2010/11/03

أحمد قرني يكتب عن انتهاك الشكل المألوف للقص في مجموعة الذي كان

مجموعة
" الذي كان "
وانتهاك الشكل المألوف للقص
دراسة / أحمد قرني محمد

تسلبك هذه الكتابة التي تطالعك في مجموعة "الذي كان " للكاتب الدكتور جمال التلاوى ببساطتها لبك وتجعلك واقعا لا محالة تحت تأثير الدهشة الأولى التي تدفعك دفعا إلى البحث عن سر سعادتك بتلك القراءة ورغبتك الملحة في الولوج بنشوة إلى بنيتها
و نحن من خلال هذه الدراسة نريد تسليط الضوء على المستويين المشكلين لبنيات هذه المجموعة القصصية أي أننا سنتعامل مع هذه المجموعة كدراسة نقدية من خلال البنية الداخلية و البنية الخارجية ونحن لا نريد بالقطع أن نفصل البنتين عن بعضهما البعض إذ هما ـ في الأرجح من أراء النقاد ـ متلازمان ولا يمكن أن نبتعد ببنية الشكل عن بنية المضمون ولكنها محاولة للتبسيط والتفكيك للوصول بقراءة جادة عن هذه المجموعة التي أرادت أن تتحرر من قيود الحبكة والحكاية التي هي سائدة في مجال القص لتجنح ناحية البسيط والتركيز على ما هو عابر لا يلفت النظر كما فعل في قصة "البالونة "أو" حكاية الحصان الذي خسر السباق "وتكمن هنا قوة الكاتب وجرأته في اختياره لعوالم لا تتماس مع البعد السردي أو متن الحكاية لكي ينتقل من البعد السردي المتعارف عليه إلى عالم الصورة والتخييل الشعريين وفي هذا انتهاك لشكل الكتابة القصصية المألوفة والمعتادة لتسمح له بتخطى الحواجز المكانية والزمانية ويقفز عليهما مثلما حلق بنا في قصة "الياسمين" ومثلما فعل في قصة "الصفعة" حيث انطلق السرد مع حدوث واقعة صفع الفتوة على قفاه لنرى ما نراه في سياق القص وعندما تعارض و تداخل مع التراث مثلما فعل في قصة "قراءة في نص حجري " حيث تعامل مع بعض التراث الإنساني وتناول الحدوته التراثية بالنقد مثلما تناص مع حدوتة عروس النيل والتناص مع قصة سيدنا موسى والتناص مع قصة سيدنا يوسف حين ألقوه في البئر في قصة (إذا زلزلت الأرض )
* فعلى مستوى البنية الداخلية تأتي اللغة في مقدمة التناول حيث يستخدم الكاتب في أغلب النصوص ضمير الغائب حيث يشعر القارئ بأنه ملم بتفاصيل الأحداث وتفاصيل الشخصيات و تشعر و كأنه يسير هذه الأحداث وهذه الشخصيات بنظرة فوقية كما حدث في قصة ( أشواك الورد ) حيث بدا الراوي الخارجي ملما بدواخل الشخصية وخلجات نفسها ليعبر عنها في دقة متناهية ( تردد كثيرا وفكر كثيرا وكلما اقترب كانت توخز قلبه بحربة أو رمح ) ص62 وكذلك فعل في قصة ( عيناها ص 85 وفي هذه القصة يبدو التداخل الشديد بين الهم الشخصي والهم العام فلا تكاد تفرق بينهما نتابعه يقول ( ولكنه كان يرسم في عينيها تاريخا بحجم الوطن وتاريخا بحجم حياته لم يدر لماذا في هذه اللحظة بالتحديد تذكر الطفل الفلسطيني الذي يحتمي بوالده وعجز والده عن حمايته يرفع يديه يضم ابنه يصرخ لكن رصاصات الصهيوني كانت قد أنهت حياة الطفل حينما تدلى رأسه تدلي بجواره تاريخ طويل كانت عيناها متلألئتين ..) ص 86 ـوسنسمع صدى هذه الجملة ( حينما تدلى الرأس ) صدى كبير في قصة تحمل نفس العنوان من المجموعة ونراه ( رسم خارطة للوطن بحدود شفتيها كانت شفتاها البدء والمنتهى خارطة ممتدة تبدأ من حيث تنتهي تأمل الخارطة ورسم محطات حياته وعلى نعومة الشفتين تحسس الطرق الملساء التي سار فيها والحفر التي تعثر فيها ) وهنا يتخطى الكاتب حواجز كثيرة في الكتابة حين يتحدث عن الحفر التي تحسسها على شفتي فتاته ...وأحيانا يغامر و يتسرب إلى الجانب النفسي من أجل تغيير رؤى الشخصيات المشكلة لهذه المجموعة القصصية بل تجده أحيانا عنصرا مشاركا في سير هذه الأحداث ..نطالع مثلا في قصة ( الياسمين ) ( ها هو يلملم بقاياه المتهالكة يتكور حول نفسه يلقي برأسه بين ركبتيه ويضم بيديه ساقيه ) فنجد الوصف الخارجي للشخصية ينتصر على الوصف الداخلي لها ونرى تركيز الكاتب على ملاحظة كل كبيرة وصغيرة تصدر عنها ( تجاعيد الوجه المتغضن لا تخفي حزنا أو فرحا أو ترقبا أو ذكرى إنها تجاعيد التي رسمتها السنون المتعاقبة كل خط بمثابة موقعة حربية انتصر فيها وعاش ) ص 17وإذا كانت اللغة هنا لغة شفافة تقترب من الشعر لتعبر عن صراع الشخصية من أجل البقاء حيا لترصد الحياة البدائية التي يعيشها هذا المخلوق الوحيد أما قصة ( عبث ) فسنجدها على العكس تماما نجدها لغة أكثر دقة لتعبر عن حالة الألم التي تصيب العائلة جراء مقتل أحد أفرادها على يد قوات الشرطة في قصة ( عبث ) والتي توحي من عنوانها الحالة التي يعيشها الناس من جراء إرهاب الشرطة فالخال الأصم يقتل بسبب أن الصبي ألقى بمبة على الأرض فأثارت ذعر العسكر فأطلقوا النار على الخال الأصم بعد أن طالبوه بالوقوف فلم يمتثل رغما عنه إنها فعلا حالة من العبث وكما أن الحكاية تقترب من الواقع المعاش فقد هبطت اللغة من عليائها لتحكى عن ( في المساء كان يجلس الصبي مع والدته يقص عليها عن اللعب التي سوف يشتريها إذا ما كان الغد كان يحاول التوفيق بين عيديته التي يأخذها من والدته ومن خاله الأصم الذي يعيش معهما منذ رحيل الأب وبين ما يريد شراءه من لعب ) فاللغة هنا تقترب من مفردات بسيطة معاشة مثل ( العيد الكبير ، عيديه ، الجمعية ، بمبة ..) كما تبدو اللغة في قصة " حكاية الحصان الذي خسر السباق" ص 29) حيث يتحول الضمير في القصة إلى ضمير المتكلم وتقترب اللغة إلى الشاعرية لغة تتفجر مجازا وصورا كما أن انزياح اللغة من اللغة القصصية النثرية إلى اللغة الشعرية التي تحافظ على الجرس الموسيقي و الصور الجمالية و البلاغية . و هذا النوع من الكتابة القصصية تلامس الشعر وتقترب منه وهو يقترب تماما من تحقيق ذلك عند مقطع ( تخفت النار تخفت ...تخفت ..تتلاشى ..ثمة شيء لم يكن وأي شيء يمكن أن يكون ...عاد الظلام وعاد الصقيع وقبل ذلك لم يكن شيئا لم تكن نيران ودفء ولم يكن صقيع ولم تكن رحلة بحث عن حصاد يدفئه ها هو في هذه اللحظة يولد ..واللحظة القادمة قد لا يكون وقد يولد ..) ص 18من قصة الياسمين أما في قصة الحصان الذي خسر السباق فيقول ( ..وأنا ، ما عدت (خيل الزمان العتية) وما عدت الفرس المنتظر إذ حين ساح الشمع وذابت جناحي ...استقبلتني الأرض الرخوة وحين هذيت كان الزمان قد تبدل ...ص31) كما تبدو اللغة الشفافة اللغة التي تملأ بدلالات أوسع للتأويل وتتسع أكثر للفهم في قصة (أغنية رمادية ) تبدو وكأنك أمام لوحة تشكيلية كيف تعرى النفس وكيف للمرء أن يسقط هكذا ويتلاشى ( لا يزال الرأس منتفخا وتبدو في الرأس كل الأشياء مقلوبة أطلب من نفسي أن تجلس منعكسة مقلوبة الرأس في الأسفل والجسد معلق لأعلى الصورة المقلوبة تتوازى وتتساوى مع الرأس المقلوب لكن شيئا لا يتوازى ولا يتساوى ) ص 55 ولأن الحياة كانت جزءا من ارتباط الإنسان بالأرض وصورة بديعة لالتحام الذات بالمكان فإن عودة الإنسان إلى الأرض إلى الطبيعة ، بمعنى من المعاني هى عودة للرحم البدائية وتتحول الشجرة إلى الأم والحياة( لحظة ميلادهن عندما فتح عينيه فجأة فرأى الأرض المتشققة العطشى والشمس من حوله والسكون يملأ الكون لحظة الميلاد / لحظة اكتشاف ...الشجرة ربما تحنو عليه رضيعها الذي تحميه من حرارة الشمس ولا تطلب منه مقابلا يلتصق بجذعها ويتنفس تعلو أنفاسه حتى تصل لقمة الشجرة ) ص19.20واللغة في " أغنية رمادية " لغة إيحائية تشير إلى كثير من الدلالات الخارجية مما يساعد على تحمل هذه المجموعة القصصية لعدة قراءات فاللغة فيها لغة انفجارية تخرج عن المعتاد و تبتعد عن التفسير القاموسي المعجمي مثل قوله ( بحث عن حصاد يدفئه ) والقارئ بذلك يعطي للكلمة الواحدة عدة دلالات حسب رؤيته النقدية فمثلا ستجد تعبيرات مثل (ثمة شيء لا يوجد ) في قصة الياسمين وأيضا قوله ( جسده يحاول أن يتداخل فيه ) أيضا ستجد تعبيرات مثل ( إنها لا تمتد ، إنها تنتهي ) أو قوله ( إنه لا يستطيع أن يسرع ، خطواته لا تتغير ) ومنه أيضا ( هويت ...هويت لأسفل ) ص 29 ( أحد لا ينبس بكلمة ) والشائع ( لا أحد ينبس بكلمة ) وفي قصة (إذا زلزلت الأرض ) يقول ( تمتلئي الأرض بالدماء الخضراء ) ( نشرب بأعيننا وقلوبنا ..) ( كان صمته صاخبا وحادا ) ص 85 قصة عيناها تلك لغة لها قاموسها الخاص الذي ينبع منها كما نلحظ تنوع الضمائر المختلفة في المجموعة فنرى ضمير المتكلم وضمير الغائب كثيرا و تتنوع معها الأفعال وبتنوع الأفعال تتنوع الأصوات و أحيانا نجد أن القاص يؤنسن الحيوان ويجعله بطلا أساسيا ضمن قصصه مثل قصة ( الحصان الذي خسر السباق) فإن الحكي كله يأتي على لسان الحصان بضمير المتكلم وكم كان رائعا ومؤثرا وكما فعل أيضا في قصة ( حكاية القطة التي أكلت أولادها والفأر الذي لعب بذيله ) ص 33 وفي قصة حكاية البالونة نرى التفات الكاتب عن ضمير الغائب فجأة والانتقال إلى ضمير المتكلم في لحظة فاصلة في دراما القصة لينتقل فجأة إلى ضمير المتكلم ويحكى على لسان البالونة ليؤنسن الجماد ( لما يظل هذا الخيط التعس الذي يربطني به إنني أستطيع أن أنطلق تجاه الشمس وأصعد لأعلى وانتفخ أكثر من يدرى قد أجد من بين الملتفين بالأسفل من هو أطول منه قامة وأعمق نفسا يمكنه أن ينفخ في فأتدور أكثر وأصبح أكثر جمالا ) ص 38 ولم يكن بوسعه أن يفعل ذلك بحرفية عالية إلا بالتحول فجأة إلى ضمير المتكلم

الشخصيات
معظم الشخصيات تقدم في المجموعة دون أسماء أو ملامح وتتسم الشخصيات في هذه المجموعة القصصية التي قدمها الدكتور التلاوى هكذا باللاتحديد وانعدام الهوية وغياب الاسم الشخصي والعائلي وتذكرنا هذه الشخصيات المهترئة المتآكلة بشخصيات كافكا وكتاب الرواية الجديدة التي أصبحت حشرات أو أشياء أو أرقاما وفي تصوري أن في ذلك دلالة على أن كلا منا قد يصلح أن يكون واحدا من أبطال هذه القصص أو حتى أن يعيش أحداثها فهي ليست حكرا على أبطالها كما تكون في معظم الكتابات حيث تكون الحدوته ومادة الحكى مفصلة بالمقاس على شخوصها أما في مجموعة " الذي كان " فالطائر الذي كف عن الغناء يصلح أن يكون أي طائر والبطل في "أشواك الورد " يصلح أن يكون أنا وأنت والآخر لأنها تجربة إنسانية عامة والأب الذي يحاول إنقاذ ابنه في قصة " زلزال " يصلح أن يكون أي أب فما حاجة الكاتب إلى ذكر تفاصيل عن شخصياته من اسم وملامح وعمر ومهنة ما جدوى كل ذلك ؟! ومن ثم تتميز الشخصيات في هذه المجموعة بالصفات المتناقضة مع سلوكها" المجذوب"كما في شخصية سيد العبيط حيث هو يصارع من أجل البقاء ثم يفكر في رائحة الياسمين لنكتشف أنه فقد حاسة الشم بما يزيد الأمر عبثية أو بالسمات العائلية كالابن والأب أو بالوظيفة السياسية كما في قصة حين تدلى الرأس...وهكذا تضيع الشخصية في عالم جمال التلاوى وتظهر الشخصيات على أنها الخال والصبي والأم في قصة "عبث" وسيد أبو كوبة أو سيد العبيط كما في قصة "الياسمين" ذلك الشخص الذي يهيم على وجهه طوال الوقت .. وفي قصة "أشواك الورد" وقصة "نهاية "و"زلزال" تقدم الشخصيات بلا أسماء ولا وصف حتى ظاهري لها ومنها الحارس ، والطبيب ، الفتوة ... أما شخصيات المجموعة القصصية فهي هادئة وتتحكم في ردود أفعالها ومشاعرها بدرجة كبيرة حتى في أقصى حالات غضبها ولن يجد القارئ في تصرفاتها مفاجآت ولا أحداثاً صاخبة في القصص ذاتها إنها أشبه بالتأملات لما يدور في داخل تلك الشخصيات والواقع من حولها بما يحتويه من ضغوط. إن كل شخصية في المجموعة في صراع لأن هناك أشياء تجذبها في عدة اتجاهات في الوقت نفسه فمثلا تتعجب أشد العجب من هدوء البطل في قصة " أشواك الورد " فالكاتب يبحث عن تحليل الشخصية والوقوف على دوافعها حين يرى في المرأة معادلا للوردة والشوك معا ولن تجد ثورة ولا صخبا في قصة " عيناها " حيث تندفع مشاعر الرجل تجاه الفتاة التي يجلس معها لأول مرة وقد عبر الكاتب عما انتابه من حالة جعلته يكرر جملته بالإنجليزية حين يدعوها مرارا لتناول العصير ليخفي بذلك الصخب الذي بداخله وتظل تائها في لحظة غارقة في الرومانسية حتى تصحو وأنت تشفق على البطل ( رأى نفسه في عينيها وتوقف عند الشعيرات البيضاء في رأسه طرح نفسه السؤال الأولي عن الخريف والربيع وفصول العام ..) أيضا يخيم الهدوء في " القطة التي أكلت أولادها " ولن تجد نواحا ولا رثاء ولا صراخا في قصة "نغم " برغم مقتل الطفل حتى انك تحسد البطل على هدوء أعصابه في قصة " شرفة تطل على النهر " حين أجبر على ترك بيته وبهدوء يحدث نفسه ( قلت لنفسي كنت أستمتع بصفحة النهر من غرفة صغيرة تطل من البيت الذي كان ها أنا ذا أستطيع أن أستمتع بالنهر كله دون نوافذ سعدت بالفكرة سيصبح النهر ملكي ) فقط سيكتفي الكاتب بالتغير النفسي الذي تفصح عنه الشخصية في كلامه حين يشير إلى المشهد الختامي ( ومشيت بجوار النهر ولكن حين اخترت أن اجلس وجدتني أعطي ظهري للنهر ووجهي لشرفة في منزل يطل على النهر ولما طالت جلستي ولم يأت صيادون هواة أو محترفون أحسست بهجوم سباع النهر التي تخرج منه وتحاول أن تنهشني )ص 103
• أسطورة الموت
يبدو الموت معادلا موضوعيا في نهايات معظم قصص المجموعة سواء كان موتا ماديا حسيا اكلينيكيا أو موتا معنويا مثلا في قصة ( الحصان الذي خسر السباق ) في اعتراف الحصان بما كان وما هو عليه الآن تبدو النهاية الواقعية في تمنى الموت برغم قسوتها( أثمن هدية تقدمها لي أن تطلق رصاصة منك لتسكن في سر أسراري في القطعة الصغيرة التي تشغل ملء الكف في داخل صدري ) ص32 وبتلك القسوة أيضا ينهى القاص قصة (أغنية رمادية ) التي تلخص الحياة في مقاطع تشكل أجزاء من الجمل المتعاقبة المتسارعة ( حين يصبح العمر أغنية رمادية تحمل كل مرارة القلب أخرج من جيبي الآلة السوداء أوجهها تجاه القلب والأعضاء أطلق الطلقة الأولى تصيب القلب تصيب الرأس ...) ص 55 كما تبدو أيضا نهاية قصة "أشواك الورد " وكأنه قتل معنوي للبطل ( عندما تعب القلب من النزف قالتها له ..قالتها بصوت واهن ضعيف متردد قتل كل أحلام اللحظة قالتها وقتلت مدائنا كانت تستعد للاحتفال بداخله قالتها وبدلا من أن تشعل الفرح بداخله أشعلت الكآبة ) ص65 ويبدو المعنى منفتحا على آخره واللغة شفافة رائقة عذبة تنفتح لتأويلات عدة في قصة " نهاية " حيث الأرق الذي يصاحب بطل القصة طوال السرد هل هو حي أم ميت بل إن هذا الأرق يمتد أيضا إلى المتلقي لكن الموت هنا أيضا يبدو ملازما لنهاية القصة كما بدا في كل النهايات السابقة لكنه ليس الموت بمعناه الواقعي الإكلينيكي ولا المعنوي كما في قصة " أشواك الورد " بل بمعناه الأسطوري حيث يحلق البطل الميت في عوالمه كما أن الموت يبدو أيضا متحققا بصورة أخرى في قصة ( زلزال ) ليبدو الصراع بين حياة الأب وحياة الابن والأب يريد الحياة لابنه ( أدق بيدي تحتي وفوقي تعود يدي بالدماء وأنا أعلوك بساعدي الأيمن أثقال لا أعرف كنهها تتساقط فوقي أتحملها والمهم لا تصل لك أنت عندما تنجو أنت ستعيد كل شيء ...ص74 وتبدو النهاية داخل القصة بشكل فانتازي برغم واقعية القصة حين يظهر الأب فجأة بملابس بيضاء ( أتحول بكل ما بقي من قوة إلى ساعد كبير يرفع أثقال البيت المتهاوي عنى " طاقة من نور تظهر فجأة وأبي في ملابس بيضاء يشير لي وأنا حين أقترب منه أكثر أرفع كتفي لأعلى وأضغط بيدي على الأرض وبين كتفي المسافة بينك وبين ما ينخرز في كتفي تتساقط فوقك بعض الدماء تغسل وجهك لكن ساعدي يزداد قوة قوة ولا يتهاوى ) وفي قصة ( عيناها) كانت النهاية هكذا ( رأى نفسه في عينيها وتوقف عند الشعيرات البيضاء في رأسه طرح على نفسه السؤال الأزلي عن الخريف والربيع وفصول العام كانت قد بدأت تتحرك ولم تشرب العصير لكنه التزم الصمت ...) ص 91
وفي قصة ( الطفل الذي كان ) كان هذا الطفل الذي كبر ينتظر الخطوة الأخيرة التي تشير إلى النهاية
أما في قصة ( حين تدلى الرأس ) وان كانت تشير تلميحا لا تصريحا وتتحدث عن واقعة قتل صدام حسين كما أظن فإن الموت أو القتل هنا هو موضوع القصة بأكملها وفي قصة ( حكاية البالونة ) تنتهي ( سمع صوت انفجار أعقبه سكون وأمامه على الأرض سقطت جلود بالية وارتمت في التراب ...) ص 39

* تيمة التحول
تشتبك المجموعة منذ بداياتها بل منذ قراءة عنوانها مع تيمة التحول ( الذي كان) حيث يحيلنا هذا العنوان إلى الماضي والكاتب يحيلنا إلى الماضي بهذا العنوان مرتكنا على ثقافتنا الشعبية بل والعربية التي دائما ما تحتفي بالماضي وتحن إليه وتحن إلى الأيام الخوالي وتجد فيه الروعة والانتصار والأيام الحلوة وهذا أيضا ما نجده في نفوس معظمنا حيث نحن إلى الماضي لنرى فيه الشباب والقوة والأمل واستطاع الدكتور جمال التلاوى أن يستحوذ على هذه التيمة ويفعلها داخل نصوص المجموعة فنرى ذلك واضحا في قصة ( الطائر الذي كان ) حيث الطائر الذي عزف عن الغناء بينما كان في الماضي ( كان مشغولا بغنائه وصوته الجميل يسعد عندما يلتف حول قفصه الزوار ويظل ينتقل من مكان لآخر ..مرفرفا بجناحيه الآن يقف فترات طويلة بلا حركة يتناول أكله وشربه ويرفرف بجناحيه ثم يعود للسكون ..) ص 6 وفي قصة الصفعة نجد هذا التحول حين تفصح عنه نهاية القصة بكلمات ( أدرك رواد المقهى أن ما كان قبل الصفعة على قفا فتوتهم لم يعد ولن يعود كما كان ..) ص14وربما ترمز القصة بالواقع وتلامسه فالفتوة الذي ضرب فجأة على قفاه ولا يعلم من ضربه والقصة في نظري تتماس مع فتوة هذا العصر الذي نعيشه حينما صفعه أحدهم في الحادي عشر من سبتمبر والفتوة الذي تعنيه القصة هذا الذي يستخدم قوته وبطشه بشكل عشوائي وضد أي أحد كلما ظن أو شك للحظة انه هو من صفعه على قفاه هو ما تمارسه أمريكا الآن وبشكل عشوائي حين تعتدي بهمجية
وفي قصة الحصان الذي خسر السباق نلحظ هذا التحول على قسوته فمنذ مطلع القصة وجملة المفتتح ( ما عدت نجم السباق ..)ص29كما نشهد أيضا تحول الفارس الذي يأبى أن يصدق ما جرى له ونرى عبارة بديعة تصف حاله ( وحين تكثر الأصوات حوله يفتح عينيه إذ يجد عصفورا صغيرا في أعلى الشجرة يسقط على رأسه فضلاته ..) ص30 وفي قصة (القطة التي أكلت أولادها) نجد هذا التحول واضحا حين قررت القطة أن تأكل أولادها وبينما كان التحول في قصة الحصان الذي خسر السباق طبيعيا بفعل مرور الزمن وتهاوى القوة وضعفها فإن التحول هنا في قصة القطة التي أكلت أولادها يتم بفعل الآخر وبفعل الفأر ليؤكد الكاتب على أن ما يحدث في حياتنا من تغيرات عنيفة ربما يكون مصدره خارجنا برغم أننا ربما لا نلحظ ذلك ولا نشعر به قط حين تتربص بنا أمم كثيرة ونلحظ ذلك جيدا في مقطع ( تعليق على ما حدث ) ص 35 (ويقول المطلعون ببواطن الأمور أن الفأر قبل أن يلعب بذيله كان يخشى القطة وحين تنام كان يأتيها في الحلم يدخل مخها ويرسم لها كل شيء وليلة الحادثة شوهد يخرج من رأسها أثناء نومها وكان يهز ذيله عندما حدث ما حدث استمر يهز ذيله ويلعب طوال الليل ) 36
وفي قصة البالونة نلحظ هذا التحول بمعنى آخر حين يتيه المرء بنفسه ويتعالى على معلميه وصانعيه ص 38،39 كما أن قصة ( حين تدلى الرأس ) تنحى منحى دلالي آخر عن قيمة التحول ـ بعد أن تدلت الرأس ـ في حياة الزعماء والرؤساء حين يخشون جميعا نهاية تنتظرهم مثل نهاية البطل وفي قصة ( أشواك الورد يكمن التحول في اكتشاف البطل للوجود الوردة ( ولا شك أنه ليس من قبيل العبث أبدا أن تبدأ المجموعة بقصة ( الطائر الذي كان ) وتنتهي بقصة ( الطفل الذي كان ) أما في قصة ( عيناها ) فيبدو التحول واضحا في مشاعر الرجل التي تحركت سريعا ناحية الفتاة ربما كان تحركا داخليا نفسيا وظل هكذا حتى غادرت الفتاة المكان وهو يظل يدعوها لتناول الشراب فبينما يبدو الموقف في الخارج ثابت عقيم بارد لا يتحرك لكن على المستوى الداخلي فإن مشاعر جديدة تنبت وحيوات تولد وصراع يقوم فبينما كان المشهد الخارجي كما جاء في النص ( عندما اقترب من مقعدها وقفت وأشار لها بالجلوس بابتسامة متبادلة جلسا متقابلين هكذا حول مائدة مستديرة ) هذا على مستوى الخارج أما الداخل فهناك ( كان صمته صاخبا حادا خشي أن تسمع هذا الصمت )
فضاء القص
ويتأرجح فضاء القصص بين فضاء واسع مثل حديقة الحيوان في قصة ( الطائر الذي كان ) والقهوة في قصة الصفعة وفضاء أرحب هو فضاء نفسي مثل قصة الياسمين وقصة أشواك الورد حيث الحب والرومانسية وآلام الشوك في البعاد والهجر وفضاء آخر أصغر وأضيق " البئر" كما في قصة "إذا زلزلت الأرض " والمكان المجهول مثل نادي أو كافيه أو مكتب أو أي شيء آخر مثل ( عيناها )

التداخل الزمني
مثلا في قصة زلزال نلحظ أن الكاتب قد انتقل بحرية تامة دون مراعاة لترتيب الزمني في المقاطع فبينما يتحدث في المقطع الأول في القصة عن ( حين بدأ يفيق ويشعر بنفسه وبما حوله ...كان الظلام ممتدا )
وفى المقطع الثاني يعود بنا إلى الوراء حيث مشهد مداعبة الأب للابن فيقول ( بكلتا يديه كان يقذف طفله للسماء ) ص 71
بل إن الأمر يتسع ليشمل المجموعة بأكملها حيث تلعب على وتر الزمن وما يحدثه من تأثير وتحول على الشخصيات والأحداث كما في قصة عيناها " والشعيرات البيضاء التي ملأت رأس البطل فهي بالقطع بفعل الزمن وما كان لها من تأثير على انسحابه وأيضا في قصة" الحصان الذي خسر" السباق فالمقولة الأولى هي للزمن والفعل هو للزمن بل إن حتى عنوان المجموعة ( الذي كان ) فيه إشارة ودلالة كبيرة على الزمن وهو ما نلحظه من استخدام الكاتب لفعل ( كان ) هذه الإحالة إلى زمن الماضي لتضع زمن الحاضر في المأزق وعلي العكس فإننا مع الدكتور جمال التلاوي نتحرك من زمن الماضي فهو نقطة البدء لديه النقطة التي تستهويه ويبدأ منها فعل الدراما من خلال التحرك إلى زمن الآن وما بين الماضي والمضارع يتحرك تقريبا معظم السرد في المجموعة ولا وجود تقريبا لزمن المستقبل فها هو يقدم التقسيم الزمني الذي أشرنا إليه في " الطائر الذي كان ) فيقول ( كان مشغولا بغنائه وصوته الجميل ) وبين زمن آخر حين يقول ( الآن يقف فترات طويلة بلا حركة ) وأخشى أن أقول أن الكاتب لم يعكس هذه العلاقة طوال المجموعة فلم نر حاضرا جميلا وماضيا سيئا مع أن وجود هذا في الطبيعة والتاريخ ممكنا وتلك العلاقة الحاكمة التي تشبه قانون الطبيعة جعلت السرد يسير دائما في اتجاه واحد وجعلت من الكاتب مهيمنا على العمل وكل مقتضياته وآلياته فلم نر خرقا واحدا لهذا الخط إلا في قصة واحدة وحيدة على ما أتصور وهى قصة " زلزال " حيث يبذل الأب حياته من أجل إنقاذ ابنه وتفسيري أن الدكتور جمال التلاوى يدفعنا إلى أن نضحي من اجل إنقاذ المستقبل فالأب رمز الآن والابن رمز للمستقبل وحتى الآن ( نحن ) فقد فشل الأب دون مساعدة الماضي ( الجد / أبوه ) الذي استدعاه على الفور وهكذا يطل علينا الماضي البديع من خلال معظم قصص المجموعة بل إن الشخصيات أمام عجزها في زمن الحاضر المضارع تلجأ إلى الماضي فها هو صاحب البيت في قصة "شرفة تطل على النهر " حين يفقد بيته وشرفته التي كانت تطل على النهر يعود ليجلس على الشاطئ وبدلا من أن ينظر إلى النهر يطل بحنين جارف إلى الماضي حيث البيت والحياة الجميلة فيقول ( ومشيت بجوار النهر ولكن حين اخترت أن اجلس وجدتني أعطي ظهري للنهر ووجهي لشرفة في منزل يطل على النهر )ص 103 بما يؤكد عجز الشخصية عن التكيف مع الحاضر وبينما ودائما ما يكون رمز الطفولة داخل المجموعة موحيا بالنضال والمقاومة مثل قصة نغم وموحيا بالاحتلال و واغتصاب الأرض كما في قصة 50( ها هم أطفالهم يمرون فوقي يلعبون بالحلوى والشيكولاته وألعابهم السحرية يضحكون ويمرحون يحلمون بموت من في البئر إذ يخرجونه دمية في أيديهم ويلهون به ) ص 50 بينما يضع أطفال قريته في ذات المشهد تعبيرا عن الحرية والمقاومة ( لكني إذ أتطلع لوجه الشمس والسماء والهواء أتكشف حولي في فوهات الآبار أطفال قريتي يتصاعدون حول الجدر يبحثون عن نسمة الصباح ويخرجون نتعارف سريعا ) ص 51 وفي قصة ( عيناها ) يدور الحدث في الآن زمن المضارع حين يجلس الرجل قبالة فتاته فبينما هي تثرثر الآن وهو يتأملها ليكتشف عوالم كثيرة إلى حد قوله ( ولم يقل لها أنه يتمنى لو توقف الزمن عند هذه اللحظة فلا تغادر أبدا ولا تفارق أبدا ) ص 89
ربما لا تحتفي مجموعة " الذي كان " بقضايا الواقع البسيطة ومفرداتها المعاشة ومشاكلها الآنية التي تستند إلى تجارب حياتيه يومية بل تحتفي بقضايا إنسانية كبرى وهموم كلية ولا تخرج عن هذا الخط اللهم في قصة ( نغم ) التي تحكى عن تجربة المقاومة الفلسطينية وقصة "حين تدلى الرأس " وتحكى عن واقعة عشناها جميعا كما أظن وأرى كثيرا من نقادنا يحددون مهمة القاص في تقديم تجربة قصصيّة قيمة في إطار فني ناجح يوفر للقارئ متعة أدبية وكذلك تقديم حالةً من الإمتاع الفني وليس من مهمة القاص أن يقدم موعظة أخلاقية أو وطنية في قصصه غير أن تحديد دور الكاتب في رصد العادي والمألوف في الحياة اليومية لا يغني في المطلق عن طرح ما يأخذ شكل الطرح الأدبي المباشر وتحديد ما هو ضروري في تلك اللحظة من إطلاقات الكاتب بلا شك وحريته في طرح ما يراه داخل الفضاء القصصي ربما تتسلل حينئذ مفاهيم مباشرة أو بعض المواعظ كما حدث في قصة (نغم ) عن المقاومة والاستشهاد أو كما تسلل ذلك عبر قصة ( البالونة ) و( حكاية الحصان الذي خسر السباق ) وقد يحدث ذلك عن عمد من الكاتب لرغبته في اتساع رقعة المتلقين والمخاطبين بحيث لا يبدو في النهاية أدبا نخبويا يتوجه إلى فئة من المثقفين دون غيرهم وهذا بالقطع سيغري النقاد العرب في شحذ همتهم للنيل من الأديب الذي يقترب أو يتسلل في سرده ما يوحى أنه يقدم موعظة أو يبث حكمة أو يدعو إلى فضيلة وحينها يتهمونه بصوت عال أنه قد اقترف إثما مبينا وفاحشة مبينة يجب التبرؤ منها كما نتبرأ من الخطيئة والمتابع لقصص المجموعة سيجد أن لك نص وديعة وخبيئة يتبناها و ويحرص عليها أو مقولة كبرى يدور في فلكها وقد لا يروق ذلك للبعض بحجة أن الأديب أو المبدع ليس فيلسوفا ولا يتقلد دو الحكيم لكننا لا نرى ذلك ما دام أن اللغة المغلفة بها هي اللغة الأدبية والدكتور جمال التلاوي لديه مقدرة خاصة على تبني هذه المقولات من خلال متن حكائي بسيط وليس معقدا في الأغلب فمثلا قصة ( الطائر الذي كان ) تدور حول فكرة بسيطة وهو أن طائرا عزف فجأة عن الغناء وفي قصة عيناها يرصد جمال التلاوي حدثا بسيطا في متنه وهو تحرك مشاعر الرجل فجأة تجاه امرأة صادفته بعد فوات العمر أو متن حكائي يتحدث عن صفع فتوة على قفاه ولأن الكاتب لا يقف بالقطع عند هذه الحدث البسيط كثيرا فلا يحدثنا مثلا عمن صفعه وكيف حدث الصفع ولماذا فهذه أسئلة تبدو ساذجة أمام نص جمال التلاوي كما تبدو أسئلة ساذجة كثيرة أمام نص ( عيناها ‘ن الفتاة من أين أتت وما اسمها وفي أي كلية تدرس وعن الرجل من هو هل هو متزوج أم لا وظيفته شكله الجسماني كل هذه الأسئلة لا يريدها فيحجبها عن عمد عن المتلقي ليفتح أفقا للقراءة جديدا وهنا قد يتصور البعض أن هناك موضوعات مكرورة داخل المجموعة لكن بشيء من التريث قد يكتشف خطأ رأيه إن هو أمعن في القراءة فشتان ما بين خطوة تنقلك إلى البداية وخطوة تحملك إلى النهاية ( لكن الطفل الذي لم يعد صغيرا كان قد بدأ بالفعل يطأ الأرض بخطواته الأولى ) "الطفل الذي كان"




ليست هناك تعليقات: