«عاشق على أسوار القدس»
تحتفل بولادتها في القدس العتيقة
تحتفل بولادتها في القدس العتيقة
صدر عن دار الجندي للنشر في أواسط آب أغسطس ٢٠١٢ في القدس المحتلة الطبعة الأولى من رواية «عاشق على أسوار القدس» للأديب العربي المقيم في الولايات المتحدة عادل سالم، وقد جاءت الرواية في ٢٦٠ صفحة من الحجم المتوسط، وصمم غلافها الفنان خالد المحرقي، وقام بتصميم ومونتاج صفحات الرواية الشاعر الفلسطيني محمد حلمي الريشة.
تحكي الرواية قصة طالب فلسطيني سافر إلى الولايات المتحدة للدراسة وبعد عودته عام ٢٠٠٨ يفاجأ أنه أصبح سائحا ولم يعد مواطنا حسب قوانين إسرائيل العنصرية الجديدة التي تلغي حق أبناء القدس العرب من الإقامة بها إذا سافروا منها لفترة ولو كانت لمدينة قريبة كرام الله مثلا.
فتبدأ معركة العودة إلى القدس، ويطارد في ذلك من مكان إلى مكان، ويتعرض للملاحقة، والسجن ولكنه يرفض الهجرة الطوعية ويظل مطاردا في وطنه مثل كثيرين غيره الذين يزدادون كل يوم.
«عاشق على أسوار القدس» رواية المدينة المقدسة، معركة أهلها اليومية مع الاحتلال الذي يتفنن في طرد مواطنيها وحرمانهم من الإقامة فيها. رواية من الواقع الفلسطيني المعاش بعيدا عن أية مواقف أو إسقاطات حزبية.
تصور معانيات أبناء المدينة المقدسة وصراعهم الذي لا ينتهي مع دولة الاحتلال الإسرائيلي.
أهدى الكاتب روايته إلى:
زملاء الدراسة الذين فرقتهم الأيام، وتبدلت مواقع إقامتهم، ولكن موقعهم في القلب، والذاكرة لم يتغير بل بقي محتفظا بأماكنهم لعله يلتقي يوما بالأحياء منهم فيستعيد معهم ذكريات لا تنسى:
إبراهيم القيسي، شوقي أبو غزالة، نادرة الدميري، سلام أبو غزالة، محمد علي عايد، سوسن أبو دياب، خالد القيسي، خولة عودة، باسمة أبو غربية، موسى منى، دينا بزبزت، شعبان أبو خلف، مرشد أبو صبيح، رجب الحشيم، هاني أبو خلف، خالد غنيم، وآخرون لا يتسع المجال لذكرهم.
في ما يلي مقطع قصير من الرواية:
أبو حسن شاهين يعرفه سكان البلدة القديمة في القدس الذين عاشوا فيها في ستينيات وسبعينيات القرن العشرين، فقد كان أشهر من نار على جبل، ويجهله الجيل الذي جاء بعد ذلك لأنه اختفى منها دون مقدمات، لم يعرف أحد أين ذهب، كثرت حوله الأقاويل والحكايا.
بعضهم قال إنه توفي ودفنه أهله دون علم أحد، لكن آخرون قالوا أن إحدى السائحات الأجنبيات رق قلبها على حاله، ومنظر قدميه فقررت علاجه على حساب كنيستها، فقدمت له الأوراق اللازمة وسافر معها إلى بلادها. أحدهم قال أنه رآه يصعد إلى السماء كطائر بجناحين حاملا معه صرته تاركا شوارع القدس لمن ضاق به. بعض الشبان الملثمين قالوا أنهم رأوا جنود الاحتلال يعتقلونه في سيارة للجيش الإسرائيلي، أخذوه ولم يعد.
قليلون من الناس عرفوا اسمه الحقيقي (أبو حسن شاهين)، فقد عرفوه بلقبة المشهور (أبو حسن بُلُّل)، أو (بُلُّل) حاف دون أية ألقاب أخرى. تلك الكلمة (بُلُّل) يطلقها الناس على من كان مهملا في ثيابه، وشعره ومنظره. لم يعد يعرف الناس هل أطلقوا عليه هذا اللقب لأنه رث الثياب والشعر أم أنهم يطلقون ذلك الوصف على بعضهم نسبة إلى (أبو حسن) صاحب اللقب الأول لهذا الاسم.
لم يكن أبو حسن رجلا أهبل أو أميا، بل كان يجيد القراءة والكتابة، تراه يقف قرب بائعي الصحف يطالع عناوينها حتى يمل منه بائعها فيتركه ويذهب إلى غيره.
لم يترك أبو حسن شارعا في القدس إلا وسار به، فهو يعرف كل أزقتها رغم أن أصله من الخليل من عائلة شاهين المعروفة، أكثر تواجده كان في شارع الواد، باب العامود، وباب الساهرة.
شارع الواد كان مركزه الرئيسي في مقهى أبو رباح أبو رجب في أسفل الشارع وعندما أغلق المقهى وتحول إلى محل تجاري أصبح مقره في مقهى السنترال. وفي باب العامود كان يجلس قريبا من بائع الكعك على بعد أمتار من عمير دعنا بائع الصحف، أما باب الساهرة فقد كان مقره الليلي، حيث كان ينام أمام البريد المركزي، على قطعة كرتون يحملها معه، ويتخذ من صرته التي يحملها أينما سار وسادة، أما عصاه فكان يهش بها الذباب عن رجليه المتورمتين اللتين ينزف منهما الدم واللتين يخيل إليك وأنت تنظر إليهما أن أحدا مزقهما بسكين. كان يعاني من مرض في رجليه، لا أحد يعرف سرهما، ولا أحد فكر في علاجه، فيكف يهتمون به وهو يلتحف السماء كل يوم وينام في شوارع القدس القديمة.
كان عفيف النفس، لا يسأل أحدا شيئا لكن تجار البلد عرفوه، وعرفوا حاجته فكانوا يكفونه السؤال.
وكثيرا ما كان الأطفال يلحقون به ساخرين منه.
- بُلُّل ، بُلُّل ، بُلُّل....
كان يحاول إبعادهم عنه، لكن أنّى له ذلك، وهو لا يقدر على اللحاق بهم، فهو يكاد يمشي متمايلا بعكازه الطويل الذي يشبه عصا الراعي. وكان الأطفال أو بعضهم لا يحسب حسابا له او لعصاه، لم يكن ينقذه سوى بعض المارة الذين يلحقون بالأطفال ويجبرونهم على تركه بحاله.
كان رواد المقهى يتسابقون لتقديم الشاي له تبركا به وبدعواته، فهو مسكين والمساكين دعواتهم مستجابة.
في فترة الغذاء كان يمر على بعض التجار ملقيا السلام:
- السلام عليكم.
وقبل أن يكمل سيره، يناديه أحدهم.
- أبو حسن تفضل، تعال شاركنا الغذاء.
فيرد عليه أبو حسن:
- شكرا يا أخي، سبقتكم في الغذاء.
يقول ذلك رغم أنه جائع لم يأكل شيئا، وقد عرفوا طبعه فيرد عليه أحدهم.
- أبو حسن تعال عاوزينك.
يدخل أبو حسن حاملا صرته التي لا تفارقه، فيسأله صاحب المحل.
- افتح الصرة، دعنا نرى ما لديك من أكل.
فيفتحها، فإذا فيها حبة بندورة قديمة وكسرة خبز ناشفة يعلم الله من أين جمعها.
ينظر إليه مشفقا على حاله.
- أبو حسن، ما رأيك أن نشترك معك بالغذاء ضع أكلك معنا لنأكل معا.
يضحك أبو حسن ويقول:
- إن كان كذلك فلا مانع.
أبو حسن اختفى، لم يعد موجودا، لقد حاول سرحان أن يسأل عنه كل الناس لكنه أبدا لم يعرف عنه سوى الأقوال المتضاربة التي سمعها عنه.
اختفى أبو حسن بُلُّل، مات أبو حسن شاهين، هاجر ابن القدس المسكين.
أصبح ذكرى من ذكريات البلدة القديمة وحق لشوارعها أن تفتقده وتحزن عليه. هل يجب على القدس أن تحن للكبار فقط؟
أليس للمساكين والمقطوعين والمظلومين مكان في قلبها؟! ألم تطأ أقدامهم شوارعها؟ يكفي أنه أحبها من كل قلبه، ونام في شوارعها، وتحمل ظلم بعض أهلها، وسخريتهم وشتائمهم.
أبو حسن شاهين (بُلُّل) شكل تراثا للقدس، ومعلما من معالمها القديمة، كان بذقنه الطويلة، وعصاه التي يهش بها الذباب عن قدميه ويتعكز عليها، وملابسه الممزقة، وصرته التي لا تفارقه مثالا للفلسطيني المسكين المقهور لكن المتمسك بالقدس والعاشق لها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق