نبش المخبوء
عبد العزيز مشرف
الجو شديد القيظ ، لا تجد
أحداً فى الشوارع ، الكل استتر
واستظل ، لم يبق غيرهم – وهم كالعادة – لا يبالون بالحر ولا بالبرد –
المهم أن يكونوا هناك معاً كما اتفقوا ، عند شجرة الكافور
العتيقة ، فى يد كل منهم " بوصة " تعادل أضعاف قامته ، كأنها وهى فى
أيديهم حراب مشرعة ، تتأهب
لموقعة وأى موقعة : موقعة إنزال أعشاش العصافير والجمام من الشجرة .
أطفال
أكبرهم لم يجاوز الثامنة ، جمعتهم شوارع القرية فى أيام الصيف ، وقربتهم ظروفهم المتشابهة ، يكاد
لا يمتاز أحدهم عن الآخر إلا فى سحنة الوجه وطول القامة ، بعضهم ينتعل الأرض ،
وآخرون شمروا عن سيقانهم وسواعدهم ، وقفوا يتفيئون ظلها
المبسوط على مساحة واسعة شبه دائرية ، خارجها لا تطيق قدم مس الأرض من حرارتها ،
الرءوس والأعناق مشرئبة إلى الأغصان تبحث خلالها عن عش هنا أوهناك ، يصيح أحدهم ها
عش وآخر هناك ، تمتد البوصات الرشيقة متسللة عبر الفروع المتكاثفة لتنفذ إلى
أسفل العش النائم على فرع شجرى مستلق على صدر الشجرة .
العيون كلها معلقة بطرف
" البوصة " وهى تلامس قعر العش ، تتمنى كل يد أن لو كانت هى التى تمسكها
، فيا له من شرف رفيع سيتذاكرونه فيما بعد ، وبه سيتباهون ، ويعيرون إن فشلوا
فى المهمة ، كل عين صارت " صنارة
" التقطت صيدها ، ولن تفلته حتى تجذبه لأسفل .
تبدأ اليد الطفولية فى تحسس
العش بطرف " البوصة " بغمزه فى أماكن متعددة حتى تنفذ فى الجزء الرخو
منه ؛ فتسمع زقزقة صغار العصافير ، حينها تعلو نبرة الحماسة ، تتقافز القلوب ،
وتود العيون لو قفزت إلى العش لتنظر ذلك العالم العشى المحجوب ، تستمر البوصة فى
الاختراق حتى إذا ما استمكنت بدأ ماسكها بلفها حتى تلتف عيدان العش عليها ، هم حينئذ لا يبالون
بالأصوات الصادرة من الداخل تشكو زوال الوطن ، وتألم لوحشة
البطش ، ربما فسروها وعيونهم تضحك زقزقات فرح بإنجازهم الكبير .
يجذبون
البوصة إلى أسفل ومعها العش كأنه رأس عدو مريد فوق سن رمح ، ووسط بهجة وترقب يوضع العش على
الأرض ، يخلصونه من البوصة ، يتزاحمون للرؤية ، يدس
صغيرهم رأسه بين الأقدام ، ويحاول أن يوجد فجوة تتيح له رؤية المشهد
التاريخى ، يبدءون النبش فى اللحم الطرى الصغير الذى كان فراخ العصافير وصغارها ،
معظمها فارق الحياة وبعضها يترنح إن لم تقتله هذه المعركة
قتله الرعب ، ربما امتدت يد لتأخذ واحداً منها لتعبث به ، يضعونه على حائط ، ويقول
قائلهم من أجل أن تأتى أمه لتأخذه ، فهل أرادوا أن يرحموا لوعة الأم ، وفجيعتها فى
بنيها ؟! ، أم أرادوا أن يستزيدوا من اللهو بعذابات هذه
الكائنات ؟! .
وبالفعل ربما
تأتى الأم المكلومة فتحوم فوق رءوسهم فكأنما
تستحلفهم أن يكفوا عن العبث بحياتها ، هل رق لها أحدهم ربما ،
لكنه يتحاشى البوح لئلا يتهم بالجبن والخور فلا يشترك فى العملية القادمة ، لا
يكتفون بعش واحد ، بل يقضون القيلولة كلها فى نبش مكامن الطيور ، لا
ينجو منهم غير ما لا تصل إليه أيديهم وعصيهم ، فإذا ما
بدأت الحرارة تنكسر ،وأذّن للعصر ، وخرج الناس من
مهاجعهم عادوا أدراجهم ، كأن شيئاً لم يكن ، وكأن حياة فوق الشجرة لم تهدم ، وكأن
قلوباً لم تمتلئ بهذا الحدث فى المستقبل ندماً .
ويستقبلون يوماً جديداً
بمثل ماكان فى سالفه ، لكنهم أيضاً يستقبلون غدأ أبعد سيكونون فيه فى
موضع العش ، والفراخ ، ومنهم من سيكون كالعصفورة الوالهة ، لم يكونوا يدرون أن
الشجرة العتيقة ستشى بهم إلى المستقبل ، وأن نفوساً بأيديها حراب ستترصد لهم كل مكمن ، وأن قلوبهم ستغدو
غرضاً لهجمات الحياة
وآفاتها ، آه لو كانوا يعلمون
لتركوا الأعشاش فى سلام .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق