2016/11/11

قراءة في المجموعة القصصيّة ( دخان وقهوة بحليب ) للأديب عبد الحميد الغرباوي بقلم : عبد الله لالي



قراءة في المجموعة القصصيّة ( دخان وقهوة بحليب )
للأديب عبد الحميد الغرباوي[1]
بقلم : عبد الله لالي
مستهلّ..
عندما أوشكت على الانتهاء من قراءة مجموعة (دخان وقهوة بحليب ) للقاص عبد الحميد الغرباوي وجدت القلم يخطّ هذه الكلمات السّاذجة:
" قصص لذيذة بطعم مركز ونكهة متبّلة .."  
قد يكون هذا حكما نقديّا وقد يكون مجرّد انطباع بسيط عن القراءة الأولى ، لكن مهلا ما يزال للقلم مجال للتفصيل ..
المجموعة القصصيّة صدرت عن مطبعة ( دار علي بن زيد للطباعة والنّشر ) في 70 صفحة من القطع الصّغير ، احتوت على ثلاثين نصّا سرديّا قسّمها الكاتب إلى ثلاث مجموعات أطلق على العشر الأولى منها ( قصص ) وسمّى العشر الثانية ( حكايات ) ، أمّا العشر الأخيرة فسمّاها ( قصص قصيرة جدّا ) ، وهذا التصنيف نفسه هو حكم نقدي مسبق من الكاتب ، يفعل فعله في توجيه المتلقي والنّاقد على حدّ سواء ويضعه في الإطار الذي يريده ..
في العنوان وما بعده..
أخذت المجموعة القصصيّة تسميتها من إحدى قصصها الثلاثين ، وهو تقليد جار في تسمية المجموعات القصصيّة قلّما يشذّ عنه كاتب .. ! ولو أخذنا العنوان وجعلنا نتأمله لوجدنا فيه ظلالا تنسحب على معظم قصص المجموعة ، ففي معظمها يقف البطل غالبا متأملا غيره أو ذاته وما حوله ، في وضع المستغرق الذي يكون إلى جانبه قهوة بحليب ودخينة يحرقها و يراكم أعقابها مع مرور الزمن وتوالي الأحداث، وفضلا عن تسمية إحدى قصص المجموعة بـ ( دخان وقهوة حليب ) ، هناك أيضا قصّة أخرى بعنوان ( دخان ) ، وقصّة أخرى بعنوان ( قهوة ) ، ولا تخلو القصص الأخرى من ذكر القهوة أو الدخان بمعنى من المعاني ..
هذا عن عتبة العنوان .. التي هي المولج الأساسي لعوالم هذه المجموعة القصصيّة التي حملت كثيرا من الرّسائل الفنيّة المشفّرة ..
وفي الإهداء ملمح لطيف يأخذ بيد القارئ إلى تعرّف العلاقة الوطيدة بين القاص وقصصه ، ذلك حين يقول:
" هذه المجموعة ارتأيت أن أهديها لرفيقة عزيزة صاحبتني وصاحبتها قرابة ثلاثة عقود وربّما أكثر .. فإليها أهدي هذه المجموعة .. إلى الرّفيقة الغالية : القصّة القصيرة "
وفي هذا الإهداء أيضا مرقاة إلى عمق التجربة القصصيّة للمؤلّف إذ تمتدّ إلى ما يتجاوز الثلاثين سنة في حساب السنين ، وإلى اعتبار هذه القصص كائن حيّ يليق بالقاص أن يُهدي له مجموعته القصصيّة هذه ..   
ثمّ هناك هذا التوزيع المتوازن المقصود بلا شك ، عشر قصص عشر ، حكايات عشر قصص قصيرة ؛ له رائحة العمل المخبري المعدّ بعناية فائقة وبتركيبة خاصّة ، ولعلّها خبرة السنين تعطي بتلقائيّة ما يحسبه القارئ صناعة ذات إعداد وتخطيط محكم.. !
يمتلك القاص عبد العزيز الغرباوي لغة سلسة وأسلوبا جذّابا يمتع القارئ ويوقظ فيه كلّ حواسه ليتملّى كلّ كلمة يقرأها من قصصه..
في المضمون :
جلّ قصص المجموعة يطغى عليها معالجة القضايا الذّاتية ؛ حالات نفسيّة أو سلوك فردي ما ، غريب أو ملفت للانتباه ، ولا توجد في القصص معالجة لقضايا عامة إلا في حالات قليلة ، فقصّة ( التعرّي ) مثلا تتحدّث عن شخص يحب أن يحكي ويتحدّث ، يرمي بالجنون ، وقيل أنّه مجذوب أو أحمق ومخبول ويدور بينه وبين شخص آخر لم تتضح ملامحه ؛ حوار مبتسر ثمّ نفاجأ في النهاية بأنّه كان يحلم.
وفي قصّة حكاية ( شارب ) الأمر نفسه يتكرّر. قصّة شخص يراه بطل القصّة يداوم على زيارة الحانة رغم أنّه يراه كذلك مرارا يخرج من المسجد ، وتمنّى لو أنه دفع له ذات يوم ثمن كأس شراب ، ويفاجأ بالنّادل يقول له أنّ شخصا ما في الحانة لم يشأ أن يذكر نفسه دفع عنه ثمن كأس شراب .
وفي قصّة ( دخان ) شخص يطارده الدخان في كلّ مكان ، بدءا بدخان براد الشاي إلى دخان السيّارات ودخان السّيجارة إلى دخان الأجساد التي تحترق في نشرات الأخبار .. !
والقضايا الذّاتية والسلوك الشخصي الذي يحلَّلُ نفسيّا يتكرر في قصص أخرى كثيرة مثل : قصّة ( قسوة ) و ( تصفية حساب ) و ( سهرة خاصّة ) و( حكاية 1 ) وغيرها..
ويعالج في قصص قليلة جدّا قضايا عامّة مثل  قصّة ( حكاية 3 ) التي تتحدّث عن سكّان قرية عاشوا طول عمرهم عبيدا ، فلما رفع شاب صوته مناديا بالحريّة جاءه سهم قاتل ، بينما انشغل أهل القرية في البحث عن مستعبِدٍ جديد .. ! وكذلك قصّة ( حكاية 4 ) وقصّة ( حكاية 9 ).
ومثل هذه النّصوص التي يغلب عليها الذّاتية والمنولوج الشخصي لا تلقى رواجا كبيرا في نظري لدى القرّاء ، وفي الغالب تقرأ مرّة واحدة فقط إن صبر عليها القارئ ، ذلك لأنّها تتشابه في موضوعاتها ، ويصعب حفظ تفاصيلها ، كما أنّ الطابع الفلسفي يغلب على أفكارها.. خصوصا أنّ جلّ الشخوص بلا أسماء وحتّى أسماء الأمكنة والأزمنة أسماء افتراضيّة تحلّق في دائرة التخيّل الذي يصعب على القارئ العادي متابعته ..وقد يروق ذلك لفئة أخرى من القرّاء فالأمر في النّاهية نسبيّ..
لكنّ هذه الخاصيّة في قصص ( دخان وقهوة بحليب ) خفّت حدّتها بعض الشيء في الجزء الثاني الخاص بالحكايات التي استُمدّت غالبا من التراث بصياغة خاصّة فيها بصمة المؤلّف.
نظرة في الأسلوب والتقنيّات الفنيّة :
الوصف والشخوص:
في مجموعة ( دخان وقهوة بحليب ) نلمح قدرة الكاتب الفائقة في رسم ملامح شخوصه وبدقّة متناهية ، حتّى كأنهم تماثيل فاتنة يكاد يقول لها: انطقي .. ! والقاص عبد الحميد الغرباوي رجل يعشق الفنّ التشكيلي ويمارسه بحماس ، ومن ثمّة فهو يستعمل تلك الحاسّة الفنيّة لتشكيل ملامح شخصيّات قصصه ، وتبيين تصرّفات وحالات هذه الشخوص المختلفة ، من حيرة أو غضب أو فرح ، أو شرود وتيه ..
وتتجلّى تلك الخاصية بشكل واضح في قصّة ( دخان وقهوة بحليب ) التي أخذت عنوان المجموعة ، فالقصّة كلّها عبارة عن مشهد اعتيادي نراه كلّ يوم ، ولكن يخفي وراءه ما يمور به صمت الحياة ، يقول الأديب عبد الحميد الغرباوي واصفا بطله:
" يدٌ ..
أصبعان طويلتان ..
نحيفتان ..
بين السّبابة والوسطى سيجارة بلا فيلتر
دخان
أبيض..
أقرب إلى البياض ..
الدّخان يخرج في دفعات من أنف ..
من أنف وفم أدرد .. "
وكذلك يبرز إلى حدّ في القصّة التي تليها التي بعنوان ( لم لا تهدأ .. ! ) ، حيث يصف الكاتب بطلته قائلا:
" كانت هادئة عندما دخلت ..
بدا عليها اتزان امرأة في ربيع العمر
حقيبة تتدلّى من كتفيها.
فولار مورد يغطّي شعرها
معطف فوق الخاصرة على قميص شفّاف رمادي فاتح .."
فهو وصف يتتبّع التفاصيل الدّقيقة ويحبس انعكاسات الحالة النفسيّة لشخصيّاته على ملامحهم الجسميّة ، كما يفعل الفنان التشكيلي تماما ..
وانطباع آخر يمكن أن نخرج به من قراءتنا لهذه المجموعة القصصيّة ، وهي أنّ معظم أبطال المجموعة شخوص منفردة ، أو بتعبير آخر يعتمد القاص في مجموعته هذه على البطل المفرد ، في جلّ القصص تقريبا .. ففي قصّة ( دخان .. وقهوة بحليب ) البطل شخص واحد ، وكذلك في قصص ( لم لا تهدأ .. ! / تصفية حساب قديم / حكاية 1 / حكاية 2 / حكاية 5 / عادة سريّة .. ).
القفلة:
كثير من قصص المجموعة تميّزت بقفلتها الجيّدة التي تدهش القارئ لمفارقتها العجيبة ، أو بسبب غرابة النّهاية أو أنّها تفرض على القارئ أن يقف عندها مليّا ليستكنه دلالتها القويّة ، ومن تلك القفلات القويّة نذكر تمثيلا: قصّة ( تصفيّة حساب قديم)، وهي قصّة قصيرة جدّا يصف فيها شخصا يقوم بالانتقام من شخص آخر فيقول عنه:
" ببرودة كبرودة صقيع
جزّ رأسه،
قطع الأطراف
بإتقان يشبه التّلذذ حدّ الانتشاء.."
أمام هذا الوصف يصاب القارئ بالفزع والرّعب ، هل قلب البطل قاسٍ إلى هذا الحدّ، كيف طاوعته نفسه أن يفعل ذلك ؟
ثمّ تأتي القفلة المدهشة لتزيح السّتار ، وتحوّل الفزع إلى ابتسامة ارتياح وربّما سخريّة من البطل نفسه:
" جمع قطع الصورة
رمى بها في سلّة المهملات ".
لقد اكتشف القارئ أنّ كلّ ذلك الجزّ وتقطيع الأطراف إنّما كان لصورة ، إنّه نفث للغيظ في صورة ..مجرّد صورة .. !!
وفي قصّة ( دخان ) نلحظ انتشار الدّخان في كلّ مكان ؛ بخار الشاي صار دخانا ، وهناك دخان المشاوي ، وكذلك دخان السيّرات الخارج من العوادم ، ودخان السّجائر ، ومن أخبار التلفاز تُشهَد حوادث كلّ ما فيها نيران ودخان ، وفي الختام يصف المؤلّف بطله قائلا:
" ترك الطاولة
والفنجان
وسيجارة نصف مشتعلة على حافة المنفضة "
قفلة قويّة جدا ، الدخان ما زال منبعثا من السيجارة نصف المشتعلة ..مغزى مفتوح على قراءات متعددة .. !  والسّر بنظري يكمن في قوله ( نصف مشتعلة ) ، فتنة بين النوم واليقظة .. !
وفي قصّة ( حكاية 5 ) يتحدّث فيها عن رسّام بارع جدّا تكاد تنطق رسومه ، وكانت القفلة بدهشتها: المحيّرة تحوّلت الوجوه التي يرسمها إلى رسوم ، في حين تتحوّل الرسوم إلى وجوه حقيقيّة.
شعريّة الشكل:
ليس في المجموعة القصصيّة ( شعريّة ) كبيرة بالمفهوم النقدي المعاصر الذي احتلّ مساحات كبيرة في الروايات الجديدة ، وغزا كذلك كثيرا من نتاجات القصص القصيرة ، وحتّى أعمدة المقالات في الصّحف والمجلات الكبرى ، ولكنّ الكاتب عمد إلى استعارة الهيكل ( الشكلي ) لقصيدة التفعيلة ، ووزع من خلاله متونه الإبداعيّة ..
فنجد عددا كبيرا من هذه القصص استندت على الهيكل المعماري للقصيدة الحرّة ، وانسابت معه عارضة أحداثها .. ومن أمثلة ذلك :
قصّة ( حكاية شارب ) التي ينقش أحداثَها على صفحة الورق وشما شعريّ الشكل :
" صوت المغنّي يتلاشى نداءه للحبيب وسط الضّجيج ..
هل يسمعه ؟
هل يردد معه النّداء ؟
هل يحفظه ؟
هادئ ...
هدوءه فادح ..
كأنّه داخل قبو ..
أو في عمق مغارة .."
ومثال ثانٍ في قصّة ( سهرة خاصّة ) يقول في خاتمتها ص 44:
ها هو ذا ينزل رأسه...
يلتفّ حول نفسه...
يتمدد...
يبتعد...
يزحف نحو الدّولاب...
ها هو يختبئ خلفه...
ماذا فاعل أنت الآن ... "
هذا التوزيع الفنّي ( الشكلي ) للنصّ السّردي صار معتمدا عند بعض كتاب القصّة، وله أغراض دلاليّة وفنيّة معيّنة ؛ الاستعانة بتوزيع الجمل والفقرات لتبليغ أفكار الكاتب إلى القارئ بشكل أكثر تأثيرا ( بنظرهم ) .. فتَوَزُّع النّص على شكل مقاطع يساعد القارئ على التقاط أنفاسه ، ويعينه على تملّي الأفكار بعمق وهضمها بتأنٍ ، كما يعطي له نسقا جماليّا أكثر جاذبيّة ، وقد يساعد على التفريق بين درجات الأفكار في شدّة توترها أو هدوئها ، أو تغيّر الفكرة من جهة إلى أخرى ومن حالة إلى غيرها.. 
الصّور الفنيّة :
القصّة الجيّدة هي التي تتوشّح بلوحات من الصور الفنيّة التي تخلب عين القارئ وتسلب لبّه ، ويقف عندها منبهرا وهو يقول: يا الله .. !
وفي المجموعة جملة من الصور الفنيّة التي تعطي للسّرد الفني نوعا من الرؤى ثلاثيّة الأبعاد كما يقال في المجال السينمائي ، ولنأخذ على ذلك أمثلة من عدّة قصص من المجموعة ، نقترب بها من أبعاد النّص التصويريّة ، تعزّز ما قلناه في خاصيّة رسم الشخوص وتوضيح ملامحها :
يقول القاص في صفحة 29:
" الدّخان يخرج في دفعات من أنف ..
من أنف وفم أدرد ..
اليد ترسم شبه قوس وهمي بين الفم والمرمدة .."
ها هنا صورتان جذّابتان ( صورة الدّخان المنفوث وهو يخرج من الأنف والفم الأدرد معا ) وهي صورة نمطيّة إلى حدّ ما ، لكنّها تظلّ دائما تبعث تأثيرها الفنّي البالغ وكأنّها تأبى الموت أو التلاشي ، لأنّها في الغالب تدلّ على تفكير عميق ، أو تأمّل طويل ، أو حالة من السّكون يكاد يقوّض صاحبه ..
ثمّ صورة ثانية بعد في المشهد نفسه ؛ اليد التي ترسم قوسا وهميّا – وهي تنقّل السيجارة – بين الفم والمرمدة.. كأنّها حركة سينمائيّة تعاد بالتصوير البطيء.. !
وتنضاف إليهما صورة ثالثة تقفو حركة الدخان المنفوث وهو يتبدد في الجوّ :
" دخان ..
يضبب لحظة المكان ثمّ يصّاعد متلولبا
ليتلاشى سريعا ... " قصّة ( دخان وقهوة بحليب ) ص 29
وفي مشهد آخر يصف لنا عمليّة خلط الشاي ليستوي طيبا، في أكوابه جيّد النكهة:
" ..يتابع حركة الذراع التي كانت تقبض البراد من عروته وترتفع به مسافة مدروسة فوق الأكواب في خطّ عموديّ مستقيم وتميل به نحوها فينزل السّائل الأصفر محدثا شرشرة في داخلها .." قصّة دخان ص 17.
تصوير لا يكاد يترك شيئا في عمليّة خلط الشاي المعروفة عن أهل الصّحراء ، والتي تعطي له نكهته ورغوته .. !
شيء من الغرائبيّة :
في المجموعة بعض من القصص تحمل طابع الغرائبيّة التي اشتهر بها غابريال غارسيا[2] ماركيز ، وهي من الأساليب التي تبهر القارئ وتسحره وتربكه وتجعله يفكر في مدلولاتها طويلا ، أهي حقيقة وواقع ؟ أم خيال مجنّح وخرافة مستحيلة التحقق.. !!
وننمذج لذلك الأسلوب بقصّتين ، الأولى هي التي عنونها الكاتب بـ ( حكاية شارب) التي سقطت سهوا من عنونة الفهرس، ولا يدري فيها البطل هل من كان يفكّر فيه شخصٌ ثانٍ لفَتَ انتباهه بسلوكه الغريب ، أم هو يرى نفسَه في مرآة ذاته فتتجلّى كأنّها شخص يمشي على قدمين..؟ !
وفي قصّة ( حكاية 7 ) يروي قصّة فيلسوف رأى في المنام أنّه نائم ، فرأى حلما ثمّ حكى له شخص في ذلك الحلم أنّه كان فراشةً من قبل ( تناسخ أرواح ) ، وبعدها اختلط عليه الأمر إن كان ما يزال شخصا يمشي على الأرض أم هو فراشة تطير في الجوّ.. !
شيء بينه وبين الجنون خيط رفيع ، وفلسفة لا يقوى على تتبّع مساراتها اللّولبيّة إلا من كان له ( جذبة ) صوفيّة تأتيه في العام مرّة .. !
توظيف التراث:
قاص بمثل قامة عبد الحميد الغرباوي يدرك بلا شك ما للتراث من تأثير السّحر في المتلقي – لاسيما العربي منه – ولذلك هو لا يفوّت الفرصة ، ويقتبس من التراث ما ينوّع به قصصه ، ويغاير في الأطباق التي يقدّم بها أفكاره ، ثمّ هو لا يتوقّف عند التراث العربي الإسلامي وحسب، بل يتعدّاه إلى التراث العالمي ، التراث الصّيني مثلا، في قصّة ( حكاية 6 )، وقصّة (( حكاية 7 ).
قطوف فنيّة:
وفي مجموعة ( دخان وقهوة بحليب ) لمسات فنيّة تعتبر قِيمة مضافة ، رشّها الكاتب هنا وهناك تنميقا لمجموعته وتنويعا لمساراتها السّرديّة.. نذكر منها:
-       البعد الفلسفي لبعض القصص مثل قصّة ( حكاية 4 ) والتي تروي قصّة سقوط قطعة من رخام ضخمة في ساحة قرية ، فاشتغل النّاس بوصفها والانبهار بلمعانها ، حتى قالوا أنّها سقطت من السّماء ، بينما كان الفنّان ( النّحات ) يفكر كيف يجد مدخلا ليستخرج حبيبته ( تحفته الفنيّة ) من أسرها .. !
-       ونجد أيضا موهبة الفنّ التشكيلي التي يهتمّ بها الكاتب كثيرا ، ويمارسها في الواقع برسم لوحات فنيّة ( تشكيليّة ) ، يقدّم لنا قصّتين تبرزان هذه الموهبة وهي ( حكاية 5 ) ، قصّة الرّسام الذي يبعث الحياة في لوحاته..وقصّة ( حكاية 2 ) التي تجسّد الفنّ التجريدي بأبعاده العميقة وهي تقترب من تجسيد الأسطورة في لوحة فنيّة ، إذ يدخل عصفور بين مخالب شجرة نادرة لها أشواك حادّة ، فيموت لتتفتّح الأزهار والورود ، وتنضج الثمار في كلّ بقاع الأرض ، وقد مرّت بي صورة فنيّة في ( الشابكة )  تمثل هذا المشهد أو مشهدا قريبا منه .. !!
-       وهناك دلالة الإيحاء القوي في القصص القصيرة جدّا ، ومنها قصّتان يمكن اعتبارهما من قصّة ( الومضة ) وهما قصتا ( تقليم ) و( عشق ) إذ لا تتعدّى الواحدة منهما السّطرين الصغيرين ..
-       وهناك القصّة التي تمثل مشهدا صوفيّا بامتياز وهي قصّة ( حكيم ) ، الذي التقاه بطل القصّة مصادفة فأراد أن يسمع منه حكمة ، لكنّه يتفاجأ بقوله له:
" ما عاد الكلم ، صديقي ، يجدي.."
وأردف قائلا وبيمينه حجر:
" في يدي الآن حجر البهت .. البهت .."
وبيسراه أشار إلى البناء الشاهق:
" سأدخل كي تقضى حاجاتي .."
لماذا يحمل حجر البهت ..؟ وما علاقة ذلك الحجر بقضاء الحاجات ، وما المقصود بالبناء الشاهق ؟  كلّ ذلك نوع من الترميز الصّوفي الذي يحتاج إلى تفكيك شفراته ، واستكناه خباياه .. !!
تذييل :
   هي مجموعة قصصيّة تعالج أبعادا نفسيّة وسلوكيّة غريبة إلى حدّ ما ، قد لا تستفزّ إلا نوعيّة خاصّة من القرّاء ، لكنّها تحمل بين جنباتها قِيَما فنيّة جميلة ، وتنويعا سرديّا لا تخطئه عين القارئ المدقق ، وهي تدلّ على تمرّس صاحبها ، وإيغاله في عمق التجربة القصصيّة ، إلى درجة أنّه كتبها في كلّ أشكالها المعروفة ، وقدّمها أطباقا فنيّة لذيذة لا تَتَأتى إلا لمن يعرف من أين تؤكل كتف الإبداع.. !


 





[1]  - عبد الحميد الغرباوي من مواليد 1952 م بالدّار البيضاء ، قاص وصّحفي ومن رجال التربية والتعليم في المغرب ، عمل صحفيّا لمدّة من الزمن في جريدة البيان وفي صحف أخرى، عضو اتحاد كتّاب المملكة المغربيّة، له إصدارات قصصيّة كثيرة منها :
-  عن تلك اللّيلة أحكي – برج المرايا – عطر .. معطف ودم ..
- يهتم بالترجمة والفنّ التشكيلي
- له مساهمات بارزة في الكتابة للطفل 
[2]  - غابريال غارسيا ماركيز عرف بالواقعيّة السّحريّة وبالعجائبيّة أيضا التي لقيت رواجا كبيرا لدى كتّاب أمريكا اللاتينيّة، وتأثّر بها كثير من الكتّاب في العالم لاسيما العالم العربي.

ليست هناك تعليقات: