2014/06/24

بائع الأحلام.. لخيري عبدالعزيز ( القصة الفائزة بجائزة القلم الحر )

بائع الأحلام

  خيري عبدالعزيز
-      أحلام للبيع..
-      الحلم بنصف الثمن..
-      لن أصنع المزيد..
-      فقط ما بقي في الجعبة..
    يخب الأرض في جلباب مهلهل منذ سنين, لا يعرف لها عدد: كث اللحية, أشعث الشعر, أشيبهما, وزاد على ذلك رعشة قميئة في يديه لا تنفك تطارده..
    وكان فيما مضى يصنع الأحلام بالطلب لمن يريد؛ أحلاما بالتفصيل, ولكنه الآن عجوزا لا يقدر, فقط يُصلح الأحلام التي أصابها فتوق واهتراء, أو يشعل ضوءً لمن ضلت الطريق, أو أملا غير الذي خبا, أو يوقظ تلك الساقطة في غيبوبة الواقع, في أولئك الذين دجنتهم الأيام..
    ولا يردد في سعيه الدءوب؛ إلا جملة وحيدة:
   "أحلام للبيع.. الحلم بنصف الثمن.. لن أصنع المزيد.. فقط ما بقي في الجعبة"
    عيناه النافذتان الضيقتان في بحثهما عن الراغبين في الشراء أصابهما الكلل, بات أحيانا يقابلهم ولا يراهم, والأحلام في جعبته ثقلت على كتفه وأوجعته, لم يبع شيئا منذ أيام وشهور, لم يعد يتذكر, ربما منذ سنين, بل ولم يصلح لأحد حلما منذ زمن لا يتذكره هو الآخر. في المرة الأخيرة رفض الرجل البائس عطيته. قال مقتضبا:
 "أنتظر الموت, وما تنفع الأحلام مع من ينتظرون الموت؟!!.. أيام تمر!!"
توجع من إجابته, تمتم:
"لم اليأس؟!.."
    ورد الحلم مكسور الخاطر إلى جعبته, وأشفق في نفسه أن يصبح يوما بلا قيمة هو الآخر, أن يأتي يوم تكسد فيه بضاعته, وربما هي في الأصل كاسدة, وهو فقط ساقط في غيبوبة, وكذبة كبيرة, وأيام تمر..
    يهز رأسه في عناد هو من طبع رافقه منذ الأبد:
    "بالتأكيد ثمة هناك من زال يرغب في الشراء.. من زال يريد حلما يعيش من أجله.. وما الغد بلا حلم؟!.. وما الحياة بلا حُلم؟!.. جنة الله في ذاتها حُلم"
    أخبره أناس, وقد ظنوا به العته, عن امرأة تعيش بأعلى الجبل؛ منكوشة الرأس, زائغة العينين, يخافها الناس, يقولون أنها لا تخلو من جنون, تشكو من حلم غادرها على غفلة, وتركها جوفاء تقرعها السنون..
   ولما توارى عن العيون, يخب الأرض متحمسا, في طريقه إلى الجبل, تهامسوا:
   "مجنون ذهب يقابل مجنونة"
    صعد الجبل بجعبته العتيقة على ظهره الأحدب.. أصابه النصب, وأرهقته المسالك والدروب الملتوية, وما كادت تتحد عيناه مع عينيها الزائغتين, حتى شعر بخيبة أمل تملأ قلبه الكسير من حاله. تمتم في نفسه:
    "المرأة مجنونة من أقل ملاحظة.."
   قالت متوجسة فيما تدور من حوله:
   "من تريد؟.."
تمتم بينما يرفع الجعبة على كتفه, يهم بالرجوع:
"لا شيء.."
وفيما يغادرها كسيف البال..
"انتظر أرجوك.. أشتم رائحة بجعبتك.. ليست غريبة علي.. تذكرني بعزيز.. أنت ذاتك تذكرني به.."
    فرد جعبته, فتناثرت الأحلام تتقافز كأطفال صغيرة في يوم عيد, تصيء كفئران وليدة ترى النور للمرة الأولى..
     دق قلب المرأة فيما تقلب فيهم..
   "هو يشبه هذا.. وفيه بعضا من هذا.. وربما هذا.."
   بانت الخيبة في عينيها, وهزت رأسها المنكوش بشعرها الأشعث, وأردفت بلهجة مضطرمة بمشاعر مبهمة, فيما تميل باتجاهه, تفتش في ملامحه بطريقة غريبة:
"ولكني أريده هو.. هو ولا شيء سواه"
مد يده إليها بأجمل الأحلام, متغافلا عن سلوكها الذي بدأ يقلقه..
"هذا أروع ما عندي, وسأتقاضى فيه ثمن زهيد.."
وبعد تفكير لوهلة, وحكه صغيرة في الرأس؛ أردف:
"حسنا خذيه بلا ثمن.. هو هدية من تاجر كسدت بضاعته, وقد تتلف على أي حال.."
قالت مزمجرة:
"قلت لك أريده هو هو.. ولا شيء سواه.. عيناه الجميلتان الحالمتان.. وجهه الندي الصبوح.. رقته.. تمرده.."
تفكر قليلا:
"حسنا.. أنت تريدين شيئا مخصوصا.. بالمقاس.. حسنا, الأمر مرهق فقد كبرت, ويداي أضحتا ترتعشان, ونظري كل, وعزيمتي وهنت, وكانت أقصى أماني أن أبيع ما صنعته منذ سنين لم أعد أدري لها عدد, ولكنني من أجلك سأصنعه لك.. وسيكون هدية.."
   تهلل وجهها وبان البشر عليه.. أردف متسائلا:
   "أله صوره؟.."
"صورته في قلبي.. في نفس الفراغ الذي غادره على غفلة مني.."
  حك رأسه..
"حسنا صفيه لي"
    لمعت عيناها ببريق أخاذ لا يتناسب مع شعرها المنكوش, ووجهها المترب, وحالتها المزرية, وعكفت تصفه في عشق بأدق التفاصيل..
قال متعجبا من حالها:
"ألهذه الدرجة تحبينه؟"
   رنت إليه.. فتشت في ملامحه.. لا يدري لم رآها جميلة.. همست:
  "هو حياتي"
    انتفض قلبه؛ فثمة من زال يرغب ببضاعته, هي مجنونة, ولكنها تحلم, أو ربما جنت لأنها فقدت الحلم..
  ضبط عينيه تسارق النظر لوجهها الجميل المستتر خلف القذارة.. ثمة نظرة جديدة يعلمها جيدا في نفسه.. تمتم في سريرته, زاجرا قلبه المضطرم:
 "ويحك أيها الأحمق, ألا تمل, ألا يكفي ما نالك من خطوب؟!.. هي امرأة مجنونة, وسأصنع لها حلما بالمجان, وأغادرها إلى غير رجعة.."
    ومن جراب مخصوص, أخرج بعضا من نتف السحاب, وشيئا من عبير الورد, وحزمة من ضوء القمر, وعكف بيدين لم تفقدا براعتهما بعد يصنع حلمها في أناة, حتى انفلت من بين أصابعه يتقافز حولها كجرو صغير, كأنه يعرفها.. احتضنته بلهفة طفلة وجدت لعبتها الأثيرة, ثم وضعته في أخص مكان بقلبها وأوصدت عليه, وقذفت بالمفتاح من أعلى الجبل, وقالت:
   "هذا حلمي.. لن أدعه يغادرني قط.."
   همست فيما ترنو إليه بذات النظرة الغريبة:
  "ليته يتحقق"
    تمتم في نفسه:
   "حقا امرأة مجنونة"
    أمسك عصا جديدة شذبها من غصن شجرة, وشرع في الهبوط, وعندما وصل إلى سفح الجبل, راوده تساؤل لم يجد له إجابة:
"لم بائع الأحلام عاش طوال حياته بلا حلم؟!.. لم عاش يوزع الأحلام ونسي نفسه؟!"
   أعجبته فكرة أن يصنع حلما ويوصد عليه, مثلما فعلت المرأة. أخرج أدواته وانهمك في العمل حتى انفلت كجرو صغير هو نسخه من حلمها, وضعه في قلبه وأوصد عليه, وقذف بالمفتاح بكل قوته..
     صعد الجبل..
    ما زالت منكوشة الشعر, وعيناها لا تخلو من جنون.. كاد يقول: "امرأة مجنونة"..
    ولكنه عوضا عن ذلك قال مداعبا بروح جديدة:
"ما رأيك أن أصنع لك حلما جديدا.. مخصوص.. بالمقاس.."
 تبسمت..
"والمقابل؟."
نكش شعره..
"أمكث معك بالجبل.."
 

ليست هناك تعليقات: