2012/08/01

القصة الفائزة بالمركز الأول في مسابقة صلاح هلال للقصة القصيرة 2012

القرفصاء الأخير

خيري عبدالعزيز

    شيء ما يجثم فوق صدره, يمسك بتلابيب الهواء أو تلابيب روحه. ثقل في الهواء يرهقه, ويجعله يلهث طلبا لذراته العاصية. يلملم أطرافه الطويلة الناحلة, فيشعر أن كل خلية في جسده تئن بصوت يكاد يسمعه. يغادر الفراش.
   يفتح النافذة, فينساب ضوء القمر الفضي, ملقيا بظلال باهتة على الأشياء. لا تسعفه قدماه للعودة, فيتهالك أسفلها, ويجلس جلسته التي اشتهر بها "القرفصاء".
    تجوس عيناه ذات اللمعة المعبرة بين الفراغات, تتملى أشياءه العتيقة طويلا في ألفة الرفقاء. يخيل إليه أن الأشياء تنظره: دولاب عرسه العجوز المتهالك, السرير"العمدان" المتداعي الأركان, المنضدة التي نخرها السوس, "وابور الجاز"..
    بريق عيونهم يلمع في الظلام. يراه. يمعن النظر. نعم يراه. لم يتملكه الجنون بعد..
    يرى أشياء أخري: زوجة فتية تشعل "الوابور", وتبتسم له. ثوبها يحتك بوجهه. نعم يحتك, بينما تضع إناء الماء على الموقد. الحجرة تضج من حوله بالأشخاص: جده, أبيه, أمه, أعمامه. أصدقائه.. يرتفع حديثهم الصاخب..
    جده يربت علي خده كعادته, ويقبله. يشعر بدفء القبلة علي جبهته. أبيه يحمل طفل ذو وجه مألوف علي كتفيه ويغمز له. أمه الحنون تهدهد نفس الطفل وفي عينيه وعينيها بوادر نعاس. يأنس بوجودهم, وينسى الهواء وذراته العاصية..
    الطفل ذو الوجه المألوف يبحث في شغف وخوف عن قرش صاغ ضائع بين أكوام التراب, لا يجده, تنساب دموعه, تمس شغاف قلبه, تمتد يده تبحث عن قرش ليعطيه له, يكتشف أن زمن القروش قد ولي, يشيح بوجهه متألما لأنه يعلم أن الطفل كان شغوفا بشراء حصان الحلوى من المولد.. وفجأة أضواء تتلألأ, تخطف بصره, يضع يديه علي عينيه في محاولة لخفض حدتها. ضجيجا عاليا يصم أذنيه, وأنفه يشتم روائح الطبخ الذكية. شاب ذو وجه مألوف برفقة عروسه الحسناء في ليلة الزفاف, وسط حمي الزغاريد. تتساقط الزغاريد صرعى أمام صراخا حادا يفزعه, يعقبه بكاء ضعيفا تهتز له أرجاء الشاب المنتظر علي باب الحجرة طربا. يتكرر الوقوف والبكاء في تعاقب تظهر به يد الزمن التي لا تستكين. حتى ينفتح الباب علي مصراعيه عن الرجل وزوجته ومن حولهم بناتا وصبيانا كثيرون..
    يصل إلي مشهده طريح الفراش بلا رفيقة - فقدها منذ زمن- ومن حوله نساء ينهنهون في ضجيج يزعجه, ورجالا وشبابا يشبهونه, تدمع عيونهم في صمت.
   حياته! ينقصها فقط أن تتمدد الأيام بجوفها بالتفاصيل, لينتفض الماضي حيا نابضا!
    الماض! ذلك الوحش الوديع الذي استطعنا ترويضه وصار مأمون الجانب, حتى وإن نال منا في وقت ما, وتحول بكامل إرادته أو إرادتنا إلي مجموعة من الأحاجي والحكايات...
   يتململ في جلسته, فساقاه لم تعدا تقويان علي القرفصاء طويلا, ولكنه يصر عليها. يفتقد ضجيج مؤنسيه, فيلتفت بحثا عنهم. يرهف أذنيه. لا شيء, سوى صفير طويل متصل مثل مذياع فقد الإشارة. كادت الفكرة تضحكه, ولكن إحساسه بأنه لم يعد من الوقت ما يكفي لأي شيء وأد الضحكة في مهدها. وطفحت عيناه بالدموع فجأة, ربما لتأكده من إحساسه مثلما لم يتأكد من شيء من قبل. أذناه تتسمعان وقع خطوات قادم ينتظره, يعلم أنه قادم, قد يكون في الطريق إليه, أو أقرب من ذلك, ربما هو الآن على رأسه, يستعد للمهمة الأبدية. يرتعد للخاطر بشدة, وتتسع عيناه لفضح العتمة. يتكاثف الظلام في تحدى يرهقه, لتسقط نظراته صريعة العجز أمام الظلمة البهيمية. يشعر بضبابية مقيتة تمتد بطول خط الحياة الموغل في الأبدية.. تشمل ما بعد الحياة. يتملكه شعور جارف بالخوف, رائحة الخوف تزكم أنفاسه, تملأ رئتيه, يشهق خوف, يزفر خوف.. رغبة عنيفة في التقهقر تجتاحه.. سخرية من الخاطر تهاجمه.. وعلي البعد السحيق نور باهت يومض, يقترب, يبدد فلول الظلام, ينساب بداخله, يملأ قلبه ورئتيه. راحة تهدهده, يشهق نور, يزفر نور. خلاياه تتوهج. وقع خطوات القادم الغامض تصك أذنيه. يدقق النظر, يجده أمامه, يحتويه, يخترقه, يؤدي عمله في صمت مهيب. يغادره. سكون..

هناك 3 تعليقات:

إبراهيم محمد حمزة يقول...

قصة جميلة كان لى شرف قرائتها أثناء المشاركة فى تحكيم المسابقة وانحزت لها لتميزها الحقيقى ،دوما رائع يا أستاذ أحمد ، لك كل التحية وللكاتب .

إبراهيم حمزة

غير معرف يقول...

جمييييلة جدًا، مبدعةللغاية تستحق الفوز.

الغراوي يقول...

صحيح انها جيدة ولكن الاخطاء النحوية كثيرة جدا جدا اتمنى من الاخ القاص عرضها على المختصين لغرض تصحيحها