2014/12/01

يعقوب الشاروني في حوار مع جيهان الغرباوي على صفحات أهرام الجمعة



" قصة صورتين " :
وكيل نيابة وصحفية يطرحان أسئلة اليوم العالمى للطفل 20 نوفمبر
توتة توتة .. ماذا فعلت فيك الحدوتة ؟
حوار : جيهان الغرباوى  
هو رجل يقترب من عامه الخامس والثمانين ، لكنه منتصب القامة ، أنيق ، يتحرك بنشاط ولا يفقد حماسه أبدًا ..
ممارسة الرياضة ليست هى السبب الرئيسى فى الشباب الذى يطل من وجهه ويلمع فى عينيه ، ولا هى السبب فى ابتسامته ومنتهى الاهتمام الذى يتكلم به ، عن عمله ، وعن المستقبل ..
حين تقابله تتأكد أنك وجدت أخيرًا ، رجلاً يعرف لحياته معنى وهدفًا ، وقد قرر بكل ما أوتى من قوة ، أن يعيش هذا المعنى ويحقق الهدف ويوصل الرسالة ..
فى يوم من الأيام ، وقبل 20 عامًا ، التقى الرجل ، بفتاة صغيرة فى إحدى مدارس الأقاليم ، وسلم عليها بحماس وشجعها بكلمات أغلى من الماس ، لأنها كتبت قصة جميلة ، وفازت فى مسابقة الصحافة المدرسية ، على مستوى الجمهورية .
لم يكن الرجل يوزع هدايا ولا جوائز مالية ، كل ما كان يملكه يومها اهتمامه واحترامه للتلاميذ الموهوبين ، فى المدارس الحكومية ، وقد اعطى بعضهم شهادات تقدير ، ووقف بينهم لالتقاط الصور التذكارية .
فرحت الفتاة ذات السن الصغيرة بشهادة التقدير ، وباعتزاز شديد احتفظت لسنوات بصورتها مع الأستاذ الكبير الشهير ، ولم تنس فى حياتها هذا اليوم أبدًا .
ومثلما تروى الحواديت ، مرت الأيام والسنوات ،كبرت الفتاة ، وتركت مدينتها الصغيرة ، وسافرت للعاصمة الواسعة ، وهناك احترفت الصحافة فى الجرائد والمجلات.
.. ومرة من ذات المرات ، طلب التليفزيون أن يستضيفها ، لتتكلم عن أحدث كتبها ، واستجابت الفتاة وذهبت ، لكن حادثة كبيرة ليلتها وقعت ، وقرر التليفزيون تأجيل البرنامج لحين إذاعة بيان مهم ، وجمع الضيوف معًا فى صالون ، فجلسوا ينتظرون ... وهناك وجدت الفتاة أستاذها أمامها ، فأسرعت إليه فى غاية السعادة ، تذكره بنفسها .
فرح الرجل بها ، وأعطاها كل قصصه الجديدة ، التى جاء إلى نفس البرنامج ليتحدث بشأنها !
هذا الرجل الكريم ، كان الأستاذ يعقوب الشارونى ، والفتاة كانت أنا ..
*** يعقوب الشارونى أحد أشهر كُتـَّـاب أدب الأطفال فى مصر والعالم . له مئات القصص ، عدد كبير منها ترجم إلى مختلف اللغات ، ونال أعلى الجوائز فى أنحاء            الدنيا ، لكن هذا ليس كل إنجازه ، إنه يستطيع أن يُـغَـيِّر مجرى حياتك ، إن أنت صدقت معانى الحب والشجاعة وقوة الإنسان وانتصار الخير فى حواديته ، وتلك هى المعجزة والفكرة .
كان حوارنا ممتعًا ، لأسباب كثيرة ، أولها أنه أعطانى عددًا مهولاً من قطع الشيكولاتة وقصص الأطفال الملونة ، بينما اتأمل أنا مكتبته وأسأله عن السَّفر والتعليم والدستور والفلوس والإرهاب ، أما حين سألته عن الرئيس السيسى فاجأنى هو وحدثنى عن الرئيس الأمريكى ، قال :
أتذكرين وقت تفجير برجى التجارة العالميين ؟ أتعلمين حين أرادوا أن يبلغوا الرئيس الأمريكى بالخبر أين وجدوه ؟ كان يقرأ إحدى قصص الأطفال للتلاميذ فى مدرسة ابتدائية ( ! )
العالم كله شاهد صورة جورج بوش يومها ، وهناك صور منشورة مثلها لبيل كلينتون وهو يقرأ قصة من أكثر قصص الأطفال مبيعًا ، للتلاميذ الصغار فى مدرسة . إنه تقليد معتاد فى أمريكا ، لكن لماذا يقوم به رئيس الجمهورية ؟ لأن هناك إرادة سياسية قوية ، فى نشر الثقافة وعادة القراءة بين الأطفال ، وكى يكون هناك قدوة ، لا تقل فى أهميتها وتأثيرها عن رئيس الولايات المتحدة بنفسه .
وقد تدهشين لو قلت لك إن عبد الناصر كان يفعل نفس الشىء .

** عبد الناصر كان يفعل نفس الشىء فى مصر !! كيف ؟
* عبد الناصر كان شديد الاحتفاء بالثقافة والفنون ، مثلاً فى عام 1960 طلب عبد الناصر إقامة مسابقة لكتابة المسرحيات والروايات التى تروى للجيل الجديد عن بطولات الشعب المصرى ، وأقام المسابقة المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية ، وتقدم لها حوالى مائتين من كتاب المسرح والطفل ، وسنتها فازت بالمركز الأول المسرحية التى كتبتها عن انتصار المنصورة على الفرنسيين وأسر لويس التاسع فى دار ابن لقمان بالمنصورة ، فقرر عبد الناصر بمنتهى الاهتمام أن يقام حفل توزيع الجوائز فى مدينة المنصورة موقع الأحداث . وكان مقررًا أن يُقام الحفل فى المكتبة المركزية للمحافظة ، لكن عبد الناصر وجد نصف مليون مواطن فى انتظاره بالمنصورة ، احتفالاً بزيارته لهم ، فأمر بنقل الميكروفونات ومراسم الاحتفال لأكبر ميادين المنصورة . وقبل أن يقترب من الميكروفون ويحيى الجماهير ، قال نحن هنا من أجل الطفل والمسرحيات الفائزة ، لذا يجب أن تكون الكلمة الأولى ليعقوب الشارونى صاحب الجائزة الأولى ( كان عمرى وقتها 29 عامًا ) وقدمنى عليه ، تقديرًا لدور الثقافة . كانت مفاجأة مذهلة بالنسبة لى ، غيرت مجرى حياتى ، لدرجة أنى بعد أن ألقيت كلمتى ، قررت أن أستقيل من عملى وقتها كنائب بهيئة قضايا الدولة ، واعتزل السلك القضائى نهائيًّا ، واتفرغ لكتابة الأدب وقصص الأطفال !!

** ألم يكن صعبًا عليك التخلى عن مستقبلك الوظيفى المرموق فى السلك القضائى ، كى تكون كاتبًا لحواديت الأطفال ؟
* صحيح عملت فى هيئة قضايا الدولة ، وترافعت فى قضايا مهمة ، وكان يمكن أن أكون محاميًا كبيرًا فيما بعد ، لكنى شعرت أن فى مصر مئات القضاة والمحامين ووكلاء النيابة البارعين ، ولن يكون هناك ضرر لو ينقصون واحدًا ، لكن كُتـَّـاب الأطفال فى مصر قليلون ، ومصر تحتاجهم بشدة .

** هل تغير الأطفال كثيرًا فى مصر ؟
* كثيرًا جدًّا .. وتستطيعين أن تـُقَسِّمى ثقافة الطفل المصرى إلى قسمين ، ما قبل 25 يناير وما بعد 25 يناير .
بعد الثورة الكلام كله عن السياسة ، والطفل لا يشاهد تقريبًا غير العنف والضرب والحرق فى نشرات الأخبار ، ومقدموا برامج التوك شو صاروا هم نجوم المجتمع والمثل الأعلى أمامه !
عدد كبير من مكتبات الأسرة التى كانت تسمى مكتبات سوزان مبارك تم حرقها وتم اتلاف محتوياتها أثناء الثورة ، وحتى اليوم مغلقة .. المكتبات العامة وقصور الثقافة التى يمكن أن يتردد عليها أطفال الأقاليم ، فارغة .. وحتى الجمعيات الأهلية والمدارس الابتدائية لا تمارس أى نشاط ثقافى مفيد للطفل بسبب ارتباك الظروف السياسية .
بماذا ينشغل الطفل إذن ، وأين يُخْرِج طاقته ، وهو لا يغادر بيته أو مكانه أمام التليفزيون ، وكل ما حوله عنف وإعلانات بلا قيم أو أفلام مبتذلة ؟
نحن كما لو كنا نربى أطفالاً ( مدمنين ) للإرهاب والعنف ، وليس للعلم والفن والفكر المستنير .. كيف سيكون مستقبل مصر ، إذا كنا نربى أولادنا هكذا ؟    
   
** وماذا يستطيع أن يفعل السيسى لينقذ الموقف ، فى رأيك ؟
          * فى أول خطاب للرئيس عبد الفتاح السيسى ، بعد حفل التنصيب                                    ( 9 يونيو 2014 ) ، تعهد بتطوير التعليم وكافة عناصره ( معمل ومكتبات ومسارح وملاعب رياضية ) ، وفى برنامجه الانتخابى ، كتب تحت عنوان " رؤية مستقبلية " : إنه ملتزم بالإبقاء على مشروع مكتبة الأسرة ودعمه ، وتمكينه من مواصلة رسالته ، وملزم بالعمل على إنشاء " مكتبة لكل قرية " ، وفى نفس البرنامج الانتخابى ، فى باب الثقافة والإعلام والإبداع ، تعهد بالنهوض بمكانة مصر الثقافية والاقتصادية معًا ، لتعزيز صورة مصر عالميًّا ، وأكد أن بناء الإنسان المصرى لا يبدأ إلا ببناء الطفل .
          والآن على السيد الرئيس أن يجد الوسائل لتنفيذ ما تعهد به للشعب .

** هل تقصد مثلاً أن يزور إحدى المدارس الابتدائية الحكومية ، ويشجع التلاميذ على القراءة كما يفعل الرؤساء فى أمريكا ؟ 
          * ليس شرطًا أن يقوم بزيارة المدرسة بنفسه ، إذا لم تسمح الظروف السياسية              أو مقتضيات الحرب الدائرة على الإرهاب ، لكن على الأقل يفتح المجال للشخصيات السياسية والفنانين والكُتـَّـاب الكبار والمحافظين والشخصيات العامة والقيادات الأمنية بأن يقوموا بهذا الدور ، ويناقشون الأطفال فى الفصول عن المرور مثلاً أو مستقبل مصر   أو مكافحة الإرهاب ، أو حول أفضل كتب ومسرحيات الأطفال لهذا العام .. المهم أن يشعر الجميع أن القيادة السياسية لديها إرادة حقيقية فى دعم هذا الاتجاه .
          الأفكار الجديدة الجميلة لا تكلف شيئـًـا ، وعلينا أن نجربها ونعتمد عليها            وننشرها ، قبل أن نشكو ونعانى من نقص الإمكانيات المادية .

** تعنى أن الفقر لا يمنع الأفكار الجميلة ؟
* زمان ، الفقر لم يمنع سعادة الأطفال وهم يلعبون الكرة الشراب ، ونقص الإمكانات لا يمنع مثلاً نشاط الإذاعة المدرسية ، ولا يمنع أن نضع فى بعض الشوارع الواسعة ، على أعمدة النور ، شبكات لكرة السلة ، كى نشجع النشاط الرياضى .. لماذا لا نفعل مثل روسيا ونقيم مسابقات قومية للشطرنج ؟ الشعب المصرى محتاج يلعب شطرنج ، كى يتعلم أن يحسب حسابًا لكل خطوة ، ويفكر فى العواقب ، وفى شكل المستقبل والمكاسب والخسائر التى تتحدد حسب اختياراته .
الدعم المالى ليس كل شىء فى التربية والتعليم .. اكتشاف المواهب والدعم المعنوى أخطر وأهم بكثير .. فى طفولتى ، كان عندى أستاذ للغة العربية اسمه الأستاذ عبد الحق رحمة الله عليه ، شاهدنى مرة وهو يشرح الدرس منشغلاً عنه ، وكنت فى ثالثة ابتدائى ، اقترب من مكان جلوسى وأوقفنى ، ونهرنى وهو يسألنى : " حضرتك سايب الدرس ومشغول فى إيه ؟ " استجمعت شجاعتى وقلت له : " بكتب رواية .. " اندهش جدًّا من ردى ، فقال ساخرًا : " طب يا سيدى تعالى اطلع هنا قدام زمايلك .. واقرأ ما كتبت ، وسمعنا الرواية بتاعتك " .وفعلاً أمسكت كراسى وبدأت فى قراءة ما كتبت ..  بعدها فوجئت بالأستاذ الغاضب المخيف ، يقترب ، ويطبطب على كتفى فى حنان ، ثم يقول : " اقعد يا بنى .. واكمل ما كتبت ، ربنا يفتح عليك ! " كان هذا الاعتراف المبكر من أستاذ المدرسة أكبر وسام ، وأغلى جائزة حصلت عليها فى حياتى .

** تأملت بعض أركان بيته المريح ومكتبته العظيمة المبهجة ، مع البساطة المفرطة فى كل شىء ، ثم سألته : " هل من صفات كُـتَّاب الأطفال إعطاء أولوية للقيم والمعانى والمُثل العُليا ، على حساب الماديات والشُهرة والفلوس مثلاً " ؟
* ابتسم وهو يرد : والله فكرت فى الموضوع كثيرًا .. ووجدت أنها مسألة منهج فى التفكير ، بعض الناس وبعض الدول مثل أمريكا ، تقيس النجاح بمقياس ( أنا كسبت كام النهاردة ؟ ) وهناك ناس ودول أخرى مثل اليابان ، تقيس النجاح بمقياس ( أنا أنتجت إيه النهاردة ؟ ) أنا تفكيرى يابانى ، أقيس نجاحى بحجم ما أنتجته وكتبته للأطفال وللمستقبل ، وبحجم الأفكار التى قدمتها كى تصبح الحياة أفضل فى مصر ، وأشعر أن هذه رسالتى الحقيقية على الأرض .
من أجلها أعمل وأسافر وأطور نفسى وأدواتى كل يوم .
وبسببها انتشرت أعمالى وترجمت فى العالم ، حتى أنهم دعونى مؤخرًا لمدرسة فى نابولى بإيطاليا ، ووجدت الأطفال هناك قد حولوا إحدى قصصى لرسوم وموسيقى وعمل تمثيلى واستوحوا من أفكارها موسيقى ورقصًا تعبيريًّا ونموذجًا هندسيًّا من الكرتون .
.. هكذا يتعاملون مع قصص الأطفال ، كى يشجعوا النشء على الإبداع والتعبير عن نفسه ، بقوة الخيال والفن .

** بعد نصف قرن من الكتابة للأطفال ، ومازلت فى قمة حماسك للحياة وللعطاء ، كيف تصف طريق النجاح لمن يسير على الدرب بعدك ؟
* احترموا الطفل ولو كان جنينـًـا فى بطن أمه ، لا تستهينوا بعقله أو مشاعره            أبدًا ، وقدموا له المتعة قبل الفكرة ، فهو لن يستجيب لأى نصيحة ولن يفهم أى حكمة ، إلا إذا قدمتها له فى شكل جذاب ومسل ، وهذا هو دور الفن والحدوتة .
كاتب الطفل يجب أن يقرأ الموسوعات ، ويختلط بالناس ، ويهتم بكل مجال ، لأنه يختار من كل 5000 معلومة 50 معلومة أو أقل ويوظفها فى قصته كى تكون مقنعة ، ومفيدة ، لمن يقرأها .
عشرات المرات شعرت بسعادة غامرة ، لأن شخصًا قال لى ، إنه قرأ ولو بالصدفة حدوتة قصيرة كتبتها فى جريدة ، فشعر أنها رسالة من السماء له ، ولأنها مست وترًا فى حياته .. فهم العبرة ، وتغير سلوكه ، أو تفكيره من يومها !
*** ويكمل يعقوب الشارونى فى حماس : أريد أن أحكى لكم الآن حدوتة قصيرة ، لكنها واقعية ، حدثت بالفعل فى لندن عام 2012 مع إحدى قريباتى .. كانت أمًّا حديثة الولادة ، وبعد أن وضعت طفلها بأسبوع ، وجدت أمينة المكتبة العامة التى تقع فى حَيِّها تزورها بالبيت ، وتقدم لها كارنيه اشتراك بمكتبة لندن ، قالت لها الأم : " أشكرك ، لكنى أنا وزوجى مشتركان بالمكتبة ، منذ سنوات ، لأننا نـُـحَضِّـر للدراسات العُليا " . ردت أمينة المكتبة : " لكنه ليس اشتراكًا لك أو لزوجك يا سيدتى ، إنه اشتراك الطفل            الجديد " . قالت لها الأم فى دهشة : " ابنى لا يزيد عمره على أسبوع ! " قالت أمينة المكتبة : " أعرف ذلك ، فقد علمت بوجوده من دفتر مواليد المدينة ، ونحن نقدم كارنيه مكتبة لكل مولود ، كى تذهب الأم وتحضر له ، من القسم الخاص بحديثى الولادة ، كل الوسائل السمعية والبصرية ، التى تلائم مراحل نموه ، وإدراكه ، كى يتطور فى أسابيعه وشهوره الأولى ، بقدر المستطاع ، ويُحْسِن التعامل مع عالمه الخارجى ، بمساعدة القصص والوسائل التعليمية باللمس والرائحة والألوان والصوت ، وحين يكبر سيكون قد تعود على وجود كتاب بالقرب منه ( ! )
*** انتهى الوقت وغادرت بيت الأستاذ يعقوب ، لكن بصعوبة بالغة .. ليس سهلاً أن تفارق بيتـًـا مبهجًا مبهرًا ، يمتلئ بالدهشة والحواديت والشيكولاتة !!