2014/12/17

قراءة في كتاب:«أساليب معاصرة في التصوير التشكيلي السعودي» للدكتورة مها عبد الله السنان



قراءة في كتاب:«أساليب معاصرة في التصوير التشكيلي السعودي»
للدكتورة مها عبد الله السنان
   د. محمد سيف الإسلام بـوفـلاقـة
كلية الآداب،جامعة عنابة،الجزائر
     تأتي أهمية هذا الكتاب،من حيث إنه يُقدم لنا رؤى متنوعة،عن الأساليب الفنية،والمدارس الفكرية في التصوير التشكيلي المعاصر بالمملكة العربية السعودية، ويُركز بشكل رئيس على نماذج محددة، ولاسيما تلك النماذج التي تستمد رؤيتها من التراث السعودي،ومن جانب آخر فالكتاب يكشف العلاقة بين عدد من المصورين التشكيليين السعوديين، وبين أساليب المدارس الأوروبية في الفن الحديث والمعاصر.
   إن الفن التشكيلي بالمملكة العربية السعودية،والذي يزيد عمره عن نصف قرن،استطاع في هذه المرحلة أن يُحلق بعيداً، ويشهد تطورات هائلة،حتى أضحى يزخر بأساليب فنية بديعة،تعكس الروح العصرية، وتنسجم مع الحركة الفنية المعاصرة في العالم، وتتصل اتصالاً عميقاً في سماتها، ورؤاها مع كبريات المدارس الفنية العالمية.
      وليس غريباً على الفنانة المتميزة، والباحثة الجادة ،الدكتورة مها عبد الله السنان، أن تُتحفنا بكتاب قيم مثل هذا الكتاب، فهي واحدة من أبرز الدارسين، والمهتمين بالحركة التشكيلية المعاصرة في المملكة العربية السعودية،إذ أن أغلب أبحاثها، ودراساتها تنصب على هذا الميدان ،فقد حصلت على شهادة      الدكتوراه من قسم الآثار والمتاحف،بكلية السياحة والآثار بجامعة الملك سعود بالرياض ،عن رسالتها المعنونة ب:«الفنون المعدنية في قرية الفاو-دراسة فنية مقارنة»،وحصلت على شهادة الماجستير في التربية الفنية من قسم التربية الفنية في كلية التربية للاقتصاد المنزلي والتربية الفنية بالرياض،بتقدير امتياز مع توصية بالطبع، وذلك في تخصص الرسم والتصوير، عن رسالتها الموسومة ب:«أثر التراث الثقافي على الرؤية الفنية في التصوير التشكيلي السعودي، وفاعلية المرأة في هذا المضمار»،وسبق لها أن ترأست وصممت الكثير من البرامج لرعاية الموهوبات في مجال الفنون التشكيلية مع مؤسسة الملك عبد العزيز ورجاله لرعاية الموهوبين،كما أنها عضو في العديد من الجمعيات ذات العلاقة بالفنون التشكيلية والآثار،وسبق لها أن شاركت في العديد من المؤتمرات المحكمة، وأسهمت في تحكيم العديد من المسابقات، وألقت محاضرات، وشاركت في ندوات عن تاريخ الفن في المملكة العربية السعودية،على الصعيد الوطني، والدولي،كما شاركت بصفتها فنانة تشكيلية في العديد من المعارض الجماعية الداخلية.
مضمون الكتاب:
    في تقديمها للكتاب استعادت الفنانة التشكيلية صفية بن زقر ذكرياتها مع بدايات الفن التشكيلي السعودي،فأشارت إلى أنها عادت بذاكرتها إلى ما يربو عن ثلاثة وثلاثين عاماً،عندما أقامت أول معرض فني في مدينة جدة،حيث كانت بدايات الحركة التشكيلية في المملكة العربية السعودية،بصدور قرار اعتماد  مادة الرسم ضمن المواد الدراسية سنة:1957م،وتطرقت إلى العوامل التي أسهمت في ازدهار الحركة التشكيلية فقالت بهذا الصدد:«إن ابتعاث طلبة الفن ساعد على انفتاح الثقافة الفكرية،والفنية على كل من العالم العربي والغربي لإثراء أساليب المعاصرة الفنية لدى الفنان والفنانة السعوديين،مما نتج عنه إثبات الكيان التشكيلي السعودي في فترة زمنية تقارب النصف القرن،وهويته التي نبعت من استخدام الموروث التراثي كمادة،وتناولها بأساليب فنية مختلفة من واقعية، ورمزية، وتعبيرية، وحداثية متأثرة بالمعاصرة الغربية»(1).كما شكرت الفنانة صفية بن زقر الأستاذة مها السنان على جهودها في سبيل رصد الحركة التشكيلية، وتقديمها في كتب تمثل إضافة مميزة لمكتبة الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية.
     وقدمت لنا الدكتورة مها عبد الله السنان في مقدمتها،متابعة تاريخية تفصيلية،عن بدايات الفن التشكيلي السعودي، وتطوراته من مرحلة إلى مرحلة،فمنذ العصور التليدة مرت على أرض الجزيرة العربية،حضارات، وثقافات متنوعة،أثرت عليها، وتركت آثارها وبصماتها، إلا أن العصر الإسلامي هو الذي« أثر فيها تأثيراً بالغاً ومستمراً حتى وقتنا الحالي بما يحويه من علوم وفنون، ومن أبرزها الفن الإسلامي الذي ظهر وازدهر على مدى عشرة قرون تقريباً.
     بينما كانت أوروبا وأمريكا في القرنين الماضيين تعيشان عصر النهضة الصناعية، وظهور المدارس الفنية الحديثة، كالمدرسة الرومانتيكية، والواقعية، والانطباعية، وكذلك المدرسة التكعيبية، والتعبيرية، وما تبعها بعد ذلك من المدارس الفنية المعاصرة. كانت الدولة السعودية الأولى تعيش عزلة ثقافية، وخصوصاً في مجال الفن التشكيلي، وقد اتخذ إنسان هذه المنطقة الحرف اليدوية،مثل صناعة الخزف والأواني والأدوات الخشبية والحجرية، وكذلك النسيج،وسيلة لعمل ما يحتاجه في حياته اليومية، وكانت هذه الحرف هي المتنفس الفني الوحيد لسكان هذه المنطقة حيث البارع في حرفته يوازي الفنان المبدع في يومنا هذا.
     واستمر الوضع حتى عام:1954م،حيث بدأ أول مفهوم للتربية الفنية بالظهور عن طريق وزارة المعارف التي أقامت دورات تدريبية صيفية للمعلمين في عدة مجالات، وكان من ضمن هذه الدورات مجال التربية الفنية،إذ مهد ذلك لدخول هذه المادة مدارس التعليم العام في مناهجها عام:1957م، وكان هذا إيذاناً لبدء ظهور مفهوم التربية الفنية، والذي انتشر خلال الأربعة عقود الماضية، وتطور عبر عدة مراحل، وصولاً إلى افتتاح أقسام التربية الفنية في كليات وجامعات المملكة،مثل قسم التربية الفنية بكلية التربية،جامعة الملك سعود بالرياض1975م، وقسم التربية الفنية بكلية التربية بجامعة أم القرى بمكة1976م، وفرع كلية التربية جامعة الملك عبد العزيز بالمدينة المنورة1982م، وقسم التربية الفنية في كلية التربية للاقتصاد المنزلي والتربية الفنية بالرياض1991م. وحين ذلك بدأت المواهب الفنية في السعودية بالظهور، وبدأ معها مفهوم الفن السعودي،لينطلق من خلاله الفنان سعياً وراء مصدر رؤية أو إلهام،تطلع لما حوله ليستلهم الأفكار والمواضيع فوجد من تراثه الثقافي مصدراً لرؤيته التراثية،في رسم لوحاته المرتبطة بالبيئة، من عاداتها وتقاليدها، ومناظرها الطبيعية، ونقل صور الأشخاص ورسوم الوجوه، ولم يكتف فنانو المنطقة بذلك،بل كانوا يقومون بالنقل من أعمال الفنانين الأوروبيين،وذلك لأغراض دراسية لفهم خصائصها اللونية، ودراسة العناصر منها، والتتلمذ على يد من سبقوهم في هذا المجال، وقد يكون السبب ظاهرة الانفتاح التي ظهرت في البلاد في ذلك الوقت في اقتباس كل ما هو أجنبي في جميع المجالات»(2)،وليس من شك في أن الفنان السعودي قد تأثر أيما تأثر بموروثه الثقافي، وهو ما ساعده، ودفعه إلى بلورة رؤاه الفنية،نظراً لنظرته التراثية المتميزة،وتشير الدكتورة مها السنان إلى أن التصوير التشكيلي السعودي الموجود على الساحة يضم أساليب فنية متنوعة،تُبرز مدى تأثير التراث الثقافي عليه،حيث إنه يصل إلى حد التأثير على الرؤية إلى غاية تسجيله وتدوينه بأسلوب تشكيلي.
     وقد تطرقت المؤلفة في تقديمها إلى الدور البارز الذي لعبته المرأة السعودية في النشاط التشكيلي الفني في المملكة، وأشارت إلى أن الفنانتين:صفية بن زقر، ومنيرة الموصلي، قد اشتركتا مع بعضهما البعض في إقامة أول معرض فني نسائي تشكيلي مشترك في المملكة العربية السعودية سنة:1968م، ومنذ ذلك الزمن ازداد النشاط الفني النسائي في المملكة العربية السعودية ازدهاراً، وانتشاراً، ورُقياً،فظهرت أسماء نسائية بارزة، مما أدى إلى إقامة الكثير من المعارض سواءً أكانت شخصية، أو جماعية،«وازدادت مقومات الحركة التشكيلية النسائية  من كليات ومؤسسات تقيم دورات في هذا المجال، وجهات تمول وتشجع هذا الاتجاه،وكل هذه العوامل بلا شك ساعدت على تكوين مفهوم الفن التشكيلي النسائي في المملكة، وبالتالي ظهور سمات في هذا الفن تحدد اتجاهاته الفنية والفكرية،وأوجدت هذه المعطيات الحاجة الملحة لدراسة التصوير التشكيلي المعاصر بالمملكة، وأثر التراث الثقافي الخاص بها على الرؤية الفنية عند فنانيها،بالإضافة إلى دراسة الأساليب السائدة عند الفنانات السعوديات اللاتي استلهمن من تراثهن الثقافي مواضيع لأعمالهن التصويرية بأساليب معاصرة، وذلك لمعرفة دور المرأة  في هذا المجال الثقافي الهام»(3).
      ركزت المؤلفة دراستها الأولى على أسلوب عبد الحليم رضوي، وذلك في مبحثها الموسوم ب:«الحركة واستلهام الرمز عند عبد الحليم رضوي»،فقد بدأ رضوي رحلته الفنية،بعد تأثره بالواقع، وكانت رسوماته تجسد ما يراه في واقعه،من طيور، وزهور، وبحر،وفراشات، وبعد فوزه في المدرسة الثانوية في المسابقة المنظمة للرسوم،ابتعث إلى إيطاليا، وبعد مدة من الدراسة، والإطلاع، تأثرت أعماله بالفنون الحديثة،مثل: النزعة الانطباعية في اللمسة، والعنصر، والبناء الهندسي، والدرجات اللونية، وقد تبدى«تأثره واضحاً في لمسة الفرشاة المحملة باللون السميك  والاهتمام بآثار الضوء على عناصر التكوين، وعدم الاهتمام بالتفاصيل الدقيقة للشكل وبناء الهندسي، وقد بدأت مرحلة التكوين الفني بعد أن بدأ بعرض أعماله في روما عام:1382هـ،حيث رأى أنه لن يفهم الأكاديمية،قبل أن يفهم من المجتمع نفسه،فبدأ بمحاولاته لفهم الرموز والدلالات والمفاهيم العامة لبناء اللوحة من قيمة اللون والفكرة والمضمون والخط والأبعاد الثلاثة ونقطة الارتكاز والشفافية والانسجام والتآلف والترابط،وحين عاد من روما عام:1384هـ،بدأت عنده فكرة لماذا لا يكون لدى الفنانين العرب مدرسة أو اتجاه متميز مثل اليابانيين والصينيين الذين يمتازون في اختيار المضمون ثم يمرون بمرحلة الآراء الفنية العالمية، من هنا وجد بعض الفنانين في ذلك الوقت اتجهوا للاتجاه الحروفي، وهذا الاتجاه قوبل باستفسار في أوروبا، وبدأت هناك نشأة الكثير من الفنانين في هذا المجال، وبعد عودته من القاهرة والبلدان العربية وجد موجة أخرى تدعو إلى الارتباط بالبيئة العربية لأنها بدأت تنقرض من عاداتها وتقاليدها ومبانيها،وهذه المزايا الحضارية الحقيقية ليست مظاهر ميكانيكية،لأن الفن الأوروبي تدرج من عصر النهضة إلى وقتنا الحاضر إلى أكثر من اتجاه عالمي معروف. وهذا جعله يراجع نفسه بالبحث في داخله، وفي ماضيه، ومن ثم بدأ باختيار الرموز الشعبية في المملكة العربية السعودية،حيث إنه رأى فيها الصدق، والصفاء والبساطة، والتآلف، والانسجام والإبداعات الفنية الملونة،فأخذ الرمز الحضاري من مكونات البيئة والتراث، ومن التفاعل الداخلي للإنسان السعودي المرتبط ببيئته، وقام بتبسيطها ودراستها ومزجها بإحساسه الفني، وبإبرازها بأسلوب آخر ليتوافق مع المواضيع التي صورها مثل الرقصات الشعبية، والحركة التي يراها في الحارات القديمة، والسوق، واستعار من البيئة الألوان الصافية مثل الأحمر والأزرق والأبيض والأخضر والبرتقالي، ومن حرارة المودة والعلاقات بين أفراد المجتمع،استخدم هذه الألوان في عمله الفني كي يضيف إلى الحركة الموجودة في موضوعاته إيقاعاً لونياً،يُشعر الرائي بالارتباط الكامل في اللوحة. ولا يغفل رضوي انتماءه لأمة إسلامية عندما يترجم بعض المفاهيم، ويربط الإنسان بعقيدته وروحانيته من خلال عمله التشكيلي برموز يبلورها بإحساسه الفني وبتجربته الفنية،مستعيناً برؤيته للعناصر الموجودة في بيئته، وفي المجتمع الذي يعيشه، ويطرحها بأسلوب حي ذي لغة فنية تشكيلية متميزة لذاتها، وللحضارة الإنسانية في المجتمع العربي وخاصة المجتمع السعودي»(4)،وقد خلصت المؤلفة إلى أن فن عبد الحليم رضوي أثر في مسار، ونمو حركة التصوير السعودي المعاصر، من نواحِ عدة، ولاسيما من حيث الفكر، وابتكار أسلوب مستحدث في فن التصوير،ومن جانب القدرة على الإتيان بالجديد،والأصيل.
    وقدمت المؤلفة مبحثها الثاني عن الآفاقية عند الفنان محمد السليم،فقد استطاع التوفيق بين محافظته على هويته، وأصالته،وبين تأثره بالفن في العالم الغربي،حيث إنه اتخذ من بيئته، ومحيطه مصدراً يرسم، ويصور منه،فاعتمد أسلوباً فنياً خاصاً به،وكما ترى المؤلفة فتأثير البيئة الأوروبية كان إيجابياً عليه، إذ حفزه من أجل تأكيد، وتعزيز أصالته،حيث إنه«كان يحمل معه في فترة دراسته كل الولاء والانتماء لبيئته،فخاض السليم في دراسة تحليلية تشكيلية لمفردات البيئة المحلية، وبالذات البيئة الصحراوية و لخص تجربته في فن أو اتجاه فكري تشكيلي أسماه(الآفاقية)...، ويرى بيكار أن السليم لم يقصد بهذا الأسلوب ابتداع مذهب جديد يضيفه إلى المذاهب الفنية الموجودة على الساحة،بل هو شرح لأسلوبه الشخصي الذي يحاول الالتزام به والذي يقدم من خلاله رؤيته الذاتية التي استطاع أن يستخلصها بتلقائية وصدق من بيئته بدون ادعاء أو تكلف،لذا فإن أول ما يثير الإعجاب في أعماله هو هذا الانتماء الشديد لبيئته، ويرى السليم أن الآفاقية: لزمة مميزة لفنان سعودي نشأ في بيئة صحراوية بثقافات وعادات وتقاليد ومجتمع سعودي، وبالتالي أسلوب يحمل لزمات شخصية مميزة في الثقافة السعودية المعاصرة، وبالتحديد في الفن التشكيلي العربي المعاصر، والغرض الوصول إلى نمط فني تشكيلي يحمل هوية ثقافية لفن تشكيلي عربي سعودي  معاصر. ولقد ربط السليم ما بين الصحراء، وخط الأفق، ومن هنا جاءت التسمية،فهو يرى أن إنسان الصحراء هو فقط من يصل ببصره إلى أبعد خط أفقي، ولا يستطيع ذلك من يعي الحياة المدنية بمبانيها الشاهدة،أو من يعيش في بيئة جبلية أو في غابات،وحتى الذي يعيش على الساحل فإن خط الأفق الذي يراه باتجاه البحر خط جامد لا حياة به،أما خط الأفق في الصحراء فهو يحيط بالإنسان من كل جانب، كما أن به من الحركة، والحياة، والديناميكية المتميزة...،وهو أسلوب تعبيري في الفن التشكيلي جديد ومبتكر بعد اثنتي عشرة سنة من المحاولات والتجريب مستفيداً من البيئة الصحراوية في البناء العام للموضوع، ومن التعبيرية والتجريدية لعناصر الموضوع في الفنون  العربية والفنون الإسلامية، والجو الرومانسي الخيالي في روح الموضوع يتردد صداها أنغاماً ضوئية ولونية في هرمون موسيقي متناسق وإيقاع متحرك مع ديناميكية للخط، والكتلة تنسجم مع الفراغ وتتحد مع النغم الموسيقي، ويتميز أسلوبه بالتركيز على دراسة اللون والتكوين للبيئة الصحراوية،التي يتأثر من خلالها بقوة الشمس بطريقة مشابهة للمدرسة التأثيرية التي تعتمد على الظل والنور وإبراز الألوان في مختلف أوقات اليوم الواحد،لذا فقد استخدم الألوان الأساسية والحارة،ليعطي الإحساس بقوة الشمس، ومدى تأثيرها، وخصوصاً أن قوة الشمس في السعودية تجعل من التباين نتيجة لتأثير وقوع الشمس،أقوى وأوضح بين الظل والنور والدرجات اللونية، كما يعطي هذا إيقاعاًً وأنغاماً بين عناصر العمل الفني، وقد تأثر بأساليب عديدة منها السريالية والحروفية العربية والتجريدية،على أن الموضوعية الأدبية تسيطر على هذا الأسلوب،ففي هذه المحاولة الجادة البعيدة عن التبعية لم يتنازل الفنان عن شرقيته، ولم يتخل عن عروبته وإسلاميته وسعوديته،بل راح يمشي بحذر شديد فوق البرزخ الذي يفصل التجريد عن التشخيص بذكاء وشاعرية أكسبته تلك الخصوصية والتفرد وجعلت عمله نموذجاً مشرفاً لفن التصوير العربي المعاصر،فقدم أسلوب الصحراء،الذي به يعرف أن هذا الفن فن سعودي»(5).
       وأياً ما يكن الشأن،فقد أثرى الفنان محمد السليم حركة الفن التشكيلي في المملكة العربية السعودية، من جوانب عدة،من خلال أعماله الفنية،وجهوده الجبارة،بإبداعاته، وماله،فقد أنشأ دار الفنون السعودية عام:1980م بالرياض،ومن خلال إقامته للكثير من المعارض،فهو رائد من الرواد، وقد كرس فنه للاهتمام بجزئيات العالم البصري للصحراء، والذي سُمي بالآفاقية، وقد جسد من خلاله اهتماماته، ولخص     تجربته التشكيلية في اتجاه  تشكيلي واحد ،يضاف إلى سجل التجارب البارزة في سجل الفن التشكيلي العربي المعاصر.
     أما الفنان عبد الجبار اليحيا،فقد اهتمت المؤلفة بتوظيف الرمز في أعماله،فأغلب أعماله التشكيلية تُركز على الحياة اليومية للإنسان، وتصور الأشخاص في حركة دائبة هي أشبه بالخيال، مُقترباً في أسلوبه من السريالية، وقد اهتم اليحيا بجعل الإنسان محوراً للعملية التعبيرية في أغلب إنتاجاته الفنية،التي تتميز بتعدد وتنوع أساليبها الفنية«ومصدر إلهامه  العنصر أو المشهد الإنساني كمركز في العمل،أو كعامل مشترك أو عنصر ثانوي،بطريقة تدل على الخلفية الثقافية الكافية لجعله يستوعب المعنى الذي يصوره، ويختلف أسلوب تناوله للإنسان في الصياغة والموضوع كما يهتم أحياناً لعناصر العمل الفني بالظهور، وفي النهاية يُخضع جميع العناصر السابقة لتجربته الشخصية، وهو بذلك يُقدم أسلوباً فنياً لا ينتمي لمدرسة فنية معينة،بل هناك أثر لعدد من المدارس الحديثة والمعاصرة في أعماله مثل الواقعية، والتأثيرية، والتكعيبية، والتجريدية والسريالية...إن اليحيا من خلال الأعمال التصويرية يُبحر زمانياً ومكانياً بطريقة أثرت على تعبيره الفني،فهو يبحر مكانياً عبر تنقله من الزبير إلى البحرين إلى السعودية،ثم من الشرق إلى الغرب في أوروبا،أما إبحاره الزماني فهو في تنقله بن الوعي و اللاوعي، وبين الماضي والحاضر والمستقبل. وهذا التنوع في المكان والزمان جعله متعدد الأساليب والرؤى،حيث تنقل بين الواقعية والتكعيبية والتعبيرية والرمزية والسريالية،كما تأثر بالصحراء وألوانها الدافئة نظراً لتأثير الطبيعة والمناخ،وبواقع المجتمع السعودي،كما يستعين ببعض الرموز ليدل بها عن مضمون معين،بالإضافة إلى  استعانته بالمعطيات الشكلية والزخرفية والمعمارية من واقعه البيئي، وقد أثرت إقامته في الخارج على رؤيته التشكيلية  من خلال الألوان المستخدمة والتي غلبت عليها الألوان الباردة كانعكاس لتأثير المناخ والطبيعة الغربية،كما اختلف الموضوع باختلاف الواقع الاجتماعي،ومعه اختلفت المعطيات الشكلية التي يصورها اليحيا، والتي استلهمها من تلك البيئة»(6). وقد أجاد اليحيا أيما إجادة في تقديم لوحاته التي عبرت عن تقاليد بيئته، ومحيطه، وفقاً لأسلوب ورؤية جديدة ومبتكرة، وذلك من خلال مزجه،وجمعه بين أساليب فنية متنوعة،ما بين الواقعية،و الرمزية، والتعبيرية، والانطباعية،وهو ما يدل على قدرة الفنان، وخبرته، ووعيه الشديد بالتجربة الفنية، بمختلف أساليبها ومدارسها.
    وفي دراستها الأخيرة،تناولت الدكتورة مها السنان موضوع :«حفظ التراث عند صفية بن زقر»،وبعد تقديمها للمحة عن حياتها،أشارت إلى أن التغير الذي شعرت به الفنانة في بيئتها  كان له بالغ الأثر في اتجاهها لتصوير التراث،فقد كان«جزءاً من رؤيتها  منذ الطفولة، ورأت أن تبقيه من خلال أعمالها التصويرية،وإيماناً منها بأن الفنون هي سجل حضارات الشعوب وتاريخها المتمثل في الآثار التي تنبض بالحياة مهما مرت عليها العصور،فقد سعت إلى تسجيل هذا التراث واضعة هدفها كما تقول: تسجيل التراث، وإثبات ذاتي من خلاله،حتى التحم مع المتلقي، ونتعايش من خلال موضوعاتي التي تمثلني أنا وهم ونحن في كل مكان وزمان، هذا التراث الذي صورته ليس لأسباب ذاتية فقط .كما يذكر فضل: أنها لم تعمد إلى تسخير فنها للتعبير عن مشاعرها وأحاسيسها فقط،بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فجعلت فنها تسجيلاً لفترة مهمة جداً من تاريخ بلدها،المملكة العربية السعودية. وفي اختيارها لهذا الاتجاه تميزت الفنانة صفية بن زقر عن جميع الفنانين والفنانات بالمملكة بأنها كرست أعمالها الفنية لتسجيل فترة من الماضي،انقضت بلا رجعة، لا محاولة لإحياء ذلك الماضي وبعثه مرة أخرى،بل للاحتفاظ به لأجيال اليوم وأجيال المستقبل،فأعمالها اليوم،مرتكز لعدد كبير من أساتذة وطلاب ودارسي كثير من المواد الاجتماعية والفكرية والفلسفية، وهو ما يتفق مع رأي الفنانة نفسها حين تقول: كان هدفي خلال رحلة فنية استغرقت ثلاثين عاماً مع التشكيل،هو تسجيل التراث، وإثبات ذاتي من خلاله،حتى ألتحم مع المتلقي  ونتعايش من خلال موضوعاتي التي تمثلاني أنا وهو وهم ونحن،في كل زمان ومكان...، وموضوعاتها تدور حول المجتمع،عاداته،تقاليده،طريقته في الحياة ...الخ،ولكن في وقت مضى، ولم يعد له وجود،تقول بن زقر:ولإيجاد مادة لموضوعاتي الفنية تشعبت اهتماماتي بين البحث في العادات الاجتماعية، والملابس القديمة وبين الحصول على الصور القديمة وتصنيفها حسب مناطقها لتكون مرجعاً دائماً لي.فقد تناولت بن زقر من خلال أعمالها عدداً من المواضيع التي تعكس الواقع الخاص، والبيئة المحلية، ولم يكن اهتمامها فقط شكّل هذا التراث،بل امتد عملها لينقل لنا القيم التي كانت معاشه في ذلك الوقت،من خلال اهتمامها بالتعبيرات، وأسلوبها في رسم الشخصيات، وقد ظهر ذلك في أعمالها التي تمثل الحرف والعادات والألعاب الشعبية والأطفال في مواضيع مختلفة، والمجتمع الذي اهتمت بجميع قطاعاته لحرصها على تسجيل الواقع،حيث صورت أنشطته الخاصة بالرجال والنساء، وإن كانت قد خصصت عدداً من الأعمال لتصوير نشاطات النساء، وملابسهن وعاداتهن، كما تناولت الطبيعة الصامتة والمناظر الطبيعية أيضاً...، وقد كان هناك عدة مؤثرات على رؤية الفنانة التشكيلية تباينت تبعاً للمراحل التي مرت بها كما يذكر فضل،حيث يقسم المراحل التي مرت بها إلى ثلاث مراحل:المرحلة الأولى هي مرحلة التقليد في البدايات، والتي ظهر فيها تأثير أساليب كبار الفنانين خاصة أولئك الذين عرفوا بالتأثريين أو الانطباعيين،ومن بين هؤلاء سيزان الذي يبدو التأثر به واضحاً في مجموعة من لوحات الطبيعة الصامتة التي أكثر منها سيزان،وكما تأثرت صفية بسيزان،فقد تأثرت أيضاً في بعض أعمالها بجوجان في لوحاته التي رسمها في جزر تاهيتي،كما تأثرت بفان كوخ في لمسات فرشاته، وهناك آثار للمدرسة الوحشية في إحدى لوحاتها،بالإضافة إلى تأثير فن شرق آسيا في التلوين في لوحة أخرى في معالجات الفرشاة اليابانية أو الصينية،أما المرحلة الثانية والتي كانت مرحلة الدراسة،فقد كانت صفية تختار موضوعاتها من البيئة من بورتريه أو مناظر طبيعية أو طبيعة صامتة، وراعت فيها الالتزام بالقواعد الفنية من نسب ومنظور وتمثيل بطريقة تشبه التزام بعض أصحاب المدرسة التأثيرية،بينما يرى السليمان أنها  قد استفادت من أعمال الانطباعيين، والمرحلة الثالثة التي يذكرها فضل، والتي تضم معظم أعمالها الفنية،فهي مرحلة الانطلاق،حيث تتخلص صفية من التأثير الواضح للمدارس الفنية أو الفنانين،أو محاولة إثبات القدرة على تقليد الطبيعة، أو استعراض للمهارات الأسلوبية والتصويرية،حيث إن المتأمل ينجذب للموضوع مباشرة، ويعيه كما هو بالطريقة التي اختارتها الفنانة أن يراه بها»(7).
        إن ما يتضح  ويتجلى للمتتبع لتجربة بن زقر،هو أنها قد استقلت، وتحررت من المدارس الشرقية والغربية، واستغنت عن أساليب وفلسفات رُوادها، وكونت أسلوبها الخاص الذي يصور الحياة التي لا نُلفيها في أيامنا هذه،فقد عادت للتراث متخذة منه المادة الرئيسة لإبداع أعمالها،التي أُعجب بها الجميع أيما إعجاب، وختمت المؤلفة دراستها عن الفنانة صفية بن زقر بإشارتها إلى أن الفنانة قدمت«خدمتين جليلتين للتراث وللفن التشكيلي،حيث ساهمت بفنها في تخليد الأول، و ساهمت في دعم الثاني من خلال إقامة أول متحف لأعمالها التشكيلية من نوعه في المملكة،كما أن لها دوراً في الحركة الثقافية التشكيلية عن طريق الندوات أو المحاضرات التي تقوم بها من أجل تثقيف المرأة السعودية ونشر الوعي التشكيلي،    ومن خلال عرض أعمال صفية بن زقر نرى أنها قد مهدت الأرض وفتحت الطريق لاتجاهات التحرر في فن التصوير السعودي المعاصر، وذلك باتجاهها إلى التعبير عن موضوعات مستوحاة من تراثها الشعبي المحلي المادي والمعنوي،بشكل حر وصادق دون أن تخضع في تكوين أسلوبها الفني لقواعد المدارس الفنية الحديثة والمعاصرة، واستطاعت برؤيتها الفنية المتفردة أن تكون أستاذة لعديد من المصورات السعوديات المعاصرات وللأجيال القادمة منهن»(8).
فذلكة:
       إن هذا الكتاب، وعلى الرغم من صغر حجمه، إلا أنه أحد الكتب النفيسة الهامة،فقد أفردت من خلاله الباحثة مساحة واسعة لاستعراض أثر التراث الثقافي على الرؤية الفنية لعدد من رواد الحركة التشكيلية، كما كشفت النقاب على الأساليب المعاصرة التي وظفها الفنانون السعوديون،ومن خلاله عرّفت   بأثر«الموروث الثقافي على رؤيتهم باختلاف نوع هذا الموروث وأسلوب التأثر أو التعبير عنه،الذي نراه عند السليم تراثاً مادياً من المناظر الطبيعية بالمملكة بالإضافة إلى أثر التطور والطفرة التي شهدتها المملكة بعد اكتشاف البترول،ونراه تراثاً شعبياً  عند بن زقر في توثيقها للملابس والمنازل القديمة، ومعنوياً في تصوير العادات والتقاليد بطريقة توثيقية، أما رضوي فيظهر التراث الثقافي المتأثر بالأسطورة، وذلك في استلهامه للرمز من مفردات تراثه وثقافته،بطريقة أشبه بالخيال المتعلق بالأساطير الشعبية التي انتشرت في جميع مناطق المملكة، بينما يستخدم اليحيا المرأة والعنصر الإنساني كرمز في أعماله التي يهتم بإظهار الانتماء للأرض فيها»(9). وقد أسلمت الدراسة الباحثة  إلى نتائج غاية في الأهمية،حيث إن هناك محاولات جادة لإيجاد«أساليب معاصرة في التصوير التشكيلي السعودي تستمد رؤيتها من تراثه الثقافي، وقد تميزت وتفردت عدد من هذه الأساليب الفردية المعاصرة،مثل أسلوب كل من محمد السليم، وعبد الحليم رضوي، وعبد الجبار اليحيا، وصفية بن زقر،من الجيل الأول من المصورين التشكيليين السعوديين،كما اتضح من خلال الأعمال التصويرية العلاقة الواضحة بين المصورين التشكيليين السعوديين، وبين أساليب المدارس الأوروبية في الفن الحديث والمعاصر، وذلك بسبب تطور وسائل الإعلام والاتصال والمواصلات، والبعثات، والسفر، والتعليم على يد معلمين ومعلمات أجانب، والاطلاع على الكتب والأعمال الغربية من خلال المتاحف والمعارض التشكيلية »(10)، مما جعل هذه الأساليب جزءاً لا يتجزأ  من التراث الثقافي السعودي الخاص بالفن التشكيلي.
الهوامش:
(1)مها عبد الله السنان: أساليب معاصرة في التصوير التشكيلي السعودي،مطبوعات وكالة دار الصحافة للدعاية والإعلان، الرياض،المملكة العربية السعودية،1428هـ/2007م،ص:07.
(2) مها عبد الله السنان: أساليب معاصرة في التصوير التشكيلي السعودي،ص:10.
(3)مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:11.
(4) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:15 وما بعدها.
(5) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:24 وما بعدها.
(6) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:31 وما بعدها.
(7) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:39 وما بعدها.
(8) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:42 وما بعدها.
(9) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:13 .
(10) مها عبد الله السنان: المصدر نفسه،ص:42 وما بعدها.
ـــــــــــــــــــــــــــ
العنوان:
الأستاذ/محمد سيف الإسلام بوفـلاقـة
Mouhamed saif alislam boufalaka
ص ب:76 A ( وادي القبة)   -عنابة – الجزائر
Èالمحمول:   0775858028 (213)00
الناسوخ (الفاكس) : 35 15 54 38 (213)00
البريد الإلكتروني : saifalislamsaad@yahoo.fr

ليست هناك تعليقات: