2018/12/18

الموصل تحترق قصص قصيرة جداً بقلم:طلال حسن


الموصل تحترق
قصص قصيرة جداً
طلال حسن
إلى من احترق في حريق الموصل الشهيدة
الشمعة
    كالشمعة أضاء ، وأطفىء كالشمعة .
الظلام
    من الظلام نأتي ، وإلى الظلام نعود .
الباب
    دُفع الباب ، في ظلام الليل ، وانتظرتُ ، لكن أحداً لم يأتِ .
دموع الشمعة
    بكتْ الشمعة ، وراحتْ تذرف الدموع الساخنة ، حتى انتهت .
الفرح
    خذ نصيبك من فرح اليوم ، فقد يأتي الغد ، وينسى أن يأتي معه بالفرح .
مريم
   يا أم المسيح ، يا أم المحبة ، موصل المحبة تشتعل ، فصلي من أجلها .
حواء
   سألت الطفلة أمها : ماما ، لماذا أكلتْ حواء التفاحة ؟
فردت الأم قائلة : لأنها حواء ، يا بنيتي .
منارة الحدباء
   ازداد انحناء منارة الحدباء في الموصل خجلاً ، وهي ترى الكتب تمزق ، وتقدم طعاماً للنيران .
إبليس
   قال الطفل لأمه : لو كنت إبليس لسجدتُ لآدم .
فقالتْ له أمه : لست إبليس ، يا بني .
الجني
   منذ أن وعيتُ ، وأمي تحذرني من الجنيّ ، ورحلتْ أمي ، وكبرتُ ، وشختُ ، والجنيّ في داخلي ، لا يريد أن يرحل عني .
الأفق البعيد
    نظرت إلى الأفق البعيد ، وسرعان ما فتحت جناحيّ ، وانطلقت نحوه كالسهم ، فالأفق ـ مهما كان بعيداً ـ لم يوجد إلا لنحاول الوصول إليه .
تراث
   نحن نقدس التراث ، ونحرص عليه ، حتى إننا لم نخدش واجهة الموصل ، المطلة على نهر دجلة ، بمبنى حديث واحد ، منذ أكثر من قرن من الزمان .
قنبلة
   علمتْ قنبلة ، بأنها ستُرمى فوق قرية ، فيها نساء وأطفال وشيوخ ، فانفجرتْ غضباً ، وحطمت الطائرة التي تحملها بمن فيها .
شجيرة
   سارتْ دبابة بجنازيرها القاتلة ، فوق شجيرة ورد مزهرة ، فسحقتْ أزهارها ، لكن شذا تلك الأزهار ، ظلّ يملأ الفضاء .
إجازة
   أراد الجنديّ الشاب ، أن يأخذ في إجازته ، هدية من صديقه إلى أمه في القرية ، لكنه بدل الهدية ، أخذ لها ملابسه الملطخة بالدماء .
هرّ
   ربض هرّ ، وقد أبرز مخالبه ، وكشر عن أنيابه ، أمام بلبل ، وقال له : غردْ وإلا قتلتك .
لو كنتَ بلبلاً ، ماذا تفعل ؟
الشمعة القتيلة
   أضاءتْ شمعة ، في مواجهة طفلة ، أصيبتْ بشظايا قاتلة ، ولما أغمضت الطفلة عينيها المنطفئتين ، انطفأت الشمعة ، وتجمدتْ دموعها الساخنة ، التي سالتْ على جسدها النحيل .
زهرة بابنج
    تمنتْ زهرة بابنج ، لو أنها لم تنبتْ هذا العام ، في جحيم الموصل ، فقد داستها بساطيل الحرب المجنونة ، وسحقتْ جمالها وشذاها الفواح .
جمبد
    وردة جمبد موصلية ، أهدتْ عطرها الفواح ، لجندي من الناصرية ، حمى فاختة وفرخيها في العش ، من غراب ليلي اللون ، أراد الاعتداء عليهما .
أم
    أم من العمارة ، أرسلتْ رسالة إلى ابنها المقاتل ، قالتْ له فيها : ولدي ، أنا أمك في الموصل ، فاحمني من النيران السوداء .
البرد
    بردُ الموصل شديد يرحم ، هذه الأيام ، وغدا عيد الميلاد ، فتعال أيها السلام ، إن الأطفال في الموصل بحاجة إلى دفئك .
العاصفة
    هبت العاصفة ليلاً ، وطرقتْ بابه ونافذته بعنف ، لكنه لم ينتبه إليها ، فقد كان مستغرقاً في الحديث إلى زوجته ، التي رحلت منذ سنين ، وهي تضع طفلهما الأول ، عن ولدهما الذي ذهب إلى الحرب ، ولم يعد .
الوعل
    خرج الوعل العجوز من ملاذه في سفح الجبل ، قبيل الفجر ، يبحث في العاصفة عن وعل رآه في منامه ، يمرّ من أمام ملاذه ، من يدري ، لعله صغيره ، الذي قيل له أن الذئاب قد فتكت به ، وافترسته .
وذوا بالصمت
    جلس بينهم صامتا ، وهم يتحدثون عن الأعداد الهائلة لقتلى العدو في المعركة الأخيرة  .
والتفت إليه أحدهم ، وقال : لم تتكلم أنت ، قل شيئا .
فقال : لم تتحدثوا عن عدد قتلانا .
فلاذ الجميع بالصمت .
لماذا انقرضت الديناصورات ؟
   سُئل حكيم : لماذا انقرضت الديناصورات ؟
فأجاب الحكيم : انقرضت لأن بعضها كان يأكل البعض الآخر .
وصمت لحظة ، ثم قال : وسينقرض الإنسان لنفس السبب .
بندقية
    نظر الطفل إلى بندقية ، في محل وسط المدينة ، وقال لأمه : ماما ، اشتري لي هذه البندقية .
وبصورة لا إرادية نهرته قائلة : كلا .
ونظرت الأم إلى طفلها ، ورأته حزينا ، محبطا ، فأخذته بين ذراعيها ، وقالت : أبوك ، في الحرب ، قتلته بندقية قناص ، يا بنيّ .
اينانا
    زارت إينانا في العقود الأخيرة ، معابدها في مدن وادي الرافدين ، ووقفت على خرائب إحدى المدن ، وقالت : يبدو أن أختي ايرشكاكال ، إلهة العالم الأسفل ، إلهة الموت ، تمد نفوذها على مملكتي شيئا فشيئا .
اللعبة
    سقطت قنبلة فوق بيت ، فأصابت شظية منها طفلة ، كانت تلعب مع طفل في إحدى غرف البيت ، وسقطت الطفلة جثة هامدة .
فهزها الطفل بيده الطفلة ، وهو يقول : انهضي ، نحن لم نكمل لعبتنا بعد .
برتقالة
    اشتهى طفل برتقالة ، فخرج أبوه إلى الحديقة ، ليأتيه بواحدة من شجرة البرتقال ، ورآه قنّاص ، فصوب بندقيته إليه ، وضغط على الزناد .
منذ ذلك اليوم ، والطفل الذي صار أبا ، يكره البرتقال ، ويقربه أبداً .
المقعد الخالي
    في بيتي ، منضدة طعام صغيرة ، حولها ستة مقاعد ، المقعد الأول لي ، والمقعد الثاني لزوجتي ، ومقعدان لولديّ ، ومقعدان لبنتيّ ، لكن أحد مقعدي ابنيّ بات خالياً ، فحين  اجتاح ذوو الأعلام السوداء مدينتي ، أخذوا ابني ، ولم يعيدوه لي حتى الآن ، ترى متى أرى هذه المقاعد الستة كاملة مرة أخرى ؟ 
النهار               
     ككل صباح ، استيقظتْ زهرة النيلوفر ، وصعدتْ من أعماق المياه العذبة ، التي تنبتُ فيها ، وتفتحت أوراقها ، وهمّ الطائر الصغير ، الذي قضى ليلته عندها أن يطير ، لكن الزهرة ضمتْ أوراقها عليه ، إذ رأت السماء ملبدة بغيوم الحرب السوداء ، وقالت وهي تغوص ثانية في المياه العذبة : أيها الطائر ، ابقَ الآن بين أوراقي ، إن النهار لم يأتِ بعد .
اللعبة
    سقطت قنبلة فوق بيت ، فأصابت شظية منها طفلة ، كانت تلعب مع طفل في إحدى غرف البيت ، وسقطت الطفلة جثة هامدة .
فهزها الطفل بيده الصغيرة ، وهو يقول : انهضي ، نحن لم نكمل لعبتنا بعد .
الذئب
    قال الطفل لأبيه ، بعد أن حكى له قصة نوح الطوفان : لماذا حمل نوح الذئب في فلكه ، يا بابا ؟
وفكر الأب مليا ، ثم قال : ربما لم يكن الذئب ذئبا ، في ذلك الوقت ، يا بني .
جسور
    خمسة جسور في الموصل ، تربط الضفة الشرقية بالضفة الغربية .
خمسة جسور حطمتها الحرب في الموصل ، تفصل ضفتها الشرقية عن ضفتها الغربية ، ترى متى تلتقي الضفتان ؟ من يدري ، أسالوا الحرب .
الراء
   ثار حرف الراء منفعلاً ، في معمعة الرصاص والإنفجارات ، على كلمة " حرب " ، فانتفض عليها ، ونزع نفسه من بين حرفي " الحاء والراء " ، وهدأ حين صارت الكلمة " حب " .
نخلة                          
    جندي من البصرة ، رأى نخلة مقطوعة الرأس في أحد شوارع مدينة الموصل ، فعانقها دامع العينين ، وقال : أيتها الشهيدة ، لك أخوات شهيدات في مدينتي .. البصرة .
الجسر الحديد
    الجسر القديم ، أو الجسر الحديد ، في الموصل ، بعمري تقريباً ، اليوم أعلن الحداد على نفسي ، فالجسر الذي في عمري ، قصفته نيران الحرب من الجهتين ،  وعطلت فيه الحياة .
ما العمل ؟
   في حيرة ، وندم ، شديدين ، نظر إلى يديه المرتعشتين الملطختين بالدماء ، وقال : أردتُ أن أكون زارع ورد ، في حديقة واسعة مفتوحة ، وإذا بي أغدو جزاراً في معركة واسعة مفتوحة ، لا يبدو أن لها نهاية ، يا ويلي ، ما العمل ؟
الموعد
    عند منتصف الليل ، والعاصفة الثلجية على أشدها ، خرجت من فراشها الدافىء إلى موعدها ، تحت الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع ، تنتظره لتودعه ، فغداً صباحاً سيذهب إلى الحرب ، التي لا يعود أحد منها .
في اليوم التالي ، وقد أشرقت الشمس حزينة باردة ، رأوها تقف تمثالاً من الجليد ، تحت الشجرة الضخمة ، المطلة على النبع .
الإطلاقة
    خفق قلبه برقة وحنان ، وهو يربض على الساتر الترابي ، وبندقيته بين يديه ، إذ تراءت له نوره ، وغردت عيناه ، سأصطادكِ يا نوره ، في الإجازة القريبة القادمة ، وأحوّل خاتمك الذهب ، الذي يحمل اسمك الذهب ، من يميني إلى يساري ، و ..
وكفت عيناه عن التغريد ، إذ جاءته رصاصة قناص ، أصابته في قلبه .
الكهف
    خرج من الكهف ، بعد أن لاذ به هرباً من الإنسان ، الذي يقتل أخاه الإنسان ، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة ، وإذا الإنسان مازال يقتل أخاه الإنسان لسبب أو لآخر ، فعاد إلى الكهف ثانية ، الذي قد يخرج منه بعد خمسة آلاف سنة أو أكثر ، لعله يجد أن السلام قد عمّ بين الإنسان وأخيه الإنسان .
السمكة الملائكية
    في جولتها اليوم ، رأت سمكة القوبي الصغيرة السمكة الملائكية ، فتوقفت تتأملها ، كأنها فراشة تشع بألوان قوس قزح ، وما أدهشها منها ، أنها حين رفعت نظرها إليها ، ورأتها لم تفرّ منها ، كما تفعل الأسماك الأخرى .
وحكتْ لأمها ما جرى ، فقالت الأم : إن السمكة الملائكية ، لا تأكل غير الأعشاب .
وبدا للأم أن صغيرتها لم تفهم بالضبط ما تعنيه ، فقالت : الأسماك الأخرى ، التي تقتات على الأسماك الصغيرة تتجنبنا ، لأننا أسماك سامة .
العاصفة الثلجية
    استيقظتْ عند منتصف الليل ، على العاصفة الثلجية ، تعوي في الخارج كقطيع من الئاب الجائعة ، وتنثر الثلج والبرد في كلّ مكان .
 وتراءتْ لها أمها ، في ليلة كهذه ، وهي تئن من المرض ، فقالتْ لها : ماما ، سأشعل الموقد ، لعلك تدفئين .
فقالت لها أمها بكلمات كالأنين : لا يا بنيتي ، تعالي إلى جانبي ، ودفئيني .
ونهضت من فراشها ، ومضتْ عبر الليل والبرد إلى أسفل التل ، حيث ترقد أمها ، وتمددتْ فوق القبر ، لعلها تدفىء أمها ، كما كانتْ تفعل دائماً ، عندما تهب العاصفة الثلجية .
الشجرة الملعونة
   توقف الشيخ أمام الشجرة ، متوكئاً على عكازه ، وقد وقف وراءه تماماً رجل ذو لحية كثة ، وملابس سوداء كالليل .
وتساءل الشيخ : أهذه هي الشجرة ؟
فمال عليه الرجل ذو اللحية الكثة ، وقال هامساً : نعم ، إنها هي ، يا شيخ .
فصاح الشيخ : اقلعوا هذه الشجرة .
وتقدم شاب من بين الواقفين هناك ، واحتج بكلمات مترددة : لكن هذه الشجرة شجرة مثمرة .
فصاح الشيخ ، دون أن يلتفت إليه : لقد زرعها غريب ، وما يزرعه غريب في أرضنا ملعون ، ويجب القضاء عليه .
الدراجة الهوائية
    فُخخِتُ رغماً عني ، ورُكنتُ إلى جانب الرصيف ، في شارع فرعيّ ، يا للعار ، أنا دراجة هوائية ، ولم أصنع لمهمة قاتلة كهذه .
وأقبل من بعيد ، يحمل بيده كتاباً ، إنني أعرفه ، هذا الرجل الأشيب ، إنه أديب أطفال ، يحب الأطفال ويحبونه ، ولم يؤذِ في حياته نملة .
وجنّ جنوني ، لا ، لن أنفجر ، وانفجرت رغماً عني ، وتطايرت عاصفة من الرمال والشظايا ، يا ويلي ، كاتب الأطفال ، هدأتْ العاصفة ، وتساقطتُ ذرات رمل وشظايا ، ها هو كاتب الأطفال ، يقف في مكانه ، وتنهدتُ مرتاحة ، فالأطفال ، الذين أسعدتهم قصصه ، سيستمرون في قراءة قصصه الجديدة الجميلة .
الوهم
    دخل على زوجته المطبخ ، قلقاً ، مربدّ الوجه ، فرمقته بنظرة خاطفة ، وقالتْ : خيراً .
فقال وهو يمسك بالموبايل : هددني أحدهم في الموبايل .
ورمقته ثانية ، فقال : الآن .
وانصرفتْ إلى عملها ، وهي تقول : لكني لم أسمع موبايلك يدق .
فقال بشيء من الانفعال : دقّ ، وفتحته على الفور ، وسمعته يهددني .
ومدت الزوجة يدها ، وأخذت الموبايل منه ، وحدقت فيه ، ثم قالتْ : لم يحدثك أحد .
وأخذ منها الموباي مندهشاً ، وحدق فيه ، وقال بصوت متردد : حدثني بصوت لم أسمعه من قبل .
وصمتَ لحظة ، ثم تمتم كأنما يحدث نفسه : إياكَ أن تخرج اليوم من البيت .
وعادت زوجته إلى عملها ، وقالت : دعك من هذا ، إنها أوهام .
وقبيل منتصف النهار ، خرج الرجل من البيت ، دون أن تحاول زوجته منعه من الخروج ، لكنه لم يعد أبداً إلى البيت .
كتب من طين
    أفاق الملك الآشوري آشور بانبال ، حين علم أن الكتب  في الموصل تحرق ، فقالوا له : اطمئن ، إن  كتبك الطينية ليستْ محفوظة في متاحف الموصل ، الذي دمرته النيران .
فعاد الملك الآشوري من حيث أتى ، مطمئناً ، فمكتبته التي جمع ألواحها من جميع مدن العراق القديمة ، لم تدمرها نيران التخلف .
جامعة الموصل
    نُسفتْ جامعة الموصل ، بجميع مبانيها ، وقاعاتها ، وكتبها ، لكن من نسفها نسي ، أن الجامعة هي آلاف الطلاب  والطالبات ، الذين تخرجوا منها ، عبر عقود عديدة من السنين ، ترى كيف يمكن الوصول إليهم ، ونسفهم الواحد بعد الآخر ؟
طفل
    وقف طفل ، في حدود الرابعة من عمره ، وسط حديقة منزله ، ورأى صاروخا متجها إليه ، فرفع يده ، وقال له : توقف .
وتوقف الصاروخ ، فأشار له الطفل أن يستدير ، ويبتعد ، فاستدار الصاروخ ، ومضى مبتعدا .
قالت له أمه : لكن الصاروخ القاتل قد يسقط على بيت واحد من الجيران .
فقال الطفل :  ، لقد أشرت له أن يسقط في الصحراء ، خارج الموصل .
النيران
    جلس مجموعة من الرجال ، في حفرة طافحة بالأوحال ، أثناء إحدى المعارك المستعرة ، فقال أحدهم : الحرب غابة تأكلها نار سوداء  .
فرد عليه رجل : عليك ، ستنطفئء هذه النار ، إن عاجلاً أو آجلاً  .
ونظر إليه الآخرون صامتين ، فقال : قد تمطر فتنطفئ النار ، وإذا لم تمطر ، فستنطفئ النار أيضا ، إذ بد أن تنتهي الغابة ، مهما كانت كبيرة .

تموز
    ركع الكاهن أمام إينانا ، وقال : موتي ، لقد قتل تموز .
فقالت إينانا : هذه قصة قديمة ، أعرف ، لقد قتله خنزير بري .
فقال الكاهن : يا موتي ، هذه المرة لم يقتله خنزير بريّ ، وإنما قتله  كائن طائفي .
فأشاحت إينانا بوجهها ، وقالت : فليبق تموز في العالم الأسفل الآن .
كلهم أودي
    ذهب واحد من ذوي الرؤوس السود إلى معبد الإله مردوخ ، وركع أمامه ، وقال : موي ، الكهنة يمتصون دماءنا ، والملوك يحرضون بعضنا على البعض الآخر ، وكلهم يخدمون الغرباء .
فقال الإله مردوخ : اسمع يا ولدي ، كلهم أودي .

متحف التاريخ الطبيعي
    دخل طفل مع أمه ، إلى متحف التاريخ الطبيعي ، في يوم من أيام المستقبل ، ووقف أمام مجموعة من الكائنات الغريبة .
فتساءل الطفل : ماما ، من هؤء ؟
فقالت الأم مشيرة إليهم واحدا بعد الآخر : هذا كاهن الإله مردوخ ، وهذا كاهن الإله اوزوريس ، وهذا كاهن الإله هبل ، وهذا الديناصور ، وهذا الماموث ، وهذا النمر السياف ، وكلها كائنات انقرضت قبل ملايين السنين .
المطر الأسود
    عندما تمطر السماء ، يقول أهل الموصل : خير ونعيم .
ترى ماذا يقولون الآن ، والسماء تمطر رصاصا، وقنابل ، ونارا ، ومطرا أسود ؟
رجل من الموصل
    رجل تجاوز السبعين ، يجلس وحيدا بباب بيته ، والمعركة مستعرة في الأحياء القريبة ، اقترب منه جندي شاب ، وقال له : ادخل بيتك ، يا عمي ، حياتك هنا في خطر شديد .
ونظر الرجل السبعيني إليه ، وعيناه تكادان تنطفئان ، وقال : ماذا أفعل بحياتي ، يا بني ؟ لقد قتلوا أبنائي الثلاثة ، وأخذوا زوجتي وابنتي ، إنني وحيد الآن ، أهذه حياة تستحق أن أحرص عليها ؟
يد بيضاء
     يدي بيضاء ، ونظيفة ، وأردتها أن تبقى بيضاء ونظيفة ، لكنها مع اشتداد الحرب راحت  تتلوث بالدماء ، والآن لم تعد يدي بيضاء ونظيفة ، ماذا أفعل ؟ هل أقطعها ؟
رفض
    ألقيتُ على بيت وسط المدينة ، فاخترقتُ السقف ، واقتحمتُ إحدى الغرف ،  وتلفتُ في الظلام باحثة عن الأعداء ، فرأيتُ امرأة مسنة ، وفتاة شابة  ، تحضن طفلا وطفلة ، وتحميهما مني بجسدها ، أهؤء هم الأعداء ؟ فإنغرزتُ في الأرض ، ورفضتُ أن انفجر .
جندي
    رأى جندي امرأة عجوزا ، تسقط في الشارع ، فترك موقعه ، وقلبه يخفق عطفا عليها ،  وأسرع لنجدتها ، ورآه قناص ، يتربص وراء بندقيته القاتلة ، فأطلق عليه النار ، وأصابه في قلبه .
الحارس العجوز
    على عادته كل يوم ، استقبل الحارس العجوز ، طفل الجيران بأعوامه الأربعة ، فوضع بندقيته جانبا ، ومد يديه المحبتين  ، وضمه إلى صدره ، و ..
 وجمدت عيناه ، فقد برز فجأة مسلح يغطي وجهه بكوفية ، والطفل الصغير لصق قلبه العجوز ، فأنزل الطفل بهدوء  ، وقال للمسلح : أتوسل إليك ، يا ولدي ، دع الطفل يبتعد عني  أولا ..
وقبل أن يكمل الحارس العجوز كلامه ، أطلق المسلح رصاصة ، أصابت من الحارس قلبه العجوز .
الحرب الدائمة
    ابني عمر ، كنا نخبئه في مكان آمن من البيت ، عندما تأتي الطائرات الإيرانية ، في بداية الثمانينيات من القرن الماضي ، والآن ابني عمر يخبىء ابنه الصغير محمود ، في مكان آمن من البيت ، عندما تتساقط في جحيم حرب الموصل ، قنابل الهاون وصواريخ الطائرات وزخات الرصاص ، ترى أين سيخبىء محمود ابنه الصغير في المستقبل من الحرب الدائمة ؟
مدينة الألعاب
    مدينة الألعاب في مدينة الموصل ، تطل على نهر دجلة ، يسودها الآن صمت القبور وحزنها ، وبدل أن تسمع فيها زقزقة العصافير ، وكركرات الأطفال وأفراحهم ، يصم الأسماع أصوات الرصاص والقنابل والصواريخ والطائرات الحربية .
بابا نويل
    أعياد الميلاد تقترب ، تقترب جدا ، ومن جديد سيولد الطفل في المغارة ، وستهل أفراح العام الجديد ، وسيمر بابا نويل على أطفال العالم ، ويقدم لهم هداياه ، لكنه لن يمر بمدينة الموصل هذا العام ، ولن يقدم هداياه لأطفالها ، فهو يمر بالمدن التي  تشتعل فيها نار الحرب السوداء والدمار .
السيف والنغم
    وسط الرصاص و القنابل والصواريخ ، وغيوم المعارك السوداء ، وقف أبو تمام فوق منصته في كورنيش الموصل ، ينشد متحمسا : السيف أصدق أنباء من ..
 ومن منصته ، قرب محطة قطار الموصل ، قاطعه ملا عثمان  الموصلي قائلا : كلا ، يا أبا تمام ، النغم أصدق ، ففيه الخير ، والمحبة ، والجمال ، والسلام .
منارة الحدباء
    ازداد انحناء منارة الحدباء خجلا ، وهي ترى الكتب تمزق ، وتقدم طعاما للنيران ، في الموصل .
الحمامة
    جُنت النار مستعرة ، وهي تلتهم الكتب ، التي ألقيت إليها ، في محرقة الموصل ، وامتدت ألسنتها إلى كتاب للأطفال عنوانه " الحمامة " ، وما أن مسته ، حتى طارت الحمامة البيضاء من الغلاف ، وحلقت بعيدا ، وهي تقول : لقد قتلني الصهاينة في فلسطين ، أريد أن أقتل ثانية في الموصل .
من الاهوار
    جاءت امرأة مسنة من الاهوار ، فقد قالوا لها ، إن أبنها أصيب في الموصل .
وقالت للقائد : أريد ابني .
ونظر القائد إليها ، ثم وضع بين يديها ملابس ابنها ، وفيها رائحته ، وبقع من دمه ، فأخذتها ، وقفلت عائدة به إلى الأهوار .
دجلة يجري حزينا
    دجلة الخير ، حين كان يمر بالموصل وجسورها الخمسة ، كان يجري شابا فرحا متوثبا ،  والآن حين يمر بها ، يجري شيخا ، مهدما ، حزينا ، محبطا ، فجسورها الخمسة ، التي كان يعبرها الناس ليلا ونهارا ، قتلتها الحرب ، وحتى القوارب التي تعبر بالناس ، تشق الماء متوجسة ، قلقة ، خائفة ، إذ تتعرض  للنار بين حين وآخر  ، فتغوص قتيلة بمن فيها إلى الأعماق المظلمة .
لمن تقرع الأجراس ؟
 في الموصل تقرع الأجراس الآن .. 
   لطفل ، ولد في المغارة ، ترج طفولته وهو في المهد ، قنبلة هاون طائشة .
لطفلة نامت ، ودميتها تنام فوق صدرها ، تفز مرعوبة حين ترى في المنام ، رصاصة قناص تقتل دميتها الصغيرة .
لصبية تنام ، رغم انتصاف الليل ، فحلمها الأول ندى ، يرفرف فوق نيران الحرب في الموصل .
لزوجة شابة ، تنام على دموع خوفها ،  فزوجها الشاب ، جندي يقاتل في الجبهة الشرقية من الموصل .
لامرأة في شتاء عمرها ، أخذت حرب إيران زوجها ، وسرقت حرب الكويت ابنها ، وها هو حفيدها يقاتل في أحد شوارع الموصل .
لأم صبية تحمل طفلها الأول ، جنينا في رحمها ، وتركض هاربة تحت نيران الحرب ، بحثا عن نخلة تضع طفلها في ظلها الآمن ، فلا تجد ، في حرب الموصل ، غير أعجاز نخل خاوية .
فارس
   فززتُ من النوم ، على ابنتي صفاء ، تنهنه باكية ملتاعة ، فاعتدلتُ مقترباً منها ، وتساءلت : صفا ، ما الأمر ؟
فأجابتني من بين دموعها ، وهي تتلفت منهنهة باكية : فارس ، يا بابا .
وهززتُ رأسي صامتاً ، فقالت صفاء ، وهي مازالت تنهنه باكية : صاح ماما ، وهو في حضني ، فظهرت ماما في البعد ، وأشارت له أن تعال ، فهبّ من حضني ، وطار إليها ، فمدت يدها ، واحتضنت يده ، وغابا في الظلام .
لذتُ بالصمت لحظة ، فزوجتي ، أم فارس ، تحت الأنقاض منذ أكثر من ثلاثة أيام ، بعد أن سقطت قنبلة على بيتنا العتيق ، وهدمته تماماً ، وربتّ على رأس صفاء ، وأنا أقول لها : فارس عند عمته منذ ثلاثة أيام ، فمنطقتهم أكثر أمناً من منطقتنا .  
حمام العليل
    صاح القطار قومي انزلي
    كوي اوصلنا حمام علي
وحمام علي هي حمام العليل ، التي كان يقف القطار عندها ، حين يأتي من الموصل ليلا ، متجها إلى بغداد
فينزل عشرات المصطافين ، أو المصابين بالأمراض الجلدية ، ليتطببوا بمياهها المعدنية ، أو يسهروا في الليالي المقمرة فوق " تل السبت " لكن حمام العليل اليوم ، عليلة ، فمن يعالجها ويشفيها ؟ و تل السبت نفسه ، لم يعد أحد يسهر فوقه ، حتى في الليالي المقمرة .
الكناري
    قتلتْ شظية عبوة ناسفة طائرَ كنري ، بكاه صاحبه الطفل بحرقة ، وحين هدأ قليلا ، سأل أباه : بابا ، هل يذهب كناريّ إلى الجنة ؟
ونظر أبوه في عينيه ، ورأى فيهما غيوما سوداء توشك أن تمطر حزناً ، فقال له : نعم ، يا بني ، كناريكَ سيذهب إلى الجنة ، وسنلتقي به هناك .
حيرة قنبلة
    انطلقتْ القنبلة في الهواء ، وتحيرتْ أين تسقط ، هل تسقط فوق مدرسة ؟ أم مستشفى للأطفال ؟ أم حديقة عامة ؟ أم دار للعجزة أم  .. ومازالتْ القنبلة في الهواء حائرة ، تدري أين تسقط .
طائرة حربية
    انطلقتْ الطائرة كالسهم ، عبر سماء الليل المرصعة بالنجوم ، يقودها طيار شاب ، جاء من بلد بعيد ، عينوا له الهدف ، مدرسة للأطفال ، حُولتْ إلى مصنع للأسلحة ، وفيها عدد من المسلحين ، وها هو الهدف ، وضغط على الزر ، وإذا الهدف بمن فيه وما فيه ، شظايا ملتهبة ، تتطاير في الفضاء ، واستدارت الطائرة ، وعادت عبر سماء الليل المرصعة بالنجوم ، من حيث أتت .
سامحوني
    سقطت قنبلة هاون ، فوق دار للأيتام ، فقتلت حارس الدار ، وثلاثة من المستخدمين ، وخمسة أطفال ، وقطة وصغارها الأربعة ، فشعرت القنبلة بالحزن والخجل ، وقالت للجميع : سامحوني ، ليس الأمر في يدي .
عد إلينا يا بابا
    قبل أن يصعد إلى طائرته ، فتح الطيار الشاب ، القادم من فرنسا ، تلفونه النقال ، وقرأ فيه رسالة من ابنته في باريس ، تقول له فيها : عد إلينا ، يا بابا ، إنني أنتظركَ .
وانطلق الطيار الشاب بطائرته  ، وعينا صغيرته الجميلتان تفارقانه ، وألقى صواريخه على الهدف ، دون أن يدري ، أنه قتل في من قتل طفلة في عمر ابنته ، كانت هي الأخرى تنتظر أباها ، الذي يقاتل في حرب الموصل .
أم جريح
    سمعت امرأة ، أن ابنها جريح في المستشفى فأخذت علبة حلوى يحبها ، وذهبت إليه ، لم تجده في المستشفى ، ورأت شابا جريحا في عمره ، فانحنت عليه ، وعيناها غارقتان بالدموع ، وقبلت رأسه الجريح ، وقدمت له علبة الحلوى .
حزن
    حزن جسر الموصل القديم ، الذي تجاوز عمره الثمانين عاماً ، عندما علم بأن إخوته الأربعة ، الأصغر منه سناً ، قد ضُربوا بقنابل الطائرات ، وسرعان ما جاءته الطائرات ، وألحقته بإخوته الأربعة ، وضربته من طرفيه .
اهجم
    صاح الضابط بأحد الجنود ، في معمعة المعركة : اهجمْ ، تكن جبانا .
وقبل أن يهجم ، التفت الجندي إليه ، وإذا عيناه تشبهان عيني ابنه ، وهجم الجندي ، وقتل في ذلك الهجوم .
وكلما نظر الضابط في عيني ابنه ، تراءت له عينا ذلك الجندي الشاب ، وأدرك أن تلكما العينين لن تغيبا عنه حتى النهاية  .
رصاصة
    طوال سني الحرب ، لم يكن يحذر الرصاص ، ويقول : أنا سيد ، وجدي رسول الله ، ولن تقتلني رصاصة مهما كانت .
وانتهت الحرب ، وضجّ الجنود بالفرح ، وراحوا يطلقون النار في الهواء ، وإذا رصاصة طائشة تصيب السيد ، وترديه قتيلا .
الخاتم
    انتظرت الفتاة الشابة ، أن يأتي خطيبها الجندي الشاب في إجازة ، ويقدم لها نيشان الخطوبة ، ويضع في يدها الخاتم ، الذي يحمل اسمه .
في المنام ، تلك الليلة ، رأته يغطي رأسها بإشار أسود ، وفي اليوم التالي ، علمت بأن رصاصة قناص أصابته في قلبه .
الحمام
    تعودَ الحمام ، في كل إجازة لصاحبه الجندي ، أن يرفرف فوقه ، ويتناول الطعام من يديه .  
لكن الوقت مرّ ، ولم تأت الأجازة ، فمن أين له أن يعرف أن صاحبه الجندي ، قد استشهد في مدينة الموصل .
عصفورة
هبت العصافير من أعشاشها خائفة ،عندما انفجرت في البستان قنبلة هاون ، عدا عصفورة واحدة ، ظلت في عشها ، لم تهرب منه ، وكيف تهرب وإحدى بيضاتها الثلاث قد فقست ليلة البارحة ؟
جامع النفايات
    طفل في العاشرة ، يطرق بابي كل يوم ، ويقول : نفايات .
والنفايات نعطيها عادة لهذا الطفل ، مع مبلغ صغير من المال ، بدل أن نعطيها لسيارة البلدية ، سألته مرة : ألست في المدرسة ؟
 فرد قائلا : تركت المدرسة ، فأبي مقعد ، وأنا أعيل إخوتي الصغار .
 ومع اشتعال الحرب اختفى الطفل ، وحين عاد الهدوء بعض الشيء ، لم يعد لجمع النفايات ، وعرفت فيما بعد ، انه مد يده مرة في برميل نفايات ، لعله يعثر على لقمة يسد بها جوعه ، فعثرت عليه عبوة ناسفة ، كانت مزروعة في البرميل .
بائع الكاز الصغير
  البرد قارس اليوم ، والمطر ينهمر بشدة ، وبائع الكاز الصغير ، الذي ربما تجاوز العاشرة بقليل ، ينقل الكاز من عربته في باب البيت ، إلى برميل كاز فارغ ، في آخر الحديقة .
ولأني خجلت أن أراقبه ، وهو ينقل الكاز ، في هذا البرد والمطر ، طلبت من زوجتي أن تراقبه ، فقالت لي :
والله  أستطيع ، إنني أخجل من مراقبته .
وجاءني بائع الكاز الصغير ، وماء المطر يقطر منه ، وقال لي : امتلأ البرميل ، وأغلقته .
فنقدته ثمن الكاز ، وشكرته ، وتمنيت له التوفيق ، و .. وحين هدأ المطر ، وفتحت برميل الكاز ، لم أتمالك نفسي من الضحك ، فالطفل ، بائع الكاز الصغير ، الذي خجلت أن أراقبه ، لم يضع في البرميل قطرة واحدة من الكاز .
استجداء باللغة الكردية
    في محل لصبغ الأحذية ، في منطقة الدواسة ، جلست أصبغ حذائي ، وتوقفت بباب المحل صبيتان كرديتان ، ومدتا يديهما ، وراحتا تستجديان باللغة الكردية ، التي افهمها ، وإذا صاحب المحل ، وهو كرديّ ، يصيح بهما ، ويطردهما بخشونة .
وابتعدت الصبيتان ، فقلت لصاحب المحل : لماذا طردتهما هكذا ؟ إنهما تستجديان .
فرد صاحب المحل قائلا : إنهما تشتمانك باللغة الكردية ، يا أستاذ .
مخيم
    التقى لاجئان ، من دولتين مختلفتين ، في مخيم للاجئين ، في إحدى الدول الأوربية ، ونشأت بينهما علاقة وطيدة .
سأل الأول الثاني : لماذا هاجرت من وطنك ؟
فقال الثاني : حكومة وطني شيوعية ، وأنا معاد للشيوعية .
وصمت لحظة ، ثم سأل الأول : وأنت ، لماذا هاجرت ؟
فأجاب الأول : لأن حكومة وطني معادية للشيوعية ، وأنا شيوعي .
مظاهرة   
    أربعون نبيا ، هم أنبياء الموصل ، جاؤوها عبر مئات القرون ، خرجوا اليوم من مراقدهم ، وساروا في مظاهرة ، وسط المدينة ، رغم المعارك التي تمطر عليهم نارا ، يهتفون ضد الحرب ، رافعين شعار .. السلم في الموصل .
الانفجار
    سيارة مفخخة ، انفجرت في سوق شعبي ، وسط العاصمة ، فتطايرت الحمامات فزعة ، ومعها تطايرت أشلاء الناس ، والدراجات ، والسيارات ، والمطاعم ، والمقاهي ، وبسطات الباعة الفقراء .
وعلى عجل جاءت الشرطة ، ووقف شرطي شاب مذهولا ، ووسط الأشلاء المتناثرة المدماة ، رأى امرأة ستينية تركض متعثرة ، وخيوط الدم تسيل من عباءتها ، فهتف بها : أيتها الخالة ، تمهلي ، أنت جريحة .
لم تتمهل المرأة الستينية ، وظلت تركض متعثرة ، فلحق الشرطي بها ، وأمسك كتفيها الضامرين ، وقال : تعالي معي ، الدماء تسيل منك ، سآخذك إلى المستشفى ..
وتوقف الشرطي مصعوقا ، وقد جحظت عيناه ، فقد سقط من تحت عباءة المرأة الستينية ، ذراع فتاة شابة تتلامع فيه أساور ذهبية ، ملوثة بالدماء .

       هذه قصة حقيقية ، رواها لي ضابط شرطة في بغداد .
العلم
    - مرحبا أستاذ .
توقفتُ ، والتفتُ إلى مصدر التحية ، ودمعتْ عيناي إذ رأيت شابا ، مازالت ملامح الطفولة على وجهه ، يقف أمامي مزهوا بملابسه العسكرية الجديدة ، انه تلميذي ، علمته سنوات ، والتحق بالجيش قبل أشهر .
أجبته : أهلا بني ، كيف حالك ؟
فرد قائلا : بخير ، أنا الآن أخدم العلم في الجبهة ..
ثم ضحك ضحكته الطفولية ، وقال : وراتبي أكثر من راتبك ، يا أستاذ .
وضحكتُ لتفاخره الطفولي البريء ، وشددتُ على يده ، وقلتُ : أتمنى لك التوفيق ، يا بني .
لكن عينيّ اللتين دمعتا لمرآه بالثياب العسكرية ، انبثق الدمع منهما حارا ، حين علمتُ بعد أشهر ، أنهم جاءوا به من الجبهة ، ملفوفا بالعلم .
حوار في الظلام
    لم أسمعها تتململ ، رغم الانفجارات القوية المتواصلة ، لكني أعرف أنها مستيقظة ، في عتمة سريرنا العتيق ، الذي تجاوز عمره الخمسين عاما ، والتمع برق في السماء ، فلمحتها متكومة تحت الفراش إلى جانبي ، تتمتم مرعوبة : يا ويلي ، يا ويلي ، ستقتلنا هذه القنبلة .
ربت على كتفها المرتعش ، وقلت : هذا رعد ، نامي .
وقالت شاكية : الانفجارات لم تتوقف الليلة .
وصمتت لحظة ، ثم قالت : لتسقط علينا قنبلة ، وتخلصنا من هذه الحياة .
وصمتت ثانية ، ثم قالت : حمدا لله ، لم يصر لنا ولد ..
 وتابعت كأنما تحدث نفسها : لو كان لي ولد ، أو بنت ، وأصيب أحدهما بانفجار ، سأجن ..
قاطعتها برفق : ليس لنا ولد ، نامي الآن ، نحن في منتصف الليل .
وتابعت قائلة بصوت منفعل ، تخنقه الدموع : سأفقد عقلي ، وأجن تماما ، إذا أصابت قنبلة ابني أو ابنتي ، و ..
وصمتت  ، ثم قالت مرعوبة : أنصت ..
وأنصت ، فقالت : قنبلة تقترب ..
فقلت: انه صاروخ طائرة ..
فقالت: إنها تقترب .. تقترب ..
فقلت : اطمئني ، سيسقط الصاروخ بعيدا ..
 وقبل أن أنهي كلامي ، حدث انفجار هائل ، ثم .. سادنا الظلام التام والصمت .
الحوت
    خرج النبي يونس من نينوى غاضبا ، بعد أن نُسف مرقده في الموصل ، واتجه نحو البحر مباشرة ، فهتف به محبوه : توقف ، يا يونس ، لا  تذهب إلى البحر ، سيبلعك الحوت .
لكن النبي يونس لم يتوقف ، ومضى قدما نحو البحر .
أنام
    منذ أيام .. وأيام .. وأيام ، وأنا  أنام ، فالحرب مستعرة في داخلي ، وفي الموصل ..
ومن الليل تناهى إليّ صوت طائري ، الكناري : أنت امرأة عجوز ، ووحيدة ، نامي الآن ، نامي ، لعلك ترتاحين ..
 أنا  أنام ، يا طائري ، لأني أخاف أن تصيب شظية صوتك فتقتله ..
وأنا  أنام ، خشية أن تسقط قنبلة ، على بيتي العجوز ، فتهدمه ، وتقبرني تحت ركامه ..
أنا  أنام ، فابني الوحيد أخذته زوجته مع صغيريه إلى أهلها ، في حي الكرامة ، فهناك كما تقول ، الحرب اخف ..
 أنا  أنام ، فابنتي وأطفالها الأربعة ، في حي الزهور ، وسط القنابل والصواريخ والرصاص ، والموت ..
أنا  أنام ، فأختي العجوز الأكبر مني ، في بيتنا القديم ، في حي الميدان ، قرب النهر ، تعيش وحيدة فيه ، وسينهار بنفخة قنبلة ، قلت لها: تعالي معي ، فبيتي كبير ، وأنا وحيدة ..
فقالت لي : لن أترك بيتنا القديم ، ففيه رائحة أمي وأبي .
وأنا أنام .. ربما لأني متعبة .. متعبة .. متعبة .. و.. ونمت .. أخيرا نمت .. وفي منامي سقطت على بيتي العجوز قنبلة ، أم أنه صاروخ ؟ فتهدم ، وقبرني تحت الركام .

اوتونابشتم
  اقبل اوتونابشتم وزوجته من أعالي الأنهار ، حيث يعيشان خالدين  ، ورأى مدن ما بين النهرين ، وإنسان ما بين النهرين ، ورأى ما جرى وما يجري وما سيجري ،  فتوقف حزينا ، محبطا ، ثم قال لزوجته : تعالي نعد من حيث أتينا ،  يُخيل إليّ أنني أخطأت ، ربما لم يكن لي أن أبني ذلك الفلك .
الحياة لليث
    على عادته ، استيقظ ليث بأعوامه الخمسة ، وشعره الذهب ، وعينيه الربيعيتين ، ونظر عبر النافذة ، وصاح فرحا : ماما ، الشمس مشرقة اليوم .
وأدركت الأم ما يعنيه ، فقالت :لكن البرد شديد ، و ..
وهب ليث من فراشه ، وقال :  رصاص و قنابل و صواريخ .
 وخرج ليث إلى الحديقة ، يلعب بكرته تحت أشعة الشمس الدافئة ، وأمه تقف على مقربة منه ، وقلبها يخفق خوفا ، فليث ابنها الوحيد ، وقد جاءها بعد سنين من الصبر والمعاناة ، ووقتها قالت لها الطبيبة : لن يكون لك طفل آخر .
 ومن بعيد جاء صاروخ ، وراح يقترب من الحديقة ، التي يلعب فيها ليث ، و ..
 ورفعت القلم .. لن أستمر بالكتابة ، ونظر القلم إليّ ، فقلت منفعلا : انه وحيد والديه .
وقال القلم لي : هذا ليس شأنك ، أنت كاتب ، أكتب ما حدث ..
ونهضت غاضبا ، وكسرت القلم ، وأنا أقول : لن أتم القصة ، ولن أسمح بموت ليث ، مهما كلفني الأمر .
محمود والصاروخ
    بحثت الأم عن ابنها محمود داخل البيت ، دون جدوى ، وخفق قلبها خوفا ، فهو لم يتجاوز الخامسة من عمره بعد ، والتمعت عيناها ، انه في الحديقة ، والحرب مستعرة .
وطارت إلى الحديقة ، وإذا محمود يقف تحت الشمس ، وقد رفع إحدى يديه إلى الأعلى ، يا للويل ، وصاحت : محمود ..
وقال محمود ، دون أن يلتفت إليها : الصاروخ كان متجها نحو بيتنا ، فرفعت يدي ، وقلت له ، توقف ..
 واتسعت عينا الأم رعبا ، وتابع محمود : وتوقف الصاروخ ، فأشرت له أن يستدير ، ويذهب بعيدا عن بيتنا .
واقتربت منه أمه ، وقالت : لكن الصاروخ سيسقط على بيوت الجيران .
فنظر محمود إلى أمه ، وقال : قلت له ، أن  يسقط على بيوت الجيران ، بل في أرض خالية ، بعيدا عن الموصل .
أنا أعرف ..
    صباح كل يوم ، مع شروق الشمس ، وعلى مدار السنة ، يخرج من بيته ، متوكئا على أعوام عمره ، التي تجاوزت التسعين ، متجها بخطواته الثقيلة إلى دار العجزة ، حيث تعيش زوجته منذ ثلاث سنوات تقريبا ، بعد أن أصيبت بالزهايمر ، وعجز عن العناية بها .
انه يحضر إليها كل صباح ، ليطعمها بيده ، ويتناول معها طعام الفطور ، وذات يوم ، قالت له رفيقتها ، التي تشاركها في الغرفة : يبدو لي أن مجيئك عبث ، فهي كما ترى مريضة جدا ، و تعرف الآن من أنت .
والتفت إلى زوجته ، التي كانت في عالم آخر ، وتأملها مليا ، ثم قال : نعم ، إنها تعرف الآن من أنا ، لكن أنا أعرف من هي .
النغزة
    ما إن وقعت عيناي عليه ، مسجى على العشب ، متمددا كالنائم ، حتى داهمت النغزة قلبي من جديد ، الطبيب سوف يقول لي كالعادة : انه العمر .
 لكنه يعرف ، ولن يعرف ، أن هذه النغزة ، داهمتني لأول مرة منذ سنين بعيدة ، عندما كنت أقاتل مع الأنصار في الجبل ، وأنها رافقتني سنين وسنين وسنين ، لقد داهمتني لأول مرة ، عندما رايته متمددا كالنائم على مرجة ندية من السفح ، ووجهه مندى بقطرات من دمه ، انه احد أفراد الدورية الحكومية ، التي تبادلت معهم إطلاق النار ، منذ أكثر من ساعة ، في هذا الطرف المنعزل من الجبل ، وعندما انتهى كل شيء ، انحدرت إلى السفح ، ورايته متمددا على المرجة .
مددت يدي ، ابحث في جيوبه عن هويته ، وهنا داهمتني النغزة في قلبي لأول مرة ، ولم تفارقني حتى الآن ، ففي جيب صغير ، خفي ، من قمصلته العسكرية ، فوجئت بوجود العدد الأخير من جريدة طريق الشعب السرية .
صداع
    أقلقه تفاقم صداعها ، وحظتْ قلقه ، فقالتْ له : تقلق ، انه ضغط الدم .
ولكي يطمئن نفسه ، قبل أن يطمئنها ، قال وهو يربت على يدها المرتجفة : عليك ، سأذهب إلى الصيدلي ، بعد قليل ، وآتيك بحبوب الضغط ، التي وعدني بها .
وأمسكت يده ، وقالت : المعارك مشتدة اليوم ، أرجىء هذا إلى الغد .
فقال وهو يغادر البيت بسرعة : أنت بحاجة إلى الدواء هذا  اليوم .
وأسرع إلى بيت الصيدلي ، واخذ منه حبوب الضغط ، ثم  قفل عائدا إلى زوجته ، ستتناول زوجته حبة واحدة ، وكالعادة سينخفض الضغط ، وسيطمئن عليها ، وعلى صغيره الذي ينمو في أحشائها ، ومن بعيد سمع صوت قنبلة هاون ، وارتفع صوت انفجار هز المدينة ، ياويل من  سقطت  فوق بيته هذه القنبلة .
وركض نحو بيته ، وقلبه يخفق بشدة ، وبدل بيته ، الذي تنتظره فيه زوجته ، وصغيره الذي ينمو في أحشائها ، وجد كومة من الحجارة ، ترتفع من أطرافها سحب من الغبار والدخان .
البحث عن عمل
    عرفتُهُ حين دخلتُ الغرفة ، ورأيتهُ جالساً وراء المكتب ، ويبدو أنه عرفني حالما رفع عينيه ، ورآني عند الباب ، فتساءلت عيناه البنيتان ، قبل أن تتساءل كلماته : منى !
ابتسمتُ ابتسامة شاحبة ، وقلتُ : عفواً ، لم أعرف أنكَ تعمل هنا .
ونهض من مكانه ، وقال : تفضلي .
تقدمتُ من مكتبه ، وأنا أقول : جئتُ في الحقيقة .. أبحثُ عن عمل .
وتمتم بصوت خافت : تخرجنا معاً ..
وقلتُ : أنت عُينت وأنا تزوجت ..
وصمتُ لحظة ، ثم قلتُ : أغتيل  زوجي ، وترك لي ثلاثة أطفال .
وبدت سحابة حزن في عينيه البنيتين ، وقال كأنما يحدثُ نفسه : أنا أيضاً ماتت زوجتي ، وتركت لي طفلين .
ولذت بالصمت ، فنظر إليّ ، وقال : أعطيني رقم هاتفك ، وسأتصل بك إذا وجدت لكِ عملاً يناسبكِ .
لم أنم ، ذلك اليوم ، حتى منتصف الليل ، وكأني كنتُ أنتظر مكالمته ، وحين دق جرس تلفوني ، وعرفت أنه هو ، قلتُ له فوراً : يبدو أنكَ وجدتَ لي عملاً .
لم يجب على تساؤلي ، وإنما قال : لي بيت بسيط ، فيه حديقة صغيرة ، وعندي كما تعرفين طفلين ، انضمي إليّ ، وسيكون لنا خمسة أطفال .
لذتُ بالصمت ، فأنا لم أتوقع هذا العمل ، وجاءني صوته دافئاً مطمئناً : أنتظر جوابك .
ومهما يكن ، فها أنا أعيش في بيت بسيط ، فيه حديقة صغيرة ، وبدل أولادي الثلاثة ، صار لي خمسة أولاد ، وأب طيب يرعاهم جميعاً .

في انتظار كودو
   جاءت بعد انتظار سنين ، فأراد أن يسميها أمل ، لكن زوجته ، غفر الله لها ، أصرت أن تسميها صبرية ، تيمنا باسم خالتها الحبيبة الراحلة صبرية .
وكما تنمو فتيات الحكايات ، راحت صبرية تنمو وتكبر ، ودخلت المدرسة ، وكانت الأولى دائما ، في الابتدائية والمتوسطة والثانوية ، وحتى عندما دخلت كلية الهندسة ، كانت الأولى على مجموعتها ، وأخيرا أخذت الشهادة الجامعية ، ووضعتها في إطار زجاجي جميل ، وعلقتها على حائط غرفتها ، وجلست .. تنتظر جودو .
إلى أين ؟
    تألمتُ عندما عنفها الموظف الصحي ، لا لخطاء ارتكبته ، وإنما لمزاجه العكر ، الذي يحتمل ، وخرجتْ المرأة المسنة منكسرة ، دامعة العينين ، وبعد أن أخذتُ دوائي خرجت متعكراً من المستوصف .
وعلى الرصيف ، رايتها تسير أمامي بحيرة وبطء ، وحين حاذيتها ، قلت لها : عليك منه ، انه عكر المزاج هكذا دائما .
وتنهدت المرأة المسنة ، وقالت : هذا حظي الأسود ..
وصمتت لحظة ، ثم قالت وكأنها تحدث نفسها : لو كان لي شيء من الحظ لبقي زوجي على قيد الحياة ، كان يدللني ، وخاصة بعد أن صار لنا ولد وبنت ، والآن وقد رحل ، وتزوجت ابنتي ، وتزوج ابني ، احد يريدني ، زوجة ابني تحتملني ، وزوج ابنتي يريدني ..
وتوقفت ، وراحت تتلفت حائرة ، وهي تقول : إلى أين اذهب ؟
أبو فارس
    جاءني أبو فارس مرة ، وجلسنا كالعادة في حديقة منزلي ، وقال لي عبر دخان سكارته ، وفنجان القهوة أمامه : طلال ، يبدو أنني خرفت .
ضحكت ، وقلت : اطمئن ، يا أبا فارس ، أنت آخر من يخرف منّا .
فقال : اسمع ، كنت اليوم في باب الطوب ، لأستقل سيارة إلى البيت ، وإذا أحدهم ينقض عليّ ، ويأخذني بالأحضان والقبلات الحارة ، وهو يقول : كيف حالك ، يا أبا فارس ؟ مشتاق جداً إليك .
نظرت إليه مليّا ً ، لم أعرفه ، أهو يُمثل عليّ ؟ أم أنه صديق قديم ، لم أره منذ فترة طويلة حتى نسيته ؟ مهما يكن ، وعلى عادتي في حالة كهذه ، قلت له : أخي صدر لي كتاب جديد ، وأريد أن أهديك نسخة منه ، أعطني اسمك الثلاثي لأكتب لك الإهداء .
فقال لي مستغرباً : ماذا جرى لك ، يا أبا فارس ؟ أيعقل أنك نسيتني ؟
فقلت له : أخي لم أنسك ، وكيف أنساك ؟ فقط أعطني اسمك الثلاثي لأهديك الكتاب .
فقال لي مستنكراً : أبو فارس ، أنا عبد الباري .
وضحكتْ ، فعبد الباري هو صديق عمره ، وهو أيضاً موظف معه في نفس الدائرة لأكثر من " 25 " عاماً ، فهل خرف أبو فارس ؟  
    رائد
   رغم الغبار الكثيف ، وأزيز الرصاص ، والإنفجارات المتتالية ، تناهى إليّ الصوت الفاجع لجارتنا " أم رائد " : النجدة .. مات ابني .. مات رائد .
وتفجرتْ الدموع في عينيّ ، وأسدلت ستاراً أمام نظري ، الذي أغشاه الغبار الكثيف ، والانفجار الهائل ، الذي دمّر بيتنا وبيوت الجيران .
وخرجت من بين الأنقاض ، التي أبعدتها أمي عن جسدي النحيل ، ووقفتُ والغبار يرتديني فوق ملابسي الممزقة ، وتحسستني أمي مرتجفة قلقة ، وهي تقول : اطمئني ، يا بنيتي ، أنتِ سالمة .
وارتفع صوت " أم رائد " المدمى ، المجروح ، فوق أزيز الرصاص ، والانفجارات المتتابعة : رااائد .
رائد ، الشاب ، يكبرني ربما بأكثر من سنتين ، انتبهتُ إليه ، وأنا في حدود العاشرة ، يطيل النظر إليّ بعينيه الخضراوين ، أشحتُ عنه بوجهي في البداية ، لكن مع الزمن استهواني نظره إليّ ، بل ورحت أبادله النظر بين حين وآخر .
ارتفع صوت " أم رائد " : رائد .. رائد ..
وارتفع بكائي ، لم تلتفتْ أمي إليّ ، فقد انهمكتْ بسحب أخويّ من تحت الأنقاض ، وتحسستْ جسديهما الضامرين ، وهي تغمغم : حمداً لله ، أنتما بخير .
وصاح أحد أخويّ : بابا .
وكان بابا قد نهض مترنحاً من بين الأنقاض ، والدماء تغط وجهه ولحيته الكثة ، التي وخطها الشيب ، وقال : اطمئنوا ، أنا بخير .
ومع ارتفاع عويل " أم رائد " ، ارتفع بكائي ، وأغرقت الدموع عينيّ ووجهي المغبر ، فالتفتت أمي إليّ ، وقالت : كفى ، يا بنيتي ، أبوكِ وأخواكِ بخير .
وارتفع بكائي أكثر وأكثر ، حتى غدا كالعويل ، حين ارتفع الصوت الفاجع : رائد .. رائد .. رائد . 

  عبد يابا
     فزّتْ مرعوبة ، وهي تشهق من أعماقها ، حين زلزل الدنيا انفجار ، كأن القيامة قد قامتْ ، وهتفتْ مستنجدة بصوتها المختنق : عبد يابا .  
اعتدلتْ في فراشها الرث ، ومسحت بيديها الشائختين ، اللتين شارفتا على التسعين ، وجهها الذي ملأته السنون الصعاب بالأخاديد العميقة .
يا له من كابوس ، وتنهدتْ من أعماقها اليابسة ، متى ينتهي هذا الكابوس ؟ وأغمضتْ عينيها المتعبتين ، سينتهي ، كما انتهى غيره ، وكما انتهى كلّ من كان حولها ، وغدت حياتها صحراء .
وتلفتتْ حولها ، أهو الليل ؟ الظلام يعمّ الغرفة ، لكنها عندما غفت ، ربما منذ أقل من ساعة ، كان النهار في كلّ مكان ، داخل غرفتها ، وفي الفناء ، وفوق أغصان شجرة التوت المعمرة ، وأوراقها الزاهية الخضرة ، وحتى على زقزقة العصافير .
وتحاملتْ على نفسها ، ونهضتْ بصعوبة متقطعة الأنفاس ، الهواء هنا ثقيل ، يخنقه الغبار ، ترى من أين جاء الغبار ؟ فلتخرج إلى الفناء ، وتجلس قليلاً تحت شجرة التوت المعمرة ، وتستنشق بعض الهواء النقي ، المفعم برائحة أوراق شجرة التوت ، وثمارها الصغيرة  ، التي لم تنضج بعد .
وتوقفتْ متلفتة ، مذهولة ، وقد اتسعت عيناها الكليلتان أين باب الغرفة ؟ وأين الشباك الصغير ، المطلّ على الفناء ، الذي تتوسطه شجرة التوت المعمرة ؟ 
ما مرّ بها إذن ، لم يكن كابوساً ، بل أسوأ من الكابوس ، فالكابوس مهما كان ثقيلاً وطويلاً ، يمكن أن تفيق منه وينتهي الأمر ، كان إذن حقيقة ، نعم ، حقيقة ، لابدّ أنّ قنبلة طائشة ، لم تسقط هذه المرة بعيداً ، وإنما سقطت  على بيتها بالذات ، وحدث ما حدث .
عادت إلى فراشها ، وتهاوت فوقه متمتمة ، مستنجدة من أعماقها : عبد يابا .
وأغمضت عينيها ، اللتان تكادان تنطفئان ، عبد ، عبد الرزاق ، ابنها الأخير ، جاء على العكس من أخويه الأبرشين ، أبيض البشرة ، أسود العينين والشعر ، لم تصدق عينيها حين ولدته ، وبعد أيام أخذته إلى السطح ، حيث الشمس ساطعة ، ومدت أصابعها المرتعشة القلقة ، وفتحت عينيه ، وحدقت فيهما طويلاً ، وخفق قلبها فرحاً ، إنه طفل طبيعيّ ، وليس أبرشاً مثل أخويه .
عبدته ، عبدتْ ابنها عبد الرزاق ، وكلما كانت تعثر ، أو تفاجأ ، كانت تشهق صائحة : عبد يابا .
وتململت في فراشها ، أين عبد ؟ أين عبد يابا ؟ رأته في أعماقها المتصحرة طفلاً .. صبياً .. يذهب إلى المدرسة ، وظلت ترضعه حتى السابعة من عمره .. ورأته في شبابه .. وأي شباب .. وأنّتْ في كابوسها ، حين صكّ سمعها هدير سيارة ، ثم توقف عجلاتها ، وهي تصرخ مدخنة فوق الإسفلتْ .
واعتدلت في فراشها ، ها هو ابنها عبد ، ينهض من تحت السيارة ، ويُقبل عليها مسرعاً ، يمدّ إليها يديه الشابتين المحبتين ، وتناهىت إليها أصوت تقترب ، ومن أعلى السقف ، فُتحت ثغرة ، أطلّ منها النهار ، فتمتمت بصوت مرتعش : عبد يابا .

   الطفل
   خرجتُ من الغرفة ، لأحضر كوباً من الماء لزوجي ، الذي كانت الحمى تشويه طوال أكثر من يومين ، وأبقيتُ طفلي الرضيع إلى جانبه .    
وقبل أن أصل إلى المطبخ ، حدث انفجار هائل ، سبقه أزيز كأزيز العاصفة ، وعلى أثر الانفجار ، وجدتني أرتفع أمتار في الهواء ، ثم أتهاوى على الأرض مع تهاوي البيت برمته .
بقيتُ خامدة قرب الأنقاض ، وقد ساد صمت كصمت القبور ، تحاملتُ على نفسي ، وجسمي كله يتصارخ من الألم ، وتلفتُ حولي ، أين الغرفة ؟ أين زوجي ؟ أين طفلي الرضيع ، الذي انتظرته سنوات ؟ لا شيء حولي غير ركام من الحجارة كأنه القبر .
تناهتْ إليّ أصوات من تبقى من الجيران ، يتصايحون ويولولون ، وارتفع أكثر من صوت يصيح : اهربوا .. اهربوا .. الدواعش قادمون .
هربتُ مع الهاربين ، وقد طاش عقلي ، فلو رآني ، في تلك اللحظة ، أحد الدواعش ، وأنا أركض كالمجنونة ، بدون عباءة أو خمار ، حافية حتى بدون جوارب ، لجلدني مائة جلدة ، أو .. أو قطع رأسي .
لاحقتنا رصاصات رشاش ، فاندفعتُ إلى زقاق جانبيّ ، تداعت جدران بعض بيوته الآيلة للسقوط ، وغطت أجزاء كبيرة من الزقاق .
وتحت أنقاض أحد الجدران ، رأيتُ امرأة شابة ، مسحوقة تحت الحجارة ، وإلى جانبها يزحف طفل رضيع ، في عمر ابني تقريباً .
توقفتُ متقطعة الأنفاس ، وعيناي المشدوهتان تتابعان الطفل الزاحف قرب جثة أمه المسحوقة ، وهو يبكي بحرقة ، لاحقتني رشقة من الرصاص ، فانحنيتُ على الأرض ، ولذتُ بالفرار ، لكني توقفتُ في نهاية الزقاق ، رغم أن الرصاص لم يتوقف ، وقفلتُ عائدة إلى الطفل .

 البومة
  ـ أو .. هو .. هو .. هو
فزّتْ من نومها ، وقلبها يخفق بشدة ، آه .. منذ صغرها وهي تكره البومة ، وتتشاءم منها ، كلما سمعت نعيبها في الليل .
انقبض قلبها ، وتذكرت ما قالته جدتها يوماً : نعيب البومة البشع إشارة شؤم ، يعني أن أحداً قد مات ، أو أن أحداً سيموت .
ارتفع نعيب البومة ثانية ، فتمتْ بصوت مرتعش ، وهي تتلفتُ في الظلام : ضياء ..
لم يغمض لها جفن رغم شعورها بالوهن ، ومع الفجر تناهى إليها أزيز الرصاص ، وأصوات الانفجارات ، من أحياء الساحل الأيسر ، القتال الطاحن مستمر ، وسيأتي على المدينة كلها .
تحاملت على نفسها في الصباح ، وارتدت ملابسها الليل ، ووضعت الخمار على وجهها ، وتسللت إلى ابنها ضياء في مدينة تلعفر .
وتمزق قلبها ، وهي تراه في ملابسه الأفغانية ، ولحيته الكثة المغبرة ، فعانقته دامعة العينين ، وقالت له بصوت مرتعش : بنيّ ، قتل أبوك وأخوك .
وحدق فيها بمرارة ، وقال : استشهدا ..
وصمت قليلاً ، ثم قال : أعرف .
وقلت له بصوت مرتعش ، مغالبة دموعها : تعال معي ، يا بنيّ ، لم يعد لي أحد .
فردّ قائلاً بمرارة أشد : كلا ، سأبقى في البيت ، الذي دفعتماني إليه . 
لم تدرِ مت غفت ، حين فزتْ فجأة ، وقلبها يخفق بشدة ، وتمتمت : ضياء .
ومن أعماق الليل ، هدر نعيب البومة : أو .. هو .. هو .. هو .

 الفاختة
   وقفت الفاختة على حافة عشها ، الذي بنته بين أغصان شجرة التوت ، التي تتوسط الفناء ، ورفعت رأسها إلى أعلى ، وراحت تهدل : كوكوختي .. كوكوختي ..
انتبهتْ من غفوتها القلقة ، وهي في فراشها الدافىء رغم الزمن الذي مرّ عليه ، وأنصتت إلى هديل الفاختة ، الذي يأتيها من الفناء : كوكوختي .. كوكوختي ..
ودمعت عيناها الشائختان ، آه كم كانت أختها الراحلة أمل تحب هذا الهديل ، هي أيضاً تحب هديل الفاختة ، ربما لأن الراحلة أمل ، الأكبر منها بسنين قليلة ، كانت تحب الهديل ، وكانتا في الصغر ، تجلسان تحت الشجرة ، وتهدلان معاً كالفاختة ، فتقول أمل ..
                   : كوكوختي .. كوكوختي
فتجيبها           : عين أختي
تقول أمل        : اشتاكلين ؟
فتجيبها           : حب الله
تقول أمل        : اشتشربين ؟
فتجيبها           : ماي الله
ثم تقولان معاً   : كوكوختي .. كوكوختي .
وظلتا تهدلان ، تحت شجرة التوت ، حتى بعد أن رحلتْ أمهما ، ولحق بها أبوهما ، وكأنه لم يحتمل الحياة بعدها ، آه لو لم يسكتها قناص ، أصابها في صدرها من جهة القلب ، لكانتا الآن تهدلان تحت الشجرة .
سكتت الفاختة ، حين ارتفع أزيز رصاص في السماء ، وخيل إليها أن رشقات منه أصابت أغصان شجرة التوت ، فشهقت متمتمة : الفاختة .
وعلى الفور ، تحاملت على نفسها ، وخرجت إلى الفناء ، وإذا الفاختة ملقاة على الأرض ، والدماء تغطي ريشها الرمادي الجميل .
ومدت يديها المرتعشتين ، ورفعت الفاختة عن الأرض ، وراحت تحدق فيها ، وعيناها غارقتان بالدموع ، وهي تهدل بصوت دامع حزين : كوكوختي .. كوكوختي ..
                                                          
القناص
  تحت إلحاحي حضر معي إلى الحفل ، الذي أقيم سراً للقناص الغربي ، وقد انتمى إلينا قبل حوالي السنة ، وقنص خلال هذه المدة " 40 " شخصاً .
وجلس إلى جانبي صامتاً ، في غرفة واسعة مسدلة الستائر ، خوفاً من طائرات الحلفاء ، التي كانت تحوم فوقنا باستمرار ، وتنزل بنا أفظع المصائب .
وأصغينا إلى القناص الغربي ، يتحدث بلغة عربية مكسرة ، وقال بأنه كان قناصاً في جيش بلده ، وأحيل على التقاعد ، لكنه لم يحتمل البطالة بدون قنص ، فتطوع للقتال إلى جانبنا .
والتفتُ إليه ، وقلتُ له هامساً : لقد قتل سبعة أو ثمانية من جنود السلطة .
ولمحتُ ومضة تبرق في عينيه ، ثم تساءل بصوت متردد : والبقية ؟          
أجبته بصوت خافت : كما تعرف ، لابدّ أنهم من الهاربين إلى جند السلطة .
وأطرق رأسه متمتماً ، كأنه يحدث نفسه : هذا القناص الغربي ، يعني قتل أكثر من ثلاثين من أبناء مدينتي هذه ، بينهم نساء وشيوخ وأطفال .
وهبّ من مكانه ، وقد إربدّ وجهه ، وغادر الغرفة ، وبعد قليل تناهى إلينا صوت اطلاقة مسدس مكتومة ،فأسرعت إلى الخارج ، ورأيته ملقى في بركة موحلة ، وحول رأسه بقعة من الدم ، ومسدسه إلى جانبه .

                          
   المعجزة
    بعد أن هدأ القصف ، وأبعِد القناصون عن الحيّ ، تسلل مجموعة من الجنود بين الخرائب ، وراحوا يتجولون وأسلحتهم بين أيديهم .
وتوقفوا ينصتون ، حين خيل إليهم ، أنهم يسمعون بكاء طفل رضيع ، صادر من تحت أنقاض أحد البيوت القريبة ، التي هدمها القصف .
وأسرعوا نحو الأنقاض ، وراحوا ينبشون بأياديهم الملهوفة المشفقة حول مصدر الصوت ، وإذا طفل رضيع في حدود السنة ، يصرخ مستنجداً ، وقد غطاه الغبار من رأسه حتى قدميه .
انتشلوه برفق من بين الأنقاض ، ونزعوا عنه ملابسه الممزقة المغبرة ، وجاءه أحدهم برضاعة فيها شيئاً من الحليب ، من أين جاء بها ؟ لا أحد يعرف ، وراحوا ينظرون إليه مبتسمين فرحين ، وهو يرتشف الحليب بنهم ، وينظر إليهم الواحد بعد الآخر .
قال أحدهم : هذه معجزة .
تساءل جندي : والآن ، ماذا نفعل به .
أجاب أحدهم : الأفضل أن نأخذه إلى الميتم .
علق آخر : الميتم قصف ، وقتل الكثير ممن فيه ، والتحق الباقون بالمهجرين .
وران صمت ثقيل حائر ، والطفل مازال ينظر إليهم الواحد بعد الآخر ، فتقدم أحد الجنود ، وقال : لدي ثلاث بنات ، وطالما حلمت أن يكون لهن أخ .
وربت بحنان على رأس الطفل ، وقال : هذا أخوهم .  


 أم ايزيدية
    سمعته يلهث ويئن ، وهي فوق ظهره بجسدها الثقيل المشلول ، خاطبته بصوتها الشائخ المعذب : كفى ، يا بنيّ ، دعني أمتْ هنا .
لم يردّ عليها ، وواصل طريقه بخطى ثقيلة متعثرة ، بين مئات النازحين من الأطفال والنساء والشيوخ ، فتابعت قائلة : أنتَ شاب ، والحياة لك أنتَ وليس لي ، أنزلني ، يا بنيّ ، ستموت من التعب .
ومرة أخرى لم يردّ عليها ، وهزتْ رأسها المتعب ، إنه عنيد كأبيه الراحل ، فها هو يحملها على ظهره منذ ساعات ، وسط الجموع الهاربة ، التي لاحقتها على الجبل ، قنابل الهاون ، وبنادق القناصة ، وكأن لم يكفهم المجازر التي ارتكبوها في القرى القريبة .
ومنذ الفجر ، جاءهم النذير من كلّ مكان : اهربوا ، اهربوا بسرعة ، إنهم قادمون .
وعلى عجل ، وتحت جنح ظلام أول الفجر ، لاذ الجميع بالهرب ، متجهين إلى الجبل ، وأسرع ابنها إليها ، وهي جثة حية ،  متمددة في فراشها ، وحملها عنوة على ظهره ، فصاحت به : بنيّ ، لن تقوى على حملي ، دعني أمتْ هنا .
وقال لها ، دون أن يتوقف : الجميع يهربون إلى الجبل ، لن أهرب وأتركك هنا .
وتوقف لاهثاً عند أعلى مرتفع ، يطل على واد سحيق ، وأنزل أمه عن ظهره قرب شجرة وارفة ، وتهاوى على مقربة منها في ظل صخرة كبيرة ، وأغمض عينيه ، لابد أن يرتاح قليلاً ، إذا أراد أن يواصل الطرق ، وأمه فوق ظهره .
وانتبه بعد حين ، إلى أزيز طائرة تحوّم فوقهم ، وفتح عينيه المتعبتين ، وخفق قلبه بشدة ، أين أمه ؟ لقد وضعها بنفسه قرب الشجرة ، وهبّ من مكانه ، وأطلّ من أعلى المرتفع ، وأبصرها بعينيه الملتهبتين ، جثة مدماة هامدة في أسفل الوادي .

 البيت ـ القبر 
    رغم احتجاج زوجته ، ونصائحها القلقة ، وبكائها الخائف ، أصرّ على السفر إلى الموصل ، إلى الجحيم ، الذي لا يهمد أواره .
قالت له من بين دموعها : ابق معنا هنا ، الأمور مازالت خطرة .
فقال : لقد توقف القتال .
قالت : أنت تتركنا للمجهول .
فقال : لابدّ أن أعرف مصير أمي .
لقد أصرت أمه ، بعنادها المعروف ، على أن تبقى في الموصل ، ولا تهاجر معه إلى دهوك ، رغم أن القتال كان قد اشتعل في الساحل الأيسر من المدينة .
ووصل إلى الموصل بشق الأنفس ، واستطاع أن يتسلل إلى الساحل الأيمن ، ويصل إلى بيتهم القديم ، في حيّ قريب من الجامع الكبير ، الذي لم توفر فيه الحرب بيتاً واحداً ، وحولته إلى ركام من الحجارة .
وعلى مقربة من حيهم ، رأى امرأة عجوز ، تسير متكئة على شيخوخته ، سلم عليها : مرحباً أم سالم .
توقفت المرأة العجوز ، وحدقت فيه ، وتمتمت : محمود ! بني ، ابن الغالية .
قال للمرأة العجوز : جئتُ أطمئن على أمي .
هزت المرأة العجوز رأسها ، فقال : أليست في البيت ؟
فقالت المرأة العجوز : الغريب أن بيتكم هو الوحيد الذي لم يتهدم .
ورغم أن الخبر كان مشجعاً ، إلا أنه لم يرتح لنبرة صوتها ، وتابعت المرأة العجوز قائلة بنبرة حزينة : تركت بيتها ، مع بداية القتال ، وذهبت إلى بيت والدها ، لتطمئن عليه وعلى والدتها ..
وسكتت العجوز ، فاستأنف طريقه نحو بيت جده ، فقالت المرأة العجوز : لا تذهب إلى بيت جدك ، يا بنيّ ، لقد سقط صاروخ فوقه ، وحوله إلى قبر لمن فيه .

 الهرّ العجوز
    أفاقتْ منقبضة الصدر ، رغم أنها لم تسمع " ميو " هرها العجوز ، وهي تسميه العجوز ، ربما لأنها هي نفسها عجوز ، وربما أيضاً لأنها لا تريده أن يكون " هراً " ، حتى في شباط .
وتحاملتْ على نفسها ، وخرجت من غرفتها ، التي يسودها الظلام تقريباً ، فالكهرباء مقطوعة ، وكذلك الماء ، ولو كان الأمر بيدهم لقطعوا الهواء أيضاً ، هذا ما تقوله بينها وبين نفسها ، فهي مثلها مثل غيرها ، من الرجال والنساء ، تخاف الجلد .
ودارت في فناء البيت ، الذي يغطيه غبار الحرب وسخام نيرانه ، التي لا تتوقف عن الاشتعال ، وتلفتت حولها ، لا أثر للهر العجوز ، اللعين ، يبدو أنه مازالت فيه بقايا " الهر " الذي كانه .
ونظرت إلى السلم المتآكل ، الذي يؤدي إلى السطح ، إنه عادة يجلس هنا في الأيام المشمسة ، لكن لا وجود له اليوم ، آه شباط على الأبواب ، ولابد أنه يتسكع الآن بين خرائب البيوت ، التي داستها عجلات الحرب ، يبحث عن هرة ساقطة .
وقفلت عائدة إلى غرفتها ، وهي تتمتم : سيعود إن عاجلاً أو آجلاً ، فلم يعد هناك لا هرّ ولا هرة في المدينة ، لقد قضت المجاعة عليهم جميعاً . 
لم يعد الهرّ في ذلك اليوم ، ولا في اليوم الذي تلاه ، وإنما عاد بعد أسبوع تقريباً ، وبدل البيت ، الذي عاش فيه عمره كله ، رأى كومة من الحجارة ، وبحث عن المرأة العجوز ، وعثر عليها أخيرا ، فقد رأى يدها المسحوقة المدماة تبرز من تحت الأنقاض ، وحاول الوصول إليها ، لعله يوقظها ، لكن دون جدوى .  
   

 الطفل

   تعثرتْ بعباءتها مرة أخرى ، وكادت تتهاوى على الأرض ، لو لم أسرع إليها ، عبر أمواج الناس المتلاطمة ، وأسندها بيديّ .
لكنها أبعدتْ يديّ عنها بغضب ، وحاولت أن تتماسك ،  وتنهض من عثرتها ، وتواصل ركضها المجنون ، وسط جموع الراكضين ، وتصيح : ابتعد عني .. ابتعد .
لم أبتعد عنها ، وبقيتُ أهرول خلفها ، خوف أن تسقط على الأرض ، وتسحقها أقدام الهاربين من الهاونات ورصاصات القناصين ، وقلت لها : ارفعي عباءتك قليلاً ، وإلا تعثرتِ بها مرة أخرى .
وبدل أن ترفع عباءتها ، نزعتها بيدها المضطربة ، وألقت بها على الأرض ، بل ونزعت الشال الذي يغطي شعرها ، وطوحت به بعيداً ، فصحتُ بها : أيتها المجنونة ، ماذا تفعلين ؟
وتوقفتْ وسط تدفق الناس ، رجالاً ونساء وأطفالاً ، الذين يهربون من المسلحين ، محاولين الوصول إلى المواقع التي وصلت إليها القوات المسلحة .
وسرعان ما استدارتْ ، ثم راحتْ تسير ضد تيار الناس المتدفق كالسيل العرم ، وعيناها تشتعلان بنيران قلقة مجنونة ، وهي تتمتم : طفلي .. طفلي .. طفلي .
وجنّ جنوني ، هذه المخبولة سيقتلها المسلحون ، إذا رأوها تسير بلا وشاح وعباءة ، وهرعتُ إليها ، وطوقتها بذراعيّ ، فراحت تضربني بكلتا يديها المتشنجتين ، وهي تصيح بجنون : دعني .. لن أترك طفلي .. يجب أن أنقذه .. دعني .. دعني .
وتوقفت امرأة عجوز ، كانت تسير متوكئة على عصاها ، وقد اتشحت بالسواد من رأسها حتى أخمص قدميها ، ونظرت إلينا ، وقالت : يا ظالم ، دعها تذهب إلى طفلها ، وتنقذه من الموت .
فأجبتها ، وزوجتي تتواثب بين يديّ ، محاولة الانفلات مني : أيتها الجدة ، طفلنا قتل قبل أكثر من شهر ، وهو الآن مدفون تحت الأنقاض .

                                  


  الطفلة الضالة
   كدتُ اجن من الرعب ، بعد أن تهتُ عن أمي وأختيّ ، وسط مئات بل آلاف الناس المندفعين ، المتلاطمين كالأمواج ، وهم يفرون من جحيم القتال ، بحثاً عن مأوى آمن يلوذون به .
لابدّ أن أمي تبحثُ عني الآن ، كما أبحث أنا عنها ، ورحتُ أنصتُ ، وأنا أركض بين الجموع ، لعلي أسمع صوتها ، وهي تناديني باسمي .
ورغم أزيز الرصاص ، وأصوات الانفجارات ، وصراخ الأطفال والنساء ، تناهى إليّ صوتها ، نعم ، هذا صوتها ، إنني أميز صوتها الأشبه بالتغريد من بين آلاف الأصوات ، صحيح إنها لم تكن تغرد ، لكن هذا صوتها ، وهي تصيح باكية : ماما .. ماما .
وتلاشى ما حولي ، حتى أمي وأختاي ، وانطلتُ أشقّ أمواج الناس المتلاطمة ، نحو مصدر الصوت الباكي ، لابد أن أجدها مهما كان الثمن .
ورأيتها ، رأيتها تقف مرعوبة وسط تيار الناس المنفلت الهائج ، وهي تصيح : ماما .. ماما .
وتوقفت وسط التيار ، أنظر إليها ، نعم ، إنها هي بشعرها الذهبي ، وعيناها الخضراوان ، وبشرتها العسل ، رغم أن الأتربة كانت تغطيها تماماً ، من أعلى رأسها ، حتى أخمص قدميها .
اقتربتُ منها متردداً ، وتوقفتُ قبالتها صامتاً ، وما إن رأتني حتى هدأت ، ومسحت عينيها الدامعتان ، فقلتُ متردداً : ابتهاج ..
وشفتْ ملمحها  ، وتمتمت : أنت ..
يبدو أنها لا تعرف اسمي ، رغم أن بيتنا وبيتم في الحيّ نفسه ، فاقتربت منها قليلاً ، وقلت : أنا .. حسن .واقتربت مني ، كأنها تلوذ بي من تلاطم الأمواج ، وقالت : أنا أعرفك .. أعرفك جيداً .
فقلتُ لها : أنا أيضاً أعرفكِ ، لقد رأيتكِ كثيرا .
وتلفتتْ حولها ، وقالت : لقد ضللتُ ، ولم أعد أعرف أين أمي وأبي وأخوتي .
لم أقل لها ، أنا أيضاً ضللتُ ، وإنما قلتُ أطمئنها : لا عليكِ ، سنجدهم .
وهنا سقط صاروخ على بناية في نهاية الشارع ، وأحدث دوياً هائلاً ، وصرخت ابتهاج مرتعبة ، وقد تزايد تلاطم أمواج الناس حولنا ، وتعالت صرخاتهم ، فمددتُ يدي ، وأمسكتُ بيدها ، وقلتُ لها : لا تخافي ، الانفجار بعيد ، تعالي نهرب مع الهاربين .
وانقادت لي مستسلمة ، ويدها في يدي ، واندفعنا مع الأمواج الصاخبة المذعورة ، وسمعتها تهتف بي : حسن ، أرجوك ، لا تدعني وحيدة .
وأجبتها دون أن أتوقف : لا تخافي ، لن أدعكِ مطلقاً ، مهما كانت الظروف .


                                    

  رجل من الماضي
    بعد انتهاء دوامها في المستشفى ، لم تستقل سيارتها ، وتذهب إلى البيت كالعادة ، وإنما اتصلتْ بزوجها في المستشفى الخاص ، وقالتْ له : لن أعود هذه الليلة .
وتساءل زوجها مندهشاً : لماذا !
فقالت باقتضاب ، وبصوت حاولت أن تكتم تأثره : هناك أمر طارىء .
وعند حوالي منتصف الليل ، جاءتها الممرضة ، التي كانت تسهر على " الأمر الطارىء " ، وقالت : دكتورة ، يبدو أن الجريح بدأ يفيق .
وأسرعت الطبيبة إلى غرفة الجريح ، وجلستْ إلى جانه ، ورأته يتململ متوجعاً ، وحين فتح عينيه المتعبتين ، ورآها تجلس إلى جانبه ، كفّ عن التوجع ، وتمتم مذهولاً : بتول !
فمالتْ عليه قليلاً ، وقالت : الطبيبة بتول ، يا أخ أحمد .
ولاحت ابتسامة شاحبة على شفتيه المتيبستين ، وقال : مرت سنين وسنين ..
وصمت لحظة ، ثم قال : كنتُ معلماً .. عندما تقدمتُ إليك أول مرة .
فقالت وكأنها تعتذر : أردتُ أن أكمل دراستي .
وتابع قائلاً ، وكأنه لم يسمع كلامها : وذهبتُ إلى الكلية العسكرية ، وبعد أن تخرجتُ ضابطاً ، تقدمتُ إليك مرة أخرى .
فقالت بصوتها الشبيه بالاعتذار : كنتُ وقتها طالبة في كلية الطب .
صمت ، وهو يئن ، صمت طويلاً ، ثم أغمض عينيه المنطفئتين ، وهو يتمتم : لي ابنة اسمها .. بتول .
وران الصمت ، صمت عميق وحزين ، وتقدمت الممرضة ، وسحبت الشرشف الأبيض فوق وجهه ، ونهضت الطبيبة بتول ، دامعة العينين ، والألم يعتصر قلبها ، فقد فاتها أن تقول له ، أن أصغر أبنائها اسمه .. أحمد .

                             
  الجرو الصغير                           
   عرفتُ أنني تحت ركام البيت ، وأنني ـ ربما ـ مازلتُ حياً ، حين تناهى إليّ ، وكأن ذلك من آخر الدنيا ، نباح جروي الصغير : عو .. عو .. عو .
تُرى ماذا جرى ؟ لقد سمعتُ أزيز طائرة ، يرتفع بالتدريج ، بعد أن غادر أبواي البيت ، ليزورا جدتي في الحي المجاور .
وقالت لي ماما ، وهي تخرج من الغرفة : بنيّ ، ابقَ هنا حتى نعود .
وقبل أن يغلق بابا الباب عليّ ، قال لي : الجرو في الخارج ، لا تدعه يدخل إلى البيت .
آه من بابا ، لا أدري لماذا يكره الجرو ، من يدري ، لعل جرواً مجنوناً عضه ، وهو طفل صغير ، ولم ينسَ تلك العضة ، حتى بعد أن كبر ، وصار أباً .
أما هذه الجرو ، الذي ينبح الآن في الخارج ، فقد رأيته في يوم ممطر ، وكنتُ أسير مع أبي ، ويدي الصغيرة في يده الكبيرة الدافئة ، وهو نفس الجرو ، الذي قال لي أبي قبل قليل : لا تدعه يدخل البيت .
ونظر إليّ الجرو ، بعينيه الصغيرتين اللامعتين ، وكأنه يقول لي : خذني معك ، إنني وحيد .
وتوقفتُ ، وعيناي متعلقتان بعينيه ، فقال بابا : هيا ، تحرك ، أمك تنتظرنا الآن في البيت .
لم أتحرك من مكاني ، وإنما قلت : بابا ، دعنا نأخذ هذا الجرو المسكين .
وبدا الانزعاج على أبي ، إنه معادٍ للجراء ، وردّ بصوت حاسم : كلا .
فقلتُ له ، محاولاً إقناعه : المسكين ، إنه وحيد .
وثانية ردّ بابا : كلا .. كلا .
ونظرتُ إلى بابا ، وقلت : الله قال ..
وحدق أبي فيّ مندهشاً ، وتساءل : ماذا قال الله ؟
فأجبته بلهجة معلمة الدين في مدرستنا ، الست فاطمة : قال الله ، إذا رأيتم جرواً فخذوه .
ولا أدري لماذا ابتسم بابا ، لكنه جرني بشيء من الحزم ، وقال : الله لم يقل ذلك ، هيا .
وتبعتُ بابا مكرهاً ، وداخلني شيء من الفرح ، حين رأيت الجرو الصغير ، يهرول ورائي ، وماء المطر يقطر من فرائه السميك .
وارتفع نباح الجرو ، وهذه المرة لم يكن من آخر الدنيا ، وإنما من مكان قريب ، وتناهت إلى سمعي ، أصوات معاول ومجارف تعمل في الركام المحيط بي ، آه إنهم سيصلون إليّ ، وينقذونني إن عاجلاً أو آجلاً .
                                3 / 11 / 2017
                       
 الجدة ماري
   على عادتها كلّ يوم ، تحاملت الجدة ماري على نفسها ، وارتدت ملابسها السوداء ، التي ظلتْ ترتديها ، منذ أن رحل زوجها سليم ، قبل خمس وعشرين سنة .
وخرجتْ من البيت ، بعد أن سحبتْ بابه الخشبيّ الثقيل ، لم تغلقه بالمفتاح ، فمن سيسرقها ؟ وماذا لديها في البيت يمكن أن يُسرق ؟
ومضتْ بخطواتها الثقيلة الشائخة نحو الكنيسة ، إنها تمضي في هذا الطريق منذ سنين طويلة ، طويلة جداً ، منذ أن وعتْ على الدنيا ، وكانتْ أمها تقول لها : ماري ، اركعي أمام الرب يسوع ، واطلبي ما تشائين ، وسيعطيكِ كلّ شيء ، إنه الرب .
وفي حياتها الطويلة ، طلبتْ الكثير من الرب ، وأعطاها كلّ ما طلبتْ ، طلبت أن يبقى أبوها وأمها ، وقد بقيا حتى شاخا ، وطلبت أن تتزوج ابنتها جمبد ، وقد تزوجت ، وأنجبت تسع بنات ، وصبي رقيق جميل كالبنات أسمته يوحنا .   
وطلبتْ من الرب ، وألحتْ في طلبها ، بل نذرت له خمس شمعات طويلات ، أن يهدي ابنها ياقو ، ويقنعه بعدم الهجرة إلى أمريكا ، فأمريكا ليست أفضل من بغديدا ، وبناتها لا البيضاوات ولا السوداوات أجمل من بنات بغديدا .. لكن الرب ، لسبب لا تدريه ، لم يستجب إلى دعائها ، وهاجر ياقو إلى أمريكا .
ومرتْ الجدة ماري ، وهي تسير متثاقلة ، متوكئة على شيخوختها ، بثلاث رجال ملتحين ، يرتدون الملابس السوداء ، ويحملون الرشاشات على أكتافهم ، فتوقفوا حين رأوها ، وراحوا يتابعونها بنظراتهم الغاضبة ، وبدا أنها لم تلاحظهم على الإطلاق  .
فقال الأول : الجميع غادروا المدينة ، حال دخولنا لها ، إلا هذه العجوز الخرفة .
قال الثاني : إنها ترفض المغادرة ، رغم تهديدنا لها ، وهي تعيش وحدها في البيت .
وقال الأول : إنها ليست وحدها ..
ونظر إليه الثالث ، فتابع قائلاً : إنها مع أمها وأبيها وابنها وابنتها ، التي لها تسع بنات وولد واحد ، هذا ما تقوله العجوز .  
وشدّ الثالث رشاشته على كتفه ، وقال وهو يسير مبتعداً : لقد صبرنا عليها مدة طويلة ، خذوها ليلاً ، والقوها على مشارف أربيل .
وعند منتصف الليل ، جاء مسلحون بثيابهم السوداء ، ولحاهم الكثة المغبرة ، وأسلحتهم الرشاشة ، وأخذوا الجدة ماري قسراً ، من بيتها الذي عاشت فيه عمرها كله ، وألقوها على مشارف أربيل .
وبعد أكثر من ثلاث سنوات ، عادت الجدة ماري إلى بيتها القديم في بغديدا ، وقد عانت طويلاً من الفاقة والشيخوخة والوحدة ، ونامت تلك الليلة مرتاحة في غرفتها العارية ، فقد كان حولها زوجها وابنها ياقو وابنتها ، ومعها بناتها التسع ، وابنها يوحنا ، الجميل والرقيق كالبنات .


                         

  شيته
   على عجل ، ألقيتُ عباءتي السوداء ، على ملابسي السوداء الخلقة ، وانتعلت " بابوجي " ، وخرجتُ بسرعة من الغرفة ، وفي الحوش ، رأتني زوجة ابني ، وزجرتني قائلة : خيراً ، إلى أين ؟
وأجبتها دون أن أتوقف : شوهد الحجي في بابا الطوب ، سأذهب إلى هناك ، لعلي أعثر عليه .
ورغم طرشي ، سمعتها تدمدم : ابتليتُ بالخرفين .
فتحت الباب الخارجي ، وانطلقتُ بسرعة نحو باب الطوب ، لقد خرج زوجي الحجي من البيت ، بملابسه الخفيفة ، رغم أننا في شباط ، وشباط الموصل شباط ، ولم يعد ، وها قد مرّ يومان وربما أكثر ، ولم يتناول دواءه ، آه لقد خرف تماماً .
ها هو باب الطوب ، وتوقفتُ في الساحة المكتظة متلفتة ، لقد درتُ في جنباته مرات ومرات ، حتى كلًت قدماي الشائختان ، ولا أثر له في أي مكان ، ترى أين هو ؟ لا عشتُ عليه .
ومالت الشمس للغروب ، سيحلّ الليل قريباً ، فنحن في الشتاء ، وقد أتيه أنا أيضاً ، وهممتُ أن أقفل عائدة إلى البيت ، حين رجّني صوت خشن : حجية ، أين تظننين نفسكِ ؟ في باريس الكفار ؟
فأجبته ، وأنا أحدق في ملابسه السوداء ، ولحيته الكثة السوداء : لا يا ابني ، أنا في الموصل .
واقترب مني ، وقال : لو رآكِ غيري ، لأخذك إلى الحسبة ، ولجلدتِ عشرين جلدة .
وركضتُ متعثرة ، مبتعدة عن اللحية السوداء ، وأنا أقول مولولة : يا ويلي ، لن أحتمل خمس جلدات .
ولاحقني صوته الأجش آمراً : غطي وجهكِ ، الذي سيكوى بالنار في الآخرة ، أنتِ عورة .
آه ، يا لحمقي ، لقد نسيت غطاء الوجه في البيت ، وزوجة ابني لم تنبهني إلى ذلك ، لابد أنها متعمدة ، تريدهم أن يجلدوني ، لأموت وتتخلص مني ، لقد طردتني قبل أيام ، والمطر يهطل بشدة ، فأوتني امرأة طيبة في بيتها عدة أيام ، فلأسرع إلى البيت ، وإلا رآني أحد هؤلاء الملتحين ، وأمر بجلدي .   
عند الباب ، وقد حلّ الليل ، رأتني زوجة ابني قادمة ، فصاحت بي : أيتها الخرفة ، أين كنتِ ؟
فدلفتُ إلى الفناء ، وأنا أقول : بحثتُ عنه في باب الطوب ، لكني لم أعثر له على أثر .
فأغلقت الباب بعنف ، وقالت : لقد عثروا عليه .
توقفت متسائلة : أين ؟ أين هو ؟
فقالت بلامبالاة : في الطب العدلي .  

ليست هناك تعليقات: