نص ريم
ـ لا
كنت أنوى كتابة قصة عظيمة عن بنت جميلة لم تتعد السادسة عشر تدعى ريم ، وولد لم يتعد الثامنة عشر يدعى شوقي .
كنت سأكتبها كحلم خافت ، كضوء شمعة وحيد ينساب ببراءة عينين تتفتحان للمرة الأولى .
الذكريات النشوى بين البلوك رقم 9 والكثير من الشوارع الجانبية كثيفة الأشجار .
القبلات البريئة ، ارتعاش جوارحيهما بالحب العنيف .
وكنت سأسترسل في وصف اللحظات المسائية الناعمة حين تفتر حماسة النهار للصمود ، وينطلقان كفرسين جامحين تحت الهواء الندي ، والسماء من فوقيهما منامة دافئة تحتضناهما .
كنت سأسترسل في اللحظات الجميلة بعد إعداد كوب من الشاي الساخن ، وأفكر في المتعة التي سأعيشها والكلمات تقطر أحاسيس فطرية بعيدا عن ثقب الأوزون وأحكام الفصلين السادس والسابع في اجتماعات مجلس الأمن ، وأفكار كونداليزا رايس عن شرق أوسط كبير أو جديد .
وأفكر في ألم الكتابة حين يعاودني ، ووخزتها اللذيذة .
لم أهتم بعقارب ساعة اليد الملقاة على إفريز النافذة العريض ، أو صوت المذيع الأجش حين قطع الخيط الحريري لصوت نجاة الصغيرة معلنا عن نشرة أخبار الواحدة والنصف من صباح اليوم الجديد . لم تشغلني أخبار المؤتمر الصحفي العالمي .. أو تصريحات رئيس الوزراء ..أو الغارات الإسرائيلية على الجنوب اللبناني ..الخ .. الخ .. الخ .
فقد كانت ريم ترتسم أمامي بوجهها المثير للأحلام ، وتحاصرني بهالة من الشعاع والجاذبية وتدق بكفها الأبيض الصغير باب الطفل المسكين المتعب حتى استيقظ داخلي ، وظل يبكى بحرقة ، ولم تجد معه كل الألعاب التي أعددتها لإسكاته .
ها هي تقف أمامي ، الثوب الشفيف يعانق جسدها باشتياق ، الأرض تحت قدميها السحاب ، والعينان لؤلؤتان ، والشفاه حلو شرابها تقول هيت لك ، أتشمم فوح شعرها فيأخذني إلى جنة الخلد .
يستوقفني ذلك ألشوقي عند الباب ، صلفا ، غرورا ، عيناه تضويان بنور أحمر شرير !
بدا وكأنه في حالة عداء أبدى معي ، مما جعلني أتردد كثيرا قبل أن أصنع له ما انتويه من ذكريات جميلة وأيام طالما حلمت أن أعيشها وحدي معها .
لم أستغرق وقتا كبيرا حتى قررت أن أترك شوقي لقصة أخرى وأن أختار له فتاة أخرى أكثر مناسبة له .
أما ريم في هذه الليلة الجميلة ستكون لي وحدي ، وسيمتليء كل جزء في بها وستمتليء بي ، وسيقطع الطفل المسكين بكاءه ويضحك ويكركر .
قررت أن أبدأ .
سحبت سيجارة أولى من علبة التبغ الجديدة ، وشرعت أبحث عن القلم فلم أجده ، هم الغضب أن يتملكني .. لكنني تذكرت إن الليلة ليلة ريم ، ولا يجدر بغيرها أن يتملكني .. فشرعت أبحث عنه وأمنيه بقصة ستروي ظمأه للكتابة ، وأخذت أقص عليه من خبر ريم ما يزيد من شوقه ولهفته ووعدته أن أجد له دورا في هذه القصة وأبحث له عن حبيبة تسيل مداده شهدا يتعاطاه المحبون .
لكنه ظل على غيبته حينا ، مما جعل القلق يساورني على صديق ألفته لا يغيب عني .
لاحظت ريم انشغالي عنها ، فتورد خدها خجلا ولم تفارق ثغرها ابتسامة ودود .. همست بصوت ملائكي حنون خلع قلبي من موطنه ، وطار به في ملكوت لا نهائي :
ـ ربما كان في أحد أدراج المكتب المقفولة .
وكم ضاعف سعادتي شوقها أن تكون معي ، لهفتها أن نبدأ القصة الجميلة . فاجأت قلمي الغائب بالدرج الأسفل لمكتبي يختلي بورقة ناعمة بيضاء ، يوشوش في أذنيها بكلمات الحب والهيام وهى تقف أمامه تتمايل كغصن بان أخضر يتراقص على لحن نسمة ربيعية رطبة .
هالني ما رأيت من قلمي وجرأته الشديدة حين ضمها إلى صدره وقبل فاها .. يحوط خصرها بذراعيه وظل يراقصها على أنغام دبيب قدميه ، وتجاهل عيني حين تلاقت بعينيه وكأنني آخر لا يعرفه ، وكأنه لم ير ما في عيني من شوق لقصة انتويت كتابتها .
قررت أن أقطع عليه خلوته .
اقتربت منه وبإصبعي دققت على ظهره دقات خفيفة خافتة حتى التفت إلى متجهما وقال باندهاش وعلامات استفهام عصبية تطل من عينيه :
ـ نعم ...م ؟؟؟
بصوت خافت يحمل بين طياته الرجاء والتهديد قلت :
ـ أريدك لأمر هام .
ـ ليس الآن .
وأشاح بوجهه عنى وواصل رقصـته .
تراجعت للخلف مذهولا لعصيانه أمري .. من بعيد لمحت ريم تكتم ضحكتها ، فابتسمت لها وعدت برأسي إليه سريعا ودققت على ظهره دقات خفيفة خافته .. زعق في وقال غاضبا :
ـ أليس عندك نظر ؟؟!
لا أعرف لم شعرت بمهانة شديدة ورغبة ملحة في القيام برد فعل عدائي يرد بعضا من هيبتي المفقودة .
فكرت في أمور كثيرة ، لكنها لم تكن أفكارا مرتبة ومرضية ، واعتقدت أنني بحاجة لورقة وقلم لتنظيم أفكاري المربكة ، ووجدتني أعود لنقطة البداية من جديد وأصبح رأسي يموج بعمليات حسابية معقدة لم أعتادها .
انسحبت أدارى حرجا شديدا ألم بي ، ووجدت إنه من الأفضل أن أنتظر حتى يأتي وحده ، وأن أسلي نفسي بالاستماع إلى موسيقى هادئة أغيب معها إلى عوالم ريم الملائكية .
لكنني وجدته يتعقبني ويلكزني بقدميه فتنبهت له ، وقررت أن أحادثه بجفاء :
ـ ماذا تريد ؟؟
ـ هات ورقة
ـ لا .. ليس لي مزاج للكتابة
ـ هكذا !! .. ألا يكفيك إنك أفسدت ليلتي ؟
ـ أرجوك لا أريد المزيد .
فكرت قليلا ، ووجدت إن استمراري في العناد سيفسد ليلتي أيضا ، فأسرعت بإحضار الورقة ، وأخذته بين أصابعي وزممته بعنف وبدأت الكتابة عن ريم .
مر وقت طويل وأنا مخمور بريم حتى انتهيت من كتابة القصة التي انتويت كتابتها ، وأطلقت سراح قلمي ، وأعدت قراءتها .
لم أجد كلمة مما كتبت ، ووجدت قصة أخرى وامرأة أخرى غير ريم وشخص آخر غيري . اشتد غيظي , ونظرت إليه وجدته يسير بين الكتب منتشيا كطائر بطريق سعيد .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق