2012/05/07

صور مؤجلة للفرجة ( الحنين هو الدواء) بقلم: د.محمود فرغلى


صور مؤجلة للفرجة
( الحنين هو الدواء)

  بقلم: د.محمود فرغلى
       في مجتمع مغلق يحكمه الموروث ،يقف الماضي  بعنفوان تقاليده وسطوتها، بوصفه الحاكم  الرئيسي  الذي دانت له السيطرة على مصاير البشر،ومن ثم لم تستطع  شخصيات المجموعة أن تراوح قيودها التي تحجل فيها منذ قرون، في تلك البيئة التي يعرف البلكي مفرداتها ويحفظها عن ظهر قلب لا يرى أبطاله إلا الحنين لهم دواء. الحنين إلى ماض يتهدم تحت سطوة الزمن، والشوق إلى الخلاص من حاضر مأزوم.
      وبرغم قسوة التقاليد على الشخصيات نجد أن العلاقة شديدة الخصوصية بين الأبطال ومفردات بيئتهم ،وأشيائهم البسيطة التي قد يراها الغريب عن بيئة الصعيد و البيئة الريفية عموما غير ذي بال، فقد يرتبط الإنسان بعصاه، والجد بقطعة خيش قديم، والقلام بنخلته الأثيرة، والأرمل بمرآتها، وغير ذلك من العلائق التي تخرج عن مجرد الامتلاك أو الاعتياد إلى أفق أرحب يكشف عن معاناة الشخصيات وانكسارتها تحت وخز التقاليد أو انسحاقها تحت عجلات الزمن.
      في قصة الصندوق يتحلق الأبناء حول الجد ،ويمثل الصندوق رمز الماضي الغابر بما يحيويه بؤرة تتمركز من حولها أحداث القصة وتطلعات الأبناء، لفض سر الصندوق الذي يذكرنا بصناديق ألف ليلة وليلة ، وأشواق الجد المحتضر لما  تسرب من بين يديه من أنفاس الماضي وعبق روائحه ،حيث يفتحه –سرا- مرة كل شهر، لذا جاءت النهاية منطقية ، فلم يحو الصندوق سوى قطعة خيش ،أخرجها الحفيد ليتشممها بعد أن شخر جده الشخرة الأخيرة.
    تتكرر فاعلية الماضي وحاكميته في مصائر الشخصيات في قصة نوبة صحيان ، حيث  تقف الزوجة أم الولد في نوبة الصحيان الأخيرة –من خلال تقنية الفلاش باك- مسترجعة ماضيهافي بيت الزوجية ،وتطوف عيناها بزوايا البيت ،غرفه وأركانه و حوائطة ومحتوياته الريفية البسيطة،لكل جدار ذكرى ولكل شبر مناسبة،وحين تشبع العين والنفس يكون الموت هو النهاية الحتمية،البيت هو المركز والبؤرة التي تدور من حولها أحداث القصة ، يمنحه الراوي كل سمات البطل من حيث الفاعلية ، والقدرة على توجيه حركة الآخرين،ومواقفهم بل ورؤيتهم للعالم، من خلال لغة مكثفة ،خالية من الإضافات  والزوائد ،وراو عليم يحاول أن يمسك بتلابيب عوالم  توشك أن تنطمس معالمها ، وتضيع مكوناتها الريفية ، من شقوق وكوانين وبلاليص وزلع ...إلخ ،وكما كانت العلاقة بين الجد والصندوق ممتدة حتى اللحظة الأخيرة في حياته، يستمر امتداد التعالق الحميم بين أم الوِلد والبيت ، حتى أن نعشها يطوف بالبيت كما يطوف الحاج، ولا تتحرك إلى قبرها إلا بعد أن جاء النداء الشعبي الأثير الذي يجسد تعالق الكائنات بأماكنها :الجمل هام للنبي .
  في قصة عجز يقف القلام منسحقا أمام نخلته الأثيرة، هو في حد ذاته انسحاق أمام الزمن وسطوته ،حيث أقعده العجز عن صعودها أو تقليمها، ومن خلال نظرة البطل إلى النخلة تنفتح البؤرة على علاقة عشق بين القلام ونخلته.
  وفي القصة التي تحمل اسم المجموعة ( صور مؤجلة للفرجة) تنتهك الزوجة في رحلتها إلى زوجها السجين روحا وجسدا،في رحلة الذات المنهكة، وبرغم بساطة الفكرة إلا أن التنويع المستمر على القهر والامتهان الذي تتعرض له الزوجة، من خلال تمزق السروال وعبارات البقال و نظرات الضابط المبثوثة عبر فقرات القصة، فكل ذلك يجعل من القهر خيطا يشد جميع عناصر القصة نحو النهاية المحتومة وهي نقل السجين إلى سجن آخر، مع ملاحظة أن عنوان القصة يثير تساؤلات التعالق، أكثر من ممكنات التأويل .
    وتكشف التقاليد عن وجهها القبيح الضاغط في قصة وخز من خلال العلاقة بين أم الزوج الراحل وأرملته التي تحاول التفلت من سيطرتها وتحكمها من خلال شظية المرآة التي تنظر من خلالها إلى حاضرها الرازح تحت سيطر الانسحاق، إن رحلة الأرملة إلى الطاحون هي رحلة الخلاص والبحث عن الحرية، حيث تدس شظية المرآة للتأمل وجهها ككل النساء ، لكنها رحلة مليئة بالأشواك التي تشبه أشواك السنط التي علقت بها ونالت من قدميها نصيبا ،والنهاية الطبيعة أن تعود إلى بيتها حيث تستقر السلطة الحاكمة بدون شظيتها التي ابتلعها القادوس.والعلاقة بين الأرملة والمرآة تتكرر بصورة أخرى في قصة مشهده الأخير.
  وفي قصة سؤال الغفلة، يتجسد عرض الرجل الريفي في ملابس أنثاه الخاصة التي يراها عورة ،لا يجب أن يطلع إليها أحد، لذا استراح برغم القبض عليه، وذهب مع الشرطة مستريحا النفس ،هادئ البال.
      من وجهة نظر سردية يلاحظ أن الراوي يقف  - غالبا - على مسافة من أبطال قصصه ،وهذا ما يبرزه استخدامه لضمير الغائب في جل قصص المجموعة ، والتزامه بتقنية الراوي العليم ، لكن تلك المسافة لا تمنعه من التعاطف معهم والحنو عليهم من خلال رصد مكامن الوجع والجروح التي لاتزال تشخب دما.،ويأخذ السرد شكله الدائري، حيث يتكئ السرد على فكرة رئيسية بسيطة غالبا ، يوسع الراوي من دوائرها بحيث تتحلق الشخصيات وتفاعلاتها حول تلك البؤرة  دون أن تراوحها،وبعبارة أخرى تمثل الفكرة الرئيسية المجرى الأساسي للنهر الذي تصب فيه مسارب الماء الأخرى ،لتجعل منه نهرا فيضا بالعذوبة، ولأن الماضى له الحاكمية نجد أن تكنيكات السرد  يهيمن عليها تقنية الاسترجاع الخارجي، في الوقت الذي تغيب فيها تقنيات الاستباق وتتلاشى أما فاعلية الماضي ،فالقصص في معظمها استرجاعية تتوقف عن حاضر الشخصيات المأزوم، لتكشف عن طبيعة ذلك الماضي وما يحمله في جوفه  من مسببات لا يد لتلك الشخصيات فيها. ونادرا ما يستنطق الراوي الشخصيات، لكنه حين ينطقها، يجعها تنطق بالحكمة الموجزة القصيرة الفاعلة، بصورة تجعل من الحوار فاعلا في الأحداث ومحركا لها وكاشفا عن طبيعة الشخصيات في بعدها السيسيولوجي والتاريخي،وما ينطبق على الحوار ينطبق على الوصف حيث جاء الوصف موجزا متناثرا في ثنايا القصص، غير مشغول بوصف البيئة في سكونها بقدر ما هو مشغول بتضفيرها في ثنايا الأحداث، بحيث تكتمل الصورة الوصفية باكتمال القصة .ولا ينسى البلكي أن يضيف ما يشبه البهار لقصصه متمثلة في مفردات البيئة الصعيدية وطقوسها وتقاليدها وأغاننيها وعديدها في سبيكة واحدة ،تجعل من كل قصة وجبة طازجة، أما البطولة فلا ينفرد بها الرجال برغم سلطوية الجنس الذكوري ، إذ تظهر الأنثي أكثر فاعلية خاصة في غياب الذكر لظروف قاهرة كالموت أوالسجن أو السفر، حيث تجبرها الظروف على المقاومة بأبسط الوسائل، لقد وضع البلكي الأنثى الصعيدية في مكانها الحقيقي كعمود للبيت وأساس متين لتماسكه ،بعيدا عن الصورة التقليدية النمطية التي  يتداولها الإعلام.

                                                                          
 

ليست هناك تعليقات: