2013/11/08

شحاذ عاقل بقلم : درديري كباشي الامين

شحاذ عاقل
بقلم : درديري كباشي الامين
سوداني مقيم بالمملكة العربية السعودية

على اصوات ديوك مبحوحة يسمع من الافق البعيد يعقبه اصوات الاذان من مآذن بعيده بدا ابو حوه يتململ في مرقده في احدى صالات السوق العربي ايذانا ببدا يوم جديد . وبعد قليل بدات اصوات من الحركة والضجيج من حوله وهو مستيقظ لكنه مغمض العينيين يتصنع النوم. وقد الف هذه الاصوات لدرجة انه بات يعرف اصوات النعال لكل شخص يتحرك حوله .. ولكن لم يرفع راسه الا عندما سمع صوت نعال يعرفه تماما سعدية بائعة الشاي وبدات تتناول في عدتها من قربه .. وايضا افتعل النوم حتى يسمعها توغظه كعادتها .. - قوم ابو حوة خلاص الصباح دخل قام ابو حوة من مرقده يتمطى كانه كان نائما في سرير مفروش بريش النعام .. بل ان صلابة البلاط دبغت جلده وجعلته لايحس بالالم ... قام ابو حوة من النوم لاتعني انه وضع البشكير في كتفه وعبا فرشاة اسنانه بالمعجون وتوجه الى البانيو ... بل قام تعني تحوله من وضع الرقاد الى وضع الجلوس فقط .. منتظرا فتح المحلات حتى يقوم بجولته الصباحية اليومية .. وقبل ما يقوم كان ينتظر وجبته الافتتاحية التي يتلقاها من سعدية وهي عبارة عن صحن من الزلابية المسكره مع كاس شاي بالحليب السخن ... كانت بصفة ثابته وطوعا تقدم له هذه الوجبة ... قد يكون من باب التفاؤل كعادة البسطاء والذين يتفاءلون بافتتاح اعمالهم بالصدقات حتى يبارك الله في ارزاقهم ... ودون شك يبارك الله في ارزاقهم فعلا بحيث اصبحوا يغدون الى السوق خماسا لا يملكون سوى راس مالهم ويعودون بطانا مبتعاين ليس بالضرورة ما لذ وطاب ولكن ما قسم لهم مع احتفاظهم برؤوس اموالهم... ربما من هذا الباب فقط كانت تعطف سعدية على ابو حوة وكان هو ومن باب رد الجميل ايضا ينام قرب معداتها حارسا امينا لا يغادره ابدا مهما كانت المغريات .. بصورة باطنة ما ودون ان يعي احدهم ذلك ودون عقود مبرمه اصبحت هنالك خدمة متبادلة بينهم يحرس ابو الحوة المعدات الى الصباح وتتولى سعدية افطاره .. .. تناول ابو حوة وجبته بعد ان خلصت سعدية من تحضير شاي الحليب والزلابية .. بعدها ظل جالسا يراقب في المحلات التي بدات تفتح تباعا .. وكان لايقوم بجولة الصباح الا يتاكد من افتتاح المحلات تماما حتى لا يبدد طاقته امام اماكن مقفلة وهي راس ماله الوحيد .. وهنا ومن مكانه بدا يراقب المحلات .. كالعادة اول محل فتح كافتريا الامل للشاورما .. وبدا العمال في نظافة الكافتريا واشعال النيران .. وبعدها حلويات سلوى ... والتي طالما حلم يوما بتناول كاسا من المهلبية بالسمن البلدي والتي اشتهرت بها هذه الكفتريا .. والتي صارت رائحتها تسبب له صداعا دائما شوقا ولهفة الى طعمها .. وبعدها محل الطبغ الشعبي الذي يغرف بالتمباك في السودان ... ومن ثم احذية الخليج وبوتيك الطيور المهاجره .. واسبيرات المستحيل عندنا .... وصيدلية الشفاء واخيرا علي بياع الدقيق او كما كان يسميه وهو عدوه اللدود والذي طالما سلخ جلده بلسانه الحاد دون ان ينال منه شيئا .... هذه كانت مملكة ابو حوة ... او عالمه .. وكان قنوعا لم يتعدى هذه الصالة يوما .. بان يتحول الى اخرى او يحاول مره في موقف المواصلات كما يفعل باقي الزملاء من الشحاذين. تاكد ابو حوة من اكتمال افتتاح المحلات قام واقفا استعداد لجولته الاولى الصباحية ...  واخيرا مع انغشاع الظلام وبدات الشمس تتسلل شروقا اكتمل افتتاح المحلات وبدا السوق يعج ويضج بالزبائن وانطلقت الروائح في مزيجها السحري العجيب رائحة الشوايات واللحم مخلوطة برائحة التنباك والبن .. واصوات الباعة المتجولين مع اصوات الخلاطات التي تصنع العصائر ومطالبات الزبائن ... هذا هو المزيج السحري والذي يعني الحياة بالنسبة لابي حوة .. قام واقفا وبدا من كافتريا الشاورما وبنداءه المالوف كراااامه لله يا محسنين حسنة قليلة تمنع بلاوي كتييييرة وبدات الردود المالوفة ايضا تنهال عليه والتي حفظها وطالما مقتها ولكنها كانت شر لابد منه بل هي تحولت الى ادمانه ايضا لا يملك منها بد واصبحت جزء من منظومته العمليه ... وعبارة من نوع (الله يدينا ويديك) ... كانت مقبولة ومعقولة من بعض الناس وعندما يلقي نظره على حالتهم يكتشف بانهم هم ليس افضل منه حالا بكثير ... وكونه يملك ثمن ساندوتش شاورما وعلبة بيبسي لا يعني بانه افضل منه حالا ... لكن ما لا يفهمه هو لماذا يقولها من يقود سياره اخر موديل ويلبس افخم الثياب ويشتري من الكافتريا وجبات يغنيه ثمنها عام كامل عن السؤال . وبدا ايضا وكالعادة من يدفع له .. يدفع له من العملات المعدنية والتي هي في الغالب باقي ثمن الطعام والتي يمنون بها عليه وهي ايضا لا تركب مركبا ولا تقضي غرضا ووجودها في الجيب ثقيل وممل... وتجد من يمدها ويرفع بها صوته كانه تصدق بثلث ماله . ومر ابو حوة على المحلات يجمع في الملاليم و الهللات والتي جاد بها من جاد ويجمع في خيبات الامل والردود المملة من اناس لم يعتادوا ان يشكروا الله على نعمه .. من محل الى محل .. الى ان وجد نفسه اخيرا وجها لوجه امام محل عدوه اللدود علي بتاع الدقيق ... او علي بياع الدقيق (الطحين)... وقف ابو حوة امام دكان علي بياع الدقيق وقبل ان ينطلق نداؤه المعهود لاحظ وجود ضيف غريب يجلس امام مكتب علي وامامه رزم ضخمه من الاموال لم يرى مثلها من قبل ولا كان يعتقد ان الاموال يمكن ان تتجمع بيد شخص ما بهذا الشكل .. وكما لاحظ ان الضيف نظيف الهيئة وبهي الطلعة وابيض الثياب وناصعها .. وبعد ما فاق من استغرابه اطلق ندائه المعهود .. - كرااااامه لله - حسنة قليلة تمنع بلاوي كتييييره لم يلتفت اليه احد اعاد الكره بصوت اعلى وايضا لم يلتفت اليه احد ومره ثالثة بصوت اعلى ليفاجا بنهرة من علي كاد ينخلع لها قلبه ( انت يا حيوان ما قلنا ليك الله كريم ... يا خي انت المسلطك علينا منو ... انت شحاذ ولا شريك ... ولا اكون انا مؤجر منك الدكان دا وما عارف ) ... وانهال سيل الشتائم على ابو حوة والذي وقف مشلولا مشدوها مندهشا من قدرة هذا الرجل على السب في ثوان معدودات كانها قصيده يحفظها عن ظهر قلب رغما عن انه لم يرد من قبل على ندائه لا الاول ولا الثاني ولا الثالث.. بعد ما سكت علي التفت ابو حوة بعد ما طفرت منه دمعات وبدا يجرجر رجليه خارجا مخزيا ذليلا .. ولم يوقفه سوى صوت الغريب ينطلق من داخل المحل . اسمع يا شيخنا تعال دقيقة التفت ليجد الغريب يحمل احدى هذه الرزم الماليه ويقدمها له .. وقف ابوحوة مستغربا ولم بفهم قصد الرجل. ونظر الى علي وجده ايضا مندهشا وفاتحا فمه في بله غريب يستحقه تماما ويليق به. وقف الغريب وتقدم نحو ابو حوة مشجعا له ومقدما له المبلغ بنفسه ... قائلا له هذه الرزمه فيها مائة الف .. يمكن تريحك وتاخذ اجازة شهر من الشحدة .. خذها يا شيخنا ولا تخف من احد .. اخذ ابو حوة رزمة المال وخرج من الدكان ... ولان المفاجاه شلته لم يستطيع ان يغادر الصالة التي امام المحل وجلس فيها ماسكا المبلغ وادخله في مخلاته وبدا يفكر وبدات الاستفهامات تتطاير في مخه مثل رغوة الصابون .... (لماذا وكيف واين وهل ولما وما )وكل علامات الاستفهام قدمت تستصحب معها جملة من الحيرة جلس ابو حوة في الصالة امام باب محل علي بياع الدقيق لم يستطيع ان يغادر المحل لانه شلته الدهشة . بعد ان كان يتلقى الصدقه حفنة من الهلالات والعملات المعدنية من افضل المتصدقين .. ها هو الان امام رزمة من الاموال لم يلمس مثلها في حياته بل لم يلمس ورقه منها الا نادرا .. في حالات عندما ياخذ الفكة المتراكمة لديه ويستبدلها بعملة ورقيه في موقف المواصلات العامه ... وهذا كان المشوار الوحيد الذي يدعه يخرج من صالته على مدى كل اسبوع او اكثر ... اذا هذه الرزمة لو اراد ان يجمع مثلها من المعادن فهو حتما سيحتاج لعربة لحملها ...لكن هذا هو ليس الهم الان انما الهم هو ما الذي يمكن ان يفعله بهذا المبلغ .. شعر ابو حوة بانه حدث عنده فصام في الشخصية ,, بل تربع على راسه شخصان مختلفان احدهما يقترح والثاني ينتقد ويستبعد الفكره بمنطق مقنع ودارت الافكار كالتالي . - لماذا لا يشتري بيتا ويعيش مثل خلق الله -اكيد مبلغ كهذا لن يصل للدرجة التي يشتري بها بيت الا بعيدا وفي السكن العشوائي غالبا .. ويصبح المشكلة في المواصلات وحتى يصل محل عمله ضاع نصف اليوم ... اما بيت في الاماكن القريبة اكيد سيحتاج الى اضعاف هذا المبلغ ، صحيح ان المبلغ كبير ولكن عليه هو فقط لانه قاسه بما يقاسي منه يوميا ... اما عند مثل هؤلاء اكيد يكفي لمصاريف وجبة واحدة فقط . -طيب لماذا لا يشتري ملابس جديدة ويذهب الى المسجد ويستحمم ويغير من خلقته التي تراكمت عليها الاوساخ بالسنين ويعطي الطفيليلات التي تعيش عليه وتتقاسم معه الحياة اجازة مفتوحة بدون راتب مره واحده في حياتها. -لكن اذا نظف نفسه وغير هيئته فقد مهنته لان الناس اعتادوا الا ياتوا صدقاتهم لمن هم انظف منهم .. وكم مره لاحظ لبعض الشحاذين النظاف كيف يصفعون بعبارات مثل ( يا خي ما تروح تشتغل .. هسع انت لو فرشت طماطم ما كان احسن ليك ... تلاقي عنده فلوس اكثر منا ويشحذنا روح يا خي ... حقيقة الاستحوا ماتوا ) اذا فكرة الحمام والملابس النظيفة مستبعده خالص ما دام فيها فقدان وظيفة اذا عيشي يا طفيليات في سلام سوف لن ياتيك الحمام . -طيب لماذا لا يذهب ويدخل افخم مطعم ويشتري اشهى الاكلات التي طالما سمع بها واشتم رائحتها وهو يمر قرب هذه المطاعم .. اذا لماذا لا يروح مره مرتين وينهل من هذا النعيم وجبات تسنده دهرا من الزمن . - هذه الفكره مستبعده لان اصحاب وعاملي هذه المطاعم لن يسمحوا له بالدخول طالما هيئته بهذه الصورة الوسخة والقبيحة . -لماذا لا يبدا حياة تجارية بحيث يشتري ملابس جاهزة او ادوات كهربائية ويفرشها في البرنده مثل باقي الناس الذين يراهم ويبيع ويشتري بدلا من حياة الشحذه المذله هذه.. - هذه ابعد فكره واحمق الفكرات.. لانه ليس لديه ادنى فكرة عن الشئ الذي يبيعه الفراشون من اين يشتروه ولمن يبيعوه وما هو .. مثلا الادوات الكهربائية هو حتى لو عرف مكان شراؤها هو لا يعرف فيما تستخدم ولم يشاهدها قط وهو قضى معظم حياته في صالات السوق. اما الاحذية والملابس .. حتى لو عرف مكان مورديها .. هذه البضائع ستشكل عبئا اضافيا عليه لانها تحتاج لحراسه ... غير انها ستطمع فيه زوار الليل من امثال ابو دومه .. هؤلاء اللصوص والذين طالما شاهدهم في انصاف الليالي اما يكسرون في محل ما او يضربون رجل حتى الموت .. وهو تكتم عليهم بل في بعض الاحيان يدعي النوم حتى لايعرض حياته للخطر ... اذا عملية التجارة حد الله بينه وبينها مع امثال هؤلاء. -لم يبقى سوى الفكره الاخيرة والتي قدمها له الرجل المتصدق . وهو ان يحتفظ بالمال وياخذ اجازة من الشحذه فتره طويلة ويصرف على نفسه من هذا المبلغ ... - هذه الفكرة مستبعدة ايضا لانه لو ترك المكان الذي يشحذ فيه ربما اتى احد الشحاذين من مكان اخر واحتل منه الدائره الجغرافية التي يشحذ فيها .. اما اذا ظل جالسا في نفس المكان دون ان يلف لفته المعهودة سيلفت اليه الانظار وسيعرف الناس انه له مبلغ كبير من المال .. وربما تسرب الخبر الى زوار الليل وعرض حياته للخطر ... اذا فكرة الاحتفاظ بالمال ايضا فكرة سيئة بل خطرة على حياته ... ولكن كيف لو احتفظ بالمبلغ في البنك كما يفعل سائر الناس عادة .. فكرة البنك اشبه بفكرة الاكل في المطعم الفخم لان اصحاب البنك لن يسمحوا له بالدخول ... ربما سمحوا له في المره الاولى عندما يشاهدون المال بحوذته.. ولكن المره التالية لن يسمحوا بالدخولله لانه لن يكن معه مال ,اذا سيصادر البنك المبلغ ويتنكر له بعد ذلك ... جلس ابو حوة وزفر زفرة طويلة اعقبتها اهات ولم يهتدي ولم يجد امامه سوى مخرج واحد وقام بتنفيذه فورا .. وقف ابوحوة واخذ المبلغ وسحب منه ورقه واحدة من فئة الاف جنيه وتحت دهشة علي وضيفه وضع باقي المبلغ في الطاولة امامهم وخرج وهو يكرر نداؤه المعهود  كرامه لله وهو يكرر حرف الراء ويزيد مد الالف كما اعتاد ..

ليست هناك تعليقات: