكريات طفولية بعيدة‏.‏ فتسبح الرواية في تأملات إنسانية وفلسفية مفعمة بالشعرية والأسي والحنين الجارف‏.‏

طوق الحمام: نهر السرد وغيهب المتاهة

فاطمة المحسن
كتاب رجاء عالم الأخير "طوق الحمام" المركز الثقافي العربي، مشروع روائي تتوج فيه الكاتبة مسيرتها السابقة، بل كل مسيرة الرواية السعودية، عبر عمل من السعة والجهد الانسكلوبيدي والفكري والتأملي، ما يرشحه لتصدّر منجزات السرد العربي.
ومع أن الرواية تقتفي منهج امبرتو ايكو في "اسم الوردة" ذلك العمل الذي غدت تأثيراته في كل اللغات، احدى سمات عصرنا الروائي، غير ان رجاء عالم في كتابها هذا، تستخدم ملفوظها الخاص لتدخل في متاهة المحلي المتصل بثقافة مكان محدد هو "مكة"، موضوع المؤلفة الأثير، ومركز المخيال الإسلامي العالمي.
الرواية كواقعة كونية، تظهر في هذا العمل، لا في خطاطات المرويات والوقائع والصور، بل في الطريقة التي تقيم فيها جزر المعرفة جسور التواصل في جسد روائي مسبوك بلغة التأويلات، تلك التي تتواتر عليها عمليات التنقيب للكشف عن الأوجه المتغيرة في مسارات التأويلات نفسها. فالروائية لا تكتفي بوضع الأزمنة والامكنة والحبكات والشخصيات في المصهر الروائي، وتدع للقارئ حل معادلاتها، بل هي تقوده إلى درب تلك المعرفة، حيث يقوم معمار الرواية على كشف المضمرات فيها.
اختارت رجاء عالم عنوان "طوق الحمام" لتدخل في إشكالية تنطوي على قدر من التحدي، ف "طوق الحمامة" عنوان أشهر سردية للحب في لغة العرب، ولكن مغامرة العنوان ذاته تتوضح في مسار الرواية نفسها، حين تقيم صلة بين ابن حزم والبطلة في الرواية، سردية رجاء عالم تقوم على رواية قصة عن قصص سابقة، حيث يصبح البحث عن الأصول في مروياتها وكشف مصادرها، من بين مهمات الرواية ذاتها. ابن حزم الذي قضى عمره بعد سقوط الأندلس، بين المنفى والسجن والترحال، ليسبق زمانه في علوم الكلام ودراسة العقائد والفلسفة "لخص تلك المكتبة العظيمة لصياغة خلاصتها في مفتاح يفتح بين الأديان الثلاث. لقد وجد المفتاح في الحب الذي يشكل الجسور بين البشر "هكذا تكتب الساردة. ولكن مكة في مقدمة الرواية" حمامة تطوق عنقها ألوان متجاوزة لتدرجات الطيف البشري" وسنجد الحمامة تتردد كصفة للمرأة والمدينة معاً، رمز الحب الممتنع والمرأة الموؤدة.
تبدأ الرواية بجريمة قتل امرأة في زقاق بمكة، ويصبح البحث عن القاتل، عملية تتقاطع في غيهبها تواريخ المكان ومتاهة روحانياته، انها الحبكة التي اسماها ايكو الميتافيزيقيا البوليسية، أي تلك التي تبحث في الوجود الانساني وعلاقة الفرد بالاخر وغيبياته وتخيلاته، وسنجدها في عمل الروائيين بعده وأشهرهم باولو كويلو الذي شاعت رواياته الروحانية حتى غدت الأكثر انتشارا بين الشباب.
رجاء عالم في هذ الرواية تقدم شخصية المرأة القتيلة المنبعثة في صورها الثلاث: عزّة التي ترسم في خرائط الجسد حريتها، وعائشة الكاتبة التي تعيش في فضائها الافتراضي، ونورا المنبعثة من جسد الاثنتين، محظية لشيخ يطوف بها خارج المكان، لتصل إلى ربط مروية مكة بتاريخ العرب في الأندلس، وتواصل عبر عرض لوحاتها انتقال صورة المرأة القتيلة من الكتمان إلى الجهر.
تكشف الرواية في مفتتحها عن سرها المدفون في فضاء مستعاد بشخصيات الرجال، فحي أبو الرؤوس الفقير الذي تقتل فيه المرأة، يروي بنفسه سر حكايته وتورياتها، قبل ان تحدث الجريمة. أبو الرؤوس الذي يجاور الحرم بمكة، يوثق تاريخه بتسمية أربع شخصيات تراوحت بينها شبهة القتل "الرؤوس المشمولة بفحم، بهذا (الحجاب) بيني وبينها": يوسف الممسوس بالتاريخ، يحمل شهادة البكالوريوس من جامعة أم القرى، وهو العاشق الموحد للمرأة والمكان معا. ومعاذ الذي تدرّب ليخلّف أبيه في إمامة المسجد، فلجأ لسرقة الوقت للعمل صبيا باستوديو مؤقت، وخليل سائق التاكسي الذي يحمل شهادة طيار من الخارج. وتيس الأغوات الذي يلتقط المانيكانات من الواجهات ليمارس معهن شذوذه. بينهم يطوف ناصر المحقق الذي يتحول إلى عاشق القتيلة بعد الاطلاع على رسائل حبها للألماني الذي تولى علاجها. رجال الحي الفقير، هم امتداد لتاريخ من التمردات واسئلة تتجاوز المتعارفات، حيث ضربت اعناق أربعة رجال في الماضي يشبهون أفعالهم.
خطاب الرواية يسع مكة الرمز والواقع معا، الماضي والحاضر المتجه إلى مستقبل يوحي بضياع تاريخها. مكة، المدينة الكوزموبوليتية، التي يقصدها الحجيج من كل أنحاء العالم، تتحول إلى ورشة بناء ضخمة لناطحات السحاب وعمارة تبتلع فسحات الحداثة عطر المكان ومعالمه الروحية. ولكن السرد ينتقي شخصياته من مكان هو اقرب الى زريبة فقر، حيث تتجسد نجاسات الأماكن القذرة، في مفارقة بين وجه مكة الرسمي ووجهها الشعبي.
القتل في هذه الرواية افتراضي، فهو حجب المرأة عن العالم، انهاء وجودها وتحويله إلى أسطورة تؤجج شبق الرجال، وتعقم فيهم فعل الحب الإنساني، فتفكك علاقات التواصل بينهم وبين مدينتهم كفضاء يتحركون فيه بحرية. يتحولون مجازا إلى هاربين من المكان وإلى قتلة افتراضيين. هذا جانب من خطاب الرواية الذي يتشعب في منطلقاته الى مرويات المكان التاريخية. قداسته التي تُخدش في قذارة تخفيها أزقة البؤس وهرطقات تثير أسئلة حول منطق الحب الانساني وحرية المعتقد وطريقة فهمه.
وهنا تصل رجاء عالم في الرواية إلى ذروة السبر المتأني الذي يعنى بالخلفيات الروحية والأسطورية للمدينة المقدسة، قدر عنايته باللغة رافعة ينتقل عليها وينزلق بين كثافة تحفر في العمق، وخفة ومطواعية تهرب فيها قدر ما تقف فاحصة وجريئة أمام القضايا الكبرى. الكتابة بهذا المعنى، تصبح شيفرات تفك ما لا تستطيع تجسيدة الأفعال، فيوسف أحد أبطال الرواية، كاتب في جريدة، وفي مدونة على الانترنيت، يقتفي المحقق ناصر في نصوصه أسرار المكان الذي سرق مفاتيحه، وجسّده في متاهات أحلامه وهوسه، مثلما يتتبع أثر القتيلة في سطور عشقه لعزة. كذلك عائشة المثقفة التي تسترجع حبها البعيد بفعل الكتابة، لتصبح رسائلها إلى الألماني الذي تولى علاجها، درسا يكتشف من خلاله المحقق ما غاب عنه طوال الوقت من مشاعر ازاء المرأة: " كلماتي ضمن أسراب تلك الأصوات اليائسة التي تبحث عن مهرب. أتواجد على الشبكة العنكبوتية لأتعلم كيف أتحاور مع رجل".
سنجد في تواتر المرويات، وبينها رحلة اليهود من مكة هربا من القتل، وتخيل استعادة سلالتهم امتداها في الخفاء، ما يساعدنا على قراءة تراوح بين تفسير ومسرحة الأفعال، ما يشغل المؤلفة في الرواية فكرة الحيز الرحب للمدينة، قدرتها على ان تستوعب جدل الافكار وتتحرك في فضاء لا تتنكر فيها لتواريخها، حتى تلك التي قامت مكانتها الروحية على محوها. القسوة في فكرة التطهير، ستجد تعبيراتها في صراع حول ما هو محجوب ومخفي من أسراها، فالمرأة التي يتحول مصيرها دالة على تلك القسوة، هي مرآة المدينة المكبلة برهاب الخطيئة. استطاعت المؤلفة ربط جزر المرويات العائمة رغم تباعد التواريخ عبر تقنية العناوين الفرعية، االتي تتيح لها مرونة الانتقال من موضوع إلى آخر.
هذه الرواية (566 صفحة) تبدو متعبة لقارئ عادي، ولا تستطيع جذبه حتى لو صبر خلال المئة صفحة الأولى، وهي مقياس التجاوب في قراءة الرواية النخبوية. كان بمقدور المؤلفة الاستغناء عن بعض ما هو فائض من خطابات تثقلها باستعراضات الكاتب العليم بالخفايا واللغات، فتشتت سياحتها في الأماكن من وصف مقاهي الشكولاتة وراقصات الفلامينكو، إلى ترجمات شواهد القبور الشعرية، ووضع مقاطع من رواية العاشقات للورانس، إلى بطر الجمال الخارجي للمرأة المتغنجة، نورا التي تعيش هوس فكرة الضحية المتمردة. كل ذلك يبدو أقرب الى حمولة تمتص كثيرا من الجهد الفكري والفني لمؤلفة جادة ومتميزة مثل رجاء عالم. وهي بهذا المعنى، لا تستطيع أن تطلق سراح شخصيتها كي تتحول من نموذج قولي،إلى حياة متحركة خارج تهويمات العقول العليا.
مع هذا ينبغي ان تٌقرأ الرواية بما يليق بها من مكانة تتقدم فيها معرفياً وفنياً على كثير من الروايات المكتوبة بالعربية.

فتنة جدة للروائي مقبول موسى العلوي

محمد صادق دياب
في عام 1858 تعرضت مدينة جدة للغزو البحري من إحدى قطع الأسطول الإنجليزي، وسبب ذلك أن صالح جوهر، وهو أحد ملاك السفن بجدة، اشترى مركبا عليه العلم الإنجليزي، فسعى إلى تغييره وإحلال علم الدولة العثمانية - التي كانت تحكم الحجاز آنذاك - محله، فغضب القنصل الإنجليزي، وذهب إلى المركب، وأعاد العلم الإنجليزي إلى مكانه من السارية، وأشيع يومها في جدة أن القنصل الإنجليزي قد وطأ العلم العثماني بقدمه، وهو يطلق الكثير من الشتائم، فثارت ثائرة الناس، واقتحموا - بحسب أحمد زيني دحلان - دار القنصل الإنجليزي وقتلوه، وقتلوا معه 20 من الدبلوماسيين والتجار الغربيين، بينما اضطر آخرون إلى الهرب سباحة إلى حيث ترسو إحدى قطع الأسطول الإنجليزي «سيكلوب».ويورد البروفسور بيترز هذه الحادثة في كتابه «مكة» بتفاصيل تختلف في بعض جزئياتها عن رواية دحلان، ويشير إلى أن الأجواء النفسية في جدة كانت مهيأة لمثل تلك الحادثة، فلقد أشيع قبلها أن شركة أجنبية للسفن
البخارية تسعى إلى احتكار شؤون الملاحة بمساعدة بعض تجار المدينة وأثريائها، فجاءت تلك الحادثة لتشعل فتيل الغضب في مدينة غمست لقمة عيشها في ملوحة البحر، وتأرجحت أحوالها بين مده وجزره.وعلى أثر تلك الحادثة، فتحت إحدى السفن الحربية الإنجليزية نيران مدافعها على جدة في 25 يوليو (تموز) 1858، فلقي سبعة من السكان حتفهم من جراء تلك الغارة، وواصلت بريطانيا وفرنسا ضغطهما على الحكومة العثمانية، فساقت إلى ساحة الإعدام 11 شخصا، ثم ألحقت بهم اثنين آخرين، أحدهما محتسب مدينة جدة، وسجنت ونفت آخرين ممن حامت حولهم الشكوك بالمشاركة في ذلك اليوم الذي اصطبغت فيه المدينة بالدم.وبعد مرور أكثر من 150 سنة على تلك الحادثة تأتي الرواية السعودية الحديثة لتتخذ من هذه الحادثة التاريخية مطيتها لعمل إبداعي جميل حمل اسم «فتنة جدة»، كتبه الروائي مقبول موسى العلوي، مستخدما «تكنيكا» روائيا خاصا للمزج بين الحقيقة التاريخية والإبداع الفني، ووفق إلى حد كبير في المحافظة على بنية الحادثة الأساسية دون أن يسمح لذلك بأن يطغى على فنيات الرواية، وقد انتقى شخوص روايته من الحقيقة والخيال أمثال: منصور التهامي، وفتنة، وصالح جوهر، ونامق باشا.إن مقالي هذا تحية لروائي لم أعرفه، ولم ألتق به، ولكنني أشعر بأن
روايته التي عثرت عليها بالصدفة في معرض الرياض الدولي للكتاب تستحق أن يكون لها حضورها في قائمة الروايات الجادة والمميزة، التي اختطت لنفسها مسارا بعيدا عن الشائع والمألوف والمتهافت عليه في الرواية السعودية الحديثة.

الخطايا الشائعة... أين حدثت؟

بقلم : منير الحايك
صدرت رواية "الخطايا الشائعة"للأديبة فاتن المرّ عن دار النهار، وفي هذه الرواية، تستمرّ المرّ في حمل قضيّة المقاومة، ومعالجتها في بنية روائية متينة، تعبّر من خلالها عن كلّ ما يرتبط بها بغية إيصالها إلى المتلقّي. وفاتن المرّ أديبة كبيرة، لأنها تحمل ثقافة كبيرة، وهَمًّا كبيرًا. أمّا ثقافتها، فبالإضافة إلى تحصيلها الخاصّ، فإنّ حَمْلها لثقافة النهضة القومية الاجتماعية، جعلها تحمل صفة الكِبَر، وأمّا الْهَمّ الكبير، فقد حَمّلتها إيّاه تلك الثقافة، المبنية على مسائل كبيرة عدّة، المجتمع والمواطنة، حركة الصراع والوحدة، المقاومة والتحرير...
أمّا "الخطايا الشائعة"، كما رواية "الزمن التالي" (التي صدرت للأديبة عام 2008)، فإنهما وليدتا تلك الثقافة وذلك الهمّ. ولكن، أين حدثت الخطايا الشائعة؟
تدور أحداث الرواية في ثلاث دوائر مكانية: بريطانيا، ولبنان، وفلسطين.
وقد حصل اختراق للحدود بين الدوائر الثلاثة. في البداية عندما وصلت مارغاريت، والدة ماري-كريستين، من بريطانيا، إلى لبنان، مع جمعية أطباء بلا حدود، وزواجها بمازن الكوثري، الذي ستحمل منه وتسافر قبل الولادة.
الاختراق الثاني عندما تسافر ماري-كريستين من بريطانيا إلى لبنان أيضًا، بعدما عرفت بأنها ابنة اللبناني مازن الكوثري، وبأنّ الاستشهادية زينة الكوثري شقيقتها، فأرادت أن تتعرّف إلى عائلتها، وإلى تفاصيل حياة زينة، فجاءت بصفتها صحفية تُجري تحقيقًا عن العمليات الاستشهادية.
يحصل الاختراق الثالث عندما يسافر كلّ من أنور، حبيب ماري-كريستين، إلى بريطانيا للقائها، وعندما تسافر سهاد، صديقة أنور وزينة، إلى بريطانيا أيضًا، لقضاء فترة من الراحة مع ماري-كريستين.
أمّا الاختراق الرابع، فهو عندما تسافر ماري-كريستين إلى فلسطين، حيث يكون مقدّرًا لها أن تستشهد كشقيقتها، عندما تحاول إيقاف جرافة عن هدم بيت فلسطيني، فتدهسها وتهدم البيت.
ولكن، ما دلالة هذه الاختراقات الأربعة؟
لقد أدّى اختراق الحدود بين الدوائر المكانية إلى خلق ثلاثة أنواع من المكان، داخل المكان الواحد، بالنسبة إلى الشخصيات، وتحديدًا شخصيّة ماري-كريستين الإشكالية. هذه الأنواع هي: المكان الأيديولوجي، والمكان الهوية، والمكان النفسي.
فالمكان لا يقتصر دوره على تقديم الاستراحات الوصفية، ولا هو مجموعة شرائح جمالية، ولا هو مسرح محايد تحصل عليه الأحداث وتتنقل داخله الشخصيات، وإنما هو، فضلاً عن ذلك كلّه، علامة تتضمن مدلولات أيديولوجية ونفسية وغيرها...
كانت ماري-كريستين تظنّ أنها تنتمي انتماءً تامًّا إلى بريطانيا، إلاّ أنها لم تكن تعرف، أنّ سفر والدتها إلى لبنان، سيكون سببًا في تشتّت هذا الانتماء وضياعه فيما بعد، وأنّ ما كانت تؤمن به من قضايا ومواقف، سيجعلها سفرها هي أيضًا إلى لبنان، تؤمن بمواقف وأفكار أخرى، بعد لقائها بعائلات استشهاديين، قدّموا أنفسهم دفاعًا عن وطنهم، بل أكثر من ذلك، فإنّ اختراق الحدود بين بريطانيا ولبنان، جعل ماري-كريستين تأخذ موقفًا أيديولوجيًّا بامتياز، وهو سفرها إلى فلسطين، وهنا أرادت الكاتبة أن تحمّل الشخصية موقفها بشكل غير مباشر، وهو اعتبار فلسطين جزءًا من الوطن الأكبر، فانتماء البطلة، أرادته الكاتبة انتماءً قوميًّا لا لبنانيًّا، وهذا ما تمّ التعبير عنه بشكل واضح حين تستشهد البطلة على أرض فلسطين.
أمّا المكان الهوية، فقد أدّى اختراق الحدود إلى جعل ماري-كريستين تعيش أزمة هوية، منذ معرفتها بأنّ والدها لبناني، وبأن شقيقتها استشهادية، بل كما كانت تفكر، انتحارية، فبريطانيا ما عادت وطنها، ولا عادت تنتمي إليها لكونها ولدت وعاشت وعملت فيها، أمّا هويتها الحقيقة، فهي ما اخترقت من أجله الحدود بحثًا عنها، ووجدتها، لكنّها ظلّت في حالة صراع انتماء مع الذات، ولكنّ الهوية الأساسية هي التي ستنتصر، فهي عندما أرادت الاستقرار في بريطانيا بعد تشوّه فخذها وبتر ثلاث أصابع من قدمها، إثر إصابتها بشظايا قذيفة في حرب عناقيد الغضب، نجدها بعد فترة قصيرة، تسافر مع حملة صديقها تييري إلى فلسطين، للتعرّف عن كثب إلى أحوال ومعاناة ذلك الشعب. موافقتها على السفر، ثمّ سفرها، جاءا نتيجة لانتمائها إلى ذلك الشعب، وإلى معاناته، وهذا ما أدّى بها إلى التضحية بنفسها من أجل ذلك الشعب/شعبها.
أمّا المكان النفسي، وهنا سنتحدّث عن البعد النفسي الذي أدّاه اختراق الحدود، فها هو المكان يؤثر على نفسية الشخصية بحسب تنقلها ووجودها، وبحسب الأحداث والمواقف الناتجة عن وجودها في المكان. فالجنوب اللبناني مثلاً، لم يحمل لماري-كريستين تبدّلاً بمواقفها الأيديولوجية، واكتشافها لهويّتها وانتمائها، بل حمل لها أيضًا علاقة حبّ كبيرة، أثرت كثيرًا في نواحي عديدة من شخصيّتها... فإذًا، لقد اتخذت فاتن المرّ من دائرة لبنان المكانية، فضاءً، أدى اختراقه دورًا نفسيًّا شكّل محورًا هامًا في حركة تشكّل النصّ، من خلال حركة تشكّل شخصية ماري-كريستين.
لقد أدّى المكان الدور الذي أرادته الكاتبة، فهو بوصفه الأرض والوطن، في رواية كانت العمليات الاستشهادية المحور الأبرز فيه، كان لا بدّ من أن يحمل على كاهله همّ القضيّة التي تحملها الكاتبة، والتي حمّلتها نصّها الروائي، فالدفاع عن الأرض وتحريرها، للوصول في النهاية إلى وحدتها، وهو ما بدأه أولئك الاستشهاديون، وما يجب علينا أن نكمله، وهذا محور آخر من المحاور المنتمية إلى انتماء الكاتبة النهضوي، والذي نقرأه في "الخطايا الشائعة".

متخيل الهجرة وألاعيب الكتابة الروائية في رواية 'نساء الريح' لرزان نعيم المغربي

د. محمد المسعودي تأتي رواية 'نساء الريح' لرزان نعيم المغربي في سياق عودة الرواية العربية إلى الانشغال بمعالجة أزمة الإنسان العربي في الواقع الراهن بكل تعقيداته وملابساته، وفي شتى تجلياته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والسياسية، بعدما انشغلت في فترات ما بجمال اللغة والصياغة الفنية على حساب طرح قضايا حاسمة وجذرية في المجتمعات العربية. وهي رواية تنضاف إلى الروايات التي اهتمت بموضوع الهجرة السرية ( غير الشرعية) بكل أبعاده الواقعية والمتخيلة لبناء عوالمها السردية.
ورواية 'نساء الريح' هي العمل الروائي الثاني للمبدعة رزان نعيم المغربي بعد روايتها 'الهجرة على مدار الحمل'، وبعد عدة أعمال قصصية أخرى. والانشغال بموضوع الهجرة لا يحضر في هذه الرواية دون غيرها من إبداعات الكاتبة، لكنه يحضر في روايتها 'نساء الريح' بمفهوم ترك البلاد تحت ضغط البحث عن حياة كريمة وبغرض ضمان لقمة عيش نظيفة عبر طرق غير شرعية لا تخلو من مخاطرة ومغامرة، وهو تجل أول من تجليات القضايا التي تطرحها الرواية، وكما نستشف من صفحاتها الأولى. وبما أن الهجرة تتخذ أشكالا مختلفة من الرحيل ودواعيه وتتصل بأنماط متنوعة من الأحلام والتطلعات والهواجس، فإن هذه الهجرة قد تكون مادية فعلية تجري في المكان والزمان بالانتقال من فضاء اجتماعي وحضاري إلى آخر، وقد تكون هجرة معنوية تتصل بهواجس باطنية جوانية قاسمها الكبير الشعور بالاغتراب والنأي عن المجتمع وقيمه وبعض مكوناته الحضارية والثقافية على الرغم من المكوث في المكان الواحد وعدم مغادرته. ولعل هذه الأبعاد جميعا تثوي طي هذا العمل الفني الجديد للروائية، كما سنلمس في هذه القراءة.
إن مدار هذه الرواية لا يتعلق فقط بتصوير معاناة فئة اجتماعية مسحوقة من النساء والرجال والأطفال تتخذ الهجرة السرية سبيلا إلى الخلاص والتحرر وتحقيق الأحلام، وإنما يتمركز حول تصوير شتى أشكال الاختلالات في الواقع والحياة. وبذلك فإن أبعاد الرواية تطال مناحي متعددة في حياة الإنسان العربي في عصرنا الراهن. تراوح الرواية في حكيها بين شخصيات نسائية عديدة لكل واحدة منها أحلامها وتطلعاتها، كما لها آلامها ومشاكلها التي تعمل على البوح بها بشتى السبل، ومن بين هذه الشخصيات الروائية شخصية الكاتبة ( وهي شخصية ورقية غير رزان نعيم المغربي طبعا). وعبر هذه الحكايات النسائية الغنية والمتنوعة تشيد الرواية عالمها السردي الذي لا يخلو من مكر فني ولعب روائي متقن.
فإذا كانت كل من بهيجة وأم فرح امرأتين غامرتا بنفسيهما وخاضتا غمار البحر في ظروف غير آمنة وتخلو من كل شرط إنساني سوي، وجربتا معاناة الهجرة في زوارق الموت، وتعرضتا للابتزاز( حالة أم فرح) أو التحرش الجنسي ( الفتاة وبهيجة) أو الموت ( المرأة التي هاجرت في القارب وألقيت في البحر)، فإن الرواية تحفل بشخصيات أخرى تعيش نمطا آخر من الهجرة، وهو المتمثل في الشعور بالقلق الروحي والاضطراب النفسي في مجتمع مختل، وبالخصوص حالة الكاتبة التي كانت ترصد كل ما يجري حولها بعين ناقدة شاجبة للعفن المستشري في مختلف مناحي الحياة. وهكذا نلقى نقدها يطال المجتمع المحافظ والطبقة الغنية المترفة بتفاهة رجالها ونسائها، كما يمس الساسة والمثقفين، ليس فقط في ليبيا، وإنما أيضا في البلاد العربية، وعلى وجه الدقة أولئك الذين حولوا الثقافة وأنشطة الثقافة إلى تجارة وأداة لتلبية نزواتهم دون الوقوف عند الواقع أو تأمل حياة الناس والبلاد التي يعبرونها. (انظر الرواية: ص. 108).
ولعل التفات الكاتبة ( الشخصية الروائية) إلى مثل هذه القضايا وطرحها ينبع من معاناتها وانشغالاتها بالحياة وهموم الناس من جهة، ومن رغبة في الإبداع عن طريق كتابة أشياء متميزة، ولهذا حفزت بهيجة على وصف كل ما تحس به وما تراه وتعيشه أثناء رحلتها وتسجله في آلة التسجيل التي منحتها، كما قبلت الاستماع إلى حكايات يسرا وهدى وسومة على الرغم من تفاهتهن ( والوصف للكاتبة / الشخصية الروائية). وهذا الوصف في ذاته يجسد موقفا واضحا من هؤلاء النساء الفارغات روحا، القلقات المضطربات، اللواتي لا تشغلهن سوى مكائدهن وتلبية رغباتهن الحيوانية. نساء لا يفكرن سوى في التستر على خيانتهن لأزواجهن، والاستمرار في ابتزاز الرجال والتلاعب بهم بدعوى الحب والصداقة والزوجية وغيرها من العلاقات التي استشرى فيها العفن.
هكذا نجد الرواية، وهي تنتقل بين ( الكاتبة) وصديقاتها وبهيجة وغيرها من الشخصيات، تمعن في تصوير مظاهر الاختلال النفسي الاجتماعي، كما تقف عند تجليات الاغتراب والتوزع لدى الإنسان المعاصر، وكأنها تقول لنا: 'الكل مهاجر مغترب، ولكل هجرته الخاصة، ولكل امرئ ما / من هاجر إليه: المال أو الحب أو الشهرة، أو المتعة، أو الوهم، أو تحقيق العيش الكريم'. ومن ثم، فإن جل الشخصيات النسائية في الرواية، لا تسلم من نوازع رحيل وحلم بتغيير الحياة نحو أفق آخر.
هذه بعض من انشغالات متخيل الهجرة في الرواية التي أبت إلا أن تعزف على وتر الحلم في تغيير حياة الإنسان نحو الأفضل، من جهة، عبر الفعل / العمل ( نموذج بهيجة الخادمة الأمية) والكتابة / التفكير ( نموذج الكاتبة المثقفة الرافضة). ومن جهة ثانية، عزفت على وتر التراجيدية الإنسانية حينما تتمثل في التيهان والبعد عن الواقع والارتباط بصغائر الأشياء وتفاهتها، كما نرى في حالات النساء الأخريات في الرواية. ولعل هذا الحس التراجيدي الذي تحفل به الرواية مما يحسب لها، ويوضع في ميزان حسناتها، وهو جزء لا ينفصل عن لعبها الفني.
وقد نجحت الرواية أثناء بنائها المرآوي الذي كان يعتمد على التنقل بين محكي بهيجة، ومحكي الكاتبة، ومحكي الشخصيات الأخرى في أن تحافظ على إيقاع سردي لم يخل من التوتر والتصاعد في سياق درامي متماسك. وهذا التماسك الفني أسهم في تجنيب الرواية كل ترهل أو إطناب لا داعي له، كما أنه لم يجعل حسها التراجيدي يسقط في نزعة رثائية أو في نبرة هجائية للواقع، بقدر ما جسدت موقفا نقديا عقلانيا ووجدانيا من الواقع عبر شخصياتها الروائية، وعبر تفاعل كل من الكاتبة وبهيجة من أجل الانتصار إلى حلم الإنسان والحرص على نجاح التجربة والمغامرة.
وقد وقفت الساردة، في تصوير بعض ملامح التوتر والتصاعد الدرامي في الرواية، عند شخصية الكاتبة وما كانت تعيشه بدورها من توزع بين الرغبة في مد أواصر صداقة بجاراتها في العمارة ( يسرى، وهدى، والشقرا) لصياغة روايتها التي ترجو كتابتها، وبين الخشية من التورط معهن في مغامراتهن الغرامية وانشغالاتهن التافهة، ولهذا نجد الكاتبة تخاطب نفسها أكثر من مرة قائلة:
'...تؤرقني هذه الأسئلة للمرة العاشرة: لماذا أنا هنا؟ كيف وافقت على الاستمرار ومشاهدة هذه اللعبة؟ الآن تنفجر من رأسي الإجابة حاسمة:
ـ حتى تكتبي الرواية عليك الاكتفاء بما عرفته عنهن جميعا، أما ما تبقى فدعي خيالك يكمله ويملأ فراغاته...' ( الرواية: ص. 55)
وتكشف الساردة عن مكمن خوف آخر لدى الكاتبة وبعدا من أبعاد تعبيرها عن انفعالها وتوترها مما يجري حولها، فهي تعيش حالة توزع بين الكتابة وبين واجب الصداقة، ومن ثم تخشى الإساءة إلى صديقاتها. تقول متحدثة عن يسرى:
'... ها أنا أصبح شريكتها بعد اطلاعي على سرها، ولم أثنها عن عزمها بصدق، نشأ صراع مؤلم في داخلي بين المرأة المفترض أنها صديقة مخلصة وبين المرأة الكاتبة المجنونة التي تبحث عن قصة تكتبها.
بين الإثم والفضول سكت ضميري تماما واقتنعت بحفظ سرها بل ونسيانه تماما، سأكتمه فليس بمقدوري إشعال الفتنة وتحمل نتائجها، ولست مسؤولة عن شرف النساء المهدور'.( ص. 60)
يكشف هذا الاستشهاد، إلى جانب تصويره توتر الكاتبة، عن الحس الإنساني والوعي العميق بشخصية الكاتبة باعتبارها شخصية روائية فاعلة في النص استطاعت أن تنخرط في عوالم نساء العمارة من جاراتها اللواتي صرن صديقاتها، كما انخرطت في علاقات مع نساء أخريات، وبالأخص بهيجة. وهذه الأواصر جعلتها تتخذ الحذر في الكتابة عنهن وصياغة عوالمها الحكائية بما لا يمسهن أو يسيء إليهن. وهذا البعد الإنساني المتعاطف مع الآخرين ومع قضاياهم جوهر شخصية الكاتبة كما جسدتها الروائية رزان نعيم المغربي. وعبر هذه الحيلة الفنية واللعب الروائي تتمكن الروائية (رزان المغربي) من كتابة روايتها التي تعري جوانب من الواقع المعاصر، وأن تجعل من نصها شهادة على تردي الوضع البشري في عصرنا الراهن. وقد كان تداخل المحكيات السردية في النص وتعددها، وتنوع استراتيجيات روايتها: ( إما عن طريق السرد المباشر بضمير المتكلم، أو من خلال الحوار، أو عن طريق الحوار الداخلي، أو بواسطة قراءة بعض الأوراق ـ في حالة يسرى مثلا ـ أو عن طريق النميمة النسائية بحيث تحكي النساء عن بعضهن بعضا، أو من خلال وقوف الكاتبة ذاتها على بعض الأحداث أو تورطها في بعض المواقف) ، منطلقا للعب روائي هدفه إمتاع القارئ وشده إلى قراءة النص والاطلاع على مجريات الأحداث في تصاعدها الدرامي وفي توترها التراجيدي والنفسي.
وما يمكن أن نصل إليه من خلال هذه القراءة أن المدار في 'نساء الريح' لم يكن متمركزا حول نساء الهجرة اللاتي خضن غمار العبور السري من ضفة البحر الأبيض المتوسط الإفريقية إلى ضفته الأخرى الأوروبية، وإنما اتخذ من محكي نساء أخريات تخضن مغامراتهن في مهب الريح العاصفة، ريح المؤامرات الصغيرة والمكائد النسائية التافهة من أجل أوهام التحرر والعشق والاستقلال وكسب المال... وغيرها سندا لتشكيل متخيل الهجرة. وبذلك، فإن الهجرة، هنا، ليست هجرة على الحقيقة، وإنما هي حالة 'تهجير' قسري للذوات عن حقيقتها الإنسانية وعن شروط حياتها الكريمة الطبيعية العقلانية؛ إما عن طريق تفقيرها ووصول حياتها إلى أفق شبه مسدود يكون الرحيل من مكان إلى مكان آخر سبيلا لفتح كوة للأمل وتحسين الحال بالنسبة إليها ( حالة بهيجة وأم فرح والبواب رضا...)، أو عن طريق انغمارها في ملذات الحياة وتوافه الوجود الحسي المادي بما يمليه في وقتنا الحاضر من صراع ومكر وخداع لضمان البقاء ( حالات هدى ويسرا والشقرا وزوجة السيد عبد المجيد والسيد عبد المجيد وكمال ومنير...).
وبتقاطع هذه العوالم وتداخلها، وعن طريق الألاعيب الفنية المتنوعة التي وظفتها الكاتبة استطاعت هذه الرواية أن تجسد نظرتها الخاصة والأصيلة إلى عمق مشكل الهجرة في واقعنا المعاصر، وقد عبرت عن موقفها من هذا الواقع تخييليا عبر بناء فني درامي متماسك، وقف عند تراجيدية إنسان عصر العولمة الذي تحول إلى إنسان قلق متوتر مهاجر حتى لو سار على الرصيف ( إذا سمح لنا أن نأخذ من الكاتب المصري الراحل محمود السعدني عنوانه الشهير: مسافر على الرصيف).
على المقرى يروى قصة "اليهودى الحالى"

د.صلاح فضل
 على المقرى.. مبدع يمنى يشتغل بالصحافة الأدبية منذ ربع قرن، بدأ شاعرا مثل معظم كتاب اليمن، ثم انعطف إلى الرواية فبرع فيها، وأخذ يستمد مادته من التاريخ اليمنى الحافل، فنشر مؤخرا روايته المثيرة «اليهودى الحالى» يقلب فيها مواجع التعايش العسير بين الطوائف والأقليات الدينية، المتراوح بين فترات التسامح الطويلة وأوقات الفتن العاصفة. ويحكيها مرة بصيغة السيرة الذاتية، ثم يعقب عليها بأسلوب المدونات التاريخية، فيجمع بين النبرة الشخصية الحميمة لراو يعبر حواجز الفئات المختلفة على جناح الحب والألفة، وبين مقتضيات التدوين التاريخى فى الحياد والتباعد والموضوعية. محددا موقعها الزمنى خلال منتصف القرن الحادى عشر الهجرى- الموافق للقرن السابع عشر الميلادى- ولا نفهم سر اختيار هذه الفترة على وجه التحديد إلا عندما يتم ربطها فى ختام الرواية بالوقائع التاريخية، فهى تتذرع بالتخيل السردى لتحاكى الأحداث الفعلية التى شهدتها اليمن عندما صدر قرار بطرد اليهود وتهجيرهم منها عقب شائعة ظهور المسيح المخلص وما جرته من تداعيات مأساوية. لكن البداية اللافتة للرواية تتمثل فى وقوع فاطمة، وهى بنت مفتى قرية ريدة فى حب الصبى المختلف عنها عمرا ودينا «فاجأتنى صباح أحد الأيام بقولها إنها ستبدأ فى تعليمى القراءة والكتابة .. (ألا يعلمونك يا يهودي الحالي..؟) أربكتنى كلماتها وهى تقولها بحنان وغنج لم آلفهما، فأنا يهوديها، أو اليهودى حقها، ليس هذا فقط، بل أنا فى عينيها مليح (حالى) حركت كتفى مستغربا سؤالها، فلم أكن أعرف معنى القراءة والكتابة. فى البيت حين سألت أبى عن ذلك أفهمنى أن الأقوال والأدعية التى يرددها فى صلاته وجدت فى مدونات قديمة، نقلها العارفون بالكتابة إلى ألواح وجلود وأوراق ليقرأها من يجيد القراءة وهو لا يعرفها.. بدا مندهشا ومستغربا وأنا أنقل إليه فكرة تعلمى القراءة والكتابة على يد بنت المفتى».
كان أبوه نقاشا يعمل فى تشكيل الجص وصناعة القمريات والنوافذ من خلال قوالب خشبية وحجرية مشكلة على هيئة أقمار وأهلة وشموس ونجمات سداسية مثل نجمة داوود اليهودية تماما، يعيش خاضعا للأعراف والتقاليد التى تلزمه بالطاعة ومظاهر الذل والخضوع.
وعندما بدأ يخشى على فتنة ابنه من تعلم العربية وحفظ بعض آيات القرآن كانت زيارة فاطمة لهم فى المنزل، بما تعنيه من رفع لقدرهم، كفيلة بمحو أثر الخوف على عقيدته من الثقافة الإسلامية.
وفى السنة الثانية من تردد الشاب على بيت المفتى صار يجيد القراءة والكتابة بالعربية، ويقرأ مخطوطات الفلسفة والفقه وعلوم الحساب والفلك والطب، كما أخذ يقرأ الأسفار اليهودية باللغة العربية بعد أن أغروه بالتردد على بيت الحاخام أيضا ليتقن العبرية، وحين عرفت فاطمة ذلك طلبت منه تعليمها العبرية، فصارت المعرفة المتبادلة هى التى تبسط عليهما جناح الألفة والتقارب، لكنه بعد بلوغ سن الرشد امتنع عن التردد على بيت المفتى تفاديا للحرج، وأخذ يشعر باختلافه عن أفراد أسرته، عن أخيه مثلا، وعندما أصيب هذا الأخ الأكبر بالحمى وأخذ يهذى فوجئ به يتغنى «بالفاتنة المليحة، ساحرة العقل والروح، ملجأ اليتيم، خاصة المتشردين، الطيبة الحنون، نبيذ الحياة، سألت أمى من هذه التى يعتبرها نبيذ الحياة وبنت مَن أجابت: أورشليم، عندئذ تذكرت ما كان يحدثني به عن ظهور المسيح المنتظر الذى سيحول الملك إلى اليهود، وكان يقول لى بغضب: سأنتقم من كل المسلمين، حتى الذين لم يفعلوا بى شيئا». هذه إذن نذر العواصف القادمة، يتضح منها الشرخ الوجدانى الذى حاول اليهودى الحالى، أى الوسيم، وحاولت فاطمة جبره بالمعرفة والمودة.
زمان الوصل فى اليمن:
على الرغم من تشابه المجتمع اليمنى مع ما أثر عن الأندلس من مظاهر التعايش الحميم بين الطوائف الدينية فى حياتهم اليومية حتى أصبح زمانهم «زمان الوصل» لا تلبث الفتنة أن تطل برأسها كما تجسدها صفحات الرواية بطريقة ماهرة، فحوادث العشق بين الصبايا والشباب تتكرر، يحسبها أهلهم من قبيل السحر، ينتهى الإحباط ببعضهم إلى الانتحار والانتقام، والراوى يمثل ذلك بطرافة قائلا «كنت أعتقد أن الحب وشرب الخمر والنبيذ من بين ما يجمع بعض اليهود مع بعض المسلمين، لكن سرعان ما داخلتنى الشكوك عندما عاد الخصوم إلى المواجهة، إذ داهم المسلمون الحى اليهودى وقاموا بكسر جرار الأنبذة والخمور فى البيوت، بما فيها بيتنا، حتى فاحت ريدة بروائحها، بعد أن سكرت أرضها وداخت طيورها، فصمت كما صمت «حاييم» عن الغناء، إذ لم يجد ما يملأ به قربته أو رأسه» كان حاييم هذا هو المغنى الذى لا يكف عن الشراب وهو يترنم بأغنية: «صباح الصباح/ للفتيان الملاح/ من يبهجوا القلب/ ولا يقولوا آح» وهى تذكرنا ببعض أنغام الموشحات الأندلسية التى تختم بالكلمات ذاتها، كذلك كان الراوى يصدح بمواجده فى حب فاطمة وهو يغنى:
«عقلى ارتبش (ارتبك) لما خطر قبالى/ وهد عمرى ونحل عظامى
يا غارتاه، بالله ارحموا لحالى/ قولوا له يجلس سنة قبالى
بالله ارحموا قلبى المولع/ لحين وراه ما عد قدر يرجع
حبيبه من عائلة محمد/ لو أقربه أعيش معه ممجد
إن مت يا أهل الله سامحونى/ وجنبه بالأرض اقبرونى
ألقوا السلام كما السلام لله/ يهودى عشق مثل خلق الله»
ولم يكن الشراب وحده هو الذى يجذب شباب المسلمين للاختلاط باليهود، بل اقترن ذلك بفتنة النساء وعلاقاتهن المباحة، فبعد حادثة كسر الجرار وحصول اليهود على تعويضات عادلة عن خسائرهم باعتبارهم ذميين لا يجوز الاعتداء على ممتلكاتهم جاءت بشائر الأخبار ــ كما يقول الراوى ــ بوصول ثلاث يهوديات شهيرات إلى الحى، قالوا إنهن جئن بعد أن هددهن فقهاء مسلمون بالقتل إذا لم يرحلن من صنعاء، اتهموهن بإفساد أولاد المسلمين وبناتهم أيضا، كن كما تردد يقمن بمهنة القوادة، فيجمعهن بين بعض المسلمين رجالا ونساء فى بيت خصص لذلك، أو فى بيوت هؤلاء المسلمين أنفسهم، مقابل أجرة يحصلن عليها، وإذ سبقتهن أخبارهن إلى ريدة فإن المسلمين ــ ولا سيما الشباب منهم ــ ظلوا يترددون إلى الحى اليهودى بهدف رؤية هؤلاء النسوة، حتى قيل إن البعض جاء من مناطق بعيدة لهذا الغرض».
يبدو أن مناخ التحرر قد شاع فى نفوس الشباب، حتى إن فاطمة بنت المفتى أقبلت على مبادرة عجيبة، إذ بعثت برسالة إلى يهوديها الحالى كما تسميه تقول له فيها:
«أعلم عافاك الله أننى وهبت لك نفسى، حرة عاقلة لتصبح زوجى إذا تجاوبت معى وأبلغتنى بقولك: قبلت»
ولا تنس بنت المفتى أن تبرر ما أقدمت عليه وتعززه بالأسانيد قائلة: «قرارى هذا وصلت إليه بعد أن درست أقوال الشريعة ورأيت فيها بحر اختلاف يجمع علماء المسلمين بدون اتفاق، وكان دليلى لقرارى الإمام الجليل أبوحنيفة الذى أبهجنى بإجازته للمرأة البالغة الرشيدة تزويج نفسها بدون ولىّ الأمر، وزادنى سرورا المجتهد اللبيب أبوالمعارف بهاء الدين الحسن بن عبدالله بفتواه المدونة فى التصاريح المرسلة التى يجيز فيها للمسلمة الزواج من يهودى أو نصرانى»
وعلى هذا تدبر له الأمر للخروج معها من ريدة، واللجوء إلى صنعاء بعيدا عن لوم الأهل وتوترات الطائفتين. يطلق الراوى على هذا السلوك مذهب فاطمة الذى تدين فيه بدين الحب والمسامحة والسلام، وتربطه بما كان يدعو إليه الشيخ الأندلسى الأكبر محيى الدين بن عربى، لكن الغريب أن الراوى لا يتحول إلى الإسلام إلا بعد فجيعته فى فاطمة التى تقضى نحبها خلال ولادة عسيرة، وتترك له مضغة صغيرة لطفلة تحتاج إلى رعاية، فيجد نفسه مضطرا إلى إعلام إسلامه حتى يظفر برعاية الوليدة والمجتمع والقرب من الولى ذاته.
وتمضى الرواية لتسجل أهم حدث تاريخى فى هذه الفترة، بعدما انضم الراوى إلى جيش الإمام المتوكل وأفاد من حسن حظه فى تدوين فتوحات الجيش وانتصاراته ضد العاصين والخارجين عن الدين والدولة، حتى وصل إلى مدونته الأخيرة وفيها يسجل:
«دخلت سنة سبع وسبعين وألف للهجرة، حين أظهر اليهود تململهم من تكرار دوران الدائرة عليهم، ونفاد قدرتهم حتى على الضجر. أيامها وصلت إليهم أخبار عن ظهور المسيح المخلص المذكور فى الكتب القديمة، فبدت فرحتهم عارمة، كأن لم يكن لهم من حلم سوى انتظاره، تنادوا مبشرين به فى جهات اليمن الأعلى والأسفل.. ظنوا ذلك تحققا لما تنبأت به تلك الكتب: إن الغلبة ستكون لليهود وإن الملك سيصير لهم وحدهم».
هذا هو جذر الأساطير المؤسسة لتمردهم فى تلك الفترة، وصدور قرار طردهم من اليمن، على شاكلة القرار الذى كان قد صدر فى الأندلس من قبل، ويصف الراوى بخيال تاريخى مدهش مظاهر احتشادهم وخروجهم من المدن راجلين ومنهكين فى شتات رهيب بعد مصادرة أموالهم وجميع ممتلكاتهم، لكن العقوبات لم تلبث أن خففت عنهم، ولم يتم إخراجهم عنوة من اليمن، بل ظلوا فى بعض القرى على أطرافها، وعادوا إلى نطاق الذمة مرة أخرى، واندغم فى حياتهم صوت الراوى وبرز بعض أحفاده المختلطين بين اليهودية والإسلام، وظلت هذه الأساطير تختمر فى الضمير اليهودى حتى أسفرت عن تجلياتها فى العصر الحديث، لكن يظل نموذج هذا التعايش العاشق الحرج الذى قدمته فاطمة فى هذه الرواية الزاخرة بالإشارات والدلالات مضيئا للتاريخ والواقع فى آن واحد.
المقالات نقلا عن مواقع وصحف مختلفة

ليست هناك تعليقات: