قميص الديكتاتور
محمد صفوت عبد العزيز
لم يجدوا سوى قميصه مدفونا وسط الرمال ، لا
تظهر منه سوى الأكمام يطوحها الهواء كأنها
تشير لهم ، القميص كان سليما تماما ، هناك بعض الخدوش البسيطة ، وبقع دم متناثرة
من الخلف ، لكنه مخليً تماما من الديكتاتور ، لم تكن هناك أى آثار لمعركة ولا أى
حوافر منطبعة على الأرض تشير إلى أن
حيوانا مفترسا كان هنا ، فتشت الدوريات فى المنطقة حيث وُجِد القميص ، لكنهم لم
يعثروا على الديكتاتور ، حين خرج الديكتاتور منذ خمسة أيام فى رحلة الصيد التى يقوم بها كل أسبوع امتطى
جواده وحمل أدوات الصيد كالعادة ، لكنه أصر هذه المرة ألا يرافقه أحد من حراسه أو
من ندماءه الذين اعتاد أن يصطحبهم معه فى هذه الرحلات المعتادة ، فسر البعض ذلك
بأن الرجل يريد أن يختلى بنفسه للتفكير فى أمر خطير يخص مملكته ، البعض قال ربما
ينشد خلوة روحية , بعض الخبثاء زعم أنه يريد أن يثبت بطولة ما ، لكنه لم يعد ، شعر
الناس بالقلق ، وخرجت الدوريات تتقفى أثره لثلاثة أيام إلى أن وجدوا قميصه خارج حدود
المدينة ، تعددت الروايات فى اختفاءه ، لم يجروء أحد أن يدعى أن الرجل قد قُتل أو
خطفه بعض اللصوص أو أن سبعاً قد التهمه ، ربما لأنهم يعتقدون أن الديكتاتور الذى
بلغ منذ أيام قليلة التسعين من عمرة لا يموت ، كان بالفعل يتمتع بصحة جيدة كجواد
جامح , لذلك وبعد أن مرت الأيام دون عودته خرجت بعض التفسيرات التى تبرر ذلك
الغياب ، البعض قال بإنه يعتكف فى مغارة وسيعود بقرار من قرارته المفاجئة التى لا
تخلو من حكمة ، أخرون قالوا أنه سيعود فى يوم عيد جلوسه على عرش المملكة ، أشار
أخرون إلى أن الرجل يريد أن يثبت للجميع أنهم لا يستطيعون أن يعيشوا دون وجود
ديكتاتور صالح يدبر أمورهم ، رجال الدين
من جانبهم اضفوا على الأمر مسحتهم الروحية معللين الغياب بأن الله قد اصطفاه لبعض
الوقت لكنه حتما سيعود ، لم يعد الديكتاتور فى عيد جلوسه على العرش كما توقع البعض
، مر شهر آخر دون أن يأتى من باب المدينة ممتطيا صهوة جواده ، زاد الارتباك فى
أنحاء المملكة ، أغلقت المحال أبوابها ، إذ كيف يفتح الناس دكاكينهم دون وجود
ديكتاتور يجمع منهم الضرائب ، جلس الفلاحون فى حقولهم ينظرون بحسرة إلى محاصيلهم
التى استوت دون أن يستطيعوا حصدها لأن الديكتاتور لم يبارك ذلك ، لم يقترب رجل من
زوجته خوفاً من اللعنة التى قد تنتج جنيناً مشوها ، كما تم تأجيل إقامة أى عرس فى المدينة لحين
عودة الديكتاتور الذى يجب أن يبارك العروس بنفسه فى الليلة الأولى ، توقفت القوافل
التجارية عند أبواب المدينة لعدم وجود الديكتاتور الذى لابد أن يأخذ عمولته من أجل
السماح لهذه القوافل بالمرور ، أصاب الشلل التام جميع مناحى الحياة ، بدت ساحات
المدينة خالية من الناس ومن الحياة ، بمرور الوقت بدأ الناس يتسألون همساً كيف لهم
أن يستمروا فى الحياة دون وجود الديكتاتور ، التساؤلات زادت بعد أن نفد مخزون
الناس من الأطعمة ومن الأموال وبعد أن ضرب
الملل الجميع ، نصح رجال الدين الناس بالصبر على المحنة والبلاء ، فصبر الناس عدة
أيام آُخر ، أكلوا خلالها القطط والكلاب وأوراق الأشجار ، فى الغرف المغلقة
والشوارع الجانبية تحدث الناس سراً عن أوجاعهم ومتاعبهم , تسللت هذه الأحاديث
بعدها إلى الساحات والميادين ، تحدث أحدهم لبعض أصحابه بأنه قد ضاجع زوجته لأنه لم
يعد يحتمل ، اكتشف بأن الجميع قد ضاجعوا زوجاتهم دون النظر إلى مغبة ذلك ، أخفى
تاجر مفتاح دكانه فى جيوب سترته وتسلل إلى أن وقف أمام دكانه فوجد الجميع يقفون
أمام دكاكينهم ، بعد لحظات من الحيرة والنظرات القلقة رفعوا الأبواب ورشوا الماء
أمام الباحات ونادوا على بضائعهم ، تجرأ واحد من الفلاحين وحصد ثمار حقله وتبعه
بقية الفلاحين دون الانتظار لمباركة الديكتاتور الذى لم يعد ، فى يوم السوق دخلت
القوافل التجارية من باب المدينة دون أن تدفع عمولة الديكتاتور الغائب وفى نفس
اليوم أقيم أول عرس فى المدينة منذ غياب الديكتاتور ودون أن يبارك جلالته العروس بقضيبه
فى الليلة الأولى ، الحياة عادت كما كانت ، أكل القلق رجال الديكتاتور على مصيرهم ،
أشاعوا بين الناس أن الديكتاتور قد مات ، التهمته وحوش الغابة دون أن تعلم أنه
الديكتاتور الذى يبارك لها اقتناص الفرائس ، أصُيب الناس بصدمة كبيرة لكنهم واصلوا
حياتهم ، بعد شهر من إعلان وفاة الديكتاتور بدأ أهل المدينة يتسألون هل يمكنهم أن
يستمروا للأبد دون وجود ديكتاتور يجمع منهم الضرائب أو يباركهم محاصيلهم وزوجاتهم
فى الليلة الأولى أو يأخذ عمولته من قوافلهم ؟! ثم أخذوا يفكرون فى هذا الذى يستحق
أن يرتدى قميص الديكتاتور الخالى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق