2013/04/27

أبو عبد الله متري نعمان جوانب من أدبه وشخصيَّته في إطار مئويَّته بقلم: د. عمر الطباع

جوانب من أدبه وشخصيَّته
في إطار مئويَّته
د. عمر الطباع
 
"الأستاذ" متري نعمان، أو "أبو عبد الله"، إحدى شخصيات القرن العشرين النادرة، ووجه عريق من وجوه المفكرين والأدباء الأفذاذ، والرجال المتفوّقين في سياق دورة الزمن خلال القرن المذكور.
وقد جرت مؤخراً في مؤسَّسة ابنه، ناجي، للثقافة بالمجان، الاحتفاليةُ الخاصة بمئويته الأولى (1912-2012)، وأُلقيت كلماتٌ في المناسبة من قبل كلّ من المُنسِنيور جورج يِغيايان، والأديب البروفسّور منيف موسى، والرّوائي جورج شامي، والسيّدة سعاد نعمان القارِح، والمعَلّم شاكر الشمالي، والعلامة العراقي الدكتور سهيل قاشا، والأديب الدكتور أنيس مسلم، والمحامية حنان نعمان، والأديب الدكتور إميل كَبا، والشاعر والأديب السوري رياض حلاَّق، والأديب والخطيب جورج مغامس، فيما ختم نجله ناجي بكلمة شُكرٍ داعِيًا الحُضورَ إلى افتتاح مكتبة المَجموعات والأعمال الكامِلَة وافتتاح صالة متري وأنجليك نعمان الاستعادية. وستستمرُّ المئوية حتى تشرين الأول المُقبل، وستتضمن إصدار كتب جديدة في المناسبة أو عن جائزة متري نعمان للدفاع عن اللغة العربية وتطويرها.
***
لا تدري وأنت تحاول أن تؤرخ لحياة متري نعمان، أبي عبد الله، بأي جانب من جوانب سيرته تبدأ، فهو النجيب في عهد الطلب، وهو الشاعر والأديب والناقد والاداري واللغوي، في طور الرجولة، وهو كل هذه السمات في آن معاً، ومن الصعب أن تغلّب إحدى هذه السمات على الأخرى، لأنه بحق أنموذج للمثال في كل ما ذكرنا، وليس يسيراً للذي يتصدّى لكتابة سيرته أن يفيها حقّها من الدراسة منذ ولادته في السادس من تشرين الأول 1912، وحتى توقفت خطاه فوق رمال الزمن يوم السبت في الثامن من كانون الثاني عام 1994.
***
كانت ولادة متري نعمان في "حارة بولاد" من محلة "باب توما" في دمشق. ونتجاوز طفولة الوليد في أحياء باب توما، وما كان فيها من براءة وإمارات الفطنة ونشاط الصبية الصغار، وعهد الدروس الأولية على أيدي الراهبات، ومتابعة التحصيل الابتدائي في المدرسة البطريركية في دمشق بين عامي 1921 و1926، لنخطو الى عهد الطلب الأول، وكيف انتقل متري الى بيت المقدس، حيث تابع التحصيل نحواً من ست سنوات في مدرسة الصلاحية.
وقد تلقَّن متري العربية والفرنسية واللاتينية واليونانية، ودرس على نفسه الإنكليزيَّة، وكذا الطليانية والإسبانية والبرتغالية. وانطلق ينظم الشعر تبعاً لأصول الأوزان الخليلية، ويدهشنا ذكاؤه وسعة أفقه في تلك المرحلة المبكرة، فقد مارس القريض في اللغات الأربع الفرنسية والانكليزية واليونانية واللاتينية.
ومن الأهمية بمكان متابعة نشاطه في الصلاحية، كما حدّث عنه ابنُه الأستاذ ناجي نعمان في كتابه "مع متري وأنجليك" - وهو أحد كتبٍ ثلاثة أُصدرَت عن مؤسَّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجَّان بمناسبة مئويَّة متري نعمان الأولى (1912-2012) – ممّا يقدِّم  صفحات حول النبوغ المبكر الذي ستتفتّق براعمه وتتفتح أزاهره في عهد الأستاذية.
 
متري نعمان، الأستاذ والأديب
في الرابع والعشرين من تشرين الأول 1933، بلغت متري - وهو في الحادية والعشرين - رسالة من الأب العام على الآباء البولُسيِّين في حريصا بلبنان يطلب فيها منه الحضور الى حريصا والعمل في خدمة الرسالة البولُسيَّة. والتحق متري بالرِّسالة، ولم يحدَّد له فيها عمل (وإن ارتبط اسمُه منذها بالمطبعة البولُسيَّة التي سيستمرُّ في خدمتها 54 عاماً).
وأمضى متري نعمان حياته بين حريصا (1933-1955) حيث استأجر منزلاً، وكانت له مواقف، ولاسيَّما مع الرئيس بشارة الخوري، وصربا، إحدى مناطق جونيه الأربع (1955-1994) حيث ابتنى له دارةً من تصميم المهندس مردريوس ألتونيان، مصمِّم مجلس النواب اللبناني، وتابع، كما يقول ابنه ناجي، المواقفَ مع الرؤساء، ولاسيَّما مع الرئيسَين جمال عبد الناصر  وكميل شمعون.
ويتابع ناجي نعمان الكلام على علائق والده الأستاذ متري، فيفتكرُ لفيفاً ضخماً من الأدباء المشرقيين أمثال سعيد عقل ورياض المعلوف وجورج فاخوري وحنا فاخوري ويوسف غصوب وأنطون قازان وخليل الجرّ وفؤاد افرام البستاني وعبد الله العلايلي والياس ربابي وكمال جنبلاط وبولس سلامه؛ ويذكر جلسة حوار لمتري مع أحمد الصافي النجفي في "مقهى كوكب الشرق" ببيروت، في حضور الأخطل الصغير.
ويقول ناجي في سرد صداقات والده مع الأدباء الغربيين: "وقد تميزت علائق متري بعدد من الأجانب، ومنهم الشاعر الفرنسي جورج شارير، والفنان التشكيلي الإيطالي أرتورو أرتس، والكاتب والناشر الأب بول كورون".
ومن الأهمية بمكان، في سياق حديثنا عن الأدباء الذين رعى الخالدُ الذكر نتاجهم بالأناة والأناقة، أن لا نهمل تراثَه، بدءاً بما طبع منه، انتقالاً الى ما زال محفوظاً. ولا مندوحة من الاستعانة بمرجعين لتحقيق هذا الغرض أولهما كتاب ناجي نعمان الذي يُعَدُّ مصدراً بارزاً في تاريخ متري نعمان وأسرة آل نعمان الأفاضل، عنيت كتاب "مع متري وأنجليك"، وثانيهما مأثرة الدكتور ميشال كعدي عن الراحل العظيم، في كتابه: "متري نعمان: الرجل والمآثر".
وأمَّا مؤلفات متري نعمان المطبوعة، بالتسلسل التاريخي، فهي: مسرحية شعرية بعنوان "التلاقي بعد الفراق"، طبعت عام 1930، ولعلها من بواكير ما ألف، وكان في حدود الرابعة عشرة؛ "في سبيل الثأر"، وهي مسرحية شعرية أيضاً، وصدرت عام 1938؛ ديوان شعر بعنوان "هيمنات ذكرى الحبيب"، 1952؛ قصة صدرت عام 1952 أيضاً بعنوان "من الجحيم إلى النعيم"؛ نقد لغوي بعنوان "أنقذوني من أهلي"، هدف به إلى الدفاع عن اللغة وذكر أسباب التقصير في خدمة لغة الضاد، 1979. وبتاريخ الثامن من كانون الثاني 2002، أصدر الأستاذ ناجي السيرة الذاتية لوالده، مُضيفاً إليها منتخباتٍ من كتاباته وترجماته تحت عنوان "متري نعمان: السيرة الذاتية ومنتخبات".
ولمتري نعمان ترجمات مطبوعة، أبرزها: الأُمّان، مسرحية نثرية، 1940 و1955؛ "الخوف من الدير"، مسرحية نثرية (للبنين)، 1944 و1957؛ "الفتاة الظّليم"، مسرحية نثرية، 1946؛ "محاورات الكرمليّات" (عن الثورة الفرنسية)، لجورج برنانوس، 1963؛ "الأمل" (عن الثورة الإسبانية)، لأندره مَلْرو، 1964؛ "دفاع سقراط وكريتون" لأفلاطون، إلى اللغة اللبنانية، سلسلة "أجمل كتب العالم" لسعيد عقل، 1968؛ "بريطانيا في عهد الملكة ڤكتوريا" (سيرة دزرائيلي)، لأندره موروا، 1969؛ "العلاقات الإنسانيّة"، لفرنسيس بو، سلسلة ماذا أعرف؟، 1971.
وثمَّة للراحل ترجمتان مخطوطتان: "الخوف من الدير" (للبنات)، مسرحية نثريّة؛ و"إيحاءات إلى الأخت خوسيفا مِنِنْذر"؛ ويذكر الأستاذ ناجي في هذا الكتاب أنّ المكتبة البولُسية خيّرت الراحل بين نشر كتابه المترجم ذاك، أو نشر كتاب في السلسلة عينها (سلسلة "الشهود") لشقيقه حنَين نعمان بعنوان "مارغريت سنكلير"، ففضّل نشر كتاب شقيقه، لا بل وقدّم له!
وأسهم متري نعمان في إصدار سلاسل مدرسية، ولاسيّما "المشوّق"، وفي تصحيح "المعجم العربي" الحديث (لاروس)، وفي وضع فهرس "المَسَرَّة" الهجائي المثلّث، وفي عشرات الكتب والمقالات، من دون أن يبرز اسمه. وله كثرة من المقالات النقديّة، والقصائد، نشرتها المجلاّت والجرائد، ومنها: "المسرة" (حريصا)، "الّصلاح" (القاهرة)، "الزمان" (بيروت)، "الحب والسّلام" (حمص)، "جوبيتير" (بعلبك)، "الضادّ" (حلب)، "كوميديا" (دمشق).
وكُرِّمَ متري نعمان بنيشان المعارف اللبناني عام 1985، وبوسام فارس في الفنون والآداب الفرنسي عام 1989. وقد علّق الأول على صدره وزير الإعلام جوزف سكاف، وعلّق الثاني مستشار الثقافة والتعاون العلمي والتقني في السفارة الفرنسية، جاك ﭭرجِه.

متري نعمان شاعراً ومترجماً ولغويّاً
أصدرَت مؤسَّسة ناجي نعمان للثقافة بالمجَّان بمناسبة مئويَّة متري نعمان الأولى (1912-2012) كتاباً ثانياً بعنوان "متري نعمان بأقلام قارئيه وعارفيه"، ويقولُ النقيب أنطوان رعد، تحت عنوان "متري نعمان المترجم: روّض اللغة وأعجم عودها": "تسنى للأديب متري نعمان، بحكم مواهبه الأدبية وثقافته الواسعة... أن يكرّس حياته للأدب، وأن يثري المكتبة العربية بمجموعة من الكتب تأليفاً وترجمة... وقد أبلى بلاء حسناً في الكتب التي تولَّى ترجمتها عن الفرنسية، ولاسيَّما التي هي لثلاثة من كبار أدباء فرنسا في القرن العشرين". وأرفق النقيب بحثه بمقطعين من هذه الترجمات قائلاً: "إن الترجمة الناجحة أبعد ما تكون عن النقل الحرفي"، مؤكِّدًا أن "متري نعمان في صنيعه كمعرّب، أعاد خلق النصّ مع احترام مكوّناته ومحتواه. وتلك لعمري شهادة أستاذ أديب خبير بأصول الترجمة وأسباب البراعة فيها".
وفي الكتاب عينه، يقدّم لنا الدكتور إميل كبا شهادة ذات قيمة ووزن في الشاعر متري نعمان، يقول: "متري نعمان شاعر غزير في فنون الشعر الكثيرة، كالمعدن الثمين الذي لِحِلية: مقدارٌ فيه من عنصر دخيل فما يلوي ذهبه بين يديك، أو قل هو: "نسرةُ الجمال – والتعبير لسعيد عقل – واجبٌ أن تتضمنها كل قصيدة كملكة تحفُّ بها جوارٍ، فما تتعبك العظمة المختالة، لا ينال من احتفائك بالحُسن، كما لا يُنقص من شغفك به رُتوب".
وأمَّا الدّكتور يوسف عيد فيتكلَّمُ على متري نعمان اللُّغوي، جاعلاً منه مَولى في هذا المجال.
وتلي القراءات الثَّلاث شهاداتٌ ستّ في نعمان بقلم جان كميد ورياض حلاق وهنري زغيب وجوزف أبي ضاهر وعبده بو نافع وشكري باسيل.
***
هذا، ولا يسعني أن أطيل في الكشف عن خصائص أدب متري نعمان، في شعره ونقده، ومحافل تأليفه وتعريبه، إنما أقف عند ظاهرة كبرى في شخصيته رجلاً ومفكراً، وأديباً لامعاً، ألا وهي: البراعة في البناء.
كان متري نعمان بنّاء بحق، فلم يكن للهدم في وجوده الزمني والفكري وجود: كان بناء في طفولته الشقية، وعهد الطلب وطور الرجولة والأستاذية في الإدارة والتعريب والخلق والإبداع الشعري. وكما بنى دارته على أحسن طراز وأتم هندسة، هكذا بنى صرحاً عائلياً قوامه شريكته التي كانت نخبة بين النساء، وأولاده الذين عمل على تربيتهم والإشراف على مسيرة أعمارهم، وبخاصةٍ لجهة العلم والعرفان والفضائل الإنسانية.
أجل، إن العبرة الأسمى التي تستخلص من كيان متري نعمان في العمل والأسرة والنتاج الفكري أنه كان ثمرة تجريب وخبرة وفيرة في العمارة، وإتقان في الأمور الصغيرة، حريصاً على سلامة سائر أبعاد الكيان، وهذه العمارة كانت مصانة بأخلاقياته، وفي طليعتها الدأب والجدّ والصدق والسماح والإباء وصون الكرامة. لقد كان كبيراً في كل شيء حتى شقاوة الطفولة، لا يقبل إلا الواقع الناجز، مهما كانت التضحيات.
وإلى الصديق ناجي نعمان، حامل الراية الفكرية بعد والده الجليل، ألف تحية إكبار لكونه الشبل الذي غدا ليثاً بعد أن خرج الليث الأب من عرينه، صوناً للإرث العظيم.
 

ليست هناك تعليقات: