2014/06/24

الصندوق.. قصة بقلم: سناء مصطفى



الصندوق
بقلم: سناء مصطفى

استطاعت بالكاد أن تصل للحجرة ، مدت يدها لتفتح الباب ، راحت أنفاسها تصعد وتهبط والحنين يدب فى روحها.. لا يكاد يرفع قدما حتى يطأ الأخرى كفرسٍ عربىٍّ أصيل. ها هو يقبع هناك فى ركن الحجرة بلونه الشاحب كشحوب الموتى رغم أنه يحمل فى جوفه حياةً بأكملها ..طفولةً وصبا وشبابا وكهولةً. ينظر إليها بعينين ذابلتين ونفس كسيرةٍ ؛يلومها لأنها لم تسأل عنه ولم تواسه فى وفاة صاحبته .دست أمها فيه بعضا من قلبها .. مدت يدها لتربت عليه وتربط على قلبه ، وفى الحقيقة كانت هى فى أمسِّ الحاجة لمن يفعل معها ذلك. أخبرته دون أن تنطق أنها لم تستطع رؤيته طيلة الشهرين الماضيين.. كانت أوهى من جناحِ بعوضة وحزنها أثقل من جبل ... أحست بدمعتها الساخنة تسقط على يدها وربما كانت دمعة لم يقوَ هو على حبسها.. سخونة الدمعة جعلتها تفيق قليلا وتمد يدها فى صدرها لتخرج المفتاح ... المفتاح الذى كانت تربطه أمها فى طرف منديل صغير وتضعه فى صدرها حتى ماتت . وضعت المفتاح فى القفل الصغير وحرَّكته فتعالى نبضها ، وهو ما زال ينظر إليها يرجوها ألا تتوقف . رفعت الغطاء الشاحب فاهتز جسدها كفرخِ حمامٍ صغير انتزعوه من حضن أمه لذبحها.. هناك فى أقصى اليمين علبة الحلاوة الطحينية الصغيرة .. فتحتها ، لتجد الملعقة الصغيرة ما زالت فى قلبها ، كانت أمها تأخذ قطعة صغيرة من الحلاوة كل مساء لتضيع أثر المرارة الناتجة من الأدوية الكثيرة... أمسكت بالملعقة وتناولت قطعة وضعتها فى فمها .. وجدتها مالحة لاختلاطها بالدمع السخين..أغلقت العلبة ونظرت أقصى اليسار لتجد شاشًا أبيض وطاقية من الخيوط القطنية الناصعة البياض ؛ ما تبقى من أبٍ لم يمهله القدرُ لينعم بضحكات الصغار . وضعت يدها على قلبها ليطمئنَّ حنينها أن اللقاء قريب. كادت تغلق الصندوق لولا أنه زمجر محرضا إياها على مواصلة بثِّ الشوق فى أوصاله الباردةِ ، فاستمرت . ورقة صغيرة ملفوفة هناك فى آخر الصندوق، ترددت فى فتحها ؛ شعرت أنها تخون أخاها إن فتحتها بدون حضوره ، لكنها كانت تشعر أنه شيء يخصها .. أقدمت على فتحها وقراءتها ... عقد بيع فدان من الأرض باسمها ..عليه ختم أبيها وبصمته.. هذه أول مرة ترى فيها هذا العقد .. لماذا لم تخبرها أمها به منذ وفاة أبيها؟ .. قامت بطى الورقة كما وجدتها لتضعها فى مكانها فى الوقت الذى فوجئت فيه بمن يدفع الباب بقدمه دفعة قوية أعادتها من وادٍ بعيد. كان أخوها .. يزأر كأسد ضارٍ ..قذفت الورقة فى الصندوق وتركت الغطاء فارتد كسيرا . وقفت لتسلم عليه فأعرض عنها فاتحا أمامها باب الحجرة على مصراعيه : لا مكان لكِ هنا!
من هذا ؟ له ملامح أخيها لكنه ليس هو .. ليس هو بالتأكيد .. أغلقت عينيها للحظة فربما أصابتها كثرة البكاء بضعف الإبصار ، لكنها حينما فتحتهما وجدته هو .. نفس الملامح ولكنّ العينين مختلفتان .. كأنهما قطعتا كريستالٍ لامعٍ لا أثر فيهما لحياة.
" والبيت ؟" سألته بروحٍ كسيرةٍ .. فأجابها : لا مكان لكِ هنا. ألحت فى السؤال حتى تعطيه فرصة ليفيق : " والجاموسة ؟" ... نظر فى عينيها كأنه يتحدى بقايا الإنسان التى ما زالت تكبله : لا مكان لكِ هنا . لم تيأس ... " وأمى ؟" .. ضغطت على حروفها حرفا حرفا حتى تحثه على مقاومة الوحش الذى يتغلغل فى روحه محاولا احتلالها. أجابها : " أمكِ ماتت ولا مكان لكِ هنا " . حينما أيقنت أن الوحش قد حل بكامله فى جسده قالت : " والصندوق ؟ " ... مد كلتا يديه وحمل الصندوق الشاحب ليضعه فوق رأسها : " خذيه واخرجى ".
حملت الصندوق وخرجت من باب الغرفة ..لكنها تذكرت شيئا ؛ مدت يدها لأعلى فتحت غطاء الصندوق وسحبت الورقة .. ناولته إياها : خذ هذه ربما تحتاج الفدان لتبنى لك فيه سُلَّما يصل بينك وبين السماء.
وحملت صندوق أمها ومضت.



ليست هناك تعليقات: