2014/12/03

علي السّباعي يكتب مدونّات امرأة أرملة وينتصر للجندي المجهول بقلم: د.سناء الشعلان



علي السّباعي يكتب مدونّات امرأة أرملة
وينتصر للجندي المجهول

  بقلم الأديبة الأردنية:سناء الشعلان
selenapollo@hotmail.com
   عن دار ميزوبوتاميا للطّباعة والنشر والتوزيع صدر في العاصمة العراقية بغداد المجموعة القصصية " مدوّنات أرملة جندي مجهول"،وهي مجموعة قصصية جديدة للقاص العراقي علي السباعي،أبدع لوحة غلافها الفنان التشكيلي محمود فهمي عبود.والمجموعة تقع في 114 صفحة من القطع  المتوسّط،وتتكوّن من أربعة معقودة تحت عنوان مدوّنة،وهي على التّوالي :مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
    باب المدخل إلى هذه المجموعة القصصّية هي كلمة غلافها الخلفيّ  للقاص العراقيّ علي السّباعيّ الذي يقول:" واجهتُ نَفسي بالأسئلةِ،ماذا تعني القصةُ وهي تترسَّمُ آثار الحرب والحصارَ والحبَ والتيه؟وماذا تعني القصةُ وهي تترسمُ بصمات ِ الإنسانِ عندما ينْسَحبُ أمام ذاتهِ؟!سؤالُ كونيُ؟يحملُ طعمَ كلَّ المراراتِ التي لا تفارقُ  نسغَ حياتنا إنْ كانَ هُنالك في الحياة منْ وجودٍ".
    وهذا المدخل الخلفي لهذه المجموعة القصصيّة يقودنا نحو الحالة النفسيّة والفكرية والشّعورية التي ينطلق السّباعي منها في كتابة مجموعته هذه التي تقمّص فيها شخصيتين لا شخصيّة واحدة،أيّ أنّه استدعى المرأة والرّجل كي يرسم ملامح معاناة ومأساة الشّعب العراقيّ الذي يعيش منذ عدّة عقود في معاناة لا حدود لها،لاسيما معاناة الحرب التي خلّفت إرث حزن عملاق في ذاكرة الشّعب العراقيّ،وقد استدعى المرأة الأكثر معاناة في الشّعب العراقيّ،وهي المرأة الأرملة،كما استدعى زوجها الجندي الذي دفع حياته ثمناً للحروب والمآسي والتّصفيات العسكريّة.
  والسّباعي يتولّى الحديث بصوت المرأة الأرملة عبر تفويضها له بذلك في القصة القصيرة الأولى "وصايا امرأة توشّحت بالرّماد" إذ يقول :"دموعُها شاهدٌ حيٌ وهي توصيني على تدوينِ عذاباتِ الناس الذين َ يمشون َ بجانب ِ الحائط ِ في بلد ٍ طيب ٍ ؛ وهم يحرثون أرض َ خيباتِه بمرارات ِ الواقع ِ وهباءاتِه ... وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ،لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
    ومايكاد السّباعي يقدّم لنا هذه القصة القصيرة وثيقة إبداعيّة وقانونيّة لحقّه بتدوين عذابات الأرملة عبر تفويضها له بذلك حتى ينزلق مباشرة إلى داخل الجنديّ العراقي مستعرضاً عوالم عذابه وانكسارات وجوده وأشكال سحقه وظلمه ومصادرة حقوقه بالحياة بالمعارك طاحنة قد زُجّ بها زجّاً على امتداد عدّة عقود،وهو بذلك ينطلق من إيمانه الرّاسخ بأنّ الانزلاق إلى الرّجل لا يكون إلاّ عبر المرأة،وأنّ اكتشاف المرأة لا يكون إلاّ عبر بوابة الرّجل،وما توأمة حزنهما ومصيرهما إلاّ فهم حقيقيّ لشكل الوجود البشريّ الذي يتكوّن حقيقة من لحمة الرّجل والمرأة.
  ولأنّ معاناة الرّجل العراقي ّهي معاناة المرأة العراقيّة،ولأنّ الجندي المجهول الذي مضى إلى الموت قهراً وظلماً هو فجيعة المرأة العراقيّة،فإنّ السّباعي بدأ بسرد قصص هذا الجنديّ عبر ذاكرة المرأة التي جعلها الحافظة لكلّ الحكايا،وقد عرض حكايا الجندي المجهول عبر عدّة قواطع قصصيّة سمّاها"مدوّنات"،وأعطاها الأسماء التّاليّة: مدوّنة الحرب،مدونة الحصار،مدوّنة الحبّ،مدوّنة التّيه.
    وقد خلق السّباعي من حالة التّعميم المقصودة في العنوان بوابة للتخّصيص،فهو لم يحدّد من تكون هذه المرأة الأرملة،ولا حدّد اسم ذلك الجنديّ المجهول؛كي تكون تلك الأرملة هي العراقية الأرملة في أصقاع العراق كلّها،وكي يكون الجندي المجهول هو الجنديّ العراقيّ الذي لقي حتفه في المعركة بغض النّظر عن اسمه أو ديانته أو منبته أو منزلته الاجتماعيّة أو الثّقافيّة،وحواره مع المرأة في القصّة القصيرة الأولى من المجموعة:" وصايا آمرأةٍ توشَّحتْ بالرمادِ" يقودنا نحو قصر هذه المجموعة على معاناة العراقيّ والعراقيّة:"وكان العراقيون المصلّبين َ في جذوع ِ نخله ِ المنقعر يسقونَها بدماءِ جراحاتِهم ، كانتْ دموعُهم النازفة ُ
برقيّاتٍ من جحيمه ِ ... زامنتْ بكاءَ الأرملة ِ المتّشحة ِ برماد ِ الفجيعة ِ تبكي يومها الدامي في بلاد ِ وادي الرافدين ، سَألتُها مذهولا ً : كيف تبكين َ ؟ ! أجابتْ بشفتين ِ راجفتين ِ شاحبتين ، ودموعُها منهمرة ٌ من عينيها السومريتين ِ الرافضتين ِ لعراق ِ القهر ِ : العين لا تبكي إلاّ إذا بكى القلب ُ ، والقلب ُ لا يبكي إلاّ إذا أشتـدَّ وقع ُ الهم ِّ عليهِ ، كم كانَ
همِّيْ ثقيلاً يطبقُ على قلبي .
علّقتُ مهموما ً :
ليسَ مِن َ السهلِ نسيان ُ كل ِّ ما مرَّ بنا من أحزانٍ .
شاطَرتني حزني َ قائلة ً :
أقتـنص هذه ِ اللحظات ِ ؟ !!
بُحتُ لها وأنا أُمْـسِكُ رماد َ فجائِـعَـنا :
ليتك ِ تدركين َ كم هو ثقيلٌ هم ُّ الوطن ِ ؟
قالتْ بلحظة ِ بوح ٍ باذخة ِ الدهشة ِ :
دوّنْ . . . دموع َ الناس ِ بوصفِها الخيط  الرفيع الذي يربط ُ بين َ الحياة ِ والحلم ِ .
استفهمتُ :
لِمَ ؟ !
قالتْ ناصحة ً :
لأنّكَ متى تأخّرتَ عن الإمساكِ بتلكَ اللحظاتِ المدهشةِ من محنتِنا ... ستفقدُها إلى الأبد ِ .
لِتكُنْ كتابتُكَ في هذا الوقت ِ عن عذاباتِنا أجملُ انتقامٍ من هذا العالم ِ القبيح ِ الذي نعيشه ُ".
     ومنذ" مدوّنة الحرب" نقرأ في أسفار الجندي المجهول الذي يتناوب على أصناف المعاناة والحرمان،فيسرد السّباعي علينا ابتداء قصة" عازفٌ نســيَ عُودَه"،إذ يقول فيها:"كان معي جنديٌ إبان حـرب ثماني السنــوات فـي جبـــهةِ القتـــالِ ،لم يكن مقاتلاً شرسـاً ، كــان عازفَ عودٍ موهـــوباً ، مُبدعـــاً، لا يجيدُ القتالَ... أثناءَ المعــاركِ الطاحنـــةِ وما أكثرَها وأثناءَ اشتدادِ القصفِ كان يعزفُ لنا نحنُ إخوانَه المقاتليـن أجملَ الألحان ، يضربُ علــى عودهِ بلا تعــــبٍ ، بمتعةٍ وإبداعٍ أبداً لا يكررُ نفسَه ... أُعلــــنَ وقـــفُ إطــــلاقِ النارِ في 8/8/1988 راحَ يدندن فرحا بانتهائِها.. وإذا بقذيفـــةٍ إيرانيةٍ تسقطُ على موضِعـــه وهو يعزُف ... تقتلٌه".
وقبل أن نستسلم لأحزان هذا الجنديّ المفجوع بنفسه وفرحه،ينقلنا السّباعي إلى أحزان المرأة العراقيّة إذ يقول في قصّة"أرملة" :" زمـنَ الحرب . كنـا نقفُ طوابيرَ لشراءِ الخبزِ ، كـــــانَ الناسُ يصطفــونَ صفيــن اثنين ... صفاً للنساء وآخر للرجال ، كان طابورُ النسوة طويلاً جدا كـأنه أفعى سوداء ، وصـــفُ الرجالِ يتكونُ مــــن ثلاثةِ أشخاصٍ مسـنين وأنــــا ، جـــــاءت أرملـــةٌ و اصطفــتْ فــــي طــابورِنـــا ، خلفــــي مباشــرةً ، أمرهـَــا صــاحبُ المخبز المصــريِ الجنسية أن تقفَ في طابورِ النســاءِ ، فقالتْ بحدةٍ وهي تٌعَدِّلُ من وضعِ عباءتها السوداء الكالـحة :وهــل هنالك رجـــال حتى أقف في صفهــم ".
   وبعد ذلك يسرقنا السّباعي سريعاً إلى تضحيات ذلك الجندي العراقيّ الذي عاش شجاعاً ومات بطلاً،وأجاد أن يحوّل الموت والخراب إلى جمال ونخيل وحياة،إذ يقول في قصّة "ثأر":"جـاهــدَ جدي ضــدَ الإنكليز ... كــان يقتلُ الجنديَ البريطانيَ ويأخُذ سـلاحـَه وعتاده ويدفنُه في بستانِه ويزرعُ فوقَ جثتهِ نخلــةٍ ... صــارت فسيلاتُ النخيل تمــلأ بستانهَ ... تحـتَ كلِ تالةٍ يرقدُ جنديٌ انكليزيٌ، قَتـــلهُ جــدي ... غــادَرنا البريطانيـــون ... كبـرَ النخيـلُ ... مــات جدي... كبرنا ... شاخ نخيلُنا ... احتلّنــا الإنكليزُ ثانيــةً ... قامــوا باقتلاعِ كل نخيل جدي".
   والسّباعي في هذه المجموعة القصصّية المميّزة عندما شرع في كتابتها كان على وعي إبداعيّ كامل بأدواته وغايته،ولذلك اختار فنّ القصّة القصيرة جدّاً ليجري بنا في  قصص لا نهاية لها ومعاناة عريضة تتوافر على أحداث يكاد السّرد الممتدّ لا يتسع لها،ولكنّ الجريّ فيها عبر ومضات القصّة القصيرة جدّاً قد يتيح لنا رؤية أوسع عبر مساحات شاسعة زمنياً ومكانيّاً وحدثيّاً عبر جري لا ينتهي،ولهاث متقطع لا من الجري المتواصل في سرد حكايا المعاناة بل من الألم والقهر الذي يحاصر المتلقّي عندما يتورّط في هذا القصص المحزنة.
   وتقنيّة الجري- إن جاز التّعبير- في عوالم هذه المجموعة القصصيّة تجعلنا نطوّف في مفاصل حروب شتّى خاضها العراقيّ من الحرب ضدّ الاستعمار الإنجليزيّ إلى الحرب مع إيران إلى حرب الخليج.السّباعي لا يتوقّف عند تفاصيل حياة الجندي العراقيّ، بل يقودنا كلّ منا من يده ليجوب به تفاصيل معاناة الإنسان العراقيّ التي تأتي الحرب إليه إن لم يذهب هو إليه،ونرى ذلك جليّاً في قصّة"حظ عاثر ":"تهدم منزل صديقي الكائـن خلف الفندق الذي رسمت على أرضيـة مدخله صورة بوش الأب ... نتيجة قصف القوات الجوية الأمريكية لهذا الفندق ... أصيب صديقي بالقصف وطار نصف قحف رأسه ...رقد في المستشــفى سنه ونصف السنة ... تركته زوجتـه وقد أخذت  معها أولاده ... هو ألان يشحذ في الشوارع".
   وهذه التّفاصيل تنقل لنا الفجيعة في أقبح صورها وأبشع ملامحها كما نرى في قصّة" رأي":"دويٌ هائلٌ هَــزَ قلبَ العاصمـــةِ ... إثـرَ انفجــارِ سيـــارة ٍمفخـخةٍ ... تناثرتْ أجســادُ المارةِ ... انهــارتْ واجهــاتُ ألأبنيـــةِ المحـــيطةِ ... تحطمــت السياراتُ ... بدأنا بلـم أشــلاء النــاس ... عثرتُ على قـَـدَمِ رجـــلٍ يمنى يغــطي ظاهرَهــا وشــمٌ ازرقُ ملطخٌ بالدماءِ والوحـــلِ ... مسحتُهــا بباطنِ كفي اليمنى:كُتِبَ بالوشمِ الأزرقِ  " كلُ النساءِ تحتَ قدمي ما عدا أمي ".
  ولا يفوت السّباعي في هذه المجموعة القصصيّة أن يلوّح بكلّ جرأة بصراعات الإنسان العراقيّ إبّان الحروب الطوّيلة والكثيرة التي عاشها،وهو يطرح هذه الصّراعات بصراحة في قصّته:" رزمة أسئلة":"جـارُنــا الهاربُ مـــن الخدمة العسكرية ... كــان يسكر كل ليلــة مــن ليالي حــرب ألثمانينيات حــد الثـَـمَل ...يبدأ بعتاب أمـــه :- لِــمَ ولدتِني في قارة آسيا ... لِـمَ ولدتني في العراق ...  لِـمَ ولدتني فــي الناصرية ... ولِمَ ولدتني فـي شــارع  عشرين ... ولِـمَ أنا هارب؟!"
  وهو في الوقت نفسه يتحدّث عن حلم الجندي العراقيّ الذي غادر الحياة،ولكنّه لازال يحلم بأن يكون حيّاً ليمارس حياته بكلّ تلقائيّة دون سطوة الموت الذي سارق عمره منه.وهذا الحلم هو امتداد لحلم كلّ جنديّ عراقيّ دُفع به إلى درب الموت،وحُرم من حقه في الحياة،فيقول في قصّة " جندي":" بعد انتهاء المعركــــة ، جندي يخــرج  مـــن كيس الموتــــى ويقول لزملائــه:-مهـــــــــلا مــــــازلـــت حيـــــــاً".
    "مدوّنة الحرب" في هذه المجموعة القصصّية تجوب بنا أقاصي الموت والقتل والخوف في مساحات الحرب،وتنقل لنا أدق تفاصيل الحياة اليوميّة إبان تلك الحروب في ظلّ صراعات نفسيّة يعيشها الإنسان العراقيّ في كلّ لحظة في أتون هذه الحروب التي تزرعه في عوالم من القهر والاستلاب والعذاب.أمّا "مدونة الحصار" فهي تسجّل لنا أدق ملامح جناية هذا الحصار على الإنسان العراقيّ إلى الحدّ الذي جعله يتمنّى أن يكون حماراً وفق ما نقرأ في قصة "إنسان" إذ يقول:" ذات حصار ...كنت انظر إلى الحمار ... وأحسده"
   وفي أجواء كهذه تتخلّخل المعايير كلّها،وتتحرّك البُنى كاملة نحو الانهيار والدّمار كما نرى في قصة "تجار ميزوبوتاميا" :"دلفتْ إلـى مقهى التجارِ ... امرأةٌ مقوسةُ الظهــرِ ...تستجدي ... لــــم يُعْطِها احدٌ شيئاً ... ألحـت فـي طلبهِا ... نَهَرَها صاحبها :-أخرجــي ... ألا تخجلــين ... أنتِ وسطَ الرجال ... عيب ... ؟ !!قالتْ بمرارةٍ وحزنٍ غريبين في أثناءَ مغادرتهِا و كانت تَهُز يدهــا اليمنـــى باستهـــزاءٍ قَـــــلَ نظيـــرهُ :وأينَ همْ الرجال ؟"
   لقد رسم لنا السّباعيّ أصدق الصّور الإنسانيّة للإنسان العراقيّ إبّان أزمة الحرب التي يعيشها،وتخفّى خلف قصص الآخرين ليقول لنا إنّها قصص العراقيين جميعاً بل إن بعضها هي قصّته هو بشكل أو بآخر وفق صرخته المؤلمة في قصّة"أنا" إذ يهتف بها بألم وفجيعة :" طيورٌ رماديةٌ قويةٌ مهيبةٌ تحلـــقُ في سمــــاءِ الزوراء ،متخذةً في طيرانها الانسيابي شكلَ دائرةٍ واســــــــعةٍ كلمــا استمر تحليقُــها كـــانت الدائـــرةٌ تضيـــــــقُ،وكان بينهن طائرٌ واحدٌ ابيضُ رشيقٌ وجميلٌ جــــدا ،وَضَعْنَه فــي منتصفِ الدائرةِ التـــي قـــد صَنْعنَهــــا بطيرانهِن ... كـــانَ ذلــــكَ الطائـــــــرُ الأبيضُ أنا ".
   أمّا في" مدوّنة الحبّ: فإنّ السّباعي يقدّم لنا الحبّ العراقيّ الكسير الذي لا يفرح قلب به كما يجب بسبب الحرب ومعاناتها،حتى بات هذا الحبّ ليس إلاّ صورة من صور الموت والدّمار والفراق،فيشجي القلب،ويحرق الرّوح،ويحرم من متعة اللقاء والفرح ولمّ الشّمل  كما نرى في قصّة" عرس" إذ نقرأ فيها قصة حبّ ترحل مع الموت:" قبـيـل زفافِهما ... عريسٌ ينتظرُ عروسَه أمــام مصففةَ الشعرِ ...تســـودُ شـــارعَ الكــرادةِ فرحةٌ ملونــــةٌ ... بأحــلى الأغــاني والرقصــات ... انفجــرتْ ســـيارةٌ مفخخةٌ ... هــَزَتْ بغدادَ".
وهذا الحبّ قد تشّوه في الذاكرة العراقيّة بسبب الحرب والمعاناة والحصر والقهر والاستلاب،فمسخ ليغدو صورة من أبشع صور الحياة التي تدمي الرّوح كما نرى في قصّة "مشاجرة" :"تشاجـــرَ مـــع زوجتـــهِ ...أرادَ أغاضَتَها ... فقتــلَ ابنَته ذاتَ الربيعين".
  إن السّباعي في مجموعته القصصّية هذه قد نجح في أن ينقل إلينا دوار الألم الذي يعتمل في نفسه،ويعيشه في ذاكرته،ويتقاسمه مع العراقيين أجمعين،وعندئذ أخذنا في رحلة جهنميّة مضنية في " مدوّنة التّية" التي تعتّم أرواحنا بملامح حياتنا مستلبة عاشها العراقيّ في تفاصيل حياته المعيشة عبر عقود من الاستبداد،ويكفي أن نقف قبالة صورة قصّة "وجبة" لنصرخ بآهات وجع العراقيين المنكوبين بحيواتهم وأعمارهم وأفراحهم المسروقة":في حديقــــةِ الحيواناتِ الخاصـــة التـــي يملُكهــا عـدي صــدام ،يُطْعــِـــمُ الجنـودُ الأمريكيـيــــوُن ثلاثـــةَ أســودٍ جائعـــةٍ نعامــا وغزلاناً حيـةً ، أمــا القططُ فتغفـو تحتَ لافتةٍ كَتبَ عليها الجنودُ :
((مـن يُضْبــَط وهــو يعتدي علــى أيٍ مـن حيواناتِنـا، سيكــونُ وجبتهَـا المقبلـــةَ)).

    وفي هذا التّيه المضني يضعنا السّباعي أمام أسئلة الحيرة ودروب الضّياع إذ يلقي علينا قصّة"غارس"،ولنا أن نأوّلها بما نشاء وكيفما نشاء،والمغزى في وجدان السّباعيّ :"رجلٌ فـــــي عقدهِ السادس ، طَفَحَ بــه الكيلُ بعد الحوادث الطائفيةِ الداميةِ عام ألفينِ وستة ، جَمَعَ كـلَ صورَ الطاغيــةِ فـي مدينتهِ الطيبة،الناصريةِ الغافيةِ على نهرِ الفراتِ ،وقامَ بغرسِها وســطَ سوحِــها وحدائِقها المجدبةِ وخرائبهِا ،وراحَ كل يوم يجلبُ الماءَ مـــن فراتها إلـــى صورهِ التي غَرَسَها ،وسقاها علـــى أمــلِ أن تُنْبــِت واحــــداً مثـــلَ صـــدام".
   أزعم أنّني قرأتُ الكثير من الإبداع القصصّي عند القاص العراقيّ علي السّباعيّ إلاّ أنّ هذه المجموعة قد أكّدت أنّ المبدع قد يتفوّق على نفسه،وأنّه قد يكون في منتج إبداعي ما قد سرق النّار من جبل أولمب الإبداع.ليس من درب نحو هذه المجموعة سوى عبر الإنسان العراقيّ  وعبر معاناته التي كست ذاكرته بالخراب والحزن والألم والفجيعة والضّنى،وليس لنا عندما نقرأ هذه المجموعة القصصّية إلاّ أن نقول للسباعيّ:مرّة أخرى قد أبدعت.