2014/06/23

صلي ع النبي.. قصة قصيرة بقلم: خيري عبدالعزيز

صلي ع النبي
خيري عبدالعزيز  
 
 اعتاد الناس صخب "شتا", يصبحون عليه, وينامون عليه, حديث ساذج بسيط, لا تستبان كلماته المضغمة, متآكلة الأحرف, هو هلوسات مرض الكهرباء الزائدة في عقله, المعروف بين أهل الحي ب"الصرع", ولم يكن "شتا" أبدا منبوذا من الناس, في المنطقة الشعبية التي ولد وتربى فيها, بسبب هلوساته, وضجيجه, وقذارة ملابسه, واللعاب المنساب من ركن شفته..
 "شتا" محبوبا, حتى بين أطفال الحي, يعطونه نصيبا من حلواهم وطعامهم بحب وبراءة.. 
تحول "شتا" مع الوقت؛ لمفردة صارت أساسية من مفردات الحي, مثل محل جزارة "شوشة" الضارب في عمق تاريخ الحي, وبقالة "كريم" التي عاصرت أجيال وأجيال, وعطارة "علي العطار" صاحب "الخرج" الشهير, والحمار الأعرج, وقهوة "البنا" سيئة السمعة بسبب الحشيش والبانجو, والمشروبات الروحية, وفتيات التعري على تلفازه في هُدأة الليل.. 
"شتا" مثل نسمة العصاري التي تهب على الحي وقت آذان الشيخ مصطفي اسماعيل في اذاعة القرآن الكريم, وماء القلل الناضحة بالماء البارد العذب أمام المحلات, والبيوت العتيقة ذات المشربيات.. إن غاب تساءل الناس بعفوية وصدق, وإن ظهر طيفه السامق, يدب من بعيد؛ تهللت الوجوه, وإلتمعت العيون, واتسعت الشفاه بابتسامة حنون, فما ينقصهم جاء وحضر, وكانت الجملة الوحيدة الواضحة من كل هذا الزخم الصاخب المنهمر من فمه, مع الخيط الرفيع الذي لا ينقطع من اللعاب, هي جملة: "صلي ع النبي", فتتمتم الشفاه بالصلاة والسلام, والدعاء ل"شتا" بالشفاء.. 
*** 
 خرج "حسام" من بيته يعلوه الفكر, اليوم بداية امتحانات الثانوية العامة, لأول مرة يشعر بهذه الوحشة, هذا الحزن, هذه الوحدة, حقا هو شعر بكل هذا منذ شهور, يوم توفى الله أمه, لتتركه وحيدا مع أبيه, في شقتهما الصغيرة بالحي الشعبي, غير أنه اليوم يستشعر هذه المشاعر عنيفة متأججة, وكأن المآزق هي ما تنبش في عمق الآلم, فتشعرنا بعظم كوارثنا, كم هو في أمس الحاجة اليوم للدعاء, من قلب طاهر كقلب أمه, أمه التي كانت تمطره بوابل لا ينقطع حتى اعلان النتيجة, اليوم هو بمفرده في الحياة, بطوله وكأنه مقطوع من شجرة..
 أبوه الغارق في شهر العسل مع الدمية الحمراء التي تزوجها لا يعول عليه كثيرا.. أبوه أصابه رهاب الموت, لمَا اقتنص أمه بلا انذار, فتزوج فتاة تزيد عن عمر وحيده بعامين اثنين, يستتر في شبابها لعل الموت لا يراه..
 الجملة الوحيدة الواضحة من حديث "شتا", أنبتت فكرة في رأس "حسام", وبخطه الجميل, وعلى ورقه بيضاء, ومع بعض التعديل, كتب: "هل صليت على النبي اليوم؟!.." 
وبكل النقود التي معه, نسخ من الورقة عشرات النسخ, وجعل يوزعها على راكبي السيارات, ويلصقها على واجهات المحلات أثناء طريقه للجنة..
 أراد "حسام" أن يدعو له الجميع, لعل قلبا صادقا طاهرا كقلب أمه يصيبه بدعوة, تكون على قلبه بردا وسلاما..
 *** 
"مختار", ومنذ الصباح, وحاله حال, فالتاكسي ليس على ما يرام, بين ساعة وأخرى عطب جديد, ما ارتكبه من ذنوب ليلة البارحة يصيب التاكسي اليوم بالكبوات, لقد تمادى مع "فتحية" في القبلات المختلسة من وراء ظهر الأب الطاعن في السن, ضعيف النظر, حقا هي خطيبته, وزوجته عما قريب, ولكنه لم يعقد عليها بعد, والبنت تحبه وتخاف ألا تطاوعه؛ فيتركها, فهي تعلم أنه "بغزالة", كما أن جميع من يعرف "مختار" يعلم عنه ذلك, ولكنها تحبه كما هو, بكل طيشه وجنونه و"قلة أدبه", وقد عاهدت نفسها, وعقدت العزم خالصة مخلصة, أنها بعد الزواج ستدعو الله طويلا بالمغفرة على كل ما فات, وما أذنبت, وما قدمت وأخرت, وأنها ستعمل جاهدة أن تغير من حال "مختار", وتقيم المعوج فيه..
 "ليلة أمس أعطاه الواد "بذرة" سجارتين لف؛ واحدة بانجو, والثانية حشيش, هما السبب في توهان عقله مع البت "فتحية", وعامة هو يحمد الله أن الأمر لم يتجاوز حد القبلات.." ما فات فات, هو الآن يريد أن يكفر عن معاصيه, يريد شيئا سريعا يعجل بانتهاء مأزقه مع هذا التاكسي اللعين, المرتبطة حالته الصحية بموقف "مختار" مع الله, فلا يعود آخر اليوم خالي الوفاض, وهو في أمس الحاجة للنقود, من أجل الفرح الذي بات على الأعتاب.. 
 مد "حسام" يده بالملصق, فأخذه "مختار" بلا وعي, ووضعه على الزجاج الأمامي للتاكسي, ثم خطر له, أن يطبع منه نسخ بعدد القبلات المختلسة, تاه في العدد, فطبع مائة نسخة, لم تكلفه سوى خمس جنيهات, وطوال يومه, ويده ممتدة من نافذة التاكسي, توزع النسخ على زملاء المهنة.. 
*** 
صاحب ماكينة التصوير, الذي نسخ عنده "مختار" الملصق, احتفظ بنسخة لنفسه, وقرر من باب كسب الحسنات أن يعطي لكل زبون نسخة مجانية من الملصق.. لم ينتبه عم "جرجس" صاحب ماكينة التصوير, أن النبي المقصود هو النبي محمد, وليس عيسى.. وعندما نبهه "جورج" الساعاتي, قال "جرجس" ببساطة: 
- محمد نبي.. وعيسى نبي.. تكون الصلاة عليهما معا..
 لكزه جورج مؤنبا: 
- انتى أكيد كبرت وخرفت.. لو محمد نبي, نكون احنا على ضلال.. 
 قال جرجس مازحا:
 - خلاص..كل واحد يصلي على النبي بتاعه.. الورقة لم تخصص حد..
 *** .................................................................................................................................................................................................................................................................... *** 
 جاء في نشرة التاسعة مساءً, أن ثمة ملصق يحرض على الفتنة الطائفية, انتشر في أرجاء البلاد في سويعات معدودة, وأن السلطات تناشد المواطنين بضبط النفس, والتمسك بروح الوحدة الوطنية, وعدم الانسياق وراء فتن التحريض..

ليست هناك تعليقات: