بقلم: مها بنسعيد
صدر هذا الكتاب عن دار النشر والتوزيع المدارس الدار البيضاء. وهو من الحجم المتوسط عدد صفحاته 231 ص. زين غلافه بلوحة تشكيلية لضريح سيدي ششكال المشهور ب "حج المسكين" بنواحي آسفي. فالهدف من الدراسة – حسب الباحث- ليس الدخول في اشتباك فقهي مع الضرائحية، ولا البحث عن مسوغات اجتماعية لها، فالمهم هو ملاحقة الرموز والطقوس لفهم المجتمع المغربي.
وزع الباحث كتابه بين: في البدء، وما قبل البدء، وستة فصول، وخاتمة، وبيبليوغرافيا، وملحق من خمسة جداول، عبارة عن جرد لـ 119 فضاء مكاني موزعة على أضرحة أولياء ووليات مدينة سلا وأحوازها، إضافة الى مختلف الزوايا والحرفين المشتغلين بها.
ينتظم تحت كل فصل مجموعة من العناوين، هي بمثابة إشارات حول أهم الأفكار التي يعرضها الفصل. كما تم اختيار عناوين الفصول بعناية فائقة ودقة عالية، حتى تكون ملخصة وجامعة لكل المعاني والدلالات التي يتناولها الفصل بالشرح والتحليل.
يندرج الكتاب كما قدم له الكاتب ضمن مطمح فكري منفتح، بهدف إنجاز قراءة ممكنة للزمن الضرائحي، كتاريخ وجغرافيا وثقافة متجذرة، من أجل توسيع دوائر النقاش حول المقدس، والحفر العميق في امتداداته وممارساته، بعيدا عن أي نظرة تحقيرية للتدين الشعبي. كما أطره الباحث ضمن مقترح الفهم أولا، للاقتراب من الوقائع بعيدا عن الصور النمطية التي تحيط بالممارسات والطقوس الضرائحية. إنه بحث في الديناميات النفسية والاجتماعية والرموز والطقوس الأنتربولوجية التي تتواصل في نسق الولاية والصلاح.
ووعيا بحساسية المقدس ورمزيته الدالة، اقترح الكاتب مدخلا للتفكير في انبناءات واشتغالات الولاية والصلاح، عبر نموذج مدينة سلا التي عرفت تاريخيا بتجذر الظاهرة، إلى الدرجة التي جعلت توصيفها يلوح في كثير من المصادر باعتبارها "قبلة الصالحين وخلوة الأولياء".
استوجب المعنى المعرفي لهذا العمل الاعتماد على أداء منهجي مركب. وذلك عبر استثمار تقنيات المقابلة، والملاحظة، وسيرة الحياة في مراحل متفرقة من إنجاز البحث، وهو أداء منهجي يخترقه فعل التأسيس، كضرورة لقراءة الوقائع الاجتماعية وتجاوز درجة الفهم فيها إلى التفهم والتفسير. كما تندرج الدراسة أيضا ضمن النقد الثقافي، لكون الباحث استفاد من مناهج التحليل العرفية في تأويل النصوص ودراسة الخلفية التاريخية. إذ عمل على شرح العمل؛ من خلال الوقوف على المعاني الباطنية، والدلالات الكامنة خلف الألفاظ المباشرة.
طرح الكاتب من خلال مختلف فصول الكتاب عدة أسئلة أهمها: من ينتج ظاهرة الصلاح؟ وكيف يولد الولي؟ وكيف تنتج بركة الولاية؟ وهل يمكن القول بأن الزاوية هي استثمار سياسي لبركة الأولياء؟ وكيف يتأتى لها هذا الاستثمار؟ مما جعلنا نطرح إشكالا آخر حول كيفية استثمار الباحث للمتن الحكائي الشعبي وكيف تفاعل معه؟ وكيف تم استثمار الثقافة الشعبية في نماذج النصوص الشعرية والحكائية؟
بركة الأولياء أو المقدس الضرائحي، في الثقافة الشعبية المغربية، هي مؤسسة متعددة التخصصات، تمارس عدة وظائف على المستوى الاجتماعي، والسياسي، والثقافي، والاقتصادي، وهي مؤسسة تجر معها التاريخ والقبيلة والدين والولاية الصالحة والتقاليد والعادات والشخصية الذاتية والمعنوية للمغاربة.
ولإنتاج بركة الأولياء، مسار فائق الصعوبة لا يتأتى إلا لمن توفرت له الأسباب وتحققت له الأمارات، الكرامة التي تعد شرطا وجوديا بملمح الضرورة لاعتراف بالولي. إنه يفنى ويهاجر من أجل البقاء في المخيال الاجتماعي، كما أنه ينقطع ويتعالى ويسمو كي يحقق الاتصال القدسي.
ومن المظاهر السارية في الثقافة الشعبية لدى المغاربة ارتباطهم الوثيق بالأضرحة والأولياء الصالحين. هذا الارتباط الذي يتخذ أشكالا متباينة، ويتنوع في خصوصياته وطقوسه من منطقة إلى أخرى، ويتمحور في أهم تجلياته حول مظهرين رئيسين هما: العبور الفني أو الأدبي والمهرجان أو الاحتفال. وهذا ما حاول الباحث الكشف عنه في دراسته.
قام الباحث ببحث ميداني من أجل مساءلة جغرافية المقدس الولوي بمدينة سلا، وكذا اكتشاف تجليات هذا المقدس في المجال السلاوي. فخلص إلى أن هذه الرقعة الجغرافية يوجد فيها تسعةٌ وخمسين ضريحا لأولياء صالحين معروفين محليا وإقليميا، وأخرى مهجورة، لا يعرف دفينوها على وجه التحديد (مجهولو النسب والسيرة ) فقد حرص الباحث على التعريف بهم اعتمادا على مختلف المصادر التاريخية، وعلى الرواية الشفوية التي تلعب دورا كبيرا في البحث الميداني.
لذلك أحصى الكاتب في هذه الرقعة التي لا تتجاوز مساحتها خمسين هكتارا : تسعةً وأربعين وليا، وعشْرَ وليات، و خمسَ عشرةَ زاوية تضم بدورها عشرات القبور والمزارات، وكذا الأحواش الخاصة بالعلماء والصلحاء آخرين.
توقف الباحث في هذه الدراسة عند وظائف الضريح في المجتمع المغربي، والتي لا تختلف عن باقي وظائف الأماكن المعتقد في بركتها، إذ تعددت وظائفه بين الوظيفة السيكولوجية، والاقتصادية، والتحكيمية، والعلاجية. كما يعد الفضاء المناسب للاستخارة وطلب المشورة وتأمين قضاء الحوائج التي تهم الأفراد والجماعات، وربط العهود والمواثيق، والسياحة الدينية والخدمات النفسية. كما تطرق الباحث لطقوس الزيارة وكيفية تدبيرها وفق سلوك طقوسي.
إن المتن الضرائحي السلاوي الذي اتخذه الباحث نموذجا للتفكير في حدود وامتدادات المقدس، يشكل سجلا سوسيو ثقافيا متكاملا، يستلهم مقومات وجوده من دينامية دينية وتاريخية ومجالية وشعبية، تنبني على التعدد والتمازج، وترتكز بدرجة أعلى على "المعتقد " كمؤسس ناظم لأبنيته وعلاقاته وتفاعلاته.
إذن فالمتن الضرائحي، كنموذج لتنزيلات المقدس، يشكل سجلا خصبا للفعل والتفاعل الاجتماعيين، إنه يتجاوز البعد الديني إلى آخر سياسي واقتصادي وثقافي، يفسر موضوعيا بحيوية المجال الذي يشتغل فيه، ويتجذر محليا بتاريخ من الكرامة والبركة والولاية.
كما تطرق الباحث عند سوسيولوجيا الموسم المرتبطة تاريخيا بولي صالح، والمقام في حرم مجال ضريحه، باعتبار الضريح مكانا مقدسا، تعم فيه البركة وكل الفعاليات والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية التي تتم فيه. كما خلص إلى أن الموسم يضمن استمرارية المقدس المرتبط بالأولياء، ويمنح للمعتقدين في بركتهم، فرصة طلب الحماية والترفيه أيضا. من هنا فالموسم يعمل على إعادة تشكيل وبناء المفكك اجتماعيا، إذ تحول إلى ممارسة سياسية بامتياز حيث أصبح يخضع لـوصاية الدولة، و ينظم تحت مسمى المهرجان.
إن ما يتغياه الباحث، من البحث في ظاهرة الصلاح بمدينة سلا يرمي إلى جرد شامل لمختلف الأضرحة الواقعة بمدينة سلا، من أجل اكتشاف دينامية هذا المقدس الولوي .
يتميز كتاب بركة الأولياء بحث في المقدس الضرائحي بحضور وافر للجانب الأدبي المثمتل في: النصوص الشعرية الصوفية وكذا الزجل. بالإضافة إلى الجانب الشعري استفاد الباحث من التاريخ الشعبي لمدينة سلا، مركزا بالأساس على حكايات الشهود. من خلال حديثهم عن كرامات الأولياء والتركيز على رسم صورة خارقة للشيخ أو الولي الذي يحظى ببركة وقوة فوق الطبيعية. ومن تم يمتزج السرد بشذرات المتخيل الاجتماعي المغروس في العمق الاجتماعي، بمذاق فني مغربي. وعليه فان استثمار هذه الحكايات الشفهية الثرية بالرموز والنماذج ينم عن تقدير الكاتب لقيمتها الثقافية المقرونة بالوجدان الشعبي للقارئ.
استفاد الباحث من التاريخ الشعبي لمدينة سلا ، مركزا بالأساس على حكايات الشهود. من خلال الحديث عن كراماتهم والتركيز على رسم صورة خارقة للشيخ أو الولي الذي يحظى ببركة وقوة فوق الطبيعية. ومن تم يمتزج السرد بشذرات المتخيل الاجتماعي المغروس في العمق الاجتماعي ، بمذاق فني مغربي. وعليه فان استثمار هذه الحكايات الشفهية الثرية بالرموز والنماذج ينم عن تقدير الكاتب لقيمتها الثقافية المقرونة بالوجدان الشعبي للقارئ.
هكذا وظف الباحث عدة أمثال شعبية بقصد تشخيص خيال المجتمع المغربي والتعبير عن جوانب من ذهنيته، الأمر الذي أضفى على السرد نكهة محلية تصل بالدراسة بنسقها الثقافي. مثال " مين تدخل سلا ، طلب التسليم، راه بين الخلفة والخلفة كاين ولي".(ص ، 8 من كتاب بركة الأولياء).
وقد شكلت هذه التعابير مَتْناً غنيا ومتنوعا ينتمي لخطاب المُثل ينبثق عن خيال الشعب وحكمته العميقة. وهو إلى هذا خطاب فني بسيط يتوسل بلاغة الخطاب واستراتيجياته في الإقناع والتجميل والتمويه. إنه جزء من الوعي الجمالي للمجتمع حيث أنه لا يوجد شعب يعيش بدون بعد استطيقي.
وهكذا فان تحليل طرائق اشتغال الأدب الشعبي في كتاب بركة الأولياء كشف لنا عن ميراث أدبي هو: ميراث الأدب المغربي الشعبي، وهو الأدب الذي لا يزال حيا وفاعلا في الذاكرة الثقافية المغربية.
وختاما فإن كتاب بركة الأولياء بحث في المقدس الضرائحي، جمع بين البحث النظري، والميداني، وتكمن قيمته المعرفية في كون الباحث مزج بين المصادر التاريخية والرواية الشفوية، والثقافة الشعبية والشعرية، بالإضافة إلى الوعي المنهجي الحاضر في الدراسة المثمتل في النقد الثقافي وكذا تقنيات الملاحظة والمقابلة وسيرة الحياة. مما مكن الباحث من تقديم دراسة أكاديمية علمية عن بركة الأولياء بوصفها بحثا سوسيو- انتربولوجي يبحث في المعتقد الولوي، لإزاحة النقاب عن المعتقدات والأفكار المرتبطة بتقديس الأولياء مغربيا. فقد كان الهدف من البحث الاهتمام بالطقوس والرموز التي تعتمل في هذا الجانب لفهم المجتمع المغربي .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق