رحلة مع كتاب ( هؤلاء أصدقائي )
للدكتور عبد الملك مرتاض
بقلم: عبد
الله لالي
الجزء
الأوّل
لهذا الكتاب قصّة غريبة
معي، قصّة تشبه قصص الرّحالة القدامى مع العجائب والآثار المدهشة التي اكتشفوها في
طريقهم صدفة وخلّدوها بأقلامهم كما تخلّد المشاهد الرّائعة بريشة فنان مرهف
الإحساس حادّ البصر والبصيرة، أعرف الدّكتور عبد المالك مرتاض ( قبل أن أعرف عبد
الملك ) منذ زمن طويل معرفة متابعة ثقافيّة وأدبيّة، ولم أشرف بمعرفته الشّخصيّة،
هو العلم المبرّز في اللغة والأدب والنّقد، ولا يكاد يوجد مثقف في الجزائر لا
يعرفه، كما أنّ له شهرة طبّقت الآفاق في العالم العربي. لكنّ كلّ ذلك لم يجعلني
أقرأ كتبه بشراهة قراءتي لكتب الأدباء المشارقة ( عقدة النّقص المغاربيّة طبعا )،
وربّما قرأت له كتابا واحدا أو كتابين لا أذكر على وجه التحديد، كما قرأت له عدّة
مقالات في مجلات وصحف مختلفة[1]
بهرتني بأسلوبها العربي المحكم المتين.
أمّا هذا الكتاب ( هؤلاء
أصدقائي ) وهو من أحدث كتبه على ما يبدو، فقد أسرني أسرا شديدا لم أجد منه فكاكا،
بل لم أرد له ذلك، ورغم حجمه الكبير نسبيّا، حيث أربى على الخمسمائة صفحة من القطع
الكبير، وبخطّ صغير نسبيّا؛ إلا أنّني وددت لو أنّه كان بحجم أكبر، كأن يكون في
ثلاثة أو أربعة مجلّدات مثلا، لأنّه كتاب لا يُشبع منه حقّا، وأظنّ أنّه الكتاب
الوحيد الذي عندما بدأت بقراءته قلت في نفسي:
" لابدّ من إعادة
قراءة هذا السّفر العظيم "
وهو الكتاب الوحيد على وجه
اليقين الذي كنت أدون ملاحظات من كلّ صفحة منه، ما بين نادرة لغويّة أو أسلوب عربي
جديد عليّ لم آلفه من قبل، أو فكرة مدهشة تحتاج الوقوف أمامها طويلا لتأمّلها
وتقليبها على كلّ الوجوه.
وحتى لا أنسى فلأرجع إلى
قصّة شرائي لهذا الكتاب من الصالون الدّولي التاسع عشر للكتاب، بالجزائر العاصمة،
فأنا رغم حبّي للكتب وهيامي بها لم أزر هذا الصالون في حياتي من قبل ولا مرّة
واحدة، ذلك لأنّه يقام في العاصمة وأنا أقيم في الجنوب الجزائري على مسافة حوالي
450 كيلومترا، ولا أحبّ السفر الطويل ولا طاقة لي به، وكلما عنّ لي سفر لازم أذكر
قول النّبي صلّى الله عليه وسلّم السّفر قطعة من العذاب[2]،
والكتب صارت اليوم بحمد الله متوفرة في كلّ مكان، ورقيّة وإلكترونيّة، فلا حاجة
إلى أن نسافر إليها، إلا لمن كان يبحث عن النّوادر ويسعى إلى الكشف عن
المخطوطات.. !
وأمّا حديث تلك السَّفرة
المفاجئة فإنّ سببها كان زيارة الشيخ علي الرّضا الحسيني الأديب والشّاعر الفذّ؛ الجزائرَ
في جولة علميّة وأخويّة ليرى من خلالها الأهل والأحبّة، وهو الجزائريّ الأصل
التونسي الهجرة ( أقصد هجرة الأجداد ) السّوري المستقرّ، وكنتُ لزيارته مشتاقا
وعليها حريصا، لكنّ الظروف القاهرة حالت دون لقائه في بسكرة التي جاءها لمدّة
يومين، وسرعان ما غادرها على عجل ولم وتشبع منه ولم يشبع منها، وترك بعض كتبه
لأحبّته فيها، فكان من حظّي أن جاءني واحد منها هديّةً مهداة مرّتين، وذلك لا يجوز
في غير الكتب والمقروءات من دوواين العلم والمعرفة.
وكتبت عن ذلك الكتاب - الذي
كان بعنوان ( رسائل المحبّة إلى الأحبّة ) - مقالةً أُبدي فيها إعجابي بالكتاب
وأظهر مكامنَ من رياض الزهر بين دفتيه، فقرأ الأستاذ المقالة فاستحسنها وأخبرني
أنّه سيضمُّها إلى كتابه الذي سيؤلّفه عن رحلته المغربيّة وعزم على أن يسميه (
رحلة المحبّة إلى الأحبّة )، فطرت بذلك فرحا وزادني سرورا وغبطة، وكان قَطْرًا ثم
انهمل؛ فقد علمت أنّ الأستاذ علي الرّضا سيهدي الأعمال الكاملة لعمه الشيخ الخضر
حسين لأربعة من مثقفي بسكرة ممن لقيهم في هذه الزيارة، على أن يستلموا تلك الكتب (
الأعمال الكاملة ) من الصّالون الدولي للكتاب المقام بجناح ( دار النّوادر ) في
العاصمة، فلمّا قرأ مقالي ضمّني إليهم خامسا فائزا بالهديّة الثمينة، بل الكنز
النّادر.. وكان لابدّ من السّفر إلى العاصمة على عَجَل ( حتى وإن كان السّفر قطعة
من العذاب ).
وحملتني الحافلة على أجنحة
من الضّوء فقطعت المسافة في أقلّ مما ألفت أن أقطعها سابقا، ونزلت نزلا مباركا (
الفندق العصري ) قريبا من ساحة الشّهداء، وعجلت إلى الصّالون مع إشراقة الصّباح
وركبت الميترو والتروماي لأوّل مرّة، وكان يرافقني في هذه الرّحلة ابن خالتي أستاذ
الفلسفة، فقلت له مازحا لما انطلق بنا المترو:
-
بدوي في العاصمة ..
فضحك ملء شدقيه، إذ هو كان يعرفها من قبل وقضّى فيها شطرا كبيرا من مدّة ( الخدمة الوطنيّة )، كما كان يزدارها ( بلغة
أستاذنا عبد الملك مرتاض ) حينا بعد آخر، ولما وصلنا لم يهدئ لنا بال حتى وجدت ( دار
النوادر )، وأخذت منها كنزي الثمين، ثمّ طفت قليلا في بقيّة الصّالون ولا رغبة لي
في اقتناء المزيد من الكتب، ( كنت أحمل ثمانية عشر مجلّدا )، وإذا بي أقف قبالته
فجأة يرمقني بإغراء ويقول لي: هيتَ لك.. ( هؤلاء أصدقائي ) أ. د عبد الملك
مرتاض.. !
وما أدراك ما عبد الملك مرتاض ..؟ ! لا يحتاج شراء كتبه إلى كبير
تفكير، حتى وإن ارتفع الثمن، وأخلّ بميزانية الشهر.. ! لاسيما وأنّ البائع قال لي:
-
ثمنه ألف
وخمسمائة دينارا ولكنّه في الصّالون بألف ومائة فقط.
ولم أناقشه الحساب ولا طلبت تخفيضا أكثر في سعر الكتاب، إنّما دفعت الثمن
وقلت لرفيقي دونك الصّالون طف به كما يحلو لك، وأنا هنا في انتظارك، وانتحيت جانبا
وشرعت في القراءة؛ قراءة مرتاض طبعا في سفره ( هؤلاء أصدقائي ) وعنوانه الفرعيّ "
ملامح من ذكرياتي مع الأدباء العرب "
قرأت بضع صفحات في ساحة المعرض الخارجيّة ثمّ واصلت القراءة ليلا في غرفة
الفندق، ولم أقطع فيها شوطا كبيرا لأنّ ابن خالتي أرهقه التّعب ويريد أن ينام
ولابدّ من إطفاء الضوء حتى لا يزعجه، لكنّ القراءة الجادّة للكتاب بدأت في الحافلة
حيث غبت عن العالم من حولي، ورحت أقرأ بِنَهَم قراءةَ دارسٍ متفحّصٍ لا قراءة من
يزجّي الوقت ويتلهّى عن طول الطريق، فما كدنا نصل مشارف بسكرة إلا وكنت قد جاوزت
في القراءة مائة من الصّفحات وأكملت عشرا على ضوء مصباح الهاتف بعد أن حلّ اللّيل
مرخيا سدوله وأطفأت الحافلة أنوارها الدّاخليّة.
وكنت أثناء القراءة أدوّن من كلّ صفحة ملاحظة أو أكثر، وعندي الآن رزمة من
الأوراق الصّغيرة التي عجّت بتلك التدوينات، وكان لابدّ من الوقوف عندها طويلا
لاستكناه مخبوءاتها الرّائعة وفوائدها المدهشة.
إحياءُ الألفاظِ المُعجَميّة:
أوّل ما أدهشني في الكتاب اسمُ الكاتبِ نفسه، فمعظم مثقفي الجزائر وأدباؤها
يعرفون أنّ اسم الدّكتور عبد المالك مرتاض يُلفَظ بألف مدٍّ بعد الميم ( عبد المالك
) أمّا الملك فهو رسم ربّما لا يعرفه إلا القليل، ولم أكن منهم وقد صرت الآن بعد
أن أثبته الكاتب على الغلاف وكرّره مرارا أثناء مجالسه التسعة عشر، مع بعض الحيرة
وربّما الوهم.
هل إنّ اسمه عبد الملك لأنّ هذا هو اسمه الصّحيح أم أنّه ( عبد المالك ) نطقا،
وعبد الملك رسما، ذلك ما لم أجد له جوابا خلال قراءتي للكتاب كلّه بصفحاته التي
أربت عل الخمسمائة صفحة، ويا ليتها كانت أكثر..
في المتن:
الكتاب تحفة أدبيّة نادرة زانت المكتبة الجزائريّة حديثا( صدر في 2013 م )
وربّما حتى في المكتبة العربيّة على مستوى الأسلوب وفخامة اللّغة وقوّتها، إذ هو
يتحدّث عن الذكريات الثقافيّة للكاتب مع أصدقائه من مثقفي العالم العربي، وقد قسّم
كتابه إلى تسعة عشر مجلسًا بعدد الدّول العربيّة وترك منها ثلاثا هي جيبوتي وجزر
القمر والصّحراء الغربيّة، ولم يذكر لمَ هذا الاستثناء ! ألِأَنّه ليس له فيها أصدقاء أم
لسبب آخر.
وقد تحدّث في الكتاب بتلقائيّة وترك لقلمه نوعا من الحريّة التي لا تخضع للشّرط
العلمي الصّارم، ولكنّ المنهج الأكاديمي لم ينفكّ عنه تماما، فقد ألزم نفسه
بمنهجيّة شبه مطردة اتبعها على مدى الرّحلة مع أصدقائه في مختلف أنحاء العالم
العربي، إذ أنّه يتحدّث عن كتّاب كلّ بلد على حدة بشكل عام، مشير إلى مكانته
الثقافيّة والفكريّة في العالم العربي ذاكرا أهمّ أصدقائه من الكتّاب والأدباء في
ذلك البلد، ثمّ يأخذ نموذجين أو ثلاثة نماذج من أولئك الكتّاب ممن توطدت معرفته
بهم، ويذكر بالتفصيل ذكرياته معهم، ثمّ يفرد أحدهما بقراءة في بعض كتبه أو قصائده
التي سبق وأن نشرها عنه في بعض المجلات أو الصّحف.
وفي ثنايا تلك الذكريات أفكار مميزة وآراء نقديّة فريدة عرف بها الدّكتور
عبد الملك مرتاض، وكثير من مباحث اللغة والمصطلح النّقدي التي سنفرد أهمها بشيء من
التفصيل والمناقشة، مبحرين في رحلة ممتعة ومفيدة مع شيخ النّقاد الجزائريين
وأشهرهم في العقود الثلاثة الأخيرة.
إحياء الألفاظ المعجميّة:
أكثر ما يميّز كتابة الدّكتور عبد الملك مرتاض هو اتخاذه لنمط من الأسلوب
مغاير تماما لما هو شائع في السّاحة الأدبيّة، إذ ينمّق عبارته بألفاظ معجميّة (
اندرست ) أو تكاد، فيضعها في نسق من المعاني يبعثها للحياة من جديد، ونكاد نقرأ من
تلك الألفاظ في كلّ صفحة من صفحات كتابه ثلاثة أو أربعة ولا تخلو صفحة من لفظة
قديمة مبتعثة، أو اشتقاق جديد وضعه لمعنى مستحدث أو كلمة مترجمة، أو تصحيح للحن
شاع بين النّاس فعدّوه من الصّواب الفصيح..
ونسوق من تلك الألفاظ أمثلة نجلّي بها ما أشرنا إليه، ونعيد قراءة الكتاب
قراءة أخرى منطوقة و( مزبورة[3]
) يقول في صفحة 11:
" فأنا لم أكن وحدي الحكم الْتُرضَى حكومتُه " فكلمة ( الْتُرضَى
)؛ من الكلمات المهجورة في العربيّة، بل هي من نوادر العربيّة التي ذكرت في الشعر
العربي وتفرّد بها بعض الشعراء[4]،
ولا تذكر إلا في دروس النّحو لطلبة اللّغة، للتمثيل على ندرة دخول ( ال ) على
الفعل. وذلك لأنّ ( ال ) مختصّة بالاسم، لكن شذّ بعض الشعراء أو بعض الرّوايات
فجاءت بها هكذا.
وقد ذكر الدّكتور عبد الملك مرتاض هذه العبارة في سياق الحديث عن مسابقة
أمير شعراء العرب التي التي تقام في الإمارات وبرز فيها المؤلّف بروزا جماهيرا
كبيرا لم يكن يحظى به من قبل إلا في الوسط الثقافي، وربّما بشكل أقلّ زخما.
ومن العبارات القاموسيّة أيضا التي ذكرها في كتابه أكثر من مرّة وفي سياق
يتناسب مع دلالتها الخاصّة؛ عبارة ( دعوة جَفَلى لا نَقَرى )، وقد وردت تلك
العبارة في كتابه في صفحة 170:
" دعانا رجل كريم من أهل اليمن، ممن يقطنون عاصمة الإمارات وأبت أريحيّته
العربيّة إلا أن يدعوَ إلى عشائه النّاس، من أجل المغالاة في تشريفنا وتكريمنا،
دعوة جفَلَى لا نَقَرى .. "
وهي مأخوذة من بيت شعر أيضا، للشاعر طرفة بن العبد والذي يقول فيه: نحنُ في المشتاة
ِ ندعو الجَفَلى * * لا ترى الآدِبَ فينَا ينتقِرْ
والمقصود أنّ صاحب الدّعوة للمأدبة يدعو كافة النّاس ( دعوة جفلى ) ولا
يتخيّر أشرافهم ويترك فقراءهم أي لا ( ينتقر )[5]
وذلك من التفاخر بشدّة الكرم والمروءة، وهذه الألفاظ معجميّة بالفعل لا نكاد نجد
من يستعملها في العصر الحاضر، لكنّ الأستاذ عبد الملك مرتاض يسعى إلى إحياء
العربيّة بإحيائها، وإشاعتها بين النّاس وما شأن غرابتها واستغلاقها على الفهم إلا
لأنّ النّاس لم يعتادوا على استعمالها ولو فعلوا لصارت من حديثهم اليومي الذي
يتحدثون به تلقائيّا ودون تكلّف، وبعض تلك العبارات مأخوذ من المعجم القرآني
وهجرها هو هجر للقرآن الكريم، ولذلك يعمد المؤلّف وكثيرون من كتّاب العرب الكبار
ممن تربطهم بالتراث علاقة عشق كبير إلى استعمال هذه الالفاظ في كتاباتهم عساها
تنتشر وتُستَعمل في الكتابة والكلام.
وذكر أيضا مرّات عدّة عبارة ( أجاءتنا )، وهي لفظة قرآنيّة بامتياز وله
مثلها كثير؛ في هذا الكتاب مما سنخصّه بكلام مطوّل، والذي يعنينا الآن هو استعمال
هذه العبارة الرّائعة، فهي رغم قوّة تعبيرها وجمالها لا يكاد يعثر عليها في
استعمال مشاهير الكتّاب ممن قرأنا لهم على الأقلّ، وقد جاءت في القرآن الكريم في
سورة مريم في قول الله تعالى:
" فَأَجَاءهَا الْمَخَاضُ إِلَى
جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا
لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنتُ نَسْياً مَّنسِيّاً " يقول الدّكتور مرتاض في ص 125:
" وكنّا تركنا ملابسنا وأحذيتنا في السّيارة الحكوميّة التي أجاءتنا
من جدّة "
والمعنى حملتنا السّيارة وهو استعمال لطيف وجميل للغاية يا ليت كتّابنا،
يستعملونه ومثله معه، علّهم يقتربون أكثر من لغة الوحي التي هي أعظم لغة وفيها أشرق
أسلوب في التعبير عرفته حياة النّاس.
وفي صفحة 178 ذكر لفظة ( زابر ) بمعنى كاتب أو ساطر، وذلك في قوله:
" وزابر هذه الصّحائف.." يقصد نفسه، وهي كلمة قرآنيّة أيضا بلفظ
( الزُّبُر )، جاء في معجم المعاني الجامع:
" زَبَرَ الكِتابَ
: كَتَبَهُ ، أو أَتْقَنَ كِتابَتَهُ فهو مزبُور ، وزَبُور ". والشيء من
معدنه لا يستغرب، فنحن أمام رجل اللّغة النّحرير وزابرها القدير ..!
إحياءُ الألفاظِ المعجَميّة:
لو أنّك قرأت القاموس المحيط للفيروز أبادي أو لسان العرب لابن منظور، أو
الصّحاح للجوهري لما انتفعتَ بمادّته اللغويّة كما تنتفعل بما يقدّمه لك الدّكتور
عبد الملك مرتاض في كتابه هذا ( هؤلاء أصدقائي )، وهو يسرد قصّة أو يصف ندوة
ثقافيّة أو صديقا شاعرا أديبا، في لغة رشيقة ولفظ جزل مُنَمَّق، يحبّب إليك
العربيّة ويجعلها تسري في دمك مسرى الدّم من العروق، بل مسرى الأكسيجين من خلايا
الجسم يمدّه بالطّاقة والغذاء.
ومن غريب الألفاظ التي استعملها في كتابه ( غربة زمن وحال لا غربة أصل
ومنبت )؛ لفظة ( يَثلِثنا ) بمعنى يكون لنا ثَالثًا، في ص 40 عندما تحدّث عن وفاة
الكاتب المشهور مولود معمري، وذكر أنّه جمعتهما جلسة صباحيّة مع القاص عمّار بلحسن
فقال:
" ..كنت اصطبحت معه، مع القاصّ عمّار بلحسن، ولم يكن يَثْلِثُنَا في
مائدتنا ثالث، بعد أن كانت النّدوة انتهت عشيّة الأمس "
وذكر اللّفظة نفسها في ص 340 وهمّش لها أسفل الصّفحة موضّحا، ونبّه إلى خطإ
لويس معلوف في ( المنجد ) إذ جعلها هي و( يثلُث) التي بضمّ اللام أي يكون ثلُثًا؛
بمعنىً واحد، وبيَّنَ الفرق بينهما. وهذا والله فعلُ رجلِ اللُّغة المدقق في كلّ
كلمة يَسطرها فيكون له رأي أو اجتهاد يفيد به النّاس. وله كلمة أخرى ذكرها مرّة أو
مرتين في الكتاب ليست شائعة الاستعمال رغم سهولتها ويسرها، على الألسنة والأقلام
وهي لفظة ( سَافِرُ ) أي كاتب ولها المعنى نفسه لكلمة ( زابِر ) التي سبّقنا
بالحديث عنها، فقد قال في صفحة 40 عند الحديث حول لقائه بالأديب والشاعر الإسلامي
الكبير حسن الأمراني:
" لا أدري على وجه التحديد متى تمّ تعارفنا، بل ولا متى ابتدأت لقاءاتنا
أيضا؛ الدّكتور حسن الأمرّاني وسَافِرُ هذه الأسطار ؟ "
ولعلّ كلمة ( سَافِرُ ) جاءت من السِّفْرِ وهو الكتاب الضّخم، أو أنّ
السّفر جاء من الفعل سَفَر، ويصعب القطع أيّهما أسبق؛ الفعل أم الاسم، تبعا
لاختلاف علماء اللّغة في إثبات ذلك، وجمعه أسفار، وذُكر هذا الجمع في القرآن
الكريم في قوله تعالى:
" مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْرَاةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوهَا كَمَثَلِ الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً "
واستعمل أيضا كلمة الغُبُور ( مصدر غَبَر ) بمعنى مضى، ولم أر لها استعمالا قبل هذا الاستعمال، ولا أحدَ يحيط بكلّ ما يُكتَب ولا بكلّ أساليب الكُتَّاب، ولكن على كثرة ما قرأتُ لم أقرأها إلّا الآن وعند مرتاض أي في كتابه، وذلك يدلّ على أنّها غير شائعة رغم أنّها من أقوى الكلمات دلالة في معناها، وجاء في كتاب الله تعالى:
" إلاَّ امْرَأَتَهُ كَانَتْ مِنَ الْغَابِرِينَ "، ولو تتبّعنا الكتاب لخرجنا بحصيلة هائلة من الألفاظ المحياة، بعد أن كادت تنسى ويعفو عليها الزّمن، ولولا أن قيّض الله للغة القرآن من يجدّدها باستمرار؛ لكانت لغة من اللّغات التي اندثرت وزالت.ونُضيف إلى ما سبق ذكره من الألفاظ طائفةً أخرى على عجل مشيرين غير مفصّلين، تمثيلا لا استقصاء واستيعابا.
من الألفاظ الكثيرة التي
يستخدمها الدّكتور عبد الملك مرتاض؛ بعضُ الجموع والصيغ غير الشائعة عند الكتّاب،
نذكر منها استعماله لكلمة ( أَمْسِية ) جمعا لمساء، والمألوف أن يجمع على أماسي أو
أمسيّات وحتى ( مساءات ! )، ويَستخدم أيضا بشكل ملفتٍ جمعا
لكلمة مثقّف ( ثَقِفُون )، بدل ( مُثَقَّفُون )، المتداولة بشكل واسع جدّا، ولم
يستعمل كلمة ( مثقفون ) إلا مرتين أو ثلاثا إن كانت ذاكرتي جيّدة.
ومن تلك الألفاظ أيضا كلمة
نادرة الاستعمال جدّا هي اسم الإشارة ( تِيكَ )، بمناسبة حديثه عن إحدى قصائد
ديوان ( صنعاء ) لصديقه الأثير عبد العزيز المقالح في صفحة 477:
" كأنّ تِيكَ
السّحائب بمثابة الحجاب الذي يستر جمال صنعاء فلا يبدو مثل الحجاب الذي تصطنعه
المرأة اليمنيّة " كما استخدم اللّفظة أيضا في موضعين آخرين أو ثلاث، وهي
تذكّرني بأوّل مرّة طرقت إذني عندما قرأت حديث الإفك، وورد فيه أنّ النّبي صلّى
الله عليه وسلّم زار - عائشة رضي الله عنها وأرضاها – وهي مريضة في بيت أبويها
فقال:
" كيف تِيكم ؟...)،
ولا أذكر أنّي قرأتها عند أحد من الكتّاب قبل ذلك إلا منذ بضعة أسابيع في قصيدة
للجواهري لا أذكر عنوانها الآن. واسم الإشارة هذا يكاد يكون مهجورا مثله مثلَ اسم
الإشارة للمثنى البعيد ( ذانك وتانك )، وقد يبدوان ثقيلين على اللّسان ناشيزين في حواشي
الكلام وهما من صميم فصيح العربيّة، ولكنّ العربيّة تشكو أهلها كما شكتهم من قبل
على لسان حافظ إبراهيم على روحه نسمات الرحمة والرضوان عندما قال:
رَجَعْتُ لنفْسِي فاتَّهمتُ حَصاتِي * * وناديْتُ قَوْمِي فاحْتَسَبْتُ حياتِي
رَمَوني بعُقمٍ في الشَّبابِ وليتَنيَ * * عقِمتُ فلم أجزَعْ لقَولِ عِداتي
وَلَدتُ ولمَّا لم أجِدْ لعرائسي * * رِجالاً
وأَكفاءً وَأَدْتُ بناتِي
وسِعتُ كِتابَ اللهِ لَفظاً وغاية ً* * وما ضِقْتُ عن آيٍ به وعِظاتِ
فكيف أضِيقُ اليومَ عن وَصفِ آلة ٍ * * وتَنْسِيقِ
أسماءٍ لمُخْترَعاتِ
أنا البحر في أحشائه الدر كامن * * فهل
ساءلوا الغواص عن صدفاتي
وأين نحن من قول الشّاعر
الفصيح فطرة وأصالة :
ولست بنحويّ يلوك لسانه
* * ولكن سليقيّ أقول فأعربُ
ومن الكلمات التي شاعت في
كتابه بكثرة كاثرة قوله ( ازدارني وازدرته )، ولا يعرف جيلنا هذه اللّفظة ولا عهد
له بها، إنّما ألفنا ( استزارني واستزرته وزارني وزرته )، غير أنّ العربيّة بحر لا
ساحل له، نأخذ من شتى جوانبه الدّر والياقوت والجواهر النيّرات نحلّي بها كلامنا
ونزيّن معانينا، فيحلو بها النّطق وتطرب النّفس وتسخو الروح بطيب التعابير، مقتبسة
من لغة الوحي سندسا من الكلام سنيّا..
الأخطاء الشّائعة:
للأخطاء الشّائعة مع الدّكتور عبد الملك مرتاض علاقة سيئة الصّمعة، فهو لا
يني يفضح أيّ تسلل خفيّ منها، تسجّله الأقلام الهجينة أو الحناجر الصدئة،
المتلبّسة بلغة العُجمة؛ في ساحة اللغة العربيّة الخضراء، يقول لها بكلّ جرأة وصوت
جهوريّ صادح:
" ممنوع الدّخول ! هنا حارس للّغة ".
يسوق الدّكتور عبد الملك مرتاض خلال أحاديثه عن أصدقائه الأدباء والمثقفين
بعض الكلمات العربيّة على غير ما شاعت بين النّاس ويشير أحيانا إلى أنّ الصّيغة
التي يستخدمها النّاس منها؛ من الخطأ الشّائع، وأحيانا يقول أنّها خطأ وحسب ولا
يبيّن السّبب، ويا ليته فعل في كلّ كلمة صوّبها، ولكن ربّما رأى أن ذلك ليس من
مجال هذا الكتاب، فلا يثقله بما هو أولى أن يبسط في مكان آخر غيره وموضوع أكثر
التصاقا به.
ومن بين الكلمات التي صوّبها وبيّن وجهة نظره فيها؛ النّسبة إلى فلسطين،
فقال أنّ الأصحّ فيها هو أن نقول:
( فلسطيّ ) بحذف الياء والنّون، عوضا عن فلسطيني وبيّن وجهة نظره في ذلك،
حيث قال أنّ الاسم عند العرب إذا طال وكثرت حروفه أسقطوا منه بعضها تخفيفا، ونسبوا
إليه بعد ذلك، ذكر ذلك في مواضع عديدة من كتابه، نذكر منها ما بسط فيه رأيه في
صفحة 362 حيث قال:
" .. وهي قصيدة تتحدّث عن مأساة الشعب الفِلَسْطِيّ ( هذه هي النّسبة
الصّحيحة إلى فلسطين، فليعرفْ أهلُها خصوصًا ذلك ). ثمّ يبسط رأيه في الهامش
ليجلّي حقيقة رأيه ذاك، فيقول:
" النّسبة إلى فلسطين على غير المستعمل في اللّغة السياسيّة المعاصرة
الهجينة: فِلَسْطِي لا فلسطيني. قال ابن هرمة:
كأنّ فاها لمن تؤنسه * * بعد غبوب الرّقاد والعلل
كأس فلسطيّة معتّقة * * شجّت بماء
من مزنة السّبل
...
ويروى تقله فلسطيّا، وذلك أنّ العرب حين تنسب للأسماء الطويلة تجتزئ بطائفة
من حروفها وتلقي الباقي، ولذلك تقول في الإضافة بلغة سيبويه، إلى أذربيجان: "
أذري " ومنه قول أبي بكر رضي الله عنه: " لتألمن النوم على الصّوف
الأذري " ..." ثمّ يحيلنا على أمّات كتب اللّغة لنتحقق من هذا الرأي. أو
الحكم بالأصحّ.
ورغم الحجّة القويّة التي ساقها الأستاذ مرتاض وما يُشهد له بالمرجعيّة في
اللغة وأسرارها، إلّا أنّي وقفت من رأيه هذا موقف المرتاب الحائر، وقلت في نفسي
متسائلا، أغاب ذلك عن جاهبذة اللغة قبله كالشيخ الإبراهيمي والرّافعي مثلا،
وكلاهما حريص على نفي كلّ هجين ودخيل عن لغة العرب، وكلاهما استخدم هذه النّسبة أو
الإضافة ( برأي سبويه ) في مقالات كثيرة ولم يشيروا إلى ذلك. وهل العرب في لغتها
تحذف عند النّسبة في كلّ كلمة تطول إطرادا، أم أنهم ينسبون أحيانا للكلمات الطويلة
دون حذف شيء من حروفها..؟ فهذا السّيجستاني والنيسبوري، والشهرستاني وغيرهم.. وقد
نسب العرب نسبا شاذا في بعض الكلمات فحفظ ولم يقس عليه كالنّسب إلى قريش فقالوا
قرشي وكان القياس أن يقولوا قريشي وإلى حضرموت فقالوا حضرمي والقياس حضري، والأمر
يحتاج إلى تحقيق كبير.
وهل يحقّ لنا هنا أن نقول بصحّة المقولة الشّائعة ( خطأ شائع خير من صواب
مهجور ) في هذا الموضع بالذّات ؟ ذلك ما دار في ذهني وأنا أقرأ هذه الفكرة للأستاذ
عبد الملك مرتاض، ولعلّ الوقت يسعف بالبحث فيها بشكل أكثر تفصيلا، لتطمئنّ النّفس،
إلى حجّة قاطعة أو رأي حاسم.. !
وتبعا لذلك أيضا ذكر النّسبة إلى مدينة ( البليدة ) الجزائريّة، إذ قال في
صفحة 69:
" .. كما زرته أنا مرّة واحدة في بيته بمدينة البليدة في طرق عودتي من
مدينة الجزائر إلى وهران، وقد ضيّفني، وهو كريم، بالقهوة البُلَيدِيّة الشهيرة
"، ثمّ علّق في الهامش قائلا:
" النّسبة الصحيحة إلى هذه المدينة المتحضّرة الجميلة: البُلَدِيّة،
لكنّ نضطر، أحيانا، إلى أن نكتب على طريقة العوام ليفهمونا ".
ومن الألفاظ التي أشار إلى خطإ استعمالها كلمة ( المطبّات ) وقال أنّه لا
وجود لها في العربيّة، وكذلك كلمتي ( وضّب، وطاله ). وصوّب عبارة ( إن لم نقل )
وقال هي ( إن لا نقل )، ذلك لأنّ ( لم ) تجعل المضارع ينحصر في الماضي، بينما (
لام النّفي ) تنفي الفعل عن الحال والاستقبال، وقد تجعله للنفي مطلقا وفي كلّ حال،
أي لا يختصّ بزمن معيّن، وهذا أوفق وأصحّ، غير أنّ المؤلّف أوردها ولم يعلق عليها.
وعندما تحدّث عن شعر أمل دنقل استشهد بنصّ لإدوار الخرّاط وجاءت فيه كلمةُ
( باهتة )، فعلّق الدّكتور مرتاض أنّ كلمة باهتة لا تدلّ على المعنى المقصود
وإنّما الأصح أن نقول شاحبة، وذلك عندما قال:
" .. وما يسمّى بــ " الشعر الحديث " في مصر قبلهم، ليس
إلّا من ملحقات مدرسة " أبولو " الباهتة } والباهتة كلمة لا تدلّ على المعنى الذي كان يقصد إليه الشيخ، وهو
الشّاحبة، أو السّاهمة، لأنّ الباهتة مما تعنيه الحيرة الشديدة ( فَبُهِتَ الَّذِي
كَفَرَ ) }.
يعجبني كثيرا بل يطربني ربط أيّ تصويب لغوي أو تدقيق لفظي بالقرآن الكريم،
وذلك كان دأب علماء اللغة الأوائل، إذ كانوا يجعلون من الحديث في اللغة فرصة
ذهبيّة تُقتَنص للإحالة على القرآن الكريم أو الحديث النّبوي الشريف، على اختلافٍ
حول صحّة الاستشهاد بالحديث في اللّغة، لأنّ الرواية فيها كثيرا ما تكون بالمعنى،
وكثير من الرواة ليسوا عربا أقحاحا يُطمأنّ إلى عربيّتهم. وربط اللغة بالقرآن لها
إشراقات وأيّ إشراقات! لم يستطع
إنكارها حتّى المسيحيّون العرب، الذين برزوا في مجال وضع المعاجم اللغويّة،
فالمنصفون منهم لا يتحرّجون من الاستدلال بالقرآن الكريم والاحتاج به.
اجتهادات لغويّة:
إذا برّز العالم اللّغوي وامتلك ناصية اللّغة، وأحاط بدقائقها، وعرف
أسرارها ومكامن الجمال والتألّق فيها، حقّ له أن يجتهد ويفتي النّاس فيما يَعِنُّ
لهم من أمور حياتهم اللغويّة، كما يفتي الفقيه والإمام ويجتهد، فيما يَطرَأُ على
النّاس من مستجدّات حياتهم. والحاجة إلى الاجتهاد في اللّغة كالحاجة إلى الاجتهاد
في الدّين، لاسيما في هذا العصر الذي كثرت فيه المخترعات وتتابعت المبتدعات، من
عالم الغرب حتى ما يكاد الذهن يحصرها أو يحيط بها إدراكا.
ولذلك لزم استحداث اسم لكلّ مسمّى جديد، حتى لا تَقصُر لغتنا عن استيعاب
الحضارة الحديثة، ومتابعة تطوّراتها، وقد بادر كثير من علماء اللّغة في العصر
الحديث إلى وضع أسماء لمخترعات هذه الحضارة التي غزتنا بقضّها وقضيضها، وملأت
حياتنا بما نحبّ وما لا نحبّ، وظهرت المجامع اللغويّة لتقوم بالجهد الأكبر والعمل
الأعضم الذي ينوء بحمله فرادى الرّجال.
وفي كتاب ( هؤلاء أصدقائي ) اجتهادات لغويّة ذات شأن ينبغي أن يُنظر إليها
باهتمام كبير، لأنّها تصبّ في وعاء اللّغة العربيّة الحيّة التي كرّمها الله بوحيه
وأنزل بها كتابه، ولقد صرّح الدّكتور عبد الملك مرتاض بشكل غير مباشر أنّه كثيرا
ما يُنشئ كلمات فصيحةً لا توجد في المعاجم وذلك عندما كان يتحدّث عن الشاعر اللّبناني
ياسين الأيّوبي، فقال أنّه كلّمه يوما بالهاتف وقال له:
" أنّ بعض الإخوة في جمعيّة الشّعر عجبوا من لغتي ( وأنا أتكلّم على سجيّتي،
والعهدة على من قال، وهو لا يزال حيّا )، وكيف أتصرّف فيها فأنشئُ كلماتٍ فصيحةً لا
توجد في المعاجم، وأنّه أخذ من لغتي ما لم يكن يستعمل من قبل ؟... "
ومن تلك الكلمات التي لفتَت انتباهي ودوّنتها في قصاصات أوراقي؛ أذكر هذه
الطائفة مع تعليق يسير، واستطراد نافع لابدّ منه:
من أكثر الاختراعات الحضاريّة الحديثة التي غزت حياتنا اليوم، وصارت لازمة
من لوازمها التي لا تنفكّ عنها؛ ( التلفاز )، وقد وجدت الدّكتور عبد الملك مرتاض
سمّاه تسميةً لطيفة هي أقرب إلى إلى التعبير عن حقيقة هذا الجهاز الباهر، وهي كلمة
( المرناة ) لكن لم يذكر أستاذنا إن كانت هذه الترجمة له أم نقلها عن غيره، وكنت
قد قرأت منذ سنين للشيخ علي الطنطاوي ترجمة أخرى لكلمة التّلفاز، استحسنتها وحاولت
الترويج لها جهد استطاعتي في كتاباتي وحواراتي المختلفة مع الأصدقاء والمثقَّفين،
وهي كلمة ( الرّائي )، وهي كلمة جيّدة لكن كان في النّفس منها شيء – على علوّ قامة
شيخنا الطنطاوي رحمه الله وقامته الباسقة في اللُّغة – لأنّ كلمة ( الرّائي ) فيها
معنى الذي يرى أكثر من المرئيّ ذاته أو المرئي فيه، ولا يمنع ذلك من أن تدلّ على (
التّلفاز ) ووجدت الآن أنّ كلمة ( المرناة ) هي أكثر دقّة وأفضل تعبيرا عن حقيقة
الجهاز ووظيفته. ولا يمنع ذلك أن نعتمد الكلمتين معا إثراءً للعربيّة وتنويعا في
مسمّيات المخترعات الحديثة.
وقد كان الرّافعي – رحمه الله – مولعا بتعريب الألفاظ الدّاخلة على
العربيّة من اللّغات الأجنبيّة أو الحضارة الغربيّة ومستحدثاتها التكنولوجيّة،
فوضع لكلمة ( السّيجارة ) لفظ ( دخينة )، ولكلمة المقهي لفظ ( النَّدِيّ ) وغيرها
من الاجتهادات الرّائعة التي أبانت عن سعة العربيّة نحتا واشتقاقا وترجمة، وقدرة
هائلة على استيعاب كلّ ما هو جديد في العالم.
ومن الألفاظ التي وردت في كتاب الدّكتور مرتاض؛ كلمة ( مُسَيَّر ) بتفخيم
السّين، ويعني بها أنّ له سيّارة وهي من لطيف الاشتقاقات في العربيّة، أتى بهذه
اللّفظة في سياق حديثه عن رحلة إلى مدينة مكناس مع جملة من الأدباء حيث قال في
صفحة 354:
" وكان كلّ أديب مغربيّ مُسَيَّر، من ساكني الرّباط والدّار البيضاء،
والقنيطرة، يأخذ طائفة من الأدباء العرب إلى مكناس في سيّارته الشّخصيّة "
فهو لا يفوّت فرصة إلا ويثري قاموسنا العربي بألفاظ جديدة، أو منسيّة تشكو
إهمال أهلها لها فيبعثها من جديد غضّةً طريّةً، في أسلوب جذّاب ولغة حيّة. ومن تلك
الألفاظ أيضا استخدامه لكلمة ( المُنَوْسَخَة ) تعبيرا عن بعث رسالة بالنّاسوخ (
الفاكس )، وذلك قوله في صفحة 362 :
"..اتصل بي يوما، قبل أن التقي به وأعرفه شخصيّا بمدينة الرياض،
برسالة مُنَوْسَخَة ( مرسلة على النّاسوخ، أي بالفاكس ).
ومصطلح النّاسوخ شاع منذ بضعة سنين في المشرق العربي، وكنت أوّلَ ما قرأت
هذه الكلمة مترجِمةً مصطلح ( الفاكس )؛ في مجلّة ( الفيصل ) السّعوديّة. لكن لم
أقرأ لها فعلا مشتقا منها بَلْهَ أن يكون على وزن اسم الفاعل أو اسم المفعول
(منوسَخ أومنوسِخ )، ومن ثمّ فإنّه يمكننا اشتقاق كلّ الأفعال وما يتصل بها من هذه
الترجمة المميّزة، فنقول: نَوْسَخَ الرّسالة ينوسخها فهو منوسِخ وهي منوسَخة، بدلا
من التعبير الأجنبي ( أرسل الفاكس ) ووصلته رسالة فاكس وما إلى ذلك.
وفي تعبير آخر يتضمّن اشتقاقا جديداً أو غير مألوف قال في صفحة 363:
" ولقد تبيّن لدينا لدى اقتراء
قصائد هذا الدّيوان.."، وتحمل كلمة ( اقتراء ) معنى القراءة المدقّقة المحلِّلة،
التي تَنْقُد النّص وتغربله، فتنقّب عن مكامن الجمال فيه وكذلك تشير إلى مواضع
الضّعف والخلل.
ومن طرائف الاشتقاقات التي استخدمها في كتابه هذا قوله عن مشاركته في
مهرجان الجنادريّة الثقافي السّعودي: " وقد كان يتردّد عليّ في نُزُل "
الرّياض "، كلما كنت أتجندر فأقرأ فيه.." فعبّر عن مشاركته في هذا
المهرجان بهذه اللفظة الطريفة اللّطيفة.
ومن جميل التوظيفات اللّفظيّة أن استعمل كلمة ( الاصطباح ) وهو شرب اللّبن
أو الخمر صباحا، إذ تَستعمِل العرب كلمة ( الصَّبوح ) للشرب صباحا و كلمة ( الغَبوق
) للشرب مساء، شربِ اللّبن أو الخمر خاصّة، فوظّفها الدّكتور مرتاض للإفطار في
الصّباح فقال في عدّة مواضع من كتابه ( فاصطبحت مع فلان في فندق كذا )، بدلا من
كلمة أفطرت أو تنويعا لمعنى لفظها بكلمة غير معتادة في لساننا العربيّ المعاصر.
[1]
- منها مجلّة
( الثقافة ) الجزائريّة ومجلّة الدّوحة القطريّة والعربي الكويتيّة وغيرها من صحف
الجزائر مثل الشروق الثقافي.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق