خطوط بريئة
عبد العزيز مشرف
بأنامل رطبة ، وكف غضة يمسك بالقلم الرصاص ، لأول وهلة يخاله قطعة خشب ، عصاً صغيرة ، سيعبث بها ويلهو ، يتأمله ، تخبره حواسه أن ثمة شىءٌ مختلف فى الأمر هذا قلم له سن يخط ، فلتجرب أن تجريه فوق وجه الصفحة ، لا تقوى أنامله الرخوة على تثبيته ، ينزلق منه يمنة ويسرة ، تتطاير نقط وخطوط وإشارات تحسبها لغة البداءة والإنسان الأول فى كهفه .
كلما رأى الدوائر العشوائية والخطوط الملتوية تتسع انفتحت شهيته للمزيد ، وصلنا إلى أن صارت بينهما ألفة ، لم يعد يراه قطعة خشب ولا عصاً ، إنما هو " القلم " سيدرك فيما بعد أن له فعل السحر ، وأن جرحه قلما يندمل ، وأنه صنو اللسان وأخو السيف .
مع الزمن ، أخذت الخطوط شكل الحروف – حقاً – ملتوية ، هابطة وصاعدة ، لكنها بدأت تتشكل كجنين فى رحم الصفحة ، كتب اليوم – أخيراً – الاسم الأول وغداً يتقنه وبعد الغد نستكمل ، لم يحدث ما كان مؤملاً ، ضجر ، وملّ ، فاللعب الحر بلا حرف ولا كراس أحلى ، لكنه يعود فى شبه حنين للقلم ، تارة يضعه فى فمه ، يقضمه ، ربما علامات عدوانية مستترة ، لمنه يعود للورق يعبث ، فتخرج خطوط أطول ، وحروف أنضج .
أحياناً كان يخط على الأرض ، اليد الكبرى التى كانت ترشده لا زالت توجهه لم تتركه لحظة ، العين الحانية ترقبه ، تمنحه ثقتها ؛ تعطيه الحلوى والقروش ؛ فيسعد ؛ يجرى إلى الدكان يبتاع بالوناً أحمر يطلقه فيهرب منه فوق الأسطح البعيدة ، فيبكى قليلاً ثم ينسى .
يأتى يوم جديد ، يحمل له طعماً للحياة جديداً ، كل يوم هو عمر مستقل ، لم يصل بعد للعمر الذى يصير فيه كل يوم عبئاً ، الجميع فى انتظاره : الشمس ، والقمر ، النجوم والشجر ن الأرض والسماء ، كل شىء له وحده ، لا يرى لنفسه منازع غير الأقران الذين يتخاطفونه الأشياء ، يضربه ويضربونه ، ثم سرعان ما يعودون إلى سيرتهم الأولى كماء النيل .
مضت سنون ، قضى بالمدارس والتعليم عمراً ، قرأ وكتب ، نجح ، نال الشهادات ، عرف الحياة : دروبها ، وشعابها ، لم تنسه - قط - حلاوة الخط الأول ، والحرف الأول ، واليد الحانية التى أمسكت كفه حتى استقامت له الحروف ، كان - ولا زال – يعشق رؤية شخبطات الصغار فوق الجدران ، وفى صفحات الكراسات ، ويحن لبراءة الخط الأول .
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق