كلية الآداب – جامعة حلوان
ينطلق السرد- دائما- من محاولة رصد الواقع عبر رؤية
مخصوصة، تتجلى فيها أهداف ذات مدى بعيد.
ومن هنا لا يكون الرصد بالضرورة موازيا للواقع،
بل معالجا له، تبعا لاستراتيجيات السارد التى تتجلى فى صورة تكوين حدثي ذو طبيعة
تختلف عن مجرد الرؤية الظاهرية، وتتعداها إلى عمق الوجود، وهو الأمر الذى يبدو فى أجلى
أشكاله واضحا فى أشد فنون السرد حساسية .. القصة
القصيرة.
يعبر سالم محمود سالم عن رؤية
خاصة " كذا " لواقع يبدو فى ظاهره
إقليمياً، لكنه – هذا الواقع – يقوم مقام الصورة المرآوية، التى ربما سيحلو البعض أن يعاملها معاملة الرمز، هو الرمز
الاستعارى القائم على التشابه التمثيلى بين صورتين متكاملتين يتم حذف أحداهما،
وإبقاء الأخرى مع إظهار وجه الشبه خفيا شفيفاً – حسب لغة البلاغيين العرب – وهو
الأمر الذى يمكننا إدعاء كونه يمثل ظاهرة تقنية فى مجموعة " قبض الريح "
لسالم محمود سالم , تلك المجموعة التى على الرغم من قصرها فإنها تمثل إحدى أهم ظواهر
القصة القصيرة فى المنوفية، بل إنها تعبر عن اتجاه قصصى بدأ فى الانتشار على
المشهد الأدبى العربى فى السنوات الأخيرة، معبراً عن وجود حقيقى مختلف لجيل جديد
يكتب السرد بعد تمثل أهم مكوناته واصبح يعامله بوصفه فناً ذا طبيعة تنتمي إلى
الواقع العربى، لا مجرد فن مستورد من الغرب، وهو الأمر الذى جعل من القصة القصيرة،
بوجودها المحايث فناً
معبراً عن واقع ذى طبيعة خاصة، ربما يمكن التعرف عليها من خلال ملاحظة مجموعة من
الظواهر التقنية والموضوعية فى هذه المجموعة القصصية.
1- تكوين
الرمز:
تبدوغالبية قصص مجموعة " قبض
الريح " للوهلة الأولى منتمية إلى ما يمكن تسميته الواقعية السحرية، التى
تستغل مفردات الواقع ومكوناته من أجل تكوين صورة فانتاستيكية غير أن هذه الطريقة لا
تتجلى فى صورتها الواضحة إلا عبر رؤية مجموعة من الرموز التى تعتمد على مكونات
وراثية فى أغلب أحوالها.
حيث تبدو السفينة فى قصة "
قبض الريح " معتمدة – فى صورة ما – على رمز السفينة فى قصة موسى والخضر, لتبدو العالم كله – فى لحظته
الراهنة - مثل تلك السفينة التى فقدت
اتجاهها ونفذ وقودها نتيجة للأعمال الجنونية التى يمارسها الذين يعيشون على ظهرها، لكن هذا التفسير الأولى لا يمكن
أن يكوّن رؤية كاملة للقصة، حيث يتداخل
الخطاب السياسى مع هذا الخطاب البشرى وهو ما يتضح فى رمزية صورة قائد السفينة –
المنوط به فى الاساس تحقيق الأمن على سطحها – والذى يبدو لا مباليا ولا مهتما بكل
الأفعال الجنونية التى يمارسها الركاب من الرقص عراة إلى ممارسة الجنس على ملأ إلى
الصراع الدموى على الأنثى ، لتصبح السفينة دالة على الوطن الذى فقد اتجاهه حين فقد
قضاياه.
إن تكوين الرمز فى هذه القصة وإن
انطلق من رؤية تراثية فإنه لم يغفل الإمكانات الجمالية التى يمكن أن تنتج عن سحب
هذا المكون التراثى ( السفينة ) إلى أرضية الواقع ، وبالتالى إمكانية تطوير هذه
الرؤية التراثية عن طريق استغلال عناصر حديثة مثل العرض السينمائى لتتضام هذه
العناصر جميعها من أجل إبراز خطاب سردى نهائى، اعتمد على تجاور المشاهد فى تصاعد
موح ٍ بانفلات الأمور، غير إنه من المهم
ملاحظة تلك الجمل التعليقية التى تظهر بين الحين والآخر على لسان السارد – البطل –
الذى يمثل على مستوى رمزى آخر الإنسان المعاصر الضائع بين لا مبالاة حكامه بوجوده
، وطغيان نزاعات غير إنسانية على واقعة، لتبدو مع هذه الجمل عبثية الحياة التى
يعيشها هذا البطل، ولتتضح جوانب الصورة الرمزية على المستويات السردية، لتكون
حركتها الخاصة وتكويناتها الملتصقة بها على المستوى العضوى، بما يميز القصة
القصيرة الحديثة.
وتتكرر بنية الرمز المعتمد على دوال
تراثية لدى سالم محمود سالم، فى هذه المجموعة فى عدد من القصص الأخرى لعل أبرزها
قصة " مقام سيدنا الولى " التى ترتكز على فكرة الصراع الإنسانى على
الأرض وبالتحديد قابيل وهابيل غير أنه عندما يلبس البنية الرمزية تلك ثوبها
الميتافيزيقى، وهى أولى به ، يكون الحد ناتجاً عن وجود الولى الذى اختار الاختفاء –
ببركاته – عن هذه الأفدنة الخمسة بعد أن اختار الأخوان ساحات المحاكم ميداناً
لصراعهما حول هذه الأرض.
إن الفكرة واضحة ، معتمدة على قصة
الخلق، لكنها تقوم بمد أواصر الصلة بين الأجداد وأحفادهم، ليكون هذا الصراع طبيعة
إنسانية تنسحب على العالم المعاصر بمكوناته ومفرداته، غير أن ما يلفت النظر فى هذه
القصة هو اعتمادها على الحوار بين شخصين أحدهما السارد ليكون هذا الحوار مدخلاً
لإسباغ تفسير عقلى للمسألة من ناحية، ومن
ناحية أخرى ليكون ذلك مسوغاً لتبرير وجود الولى واختفائه، ولإيضاح عمق الأزمة ومكوناتها.
إن رمزية الأزمة – إذن – هي ما
يتحكم فى اتجاهات السرد لدى سالم محمود سالم، هذه الأزمة التى تبدو وجوديه فى أغلب
أحوالها، لا تعتمد على الشكل المنطقى بقدر ما تعتمد على وجودها المحايث بوصفها أزمة، وهو الأمر الذى
يتضح فى العديد من القصص الأخرى، ولعل أبرزها ( الابن البكر)، وهو الأمر الذى يمكن
أن يدخلنا إلى تقنية التعامل مع شكل السارد فى هذه المجموعة.
2- أشكال
ظهور السارد:
يعد السارد واحداً من أهم مكونات
العمل السردى، وذلك لكنه لا يمكن
بداية تصور سرد يسير من تلقاء نفسه، من ناحية، ومن ناحية أخرى فإن الشكل الذى يظهر
به السارد يعد خطاباً فى حد ذاته، أو على الأقل يعد معبراً مهما للخطاب القصصى
الذى يبثه المؤلف داخل نصه، وهو الأمر الذى يمكن رؤيته بوضوح داخل مجموعة "
فى قبض الريح "، حيث يبدو اختيار شكل السارد واضحا على درجة عالية من
الشفافية والدقة فى آن واحد ، خاصة إذا لاحظنا التداخل الذى يحدث أحياناً والذى
ينتج عن ظهور أكثر من ضمير داخل القصة الواحدة، كأن يظهر السارد مع البطل كما فى
" أولاد الظلام "، وكما فى " مقام سيدنا الولى " ليبدو ذلك
داعيا إلى تحريك الأحداث عن طريق التصادم بين وجهتي نظر تتحكمان فى سير النص،
وليكون هذا التصادم شارحا ومبرراً معلقاً فى كثير من الأحيان، تعليقات تضع القصة
فى مواجهة أزمتها مباشرة، وهذا الشكل من أشكال ظهور السارد يبدو فى عمقه نافذاً
إلى بؤرة الأزمة الاجتماعية، أو الانسانية التى يدور حولها النص ، وإن بدا – فى
ظاهره – مشوشاً فى بعض الأحيان ، خاصة عندما يبدو
ظهوره مبتسراً، كما فى قصة " مقام
سيدنا الولى " التى يدور معظم أحداثها على لسان سارد عليم ببواطن الأمور يقوم
بسرد حواره مع شخص آخر هو الذى يحكى حكاية الولى والآخوين والأفدنة الخمسة ، لكن
السارد يآبى إلا أن يظهر فى صـورة
الضميـر ( أنا ) مرتين على مدار القصة،
مرة عندما يصرح ـ (
سألته ).. ليكون الفعل هنا دافعا إلى حركة
الأحداث ومرة أخرى " بدا صاحبى غاضبا " حيث تبدو ياء المتكلم هنا مبلورة
لوجهة نظر السارد التى تظهر فى فهمه هو
للموقف.
وإذا كانت قصص المجموعة تتراوح فى
استخدام شكلين أساسيين من أشكال السارد، وهما الراوى العليم ببواطن
الأمور،والمشاهد، فإن اختيار شكل السارد يعد فى الغالب مفسراً لكثير من عناصر
الخطاب السردى، فالسارد العليم ببواطن الأمور
يكون منتظما داخل البنية الرمزية التى سبق الحديث عنها ، ذلك لكى يسد
فراغات السرد، ويقوم بدوره الإعلامى للمتلقى على وجهه الأكمل، بل إنه كثيراً ما
يُفهم المتلقى ما قد يغمض من الحوادث المتسلسلة، وهو ما يتواتر كذلك فى القصة التى
تقوم على بنية حديثة تقليدية الشكل، مثل قصة "الابن البكر"، و"
عجباوى " .
ومن
ناحية أخرى فإن القصص التى تستخدم الضمير " أنا " المشاهد للأحداث أو
المشارك فيها تقوم على أشكال مونولوجية تعتمد البوح طريقة لإنشاء النص القصصى، وهو
ما يمكن ملاحظته فى قصة مثل " درس خصوصى ".
وهو الأمر الذى يجعلنا ننظر بشئ
من الانتباه إلى لغة القصّ لدى "سالم محمود سالم"، حيث هى لغة تستخدم
الإمكانات الشعرية من دون تزيد، وإن أسرفت أحياناً فى استخدام المجاز ، فإن هذا الإسراف لا يسقط
بالنص فى غياهب الغموض، حيث المجاز هنا ينتمى إلى حقل البلاغة التقليدية، ومن
ناحية أخرى يمكن عد
هذا الاستخدام من قبيل التجميل الناتج عن
رغبة فى إسباغ وجهة نظر السارد على منظومته السردية ، فيما يعد ملمحا مهما من ملامح
السرد الذى يحاول مواجهة الأزمة الاجتماعية فى صراحة ووضوح.
*** *** ***
إذا كانت مجموعة " قبض الريح
" تتكون من عدد محدود من القصص، فإن هذا العدد استطاع الولوج إلى العديد من
المناطق المتفجرة للسرد العربى المعاصر، غير أنه فى الوقت ذاته يحاول مجابهة مجموعه
من الأزمات الاجتماعية التى تبدو إقليمية أو محلية، لكنها تبدو أشد انفتاحا على
الأزمات الإنسانية التى يعانيها إنسان العصر الحاضر، وهي – فيما يبدو – واحدة من
أهم مقومات القصة القصيرة المعاصرة، التى تبدو سماتها واضحة فى قصص سالم محمود
سالم، وعلى الأخص فى مجموعته " قبض الريح.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق