2012/08/06

"في مديح الملثم" بقلم: أشرف العناني

في مديح الملثم
أشرف العناني

أمس وفي تمام الثانية بعد منتصف الليل، انتابتني حالة استثنائية وأنا أتابع من شرفتي إرتفاع ألسنة اللهب من على بعد أكثر من 25 كيلو مترا، إنه التفجير الخامس عشر لخط الغاز الذي يعبر سيناء إلى إسرائيل، بعينيّ أشاهد من بعيد ٍوفوق كثيب ٍ عال ٍ ظلالَ أجسادٍ اّدميةٍ تصعد لتتابع المشهد، في الخلفية ضوء اللهب الباهر الذي يبدو في العتمة وكأنه شمس تشرق قبل ميعادها، حسناً عاد الملثم من جديد، قلت لنفسي، في الصباح ستحتل الصورة الافتراضية له صدر الميديا، بخطى مترددة استدرت لأغادر الشرفة وفي البال ' على كل حال ٍ يمكنني- أنا وهؤلاء الذين صعدوا - أن نقسم بأغلظ الإيمان أننا لمسنا أثره الساخن بأم أعيننا في ليلة صيفية رمضانية لا تقل سخونة، بعدها بدقائق قلّبت الصفحة الرسمية للوكالة على الويب وهتفت في نفسي - بعد أن تأكدت من خلوها من إشارة ولو حتى مقتضبة - 'هاقد قهرتك يا رويتر .. كلي هواء ً ! ' .. عاد الملّثم إذن ولكن عن أي ملّثم أتكلم أساساً ؟ .

-1-
حدث هذا منذ صباحين، لم يخلعا بزتهما العسكرية التي أمضيا معها الليل كله في الحراسة، يدهما على السلاح وفي البال أمنية صغيرة بأن تسمح لهما القيادة بإجازة قصيرة ولو لليوم الاول من رمضان ليفطرا هناك بين أهليهما، بعد أن أتما خدمتهما تخففا من واقي الرصاص والسلاح والذخيرة، غادرا نقطة التفتيش مشياً على الإقدام لجلب طعام الإفطار لهما ولزملائهم اللذين تسلموا الخدمة، الرجل الذي أعطاهما الخبز حكي للناس فيما بعد أنهما كانا يضحكان على أمر لم يتبينه، بعيداً جدا عن ثكنتهم وفي منتصف الشارع العام بالشيخ زويد انشقت الأرض عن ملّثم من نوع اّخر، لم يفهما في البداية، لكن الطلقات التي تواصلت بغل ٍ لم تترك لهما المجال للفهم، حاولا الهرب ولكن كيف لأعزلٍ أن تسعفه قدماه .'حسبي الله ونعم الوكيل 'قال الرجل الذي لم يجد غير جريدة الصباح ليستر بها جسدين بريئين'، حسبي الله ونعم الوكيل 'رد اّخر وهو يتطلع لأرغفة الخبز التي اصبغت بالدم، لو كانوا رجالاّ بالفعل لهاجموهم هناك والسلاح في إيديهم، قال آخر، أسئلة أخرى ترددت في هذا الصباح الثقيل في الشيخ زويد، لكن الملثم الذي اختفى لم يترك للشيخ زويد وأهلها سوى الإثر الفادح لـ 'حسبي الله ونعم الوكيل'.
-2-
غير بعيد عن بيتها كانت تحمل حقيبتين، في إحداهما أغراض بيتية وفي الأخرى مرتبات الموظفين الذين تعمل معهم في المدرسة كصرافة، 13 ألف جنيه مبلغ هزيل لا يدعو للمغامرة لكن ملثم من نوع ثالث أقنع نفسه 'ريحة البر ولا عدمه'، من على دراجته الهوائية خطف حقيبة النقود وترك الأخرى، ثم اختفى ليستقبل الناس الخبر بقليل اهتمامٍ من كثرة تكراره، بينما تنشغل هي بتدبير مرتبات الموظفين من مدخرات أسرتها وعون معارفها، هي تعرف جيداً أن الإبلاغ عن حدث كهذا سيضعها مباشرة مع السؤال الأساسي: لماذا لم تتركيهم في خزينة المدرسة، لن تشفع لها السرقات التي تكررت لأثاث المدرسة وللحواسيب الاّلية، عدا إجبارها على رد المبلغ سيجازونها ويضعون في ملفها الوظيفي ما لا حصر له من النقاط السوداء لذا آثرت السلامة وتكتمت على الأمر وكأنها تكافىء الملّثم بالصمت.
-3- 
في كتابه 'الحقيقة والمجاز في الرحلة إلى بلاد الشام ومصر والحجاز' (بدأ رحلته من دمشق غرة محرم 1105 هجرية / سبتمبر 1693 ميلادية) يقول عبد الغني النابلسي: 
'سرنا على بركة الله تعالى مع جماعة من ذلك الخان منهم رجل من عرب البوادي اسمه حسب الله يدلنا على الطريق فنسير بسيره مع الاخوان فلم نزل سايرين في ذلك الرمل السهل الصعب حتى وصلنا إلى المكان المسمى بالزعقة بفتح الزاي وسكون العين المهملة بعدها قاف وهاء ساكنة وليس هناك لا قرية ولا خان ولا عمارة وانما هي برية قفرة من الرمل وأشار إلي ذلك السيد محمد كبريت في رحلته حيث قال :
ثم أتينا بعده للزعقا أقبح به ماء تجافي الرفقا 
ما فيه من خان ولا أنيس بل بير ماء مالح حبيس 
وأنما رأينا هناك قبة بيضاء وعمارة عظيمة مدفون فيها الشيخ زويد، بضم الزاي وفتح الواو وتشديد الياءالمثناة التحتية مكسورة ودال مهملة، رجل ولي صالح كان من أعراب البوادي ولهم عليه اعتقاد كثير حتى أنهم يضعون الواديع عنده من الذهب والفضة والحلي والمتاع وما يخافون عليه من الإمتعة وباب مزاره دايما مفتوح ولا يقدر أحد أن يأخذ منه شيئاً وقد جرب ذلك العربان وغيرهم ويحتمي بمزاره الخائف والقاتل فلا يجسر أحد أن يهجم عليه ويأخذه فقرأنا له الفاتحة ودعونا الله تعالى ثم سرنا قليلاً وجلسنا قريبا منه في مكان هناك وأكلنا ما تيسر من الزاد وشربنا القهوة على المعتاد'.
إذن ليس من قبيل الصدفة أن تحمل المدينة إسمه، في كتب الرحالة الذين مروا من هنا ستجد إسماً اّخر اً، هو 'الزعقة'، الزعقة هو إسم بئر شهير انطمر الاّن، روايات شفاهية أخرى تقول بأن المدينة حملت لفترة إسم 'البسطة' لأن التجار في سوق المدينة الشهير كانوا يبسطون بطول شارعها الرئيسي بضائعهم، لكن الشيخ زويد صمد أمام المنافسة ليربح الجولة الأخيرة، فتحمل البلدة التي تتحول ببطء إلى مدينة اسمه.
لم يخبرنا الملّثم حين فجّر قبّة المزار مرتين متتالين عن حل للورطة التي أوقعنا فيها: بماذا سنسمي البلدة التي تتحول ببطء إلى مدينة لو افترضنا أنه نجح في إزالة أثر المزار من الوجود ؟؟ أما صخرة ديان (مسمار جحا الإسرائيلي في سيناء كما يحلو للبعض تسميتها) هذا النصب التذكاري الذي لا تبعد سوى مرمى حجر عن مزار الشيخ زويد فالله وحده يعلم سر عدم وصول أقدام الملثم الثابتة إليه !!! . 
-4-
في ثقافة الصحراء، ليس في سيناء وحدها بل في معظم الصحراوات العربية باستثناء لافت هو صحراء الطوارق، الأصل هو أن لا يتلثم الرجل، لا يستر وجهه، المرأة هي التي تتخفى، تستر وجهها خلف برقع (للمرأة) أو غشوة (للبنت)، هناك أيضاً القنعة السوداء (الوقاة) لكليهما، إذن الإصل أن يستتر وجه المرأة فلا يبين سوى عينيها (بالنسبة لسيناء في الأصل عين واحدة المسموح لها بأن تبين)، هذه هي القاعدة وإن كانت هناك حالات مألوفة كأن يأخذ الرجل طرف عقدته (غطاء رأسه) ليلفه حول أنفه وفمه ليتقي ريحاً ساخنة أو عاصفة رملية تلهب أنفه لكن هذا لا ينفي قاعدة أن الستر لوجه المرأة لا الرجل على عكس الثقافة السائدة لدى الطوارق حيث يستتر الرجل بينما تكشف المرأة وجهها. 
مع ذلك أظنني سأكون متجنياً إن قلت بأن ظاهرة الملثم عادة أمازيغية صرفة، هي فقط مجرد محاولة للعثور على صلة صحراوية لفهم ثقافي في الإساس لتلك الظاهرة، لذا لن أستبعد من رأسي فكرة أن كثير من قطاع الطرق في الحضارات القديمة كانوا يسترون وجوههم، قراصنة البحار، أيضاً لا ننسي أن الصورة التقليدية لرجال القاعدة في أفغانستان وخارجها كانت وظلت هكذا، حتى في غزة غير البعيدة عن سيناء، الصورة التقليدية لكتائب المقاومة سواء كتائب عز الدين القسام أو غيرها هي صورة لرجال مسلحين ملثمين لا تظهر سوى عيونهم. 
لكن الملفت هنا في سيناء خصوصاً بعد الثورة أن المسلحين لم يعودوا وحدهم من يحتكرون اللثام، صار من العادي أن تصدف ملثما ً يتجول هنا أو هناك، بداع وبلا داع، على ظهر دراجة هوائية يحتمي من لفح الريح، أو حتى يمشي على قدميه بدافع أو دون دافع كما لو كان اللثام من سنن الزهو الحديثة تماماً مثل تركيب سارنة التنبيه الأمنية في السيارات الخاصة، لكن وكي تكتمل الصورة من المفيد القول بأن من يقبل على هذا غالبيتهم من الشباب وصغار السن. 
-5- 
هناك بند هام ونبيل في القضاء العرفي لبدو سيناء يعرف بـ 'الدلنجي' وحق الدلنجي في هذا القضاء الشفاهي يتعلق بالقتل الغدر، والغدر في العرف البدوي السيناوي ديته مربعة، أي مضاعفة أربعة أضعاف، في التفصيلات إذا قتل رجل غريمه وهو نائم فهو دلنجي، وإذا قتل رجل غريمه دون أن ينبهه ليأخذ بسيفه ويدافع عن نفسه فهو دلنجي، بل أن بعضهم يبالغ ويقول إذا سقط السيف من يد غريمك ولم تمهله ليلتقطه ويدافع عن نفسه فأنت دلنجي !!! . هنا بالطبع لست في حاجة لذكر أسباب تعطيل هذا البند الهام من بنود القضاء العرفي، فاللحظة لم تعد بتلك المثالية الفادحة ثم أن القضاء العرفي كله يتراجع الان في سيناء ـ بعد الثورة - ليحل محله القضاء الشرعي.
-6-
هو إذن أكثر من ملثم، ملثم يفجر خط الغاز، ملثم يخطف حقيبة سيدة، ملثم يقتحم مكتب البريد بقوة السلاح، ملثم يقتل صرافاً ويستولي على أموال الموظفين، ملثم يقتل جنديين أعزلين بعيداً عن ثكنتهما العسكرية، ملثم يخطف الأجانب، ملثم يقطع الطريق، ملثم يمشي في الشارع مزهواً بنفسه، ملثم لا يظهر سوى في لحظة بعينها، إنه إذن زمن الملثم بامتياز، زمن الوجوه الافتراضية 



*شاعر مصري 
ashrafanany@hotmail.com

ليست هناك تعليقات: