2015/03/25

"الرحم .. والتيه " قصة بقلم: ياسر محمود محمد



الرحم .. والتيه
   ياسر محمود محمد

داهمتنى مشاعر الفقد فجأة ..كانت معي .. تؤانسني .. أنا الظل وهي تدفعني دفعاً نحو الحياة .
سحبت نفساً من السيجارة ذات الماركة العالمية المشهورة ، ونفثت دخانها حولي .. ( لم أشأ أن أتركها .. هو الزمان وتفاصيله الأغرب والأعجب من كل تصور ) .
( والمثل يقول : مهما عشت يابني أدم مسيرك تفارق )
- أنا أحبك يابلاد الفقد والتيه ، أنا أحبك يامرتع الطفولة في المدينة الهادئة ، أحب لهوك معي يا من فقدتك دهراً !
حدقت في وجهها الأبدي طويلاً من خلال دخان سيجارتي .. بوجهها الذي أبداً لم يعرف طعم التجاعيد ولا خطوط الزمان . يجري فيه نهر من الدموع يروي الكون الواسع .. ظل وجهها الطيب شاباً حتى بعد كل هذه السنين .
( لمَ سافرتُ وتركتك .. هل يغنيني عنكِ أي شئ .. مهما كان جميلاً .. أو غالياً .. زوجة .. أولاد .. أصدقاء .. أحباب )
( ما جدوى البحث عن مكان أخر ليس موضع رحمك )
بتاريخ اليوم الخامس والعشرون من الشهر ألأول أرسلت لها خطاباً بطابع مرسوم عليه ثلاث ألوان حدثتها قائلاً :
- هي أخر مرة .. اليوم أعود لحضنك الدافئ الوسيع .
تبتسم هي في لهجة المعاتب :
- كل حين تردد ذلك .. لقد عشقت التيه وتركت الرحم واستسلمت لنهر الزمن بعيداً عن نبعي شريان حياتك .
داهمتني مشاعر الفقد مرة أخري والسيجارة في منتصفها .. ( تركتها قديماً في اليوم الخامس من الشهر السادس وأيام وشهور وسنوات مرت ورغم ذلك أحس بها أزماناً فأبداً لم أفارقها هذه المدة .. رغم رحلاتي الكثيرة ، فأنا أعشق المكان الذي وجدت به ولا أفكر أبداً في فراقه إلا لأسباب قوية .. )
سحبت نفساً سريعاً من السيجارة ثم أخر
( ماذا أفعل في ضيق ذات اليد .. لقد دعوت لي كثيراً بسعة الرزق .. وجاءني الرزق من الرزاق ، ولكن نفسي تتوق دائماً إلي الزيادة لكي أقدم لربيبة عشقي مهرها الأسطوري علي غير مثال )  .
( أعبر في قارب في وريدك الأزرق . تحوطني سفن ومراكب وقوارب من كل الألوان ، تزف موكبي إلي شاطئك الأخر حيث هئت لكِ ياعروس زُفت إلي في بحر من لجين) (ايزيس تبحث) عني في بلاد الفقد ، وأنا أنبش عنها في ترابها الماسي ووجهها الآملود ) .
قالت إيزيس
- لا تظن أبداً السوء بالأخرين
( ماذا أفعل الآن ؟! وكل حياتي أصبحت شكاً في ألأخر الصديق والأخر العدو إلي أن يثبت العكس )
الأعداء تكاثروا حولك يا إيزيس . و "ست " يقتلنا من داخلنا من أجل فوضاه التي بعثرت جسدي قطعاً قطعاً في انحاء نيلك المشوب بدماء أخوتي وعطشي مكانك الأزلي )
هي المقادير جرت يا من وهبتِ لي الحياة .
( الحياة تغيرت يا أمي وكميت الطبية التي غرستها غرساً في قلبي .. دفعت ثمنها غالياً .. لكن مازلت طيباً .. مازلت ساذجاً .. أحب صديقي وأفديه ومازلت أكتشف الشفقة كثيراً والشماتة أحياناً في عيون بعض ممن كانوا جيراني ) .
ارتسمت دائريات كثيرة حولي من الدخان وندفه البيضاء . تخيلت العم " ست " وهو يقيس بسيفه الأسود جدران نعش قلبي .
( هل تعودين لي يا صاحبة الحق الأبدي في انتمائي لك . هل أعود لرحمك يا إيزيس .
أتذكر كل شئ في حياتي معك " هل ستصدقين لو قلت لك : حتى اللحظات التي ولدت فيها ، والداية السمراء التي أتت بي إلي هذا العالم ، وهي تتلقي عطيتها لسبب وجودي .. وتسقيني لجفاف ثديك ساعتها من لبنها وترفع راية طفل وهبته السماء لكي يأخذ بحق أبيه أوزوريس ) .
( تخيلت ثديك وقد امتلأ لبناً .. يكفي كل أخوتي ويطرد ببركات أناشيد إيزيس كل الأعداء ) .
أفقت من شرودي .. وضعت سيجارتي في المطفأة وتركتها مشتعلة .

      الأربعين – السويس

ليست هناك تعليقات: