2011/03/27

نايف النوايسة يكتب عن: مؤنس الرزاز.. الغريب الذي غاب

مؤنس الرزاز.. الغريب الذي غاب
بقلم: نايف النوايسة
ترملت الكلمات واتشحت بالسواد ومؤنس يلوح لها بالرحيل، وماذا عساي ان افعل وأنا اجلس في هذا المأتم الخانق؟ لبثت طويلا عند نوافذ الكلام حينما أعيتني الحيلة من الولوج الى باحة مؤنس من الأبواب.. جربت كل صهوات والسروج، وما لاح منها إلا الدخول راجلاً، والتوجه مباشرة الى تضاريس خارطة مؤنس، حتى يتحقق لي شرط الفضول الآمن، والقفول السريع، فالرجل ليس عادياً ليكون ارتياده عادياً، فأوديته دروب للمهالك ومنتجعاته ساحات للمعارك، وقممه هي مطلات على النهاية.. وما تبقى منه فهي مناطق صامتة أشبه بالصحارى، أشبه بالجفاف، أشبه بالأحلام، أشبه بالكوابيس.. مؤنس حالة غريبة يصح الزعم انك تستطيع المعايشة معها، ولكن.. في طور من أطوار هذه الحالة يصبح هذا الزعم بهتاناً، فالرجل ولد دفعة واحدة غريباً ثم غاب دفعة واحدة وكأنه لم يكن، ولولا بقية من بوحه الباقي فينا لقلت ان هذا الرجل لم يعش.
ومن باب الاستيحاش من خارطة الراحل استأنست باعترافاته فتسللت الى موجها الطاغي أحاذر الانكشاف, وغايتي سبر أغوار هذا بحره الساكن الصاخب.. والوقوف على دوامته التي تأخذك على حين غرة ثم تختفي ولا تملك إلا ان تتعايش معها.. فإلى أي مدى يكون هذا التعايش تآلفا مع مؤنس؟
للحقيقة, الرجل يسلمك نفسه دفعة واحدة, ويقول لك: أنت حر, هذه هي أقصى درجات الإيناس.. ابتلاء حقيقي تداري تراتيبه من مسالك صعبة للغاية.. ولسان حالك يقول: ومن أي منها اسلك..؟ بوابات مشرعة.. نوافذ تقود الى نوافذ.. وسقوف مخاتلة, وتدرك بعد هنيهة ان لا بد من الحركة السريعة داخل هذا الكون الغرائبي..
يغريك مؤنس بمحبته الدافقة حينما يرف شارباه ويفترّ ثغره عن بسمة غريبة, قد تلحظها مثل الحلم أو ربما تتوهمها, وأنت تدرك ان الرجل يبتسم حقيقة, فلا تملك ساعتئذ إلاّ ان تحب الرجل وتظل قابعا أمام فمه ليقول شيئا, مفهوماً كان أو غير مفهوم.. المحبة الحقيقية تتجاوز المفهومات في حياة الناس..
ندخل معك الى ساحة ال"الباء" ونحن نحاذر ونترقب, ولكن تعلن من باب البدء انك تعشق هذه الباء بلغة المخالب وليس من دفء القلب, فأي مسير مقلوب معك تضطرنا إليه يا مؤنس؟ لماذا كشفت السر, وفضضت الختم؟ وبدوتَ أمام عينيك وقلوبنا مخلوقا آخر غير الذي نعرفه..؟ أيها الموحش, يا جبلا وعرا, كنت في الذروة ذروة, وفي عرانين الحياة المتشامخة موقف نضال وعز.. وهل تظن وأنت تفارق الحياة قبل ان نموت أننا كنا لا نخاطب "أزرا" مثلك..؟
لقد سئمنا الحياة وسئمنا كيس الطين الذي نحمله تحت رؤوسنا.. ومرض الاكتئاب استوطن في الشبكة القلقة حتى بات راجفا, أليفا مثل دجاجات أم سالم.. وإشكالية الديك عبد الودود مع ملوك الدجاج.
ولم تضعنا على قاموسك وتعرّف لنا الاكتئاب أهو جمرة في الروح تفرز سماً يعطل خلايا الرغبة في الحياة, مثلا.. وأقول: وما فائدة بقية التعريف إذا فقد الإنسان رغبته في الحياة؟ لكنني جد معجب بصورة الخمرة في قاموسك( صقر يحمل الشارب الى ذروة النشوة ثم يرميه الى أغوار سحيقة, فتساوره رغبة في البحث عن قبر).. هو أنت أيها الموحش متلبس بهذه الرغبة دائما, وما يدريك ان القبر تلقّفك منذ الولادة.. أبقى منك شيئا ظاهرا نسميه حياة, وغطس الباقي منك في دهاليز مظلمة من الموت.. أنا لم أفاجأ بموتك, فلقد عرفتك ميتا, وتعاملت معك مجازا في باب الحياة, وحكما في باب الوجود..
أتعامل معك حيا بطريقتي الخاصة التي افهم بها جدلية الحياة والموت, فأقرؤك كما لو أنني أقرأ في دفاتر الجدلية.
تقول ان الكتابة الإبداعية هي( زواج الحب والحرية واقتران الإشراف المنتشي.. غياب عن الزمان والمكان عبر ارتقاء درج التجليات)، وتطلب بتشميس روحك, لعلك تتمحور من معاناة الرطوبة, وأين تنشر هذه الروح أيها الموحش؟ على أشجار تحت الشمس تطل على نهر الخمر الجاري الى أغوار الجحيم.. ولماذا أيها الموحش تريد هذا المصير؟ أليس هناك بوابة أخرى نتشمس بها روحك غير هذه البوابة؟ ولا ألومك أيها الصديق بعد ان أدمتنا عصي خمبابا، ووقفت لنا عفاريته في كل مرصاد, ونلتفت الى الوراء ونسمع مليون صوت( دافعوا عن الوطن !؟).. وطن مَنْ أيها الأشباه؟ ألأرواحنا المعذبة أوطان؟ لا ألومك أيها الموحش أبدا.
ولا تمل من مخاطبة أزرا مطلقا, ولا ينبغي لك ان تمل.. فهي التي فتحت أمامك أكمام الموت ونشرت قصائده المتوحشة عبر السنين على أعناق الفراشات.. وكأنك ما قضيت بعدُ وأنت ترفع عضد الهزائم وتقول ( فلتحيا الهزائم الغامرة والنكسات الوفية) أليست هذه سارية أزرا في مشعل الحياة فوق جبين جنين وداخل دفء مخيمها.. أنت لم تكن موجودا البتة ولكنك قبل ان تدرس في عيون أزرا وتعيب نهائياً، قلت قولاً وعيناه لاحقاً حتى وأن كنا نعرفه سابقاً( هذه هي الحياة.. ولا داعي لتجميلها أو تقبيحها. إنها أمل منتزع من تربة الألم، وألم نمصه من ثدي الأمل).
ادخل وإياك أيها الصديق الغرفة التاسعة في مصحة غير الأسوياء في لندن عند الساعة السابعة والعشرين.. وأين مكانها هذه الساعة يا موحش..؟ في مصحة غير الأسوياء يكون المكان غير المكان والزمان غير الزمان، ومن حقك ان تكون باطنياً محترفاً وان ترى الأشياء على غير ما يراها الآخرون، اخلط ـ أيها الموغل ـ الأقنعة بالمرايا أو بالأسماء، فما فائدة الكلمات في الزمن المقلوب؟ ولمن كتبت إذا كنت تحترق كمداً بين عشاقك، وسمّك الهاري، هذه الأكوام الجميلة من الدرر والكواكب الدرية، هي باقية، لا تخف، لكنك كنت تسير وفق سننك فتزهر في غير الربيع، وتحترق هماً وغماً في وسط أبله..
اعرف انك وحيد, تائه مطرود ولا دليل، فتتجرعك الخمر.. وهل تظن أيها الموحش انك وصلت حدود الأنس وتخوم الضياء!.. كنت تزداد إيحاشا لا بل تشرأب عنقك الى الانتحار.. أنا لا ألومك أبدا وأنت ترى السوسنة والدنيا تغرق بحضورها وهي لا تلتفت إلا لماما.. وتفزع الى باب الموت..
الموت هاجسك أيها الموحش وأنت في لندن قبل ان تموت بعشرات السنين.. ونركب معك حروفك المرعبة التي تركّب منها وسم السيدة ذات الكيد العظيم.. تلك السيدة التي انجذبت إليها.. فمن هي؟ هل هي مرئية لنا نحن التائهون؟ لكننا لا نملك إلا ان نردد معك:( عزرا الأيلية, يا ملكة الموت من اجل الحياة: لقد تسلل خراب العالم الخارجي لكل رغوته المدمرة وزبده الفاتك.. الى قلعتي التي كانت حصينة.. الى ملاذي الذي كان منيعا).
اقرأ بوحك أيها الموحش فأجد أنني أعرفك منذ الذرو.. وتعجبني عبارتك(ولدت مغايرا, لأب مغاير وأم مغايرة) فاضحك ملء فمي ولا ادري لماذا سموك مؤنسا وأنت مسكون بكوكب عصيّ على الضياء, معتم, ويزداد قتامة إذا سلطت عليه الأضواء أو حرقه لهيب الاتقاد.. ويعجبني قولك:( كان اختلافهما ايجابيا, وكان اختلافي سلبيا.. كانا غير عاديين, وكنت غير عادي وغير طبيعي معا!)
وتضعني أيها الموحش على عقارب الساعة الخامسة والعشرين وادخل معك مصحة باورن هاوس, وتحصد في هذه المصحة ثمار اختلافك السلبي.. وبدأنا نعرفك.. كوكبك أكثر وضوحا الآن.. يبدو ان الموت القادم هو الذي أشعل فيك هذه الحياة الاستثنائية.. وقد أدركت ذلك تماما وبدأت تصرخ وتصرخ:( أحب أمراضي ـ أنا حرـ أزينها بالحلي والأقراط وأزاهير الفل.. بت أرى جنوني جميلا, وعصابي هدية مباركة من السماء.. مرضي جاهز, انهياراتي أخاذة وأمسد شعرها.. شروخي مباركة) أنت إنسان رائع أيها الموحش لقد بدأت الحياة منذ سكنك الموت قبل ان تدفن.. فأبدعت.. حالة نادرة في هذا الكون أنت.. وأقبلك كما أنت, وان كان إعلان القبول متأخرا..
أشفق عليك أيها الصديق وأنت ترشني على جروحك وتزرعني فوق أمنياتك.. فاقفز فأقفز من مرضيك الخطيرين( الاكتئاب وإدمان الكحول) لأقف أمام طموحك: ان تموت موتا طبيعيا ومبكرا.. لا منتحرا.. وقضيت بالموت الطبيعي المبكر كما أردت..
أيها الشقي: لقد باغتنا بالرحيل ونحن ما زلنا مشدودين الى اعترافاتك.. وانسللت مغادرا ـ هكذا ـ وكأنك لم تكتشف أننا كنا معك.. ولعلها إعاقة ثالثة اقل وطأة(الافتقار لموهبة التعامل مع تفاصيل شؤون الدنيا المادية).
وتدع مطارقك المؤلمة تنسل الى رؤوسنا(اعتقال الأب 1957، انقلاب الأعمام 1966، مؤامرة الرفاق 1979، وهجرة الحبيبة 1995ـ 2001).. هو أنت أيوب بذاته.. واسمع أنينك في العتمة أيها الموحش( أنا الإنسان، ابن ادم، الذي تحول وحشا جريحا في نهاية حربه ضد الظلام.. أنا صريع الكتابة الذي سقط مضرجا بأحلامه الخضراء كالجرجير..).. نحن معك في عالم لذيذ من الهلوسة في زمن موغل في التعاسة.. لا ألومك يا أيوب، فجسمك منخور منذ الولادة.. ونهر الكتابة والخمر يرشقه بالسفر المفاجئ..
برر مؤنس اعترافاته حينما أدرك ان البحر خلفه وأتون المرائر من أمامه منطلقا من أقوال أيوب عليه السلام( لأن أيامنا على الأرض ظل) ومن فلسفة أرسطو التي ربط فيها بين الإبداع والتطهر.. ومؤنس وجد في الاعترافات سانحة ليكتب بلغة عالية مريرة عن سنواته الكابوس.
وينطلق من الضربة الأولى( اعتقال والده في منفى الجفر)، ثم ضربات الرفاق والرفيقات التي هي اشد من الضربة الأولى.. أما إعاقاته الراسية التي هي سبب جوهري لكتابة هذه الاعترافات فهي( الكتابة) والتي سببها مما يرى ويعيش على تربة قابلة لاحتضان كل شيء يؤسس للكتابة، وقد تساءلت مع عبد الوهاب الكيالي: لا ادري ما الذي ينقص مؤنس كي يعاني من الكتابة؟ والده من خمسة كانوا يحكمون العراق.. وهو شاب أغدق عليه الله تعالى بنعم الإبداع.. أضف الى ذلك الوضع المادي الممتاز ومحبة الأصدقاء..
ولكتابته أسباب أو سبب ربما لا يكون إحباطا جنسيا.. فما هو؟ نمسك بخيط الكتابة حينما نركض بينه وبين(غيل) الأمريكية.. إنها مسافة غالية لا بد من قياسها بدقة.. ويسقط مؤنس على حين غرة في زجاجة خمر.. وتصبح المسافة بين الاثنين فضاء عجيبا من الاختلاط العشوائي، والسقوط المريع.. كآبة هذا المخلوق سببها الخمر.. عشق الخمر مقدم على ما سواه.. لذلك، حين تقرأ كلمات مؤنس ترحل معها الى عالم مدمن مسكون بالهذيان والهلوسة وامتزاج المالح بالعذب، واهتزازات المجرات وهي تطالع المحيطات الغارقة بالزرقة.. ندخل مع مؤنس في عوالم معقدة تحتاج الى وعي خاص.
بداية نشر اعترافات مؤنس تشابه تماما حياته.. لا أدري من أين بدأ وكيف!! انه كائن مشوش، وأجمل ما فيه انه كذلك.. وضعنا مؤنس في اعترافاته التي نشرها في مجلة أفكار على البداية وكيف كانت.. وندرك من وراء ذلك الدافع لكتابة الاعترافات.. وأهم ما في الأمر كله هو ما وقع لوالده منيف الرزاز.. وان الأحداث المتوالية على رأس منيف كان أثرها قاسيا على مؤنس.
يصف مؤنس ما حصل لوالده في دمشق وصفا دقيقا، يقول: ( تلك الليلة نمت بذروة الشرخ في عالمي الجواني.. شرخ أشبه ما يكون بلعنة سرعان ما تتحول الى عصاب يأكل بلهيبه المفجع الأخضر واليابس من جهازي العصبي).
ان أشد ما أثار في الضحك هو اضطراره ان يجعل له عشيرة أمام الطلاب في مدرسة المطران الذين يباهون بعشائرهم، فجعل عشيرته حزب البعث، وهي عشيرة كل المقطوعين من شجرة ويقول: ( بلا منازع.. فأنا ابن شيخ أغرب عشيرة عرفتها مدرسة المطران).
في اعترافاته يضعنا مؤنس على ملمح خطير يقول عنه: ( أين اختفت سخريتي السوداء التي عرفتها رواياتي؟ ألجأ إليها في كتابة " اعترافاتي" هذه فلا أعثر إلا على سراب تحته رمال وتراب)، فالمدى الواسع الذي نهل منه في رواياته هو المدى نفسه في اعترافاته، وثمة فارق جوهري بين الروايات والاعترافات هو ان الأخيرة ملاصقة للنفس والجرح والألم، في حين لازمت الأولى الزينة وفنية الأدب.. وهو ملمح نقدي علينا مراعاته، ويؤكد مؤنس ذلك بقوله: ( سخريتي تبددت وبقي الأسود).
ويعترف مؤنس بالمسافة بينه وبين الأردن وسوريا بعد الانقلابات.. الأردن سجن ثم إفراج.. وفي سوريا قتل دون رحمة.
ما زلت ابكي عليك يا مؤنس وأنت تودعنا لحظة كتابة اعترافاتك.. كانت الحروف تشي لك بالنهاية فتبوح بها.. كنت ترى الموت يا صديقي وتنحل عقدة لسانك فيتحدث صمتك أكثر من لسانك واسمع قولك: ( ها أنا اطوي نصف قرن على هذه الأرض الحدباء فإذا أنا طيف، مجرد طيف مرّ في منام عالمكم).. نعم كنت كذلك، وفي لحظة ما حين أردنا مصافحتك كانت يدك باردة.. غارقة في الصمت وفي الموت.
ان أجمل ما في اعترافات مؤنس قصته مع" كيم" التي التقاها في مصحة باورن هاوس في زيارته الثانية.. إنها فصل من رواية لا مجتزأ من اعترافات.. فنية عالية في البناء السردي ومعنى متقدم في الطرح الفكري، ويظهر فيها مؤنس إنسانا عاديا.. وهذا يأخذنا الى حقيقة ناصعة باهرة في حياة هذا الصديق هي: انه يشفى بالعمل الأدبي ويحقق سوية عالية حين يحوّل أحزانه وقلقه وعصابه في حياته اليومية الى عالم مقروء محمول على السخرية، فيه متعة القراءة وأمانة المعالجة الفكرية..
مؤنس هو شخصان متلازمان، احدهما ظاهر لنا ندعوه "مؤنسا" ونتعامل معه على سطح الحياة وآخر خفي جوّاني معتم، أرى من المناسب ان اسميه" موحشا".. هذا الرجل الذي حلّ بيننا زمنا ثم اختفى سريعا هو الغريب وقد كان حاضرا، والحاضر دائما وكان بيننا غريبا..





ليست هناك تعليقات: