عربية معمري في ديوانها ( غطرسة مساء ممطر )
والعزف على لغة المتناقضات. !
بقلم: عبد الله لالي
بخجل طافح امتدت يدها لتصافحنا
بكتابها الصّادر حديثا، أنا وجليسي المرتبك تحت وقع المفاجأة، ولم نعلم أنّا
المقصودين بالأهداء إلّا بعد أن كشفنا عمّا وراء الغلاف وابتسم لنا الإهداء الذي
خطّته أناملها بشيء من العجلة على ما يبدو..
كان الكتاب عبارة عن قصائد نثريّة
كما سمّته صاحبته؛ يحمل عنوانا يصيبك بالدّهشة والحيرة ( غطرسة مساء ممطر )، ومن
هنا يبدأ نبض ناي العزف على لغة المتناقضات، ولأنّ حياتنا تظهر كأنّها جملة من
الصور المتناقضة، يجد الشّاعر فيها كمن يسبح في بحر لجّي من ماء ونار، بينهما برزخ
لا يبغيان..
كانت لغة عربيّة معمري تسمو وتشفّ
إلى درجة التألق الفاتن، لكنّها أحيانا تزل بها القدم وتقع في محضور اللّغة
العادية الباهتة، التي تحتاج إلى عمليّة إنعاش إبداعي، ولا غرابة في ذلك فكثير من
المبدعين يقع في مثل هذا الفخّ القسري؛ عندما يغيض نبع الإبداع في لحظات ( العُسرة
)، فيأبى الكاتب أن يرفع الراية البيضاء إلى حين، فيعمد إلى قهر اليراع على أن
يخطّ أيّ شيء خوف موت محذور؛ للموهبة ونبض العطاء.
ولابدّ من وقفات دَرَجَ النَّقد
الحديث على المرور بها موروا حتما، العنوان الرّئيس والعنواين الفرعيّة والإهداء
وكلمة الشّكر أحيانا والتقديم المشفّر، الذي يكون عادة متمفصلا مع النّص.
لست من أنصار قصيدة النّثر، ولا
أحسن قراءتها في إطار منطوق الشعر الفنّي، ولكن هي إبداع موجود في السّاحة ويكتب فيه
كثير المبدعين بشراسة مستفزّة في كثير من الأحيان، ويبرع فيه كتّاب حتى يأتوا بما
يُدهش ويمتع.. ولكن كلّا يدّعي وصلا بليلى( الشّعر ) وليلى لا تقرّ لهم بذاك، ولا
ينفي ذلك أن يكون فيما يكتب على هذا النّمط نوع من الإيقاع والتنغيم الموسيقي،
الذي يُسامتُ النّصَ الشعري ويسكن قريبا من مرابضه، ولذلك اقترح أحد الشعراء
الكبار[1]
في المغرب أن يطلق عليه تسمية ثانية ولتكن ( التنغيم ) مثلا، وأصدر فعلا ديوانا
بهذا الاسم. وذلك لعمري حلّ توفيقيّ بين من يدّعي أنّ للنثر قصائده، ومن يأبى
عليهم ذلك ويقول إن هي إلا نثر فنيّ يوضع في إطار أنواع النثر الفنيّ..
( غطرسة مساء ممطر )
هذا العنوان مركّب تركيبة عجيبة
يمكن أن تقرأ بلغات من الفهم متعددة، قد لا يكون إحداها ما قصدت إليه الكاتبة،
ولذلك لن أغامر بقراءة في المدلول المتعدد للمعنى المحتمل، لكن أقول أنّ العنوان (
مزوّر )[2]
بشكل فيه قوّة الإيقاع وقوّة التركيب المتناقض الذي يغري القارئ ويحظّه على اكتشاف
مجاهيل المتن الإبداعي.
الغطرسة والمطر ماذا يجمع بينهما
؟ أهو المساء بغموضه وسحر غروبه أو ليله ذي الوطأة الثقيلة ( الخصبة غالبا )،
" إنّ ناشئة اللّيل هي أشدّ وطأ وأقوم قيلا "، غطرسة ومساء ممطر..
تركيبة متناقضة تتعانق محتضنة ثنتين وعشرين نصّا إبداعيّا ( قصيدة نثريّة !!
)، تُفضي بنا إلى اكتشاف عوالم الكاتبة عربيّة معمري الغريبة..
وفي الإهداء فيض من الرّقة:
إذا كان أحبّتك كثرٌ فلمن تهدي
زهرتك الوحيدة..؟ لكن لا بأس، عطرها الشَّذي قد يسعهم جميعا، ويرضي تطلعهم إليك،
ذلك ما قرأته في إهداء عربيّة معمري التي خشيت الوقوع في فخّ ذكرِ أسماء دون غيرها
في الإهداء فقالت:
" إلى كلّ من أحبّهم وأحترمهم وأخشى أن يزلّ حرفي بذكر
الأسماء فأظلم قلوب أودعتني دعما وأيادي سكبت لي خرير عطائها
- إليكم جميعا ..."
لم تشأ أن تظلم أيّ قلب من هذه
القلوب المرهفة.. !! لكنّها ظلمت قلب سيبويه عندما
أهملت نَصْبَ ( قلوب ) سهوا أو سقوطا مطبعيّا لا أدري.. !
قراءة في عناوين المتون:
عناوين نصوصها مثل متونها تماما؛
تراوحت بين التكثيف الإبداعي المشفّر، الذي يُفضي بك إلى مدلهمات القصيدة بلطافة
فنيّة آسرة أو عنفوان التلغيم الإلغازي المربك، وبين العناوين المباشرة التي تقودك
إلى النّص دون إدهاش وبَهَر أو ربّما مغيّبة للسمت الفنيّ فيه.
مثال الأولى: ( مطاردة في عنق
زجاجة )، ( طقوس ورقة ) ، ( دعوا الحجر يتكلّم )، ( مأدبة بدويّة )..
وهي كما نرى تحمل من كثافة الصورة
وجمال الصياغة ما يحمل على الدّهشة، والتفاعل بشكل عنيف أحيانا أو لطيف ( هفيف )
أحيانا أخرى..
ومثال الثانية:
لحظة صدق )، ( مهلا..لا ترحل )، (
أحبّ أن أستريح )، ( حبيبتي )..
عناوين سهلة مباشرة لا ترقى إلى
أفق الشعر الغنيّ الثريّ، بغض النظر عن متونها التي ربّما في بعض النماذج تكون
أكبرَ منها، وأكثر فنيّة وتألّقا.. لا يأتي دائما كما يبغي المبدع وكما يكون
النّص. وكم من عنوان نفّر القارئ عن نصّ قويّ وجيّد، وكم من عنوان ساحر جذّاب
يتكشف في نهاية المطاف عن دويّ طبل أجوف، لا يترك في النّفس سوى صدى مرعبٍ، ولا
شيء وراءه يُذكر..
مع لذّة الإبحار في المتون:
كتبت هذا العنوان الفرعي ولم
انتبه إلى أنّ أوّل مقطع من المتن الأوّل ( القصيدة )، جاء فيه:
" دعيني أبحر في ماء عينيك
.."
ولعلّي أنا سأبحر في ماء عيون هذه
المتون الزاخرة بالأسرار والمعاني المتماوجة سلبا وإيجابا ما بين اليأس
والتحدّي..
" رغم قضبان الحديد الجاثمة
على صدرك تنتحرين في بحر الدّموع.."
ويشعر القارئ وهو يعالج فضّ أختام هذه اللّوحات الفنيّة ذات
الأنفاس المتأججة؛ أنّ حروفها لا تعطيه عبقها مجّانا ودونما مكابدة القراءة بعد القراءة
في غالب نصوصها لا سيما الأولى منها.. لابدّ أن يصاول تلك المتون بعض المصاولة حتى
يسلس له قياد المعاني، ويجلو مخبّآتها..
مسحة الحزن الجارف لاتكاد تخطئ نصّا من نصوص الدّيوان،
تتلبّسه حدّ النخاع، وتلك قسمة توشك أن تكون مشتركة بين شعراء ومبدعي الجيل الجديد،
الحزن الجارف؛ السّاكن أسنّة الأقلام المتربّع على بياض القرطاس قبل أن تزعجه
الحروف بفوضويّتها.. !
فإذا أضفنا إلى
ذلك طبيعة المرأة المساكنة للحزن بطبعها، فإنّا بلا شك نقف على ( متون ) تحمل هموم
كلّ الإنسانيّة في قلب صغير ينضح ألما واحتراقا..
في لهب الحياة
" كنت
وحدك ..حبّات رمل صفعت جرحك "
بلغة متنوّعة
ما بين ( العسر واليسر ) توزّعت موضوعات نصوص الديوان، لكنّ اللافت جدا هو
اهتمامها بالقضايا العامّة التي تشغل كلّ النّاس وتؤرّق حياتهم، لم تغرق في ذاتية
الشعراء الذين يجعلون من أنفسهم محورا لكلّ أنفاس الكلمات الإبداعيّة ويعبّون من
النرجسيّة بلا ارتواء، ويهيم معهم القارئ في عوالم من الوهم السّخيف المقيت.. ليس
في نصوص الكاتبة ما يشبه ذلك، بل عمدت عربيّة معمري إلى معالجة قضايا محوريّة
وحاسمة في حياة الأمّة وعلى رأس هذه القضايا قضيّة فلسطين، التي أخذت حيزا معتبرا من
متنها الإبداعي، بل أخذت نصيب الأسد.. !
يبدو أنّ
الشاعرة واعية بقضيّة فلسطين متمايهة فيها إلى درجة أن خصّتها بخمسة نصوص إبداعيّة
نذكرها بعناوينها:
- خذلتني الصّحاري
- حلم وراء مخيّم
- دعوا الحجارة تتكلّم
- سؤال ألف عام
- نداء السمراء
ما عرف عن شعب
الجزائر – وليكن هذا القول نوعا من الفنطازيا – أنّه من أكثر الشعوب تفاعلا مع
القضيّة الفلسطينيّة ونصرة للفلسطينيين، ربّما لأنّه أكثر الشعوب العربيّة إحساسا
بمرارة الاستعمار، ليس الاستعمار الفرنسي وحسب ( 132 سنة )، بل من قبله أمواج
متلاحقة من الاستعمار..الوندالي والروماني والبيزنطي والإسباني أيضا ( الذي احتلّ
بعض المدن السّاحلية لفترة طويلة )، فلا عجب أن تكون فلسطين حاضرة بقوّة في أدب كتّابه
ومبدعيه..
في نصّها (
خذلتني الصّحاري ) تقول عربيّة معمري:
" دعوني
أعتقل ضلعا
أعزف لحنا
فعصافير بلدتي
سنفونياتها عبريّة
جبان هو أنت
وأنا
إن رضينا
بفلسطين عروسا لأخرسا "
وكأنّ هذا
المقطع لوحة سرياليّة بالغة التعقيد، لكنّها في النهاية تشفّ عن العاطفة الكبرى
العاطفة الجيّاشة نحو فلسطين، والهمّ الفلسطيني، الذي ضاع في دهاليز السّياسة
العربيّة، ولذلك قالت الكاتبة في قصيدة ( حلم وراء مخيّم ):
" الأحلام
أيضا.... تباع !
والآمال على
طاولة المفاوضات تحتضر "
لكنّ الشعراء
هم وحدهم الذين لا ينسون القضيّة ويضلّون لها أوفياء..
بلادي وإن جارت:
كان للوطن
نصيبه أيضا من ( قصائد الدّيوان !! ) في قصيدتين اثنتين هما:
- حين تمضي الجميلة
- مهلا.. لا ترحل
والوطن غالبا
ما ترمز له ككلّ الشعراء بامرأة حسناء، يقال فيها كلّ كلام غزِل جميل، لأنّ الوطن
أشبه بالمرأة التي يسكن إليها الرّجل ويشعر في حضرتها كأنّه الطفل الذي عاد إلى
أحضان أمّه.. والوطن فيه كلّ خصائص المرأة العاطفيّة أيضا، من حنان وحبّ جارف
وعطاء متواصل، ودفء لا يشبهه أيّ دفء آخر في العالم..
تقول الشّاعرة
عربيّة معمري في قصيدة (حين تمضي الجميلة ):
" أبكيك
مثل الأيتام
أحتظنك مثل
أمّي
لأنّك طوفان
حبّ
ألوانه كلون
عينيك العسليّة..."
وفي الديوان
قصيدة لطيفة بدت أقرب ما تكون إلى شعر التفعيلة، وقد توهج فيها قلم الكاتبة
الإبداعي توهجا كبيرا، فكان مما قالته في تلك القصيدة والتي بعنوان ( بعد المساء
):
" لأنّني
وحدي
أفترش حرير
أناملك
وأنام دون عناء
لو حلمت
لسمحت لخبّاز
المدينة أن يحولني إلى فطيرة
لأجالسك عند
المساء
لو علمت أنّ
الفطيرة أسعد منّي لاقتلعت السنبلة
وقطعت الماء عن
الصّحراء "
ونلحظ هنا بصمة
نزار قبّاني ومدرسته المدهشة في نسج الشعر من أبسط الكلمات والأكثر تداولا على
الألسنة، لكنّ التركيب الشعري يولّد فيها ما يشبه السّحر، السّحر الحلال ( إنّ من
البيان لسحرا ).
وخَتَمتِ
الدّيوان بأطول قصيدة فيه تحت عنوان ( حبيبتي )، ولم تفصح عمن تكون تلك الحبيبة
التي يبدو أنّها فقدتها بموت، ولعلّها تكون أختها أو ابنة أحد أفراد أسرتها
والإهداء في مقدّمة القصيدة يوحي بأنّها مقرّبة من قلبها بشكل قويّ جدا. قالت في
ذلك الإهداء:
" إلى
أجمل وردة أزهرت في الرّبيع وذبلت في الخريف ورحلت وهي في منتصف الطريق.
إلى القلب الذي
بكى صغيرا وغادر كبيرا. إلى روح روحي، إيمان "
ويبدو أنّ
الفقيدة عزيزة على قلبها بشكل كبير جدّا حتى خصّصت لها أطولَ قصيدة في الدّيوان
حيث توزّعت على عشر صفحات منه، كلّها تقطر لوعة وألما..تقول في تلك القصيدة:
" دعيني
الآن أفتّش عنك
لأحتضنك مثلما
أحتضن لباسك القديم
أحتضن ابتسامتك
أناملك
أهدابك
كلّ ماتملكين
ما بقي في يدي
يا حبيبتي
غير ورقة وقلم
حزين... "
في الأسلوب والصّور الفنيّة:
بلغ أسلوب
عربيّة معمري القمّة في الجودة والإتقان الفنّي في بعض مواضعه، ونزل درجة أو بعض
درجات عن ذلك في مواضع أخرى.. ولعلّ قمّة الإبداع والإجادة تعكس لحظات بلوغ ذروة
الإلهام، فهي عادة تأتي بالعجائب وتلقي بوحيها على المبدع ما لو قرأه بعد بضع سنين
لأنكره من نفسه وقال: " أأنا كتبتُ هذا وأبدعته أناملي ..؟ !
" حتّى قال الرّافعي ذات مرّة لما قرأ كتابه ( رسائل الأحزان ) بعد مدّة من
إصداره؛ لقد صرت مفتونا بهذا الكتاب، ولربّما بالغت في الإعجاب به أكثر مما يُعجَب
النّاس به ويثنون عليه.
ولذلك كثيرا ما
نُلفي الكتّاب والمبدعين يستطلعون آراء الآخرين حول ما ينتجونه من إبداع وغالبا ما
يرون إبداعهم أقلّ مما يطمحون إليه، أو ترنو إليه أبصارهم؛ فإذا تواتر الثناء وكثر
المدح فيه، ومرّت فترة من الزمن على ذلك وجدوا فيه الإجادة والإحسان..
ولكنّ هذا
الأمر لا ينطبق على كلّ المبدعين والكتّاب ولا على أيّة مرحلة من مراحل الإبداع.. بل
قد ينظر المبدع أحيانا إلى إبداعاته الأولى فيضحك منها، ويعجب من لغة الأطفال التي
كان يخطّها قلمه السّاذج وقد يقول أنّها لم تعد تمثلني، إنذما هي تجربة في حياتي
وانقضت..
وفي نصوص
المؤلِّفة من هذا القبيل كثير، قد تنظر إلى بعضها بعد زمن على أنّه تحفة فنيّة
تزداد عظمة على مرّ الزمن، وبعضه الآخر كقصور الرّمل التي يبنيها الأطفال على شاطئ
البحر..
وقد نختصر
الحديث حول الأسلوب بمثالين اثنين يغنيان عن الباقي، الأوّل وهو عندنا من قصور
الرّمل؛ قولها ص33 من قصيدة مأدبة بدويّة:
" لم
أطالب سوى بحقوق آدميّة
مرأة تعيش
شقيّة
المرأة كائن
جعل لها الله وضعيّة
واجباتها
تذاع حتى
إفريقيا الشرقيّة ..."
ففي هذا المشهد
غلب التنغيم بسذاجته الأولى على الألق الفنيّ، والمعنى العالي، ولعلّ قصور الرّمل
تُبنى من جديد صروحا مشيّدة لا تهزّها عواصف الزمن..
ومن تلك
المعتّقة التي يزيدها الزمن جودة وثراء فنيّا صرختها في صفحة 39 من قصيدة ( طقوس
ورقة ):
" حتّى
أنت يا أوراق الخريف
تخونين العهد..
بمذكراتي
توقظين بقايا..
تطفلاتي
وتختفي...
لتدغدغي شقاوة
الميلاد ".
الصّور
الفنيّة:
في
ديوان.. ! ( غطرسة مساء ممطر ) صور فنيّة
جميلة جدّا لا يخطئها النّظر، تُومِي إلى حسّ فنّي قويّ حُبِيَت به عربيّة معمري
ويُنبئُ عن موهبة تنتظر التفجّر الأعظم لتسبح في مدارها الصّحيح، ومن تلك الصّور
نجتزئ بهذه الأمثلة:
" لأنّني
أدخلت ياقوتة عالم المتشرّدين "
قمّة الفقر والتّسكع
والهامشيّة في المجتمع في وسطها يقوتة .. ! صورة من صور التناقظ العجيب الذي
بنت عليه الكاتبة كثيرا من مفاصل متونها الغجريّة النّسج، حتى تجعلك تنبش في
كيانها، تفتّش بشراسة عن مكامن الإبداع والفنّ في طيّاتها، ليست سهلة ولا قريبة
التناول إلا لماما.. برغم كلّ الهنات..
وفي صفحة 30
تقول:
ينطوي في زوايا
فنجان دمشقيّ
يخاف أن يكسره
فتسخر منه فتاة
يعشقها من الحيّ
يجلد نفسه في
الخفاء
كي لا يموت
الحبّ ..."
حشد من الألفاظ
التي تزاحمت لتشكّل لوحة فسيفسائيّة ساحرة ( زوايا، فنجان دمشقي، سخريّة فتاة
الحيّ، جلد النّفس .. )
القهوة بنكهتها
المنبّهة والمسلية والموقظة للمشاعر، دمشق برمزيّتها التّاريخيّة، الحبّ وسموّه
الروحي، وخجل الشباب وخوف الانكسار، كلّ ذلك جعل من الصورة ذات تأثير لا يزول
سريعا هو فعلا أكسير الشعر الذي اضطربت موسيقاه..
ومن الصّور
الفنيّة الجيّدة أيضا التي رصّعت بها الكاتبة ديوان ( غطرسة مساء ممطر ) ماجاء في
قصيدة ( صباحات آخر اللّيل )، وهو مقطع محكم النسج متين التّركيب، أنيق العبارة:
هل لك أصدقاء
نعم...
قمر بعيد
وأناس يعبثون
آه سيّدتي
كم يستر هذا
اللّيل من عيوب .."
ويلحظ كذلك في
المقطع التركيبة الفنيّة المتنافرة ( شبه تناقض )، كأنّها ببنيانها تريد أن تعطينا
مشهدا جديدا غير اعتياديّ ولا مستهلك، فالإجابة بنعم توحي بالإيجابيّة..وجود
أصدقاء بحميميّتهم وحضورهم الدّائم لكنّ الشّاعرة تفاجئنا بأنّ هؤلاء الأصدقاء:
" قمر
بعيد ..( إذ أنّ بعد الضياء يجعله باهتا ويقلل من ألقه ) لكنّ بعده قد يزيد الشّوق
إليه ويؤجّجَ الحنين إلى قربه ولقائه .. وأصدقاء يعبثون !
، العبث صفة سلبيّة ظاهرا على الأقل، لكن إذا لمحناه من جانبه الإيجابي فقد يكون
لهوا بريئا وتسلية طفوليّة مرحة ..
وسرعان ما
تفاجئنا الصورة بكآبة الختام الذي لا يخلو أيضا من فائدة ونفع:
" كم يستر
هذا اللّيل من عيوب .."
وقفة مع نصّ ( قالت لها دجّالة )
هذه القصيدة من
أجمل قصائد الدّيوان؛ إذ تواطأ فيها التنغيم الموسيقي والنّسق الفنّي مع جماليات
الصّورة وطرافة المعنى وعمقه على حياكة نسيجها المتين وتركيب دلالاتها السّاحرة..
ولولا تعثّرات هيّنة لكانت السيّدةَ الجميلةَ في ديوان ( غطرسة مساء ممطر
).. !
مَوْلِج..
الدّجل شيء
مَقيت وسلوك منبوذ في حياة النّاس، ولكنّ الشعراء والمبدعين جعلوا التّسمية ( تيمة
) فنيّة يُتَكَأُ عليها لتبليغ رسالة مشفّرة أو توصيف مشاهد ذات دلالات لا تُدرك
إلّا من خلف سُجَف الغيب المسدلة، فتكون الدّجالة أحيانا بمثابة عين ثاقبة يطلّ
المبدع من ورائها على المغَيّب ويستشرف المسقبل، كأنّها من باب " صَدَقَك وهو
كذوب ".
ووفقا لهذا
السّياق الذي تمتزج فيه الأسطورة بالمغيّب، الوهم بالأمل المستحيل، بالمصاير
الحتميّة؛ تأتي قصيدة " قالت لها الدّجالة " والتي تستهلها بهذا المقطع
المؤثّر:
" توغّلتُ
في أدغال عينيك
فلم أر
غير دموع
بقايا سنون
إبريق قهوة
..."
هنا يشدّنا
مشهد الصّورة السرياليّة المشكّلة بطريقة متناقضة العناصر، متنافرة الأطراف
والأبعاد، الأدغال برهبتها ومخاوفهان الدّموع بحرارتها ورقتها، بقايا السّنون (
ذكريات جميلة عادة )، إبريق قهوة قد فارقته لفحة النّار، وكأنّه بَرَد منذ مدّة
ليست باليسيرة، وفي ختام المشهد الأوّل؛ فنجان وسط الصّخور.. !؟
ما الذي جاء به هنا ؟ ما دلالته ؟ هل من معنى اقتضاه تكامل الصّورة ؟ أم اقتضاه
السياق الفنّي ليُتمِّ نغمات الإيقاع وحسب لا أعرف لذلك جوابا مرضيا.. غير أثرٍ من
حزن وشيء من قنوط تبثُّه هذه الصّورة المتنافرة العناصر في النّفس، وكلومًا عميقة
تتركها في القلب.
ولكن عندما
تقول:
" جفون
تختلس النظر
وتجول "
فَصْلُ كلمةِ
جفون عن بقيّة الشّطر جعل المعنى مفكّكا، أو مرتبكا وكأنّ الكلمة ليس لها علاقة
بما بعدها، وجاءت عبارة تختلس النظر لتعطي بعض القوّة للشطر لكن خذلتها أيضا كلمة
الختام وتجول..( فتجول) تبدو غير متوافقة ولا متجانسة مع ما سبقها ..ممّا أثر على
انسيابيّة ( المتن ) الشعري.
ثمّ تواصل في
نغمة حزينة موجعة:
" جالستها...
رجوتها أن تعري جوارحها
تسللت إليها بسؤال فاتر مهزوم
ما عرفت مقلتاك النوم
نظرت لي...قائلة
وهل ينام الجياع.."
عبّرت عن البوح بتعرّي الجوارح وهذه كناية لطيفة إلى درجة
أنّها بدت مثل لوحة زيتيّة خطّها رسّام بعناية وصبر، فالجوارح هي بريد القلب
وأدوات للإدراك المفضي إلى استنارة العقل بالمعرفة، وكأنّ ظواهر الجوارح لا تعطي
الحقيقة كاملة على هيئتها المعتادة، فقد تتصنّع وتلبس لبوسا غير لبوسها،أو تتزيّ
بأقنعة مستعارة..فلا بدّ من التعرّي لتتمّ المكاشفة كاملة..
ولكأنّما السّائلة تدرك الجواب أو بعض الجواب على الأقل سلفا،
فلذلك هي تعبر عن طرحها للسؤال بأنّه ( فاتر ) لتأتيها الإجابة البدهيّة:
" نظرت لي...قائلة
وهل ينام الجياع..
"
وتتوالى الصّور الفنيّة في القصيدة بمثل هذا النّمط الآخّاذ لتشحن
فيها الكاتبة كلّ مكامن ذاتها ولواعج قلبها من مثل قولها:
" اشكو هزال طفولتي
أشكو يوم مددت يدي
قصصت شعري
وخبأت في منديلي دمعتي .."
كيف يُصيب الهزال الطفولة،
وكأنّها شخص مجسّد من لحم ودم، لا سنين تمضي وتمرّ، هذه الطفولة هزيلة لشدّة ما
تعانيه من ألم وحرمان، طفولة تُلجِئ إلى قصّ الشعر .. وتُلجِئ إلى أن تخبَأ
الدّمعة في منديل..، يا لها من صورة نادرة وحيّة في أبدع ما تكون الصّور حيّة،
دمعة مخبأة في منديل وكأنّها الجوهرة الثمينة التي تستر عن الأعين المتطفلة وتحمى
من النظرات الفضوليّة المقيتة.
وحتى الدّجالة تسخر منها ومن
دمعتها وفي حركة ( اعتسافيّة ) تتحوّل إلى أحد المجانين علّها تجد بعض السّكون في
الجنون، كما يقول أحد الأدباء الروس " أبحث عن العاصفة بجنون لعلّي أجد في
العاصفة السّكون.. ! "
وعلى هذا النّمط شبه السّريالي كتبت الشاعرة
عربيّة معمري كثيرا من ( متونها ) الشعريّة المتجلببة بالحزن والأسى، والمتلفعة
باللّوعة والألم الممضّ، وهذا قدر يكاد يكون مشتركا بين شعراء تيار عريض في العصر
الحديث.
ختام ومسك:
هل الكاتبة
عربيّة معمري تخطّ كلّ ذلك عن وعي كامل بهذه الأساليب الفنيّة ومساربها المختلفة ؟
أم هي مجرّد محاكاة لقراءات سابقة تكاثفت لديها وتكاتَفَت لتعطينا هذا القالب
الفنيّ المختلف حول ماهيته ( شعر هو أم نثر )، كما سبق وأن ذكرنا ذلك، لا يمكن أن
نجزم – وإن كان الاحتمال الثاني أقرب إلى الرجحان )، لكن المؤكّد أنّها تعبّر عن
مكنونات متأجّجة في ذاتها،كان لابدّ لها أن تطفو إلى السّطح، ويحتضنها الورق أفكارا
ومشاعر لكاتبة لم تشأ أن تحترق في صمت، بل لا بدّ أن ينبجس عن ذلك الاحتراق نوعٌ
من الضياء الذي يلقي بألقه البهيج على الأفق، في معادلة تناقضيّة معقّدة ( ألم
المبدع / متعة المتلقي )، وليكون المبدع نفسه - فيما بعد – حين ينفصل عن نصّه كما
يقال؛ متلقيا يتذوّق إبداعه ويتمتّع بجَنَى قلبه وعصارة روحه.
لا نقول أنّ
عربيّة معمري قد بلغت ذُرى المجد الأدبي التي تُزْجيها إليها رياح الشّهرة
والنجوميّة، ولكن نقول أنّها – وبلا ريب – قد وضعت يراعها على المسار الصّحيح
ودخلت الصّرح..فهل ستحسبه لجّة.. وهو صرح ممرّد من قوارير الفتنة الإبداعيّة التي
لا تنقضي..؟ !
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق