الغرام
أضاع "الِسنارة!"
أحمد نصر الدين أحمد حاج
.. يَشْتَعِلُ رأسهُ شيباً.. أخاديد الأيام
والسنين منقوشة على وجهه.. ما تزال عيناه تُشعان ببقيةٍ من بريق الشباب، ورغم سنه
الطاعن ووجهه الهَرَمَ يظل الرجل ينبض بالحيوية والنشاط..
جلس
العم صالح على شاطئ النيل.. وضع حقيبته الجلدية جانبه.. وضع "سنارته"
عليها.. استخرج طُعماً... وضعه في إبرة السنارة.. ألقى به بعيداً في الماء.. ظلت
دوائر الماء تتسع شيئاً فشيئاً إلى أن تلاشت.. راح يرقُب الماء، ويستنشق الهواء..
غمزت "السنارة" صَبِرَ عليها قليلاً ثم انتشلها بقوةٍ؛ فخرجت سمكة
متوسطة الحجم.. استخرجها من "السنارة" ثم أدخلها في الحقيبة الجلدية
العتيقة الملقاة بجواره.. استخرج "الراديو" الصغير.. أدار أزراره.. ظلت
الموسيقىَ والأغاني تنبعث مِنه.. أغنية فيروز "أعطني النايَ وغني"… ظل الرجل يردد الأغنية بصوته الأجش في
تناقض وتباين مع صوت فيروز؛ ولكنه مستمتعٌ بذلك؛ مستأنساً لصوته الأجش؛ إلى أن وصل
صوت فيروز بالأغنية إلى : (زاهداً فيما سيأتي ناسياً ما قد مضى).. ظلت هذه الجملة
تتردد في أعماقه؛ وتحاور ذاته: ما أجمل هذا الإحساس.. فحين يظل القلب نابضاً
بالحياة، ويظل الإنسان مستمتعاً بسمعه وبصره وصحته.. فلا يهم ما مضى.. فما مضى قد
مضىَ وما هو آت سيخُطُهُ القدر ويرسمه بقلمه الحاذق الدقيق.. ظل الحوار مع ذاته
قائماً في هدوء يمتزج بأمواج النيل الهادئة.. غمزت السنارة.. رفعها بقوة.. سمكةٌ
أخرى.. شد الخيط بقوة إلى أن ارتفع عالياً فوق رأسه ثم هوى وراء ظهره.. ارتطمت
السمكة المتأرجحة بشاب كان سائراً وراءه..
- بادره الرجل: آسف يا بني..
الشابُ ظل سائراً في صمت.. جلس على بُعد بضعة خُطوات منه.. ينظر شارداً إلى الماء
في جمود.. أثار جمود الشاب القلق في صدر العم صالح اسمه، لكنه كتم تساؤلات فضوله
في نفسه..
..نشرة
الأخبارِ في "الراديو" تنبئ كالمعتاد عن اجتماعات.. مؤتمرات.. نكبة
فلسطين.. حروب.. كوارث.. رياضة….
السنارة
تغمز غمزات ضعيفة مترددةً.. لا يأبه لها الرجل.. انتفض الشاب واقفاً.. ظل يصرخ:
آآآآآه.. التفت إليه العم صالح متعجباً فقال: يا ابني مالك؟!.. اهدأ.. (يووووه)..
هكذا سيهرب السمك من هذه المنطقة هتف العم صالح.. رفع الشاب يده بغضب رافضاً كلام
الرجل وقد أشاح بوجهه عنه!.. هتف العم صالح مستنكراً: يالا قلة الأدب…
السنارة
تغمز في ترددات ضعيفة.. نحيب وبكاء قد صدرا من الشاب.. وقف العم صالح.. مشى إلى أن
وصل إلى الشاب.. رَبَّتَ على كتفه.. نظر الشاب إليه وعيناه تفيضان بالدمع..
- ما
الذي يؤلمك يا بني؟ جلس الرجل بجانبه.. اهدأ وصلى على النبيّ..
- هدأ الشاب
قليلا ثم قال: عليه الصلاة والسلام.. أخذ يبكي قائلاً: قتلتني يا عم الحاج..
خانتني.. ضاع كل الحب في لحظةٍ..
- ابتسم
العم صالح ابتسامة يشوبها الأسى قائلا له:
- يا
بني ليست الفتاة التي تحبها آخر فتاة في العالم.. ربما كانت شراً أزاحه الله عنك..
- لا
أستطيع العيش بدونها..
- هذه تهيؤات
يصورها لك الهَوىَ يا بُني.. اسمع مِنِّي.. لقد عشت عمراً مديداً في هذه الحياة قد
تخلله العديد من التجارب.. تجاربي الشخصية وتجارب الآخرين…….
..ظل
العم صالح يَقُصُ على الفتى حكايات وحكايات عن الحب والغدر والهجر إلى أن هدأت
نفسه بعض الشىء.. وجد في كلمات الرجل بعضاً من السلوى لنفسه الملتاعة…
لحظة
صمت بين الرجلِ والفتى.. صوت (الراديو).. مباراة كرة القدم.. نظر العم صالح نحو
"سنارته".. "السنارة" تتحرك.. السمكة تسحبها للماء سحباً
سريعاً.. العم صالح يركض.. "السنارة" تغوص بسرعة.. ومن الراديو مذيع
المباراة يصيح: - يراوغ مدافع والثاني والثالث.. ينفرد بحارس المرمىَ ياااااه
يركلها قذيفة مدوية في الزاوية العليا على يسار حارس المرمى.. الهدف الرابع
للمنتخب.. إنه هداف رااائع…
..
السنارة تغوص في الماء.. أصوات الجماهير عاليةً فرِحةً بالهدف الرابع..
العم
صالح لم يلحق "بالسنارة".. تعثرت قدماه في حجر.. سقط على الأرض.. الشاب
يهرول نحوه.. يأخذ بيده.. يمسح بيده الأخرى بعضا مما تبقى من قطرات الدمع على وجنته…
يقف
العم صالح مبتسماً.. ينفض التراب الذي علِقَ بملابسه.. هتف قائلاً: سُحقاً للغرام
الذي أضاع سنارتي…
نظر
الشاب مندهشاً ثم راح يضحك مقهقهاً.. ظل يتأسف للرجل…
رد
الرجل: لا عليك فلديّ سِنارةٌ أخرى بالحقيبة.. استخرج سنارة أخرى؛ زودها بطُعم..
ألقى بخيطها في الماء.. جلس الشاب عَلَىَ حجرٍ بجوارهِ.. الشمس تميل للغروب.. يردد
الرجل:
- "زاهداً
فيما سيأتي ناسياً ما قد مضىَ…….
تداخلت
الأنفس وامتزجت في هدوء الطبيعة.. أمواجَ الماءِ الصغيرة التي تحركها القوارب
تتراقص مع تراقص فروع الأشجار على الشاطئ المقابل مع أنغام الموسيقى المنبعثة من
(الراديو) الصغير….
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق