2011/02/19

أنا الملك.." قصة قصيرة بقلم علا حسان

أنا الملك..
قصة قصيرة 
 د.علا حسان*
(نشرت في المجموعة القصصية " الرحيل إلى القمر" عام 2002.)

كل شيء يبعث البهجة والدفء، ويثير في الجوارح الندية قطرات من الحب ولمسات من العشق، الضحكات والهمسات لم تنقشع لحظة عن قلعة الملك، في كل مناسبة وملتقى كان يفاخر دوما بكبرياء قلعته، باستعصاء جبروتها على الضعف والهوان، كان يفاخر بأن لا أحد بإمكانه أن ينخر عباب تلك القوة الهائلة، أو أن يخطر بباله النيل منها ، أو تدمير شيء من جدران قصره الحصين أو أن يمس حجرا من أحجارها السامقة حتى عنان السماء.
إنها قلاع الملك المتوجة فوق عرش أبدي.. حملت أبهة الملك منذ عقود طويلة.. لم تعرف يوما الألم المضني أو اللوعة القاتلة التي يعانيها شعبه الفقير، فأيامها سعادة متصلة.. وثروات لم تعرف الكلل.
قلعة الملك ذات سحر وأريج.. سحبها الفيروزية الراكضة وأسطح بحارها الملساء تجذب الملايين ، تضمهم منظومة سحرها وأضوائها ، تغدق عليهم من فيضها النوراني، وسابحات مجدها الهائمة، تأسرهم برونق ورسوخ وعظمة، وتطرد الآبقين والمارقين عن نظمها وشرائعها.
ذات يوم استيقظت قلعة الملك على صرخات قادمة من نوافذ سحيقة البعد.. على لهيب مشتعل في جوف سمائها المتألقة.. على غبار يلوث طرقاتها ، دماء تسيل في ميادينها، كرة النار المتضائلة تتضخم وترتفع ذؤاباتها هازئة برموز السلطة وحارقة لأستارها المظلمة، عيت الآذان عن تصديق ما تسمع ولكنها شنفت لتصل إلى حقيقة الصوت.. أصاخت الأحداق في ذهول غير مبصر كالمغشي عليه من سكرات الموت.. أبنية مدينة الملك تحترق.. قلاعه تتهدم.. تتساقط.. كيف يحدث ذلك في مدينة الملك؟ الصدق كاذب أحمق.. والحقيقة عارية، والنفاذ إلى عمق الكارثة كالسقوط من قلاعها.
أفاق الملك من سبات مطمئن على صرخات رعايا مدينته فهب منطلقا وهو يقول:
ـ من يجرؤ على اقتحام صومعتي والإمساك بصولجاني؟
تلفت باحثا عن ردائه الملكي، وقبل أن يرتديه باغته صوت مفاجئ ينبعث في كل الأرجاء كرعد لا يسفر عن غايته.. مجهول الكنه، غريب المصدر ، وقد تعالى هدير الملايين من أبناء شعبه الغاضب، قال الصوت المخيف:
ـ مرحبا أيها الملك.. هل وصلتك رسالتي ؟
دار في ذهول متسائلا:
ـ من أنت ؟
ردد الصوت غير عابئ بسؤاله قائلا في ثقة:
ـ هل سمعت هدير رعيتك وزمجراتهم؟ ألا يطربك صوتهم .. تأمل حصونك وقلاعك وقصورك تأملها جيدا فلن تراها بعد اليوم.
تقلص وجه الملك الشاحب، وارتمى فوق مقعده الوثير في جزع عميق. التف من حوله مستشاروه العظام الذين لطالما نذروا حياتهم لتثبيت ملكه هو وابنه، فسألهم وهو يمسك بصولجانه الشرعي:
ـ لم خرج هؤلاء الرعية؟
ـ لأنهم يكرهون صوت ابنك المدلل يا سيدي.
ـ يكرهونه؟! لماذا يكرهون صوته وهو يدافع عنهم؟..لم يكرهونه؟
ـ يزعمون أنه يخدعهم .. ويطالبون برحيلك ونظامك سيدي.
ـ رحيلي أنا كيف يجرؤون إنها مدينتي إنها ملكي أنا حاميها وبانيها ورافعها.
ـ يقولون عكس ذلك يقولون أنك ناهبها ومدمرها وقاتل الفرحة في دموع الثكالي ومعذب الأبرياء وسافك الدماء.

جاب الملك أرجاء المكان في هلع وهو يردد:
ـ كيف يجرؤون على ذلك.. أفتوني.. ماذا افعل؟ أين جنودي أين مدرعاتي ؟

جاء جيشه العظيم ، وقف قائد الجيش بين يديه، فأمره بإشارة من إصبعه:
ـ اقتلوهم .. أبعدوهم عن حصوني ..
ـ لا نقتل الملايين من أجل فرد. سيدي عليك أن تضحي أنت وترحل.
ـ ماذا تقول؟ أرحل! ما هذه الخرافات؟! ما هذا الجنون؟! أنت قائدي المطيع؟! كيف تجرؤ على مخاطبتي هكذا؟
ـ أعتذر سيدي.. لكن إن لم ترحل سيقتلونك ويمزقوا جسدك وأجساد أسرتك إربا وأنت لا ترضى لنفسك ذلك المصير.
ربت فوق صدر قائده قائلا في رجاء:
ـ احمني منهم أنت قائدي.. خلصني منهم.. اقتلهم جميعا.
ـ ليس في استطاعتنا ذلك، طلقات الرصاص الحي لدينا أقل من عددهم يا سيدي.. ولا أستطيع أن آمر الجيش بأن يطلق رصاصة في صدور رعاياك يا سيدي لأنه اعتاد حمايتهم والدفاع عنهم ضد أعدائهم ولم يعتد قتلهم.

هدير الأصوات يشق عنان السماء، والانفلات الأمني يتفاقم، والفوضى العارمة تخلق مصير الشعب من جديد، نظر الملك نحوه وزمجر وأرعد قائلا:
ـ أسكتوا هذه الأصوات .. أغلقوا النواااافذ .
ـ لا مفر لكم اليوم إلا بالرحيل عن قلعتكم الحصينة، أوقف بحور الدم يا سيدي وارحل عن مدينتك إنها لا تريدك.
ـ اتركوني الآن .. لا أريد أن أرى أحدا منكم .. اخرجوا.. اتركوني بمفردي.

خرج المارد من القمقم، عجزت الحصون والمدرعات والقلاع عن الصمود في مواجهة المارد العظيم الذي بدا جسدا ممتد الأطراف متلاحم الأعضاء يمشي كالموج الهادر في قوة.. الصوت المزمجر يطن في أذنيه، استنكر أصواتهم : "أهذه مدينتي التي تربعت فوق عرشها عقودا؟ أهذا هو شعبي؟ إنها مؤامرة" .

عاد الصوت المجهول يخاطبه قائلا في سرور:
ـ هل تسمع هدير شعبك ؟ ألا تطربك أغانيهم لك بالرحيل؟
ـ ما ذنبي أنا وأبنائي، ماذا فعلنا لكم؟
ـ وما ذنب الأبرياء الذين استبحتهم ومزقتهم في غير رحمة، أم أن رفاهية زمانك ونعومة أسرتك أنستك ما فعلت، وجعلتك تصدق أكاذيبك التي أطلقتها عن رهافة شعورك وحكمتك وسمو كيانك البشري.
تراجع الملك في هشاشة وتباطؤ وقال مستنكرا:
ـ إنه زعم المخربين أمثالك.. قل لي من أنت ؟
جاءه الصوت من كل صوب ، قوي غليظ صلب عنيد:
ـ أنا الذي سأحرمك هناءة النوم وسكينة الأمن، ستراني في نومك ويقظتك، سأكون أمام عينيك في كل لحظة.. سأذيقك مرارة السم والعلقم الذي سقيته لي أنت وحاشيتك ، لن يفلتك الموت من قبضة يدي وجموحي، لن تهنأ بالراحة الأبدية.. بل سأتبعك كظلك.. سأنقض على شهيقك وزفيرك عند كل غسق .
دار الملك حول نفسه :
ـ من أنت ؟
ـ أنا الضباب والموت.. أنا ذكراك الخبيثة .. أنا عدوك الأوحد الذي محوت إنسانيته منذ عقود طويلة.
أشاح بيديه قائلا:
ـ كفى لا أريد أن اسمع.
ـ بل ستسمعني وسيصلك صوتي عبر كل الموجات الكونية، والأزمنة الفضائية، أتذكر حين استبحت قتل أبنائي وأهدرت كرامتنا.. أتذكر حين تعالت صيحات عنفوانك وجبروتك في الهواء وأنت تندد وتتوعد ما تبقى من أنفاسي الجريحة المهانة.. أتذكر حين ألقيت بي في غيابات سجونك لأني أقول ربي الله، وخرجت إلى مجلسك العظيم في مسوح الملائكة والأبرياء مدعيا انك قضيت على الذئاب والمجرمين.. الجناة العتاة الطغاة فصفقوا لك وأثنوا على بسالتك ومروءتك الإنسانية العظمى.. أتذكر حين وضعت السم في زادي الفقير وخرجت لهم باكيا متألما متوعدا بالزج بالمجرمين في غياهب السجون ثم باركتهم وكافأتهم على تخليصك من الفقراء والمساكين الذين أزعجوك بصراخهم.

تساءل الملك في يأس مرير:
ـ أيهم أنت يا بني؟
ـ أنا صنع يدك. أنا الملايين.. أنا المارد العظيم.
فوجه قبضة يده متحسرا وهو يردد:
ـ آه .. ليتني أعود إلى قوتي فآمرهم بأن يمزقوك إربا قبل أن تنطق، قبل أن تتجرأ وتسقط عرشي.
الزحف المروع يصم الآذان ويبث الرعب في القلوب التي أمنت للزمان عقودا طويلة .. اغرورقت عينا الملك بدموع ملتهبة.. فجاءه الصوت مستغربا:

ـ الآن تندم. حلمت طويلا بتلك اللحظة.. حلمت أن أرى عجزك وخيبتك.. ندمك وهزيمتك.. لطالما تجاهلت بكاءنا ونحيبنا وصراخنا .. واليوم سننساك كما نسيتنا.


* أستاذ مساعد الأدب والنقد الحديث ـ جامعة المنصورة

هناك تعليق واحد:

محمود يقول...

قصة رائعة سيدتي